كشف شبهات الملاحدة

تقليص

عن الكاتب

تقليص

سيف الكلمة مسلم اكتشف المزيد حول سيف الكلمة
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سيف الكلمة
    إدارة المنتدى

    • 13 يون, 2006
    • 6036
    • مسلم

    #1

    كشف شبهات الملاحدة

    كشف شبهات الملاحدة
    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
    وينصر الله من ينصره
  • سيف الكلمة
    إدارة المنتدى

    • 13 يون, 2006
    • 6036
    • مسلم

    #2
    القول بالتطور أو النشوء الذاتي للمادة والحياة
    الكاتب: سليمان الخراشي‎
    وذلك؛ في قولهم: إن الحياة إنما هي من نتاج المادة دون أن يكون‎ ‎وراءها شيء، بل تطورت ‏ذاتيًّا، ونشأت تلقائيًّا حسب قوانين المادة التطورية، هذا ما‎ ‎يسمونه أيضًا بالقوانين الطبيعية‎. ‎‎
    هذه الشبهة مؤلفة من ثلاثة جوانب‎:
    الجانب‎ ‎الأول: القول بالتطور الذاتي، وهذا ما كان يقول به الشيوعيون في بداية‎ ‎أمرهم‎.
    الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء، هذا ما مالوا إليه بعدما‎ ‎سمعوا أن داروين قد ‏أظهر هذا القول كالفرضية أو النظرية، دعمًا لمواقفهم‎ ‎السابقة‎.
    الجانب الثالث: القول بنسبة الخلق والحياة إلى الطبيعة، فهذا وإن كانوا‎ ‎في حقيقة أمرهم لا ‏يُبالون بجانب البحث عن الخالق أو المسبب، إلاَّ أنهم قالوا بهذا‎ ‎القول رغم إنكارهم لذلك ‏في كتاباتهم هروبًا من الكنيسة، وإله الكنيسة‎.

    الجانب‎ ‎الأول: القول بالتطور الذاتي‎:
    الرد عليه بما يلي‎:
    إن هذا القول إنما هو‎ ‎محاولة تفسيرهم لظاهرة الحياة في المادة، فإنهم لمَّا أنكروا وجود الخالق ‏‏– جلاَّ‏‎ ‎وعلا – لزمهم أن يقولون: إن المادة الأولى للكون التي هي عديمة الحياة والإحساس‎ ‎والإدراك والفكر، قد ارتقت بالتطور الذاتي حتى نشأت الحياة، التي هي أكمل وأرقى من‎ ‎مادة الكون الأولى، ثم نشأت بعد ذلك في الحياة: الاحساسات الراقية، حتى مستوى‎ ‎الفكر، ‏ووعي ما في الكون عن طريقه، وبذلك استطاعت المادة أن تعي ذاتها، متمثلاً ذلك‎ ‎في ‏الجهاز الراقي الذي أبدعته بالتطور الذاتي، وهو الدماغ‎.
    قبل مناقشة هذه‎ ‎المسألة: لابدّ من طرح سؤال وهو: ما هو الدليل العلمي على أن الروح ‏والفكر والإحساس‎ ‎ثمرة من ثمرات المادة؟‎

    إن أدق ما قدمته الشيوعية من برهان على هذه الدعوى إلى‎ ‎الآن هو: أن الحياة تنشأ عن ‏الحرارة ، والحرارة بدورها تنشأ من الحركة، أي أن‎: ‎الحركة + حرارة = حياة‎.
    ونحن نلجأ إلى نفس الأسلوب الذي تسير عليه الماركسية‎ ‎لضبط سلامة معارفنا، وهو ‏التطبيق العلمي لنرى هل الحركة + الحرارة‎ = ‎الحياة؟‎
    ولنتساءل من الذي جمع هاتين الظاهرتين إلى بعضهما (بجهد من تطبيقه‎ ‎الخاص) بهذه ‏البساطة أو بما شاء من التعقيد الكيميائي فاستخرج منها حقيقة‎ ‎الحياة؟... وهنا لابدّ أن يُعاد ‏إلى الأذهان خبر المؤتمر الذي عقده ستة من علماء‎ ‎الحياة في كلٍّ من الرِّق والغرب في ‏نيويورك 1959م، وكان فيهم العالم الروسي‎ (‎أوبارين) أستاذ الكيمياء الحيوية في أكاديمية ‏العلوم السوفيتية، أملاً في فهم شيء‎ ‎عن أصل الحياة ومنشأها على‎ ‎ظهر الأرض، وإلى ‏معرفة مدى إمكان إيجاد الحياة عن طريق‎ ‎التفاعل الكيميائي‎.
    لقد قرر المجتمعون في نهاية بحوثهم بالإجماع (أن أمر الحياة‎ ‎لا يزال مجهولاً، ولا مطمع في أن ‏يصل إليه العلم يومًا ما، وأن هذا السرّ أبعد من‎ ‎أن يكون من مجرد بناء مواد عضوية معينة ‏وظواهر طبيعية خاصة‎).

