عرض الله تبارك وتعالى لعباده الذين اجترحوا السيئات مهما كانت كبيرة ، وأعظمها الشرك بالله ، والقتل ، والزنا .. عرض الله عليهم التوبة فى مقابل أن يبدل الله سيئاتهم حسنات .

قال تعالى ( والذين لايدعون مع الله إلها آخر ولايقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ، ولايزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ، ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما )(1).


وقبل أن ننظر فى عظمة هذا العرض ، وعظمة الله تبارك وتعالى ، ورحمته بالعباد .. ننظر : مالذى يجعل الله تبارك وتعالى يعرض على العباد الذين ارتكبوا الذنوب مهما كبرت أنهم إذا تابوا وعملوا صالحا ، سوف يبدل هذه السيئات إلى حسنات؟

لاشئ .. لاشئ مطلقا .

فالله تبارك وتعالى هو المتفرد فى العظمة والجلال ، له خضعت السموات والأرض وما فيهن ومن فيهن ، ومابينهما ، وما تحت الثرى ، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد ، إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، خالق العباد وبارئهم ومصورهم ، وأمرهم كلهم فى يده ، وقلوبهم بين أصبعين من أصابعه ، يمسك النواصى ويدبر الأرزاق ويصرف الأمور ، ويقضى بالحياة وبالموت ، ينزل النعم ، ويحكم بالنقم .

يملك الزمان والمكان والأحوال ، يعلم مافى باطن الذرات المتناثرة ، ومافوق النجوم المتعاظمة ، يقضى بالحق ويحكم بالعدل ، وهو على كل شئ قدير .

الجبار الذى تتضاءل لديه القوى ، بل هو خالق هذه القوى والمتصرف فيها ، العزيز الذى تدانى وتذلل إليه كل جبين وكل هامة وكل ناصية ، القهار الذى قهرت قوانينه وسننه كل كائن وكل مخلوق .

إنه الله ..

إنه الله ..

إنه الله ..

لكنه الذى خلق عباده ورحمهم ، ويسر لهم اسباب عبادته ، وتحبب إليهم وهو الغنى عنهم ، الذى لا يخالفهم فى رزقهم ، وإن خالفوه فى أمره وفرائضه ، الذى أنزل لهم الكتب وأرسل إليهم الرسل ، ووضع فى فطرتهم حبه والاحتياج إليه .

هو الله الذى منع السماء أن تسقط كسفا على ابن آدم لأنه أكل خيره ومنع شكره ..

هو الله الذى منع الأرض أن تخسف بابن آدم لأنه أكل خيره ومنع شكره ..

هو الله الذى منع البحار أن تغرق ابن آدم لأنه أكل خيره ومنع شكره ..

هو الذى خلقه ورزقه ، واعتنى به ، وقدر له النعم والعطاء .

سبحان الله وبحمد ، سبحان الله العظيم ..

****

لو أن شابا أنفق من أمواله التى ورثها عن أبيه ، واهمل فيها ، وظل ينفق منها على شهواته ولذاته ، حتى فنيت تلك الأموال جميعا، فاستمر يرهن أملاكه وأراضيه ، حتى رهن كل شئ ، ثم بدأ فى الاقتراض والاستدانة ، حتى اسودت الدنيا أمامه وأظلمت ، وصار معرضا للسجن باقى عمره ، ثم دخل السجن فعلا ، وهو الآن قابع فى قلب الظلام الغاشى .

لو عرض عليه أحدهم أن يخفف عليه العقوبة ، فى مقابل وعد بألا يعود إلى حاله .. كيف سيكون الرد ؟
فإذا كان العرض هو إسقاط جزء من الديون التى تثقله ؟؟

فإذا عرض عليه إسقاط كل الديون ؟؟

كيف سيكون حينها رد هذا الرجل القابع تحت أجنحة الظلام المطبقة ؟؟ كيف سيستقبل مثل هذا العرض ؟؟
فإذا أتى عليه آخر وعرض عليه إسقاط ديونه وإرجاع كل أملاكه له ؟؟

إن الله يعرض عليه أن يتوب فى مقابل إسقاط كل الديون ، وإعادة كل أملاكه إليه ، بل ومضاعفة هذه الأموال والممتلكات …. كل هذا فى مقابل التوبة .

ماذا يحمل مثل هذا العرض لرجل مسجون فى قعر مظلمة ؟؟ أى رحمة وأى حلم وأى غفران ؟؟
بل أى عظمة وجلال وإكرام ؟؟

وهذه التوبة .. إنها فى صالح العبد ، ولايعود على الله منها شئ .. لا قليل ولا كثير ، بل هو الغنى الحميد ، فـ ( من اهتدى فإنما يهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها )(2) ، فمن غير الله يفعل هذا ؟؟

سبحان الله .. أهناك أعجب من هذا العرض؟؟؟

نعم ..

لقد رفض السجين كل هذا ، وفضل البقاء فى السجن .. هكذا كان رد العباد على ربهم .

هذا حال من رفض التوبة .. نسال الله ألا نكون منهم .

اللهم لاتكلنا إلى انفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك .

———————-

(1) الفرقان : 68 - 70
(2) الإسراء : 15



بقلم: م. محمد إلهامي.

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية و صاحب مدونة "المؤرخ":

(http://melhamy.tadwen.com).