    ثم إن الحقيقة التي‎ ‎أجمع عليها العلماء حتى الآن – مسلمهم وكافرهم – أن العلم لا يدري ‏إلى اليوم شيئًا‎ ‎عن الحياة والروح، فهل تجميع الحرارة والحركة ينتج حياة بهذه البساطة؟ إن ‏مما لا شك‎ ‎فيه أن كلاًّ من الحركة والحرارة من أبرز خصائص الحياة، ولكن من المفروغ منه ‏في‎ ‎قواعد المنطق أن خواص شيءٍ ما ليست تعبيرًا عن الجوهر الذاتي الذي يقوم به؛ فالماء‎ ‎مثلاً في حالة الغليان يتصف بكلٍّ من الحركة والحرارة، وهكذا أن الحركة والحرارة‎ ‎خصيصتان من خصائص الحياة الدالة عليها كالأيدروجين والكربون والأوزون ‏والأوكسجين،‎ ‎وغير ذلك من عناصر الحياة الأساسية، أما جوهر الحياة ذاته فشيء آخر لا ‏يقف عليه‎ ‎إنسان‎.

    ولهذا قال «انجلز»: (ليس في مكنة العلم الطبيعي حتى الوقت الراهن أن يؤكد‎ ‎شيئًا ‏بخصوص أصل الحياة)، فهذا اعتراف منهم على أنهم ما وصلوا في خصوص الحياة إلى‎ ‎نتيجة ‏علمية ثابتة، وإنما هذه الأقوال دعاوى كاذبة، وأحاجي فارغة تناقض حتى المبادئ‎ ‎العقلية‎.
    فالإنسان ليس من صنع المادة؛ لأن المصنوع لا يحيط بصانعه، والإنسان قد‎ ‎أحاط بصورة ‏المادة وخرج بها إلى دائرة الأثير، بل إلى عمليات رياضية فكرية في قدرة‎ ‎الإنسان أن ‏يحتويها، وهذا لا يأتي إلا إذا كان في طبيعة الإنسان شيء يعلو على‎ ‎مكونات المادة، شيء ‏مفارق لكل خصائصها المعروفة‎.

    فمادة الكون الأولى، التي ليس‎ ‎فيها مركبات متقنة، وليس فيها حياة ولا إحساس ولا وعي، ‏لا تستطيع أن ترقى إلى‎ ‎الكمال ارتقاءً ذاتيًّا، ولا تستطيع أيضًا أن تصنع أجزاءً فيها هي ‏أكمل منها وأرقى،‎ ‎وذلك؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، وصنع الناقص لما هو أرقى منه نظير ‏تحول العدم إلى‎ ‎الوجود تحولاً ذاتيًّا؛ لأن القيمة الزائدة قد كنت عدمًا محضًا، والعدم المحض ‏لا‎ ‎يُخرجه إلى الوجود إلا قوة مكافئة له، أو أقوى منه، والمادة العمياء الصماء الجاهلة‎ ‎لم ‏تكن أقوى ولا مكافئة لمادة حيّة مريدة ذات وعي وإحساس، بل هي أقل قيمة منها، فهي‎ ‎إذن عاجزة بداهة عن إنتاج ما هو خير منها‎.

    فهذه الدعوى – دعوى وجود الحياة نتيجة‏‎ ‎التطور الذاتي – كانت تقول بها الشيوعية في ‏بداية أمرها، وكانت تقول: إن المادة‎ ‎تتطور من كمية إلى كيفية، ومصادفة يحدث في المادة ‏شيء آخر، والحياة ما هي إلا نتيجة‏‎ ‎من نتائج هذه المصادفة في المادة في بعض مراحل ‏تطورها، وتُمثل الشيوعية لها بالماء‎ ‎إذا زاد في غليانه يزيد في الحرارة، ولكن لما تصل الحرارة ‏إلى 100% فإنه يصبح‎ ‎بخارًا، فأخذ شكلاً آخر في بعض تطورها، فيقال لهم: إن التطور في ‏مثل هذه الأشياء‎ ‎أحدث شيئًا آخر ولكن ليس لذاتها، بل بفعل فاعل، ثم إن حدوث البخار ‏من الماء شيء‎ ‎يمكن إثباته بالتجربة، فهل الحياة مثل هذا؟ هل يمكن إثبات الحياة في مادة ‏ميتٍ ما‎ ‎على سبيل التجربة؟‎

    ثم إن هذا المبدأ من مبادئ الماركسية، لا يمكن أن يعتبر‎ ‎قانونًا عامًّا ينطبق على كل حركة ‏تطور في الطبيعة، فالعلوم المادية الإنسانية لا‎ ‎تقرر به، وهو وإن صدق ببعض الأمثلة، فإنه لا ‏يصدق بآلاف الأمثلة الأخرى‎.

    إن‎ ‎التراكم في الكم لا يقتضي دائمًا التطور في الكيف، ما لم يكن نظام ذلك الشيء يقتضي‎ ‎ذلك، إن الملاحظة تُثبت أن لكل حالة تطور في الكون شروطًا معينة في أنظمته وسننه‎ ‎الثابتة، فمتى استوفيت هذه الشروط تحقق التطور، فمثلاً‎:
    أ- بيضة الدجاجة‏‎ ‎الملّقحة إذا وجدت ضمن حرارة ذات مقدار معين، ورطوبة ذات مقدار ‏معين، بدأ جنينها‎ ‎يتكون تدريجيًّا حتى يتكامل داخل القشرة، وفي نهاية ثلاثة أسابيع يكون قد ‏تكامل،‎ ‎وبدأ ينقر القشرة من الداخل حتى يكسرها، وعندئذ يخرج من غُلافه إلى الهواء، ‏ليبدأ‎ ‎رحلة حياته إلى الأرض‎.
    لقد حصل التطور، ولكن على خلاف المُدَّعَى في المبدأ‎ ‎الماركسي، فلا تراكم الحرارة هو ‏الذي أحدث ظاهرة التغير، ولا تراكم الرطوبة، بل‎ ‎ثبات درجة الحرارة، وثبات درجة ‏الرطوبة، قد ساعدا على تكوّن جنين البيضة تكونًا‏‎ ‎تدريجيًّا، ضمن الوقت المخصص في نظام ‏الكون لتكامل تكوينه، ولو أن الحرارة تراكمت‎ ‎أكثر من المقدار المحدَّد في نظام التكوين ‏لسُلقت البيضة، ولهلكت نواة جنينها، ولو‎ ‎زاد هذا التراكم لاحترقت البيضة‎.
    فنظام الكون هو نظام تحديد مقادير لكل شيء، ضمن‎ ‎خطط ثابتة، وليست تغيراته ثمرة ‏تراكمات، هذه هي الحقيقة التي تدل عليها الملاحظات‎ ‎والتجارب العلمية، وهي التي أعلنها ‏الله عز وجل بقوله: "وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ‎ ‎بِمِقْدَارٍ" الرعد : 8.
    إن هذا المثال كافٍ لنقض فكرة التراكم المدعاة في المبدأ الشيوعي،‎ ‎الذي يعتبرونه قانونًا ‏شاملاً لكل تطور في الوجود، وهو أيضًا كافٍ لنقض فكرة التطور‎ ‎السريع المفاجئ، إذ ‏الأمور تتطور في الغالب تطورًا تدريجيًّا‎.

    ب- والكائنات‏‎ ‎الحية تبدأ حركة بنائها منذ لحظة التقاء خلية لقاح الذكر بخلية بيضة ‏الأنثى، ويسير‎ ‎بناء الكائن في نمو متدرج، حتى إذا استوفى الشروط اللازمة لظهور الحياة فيه ‏دبَّت‎ ‎الحياة فيه، ثم يسير ضمن نظام نمو متدرج، حتى إذا استكمل نموه الجنيني، تمخضت ‏عنه‎ ‎أمه فولدت، ثم يسير في نمو تدريجي أيضًا حتى يبلغ، ويتدرج في النماء حتى يكون‎ ‎شابًّا، ‏فكهلاً، ثم يعود إلى طور الانحدار، فيصير شيخًا، فهرمًا، ثم يقضي أجله‎ ‎المقدر له، فيموت، ‏فيتفسّخ جسمه، ويعود ترابًا كما بدأ من التراب، وقد يموت في أيّ‎ ‎مرحلة من المراحل ‏السابقة، فينحدر ويعود إلى مثل مرحلة البدء، دون أن يمرّ في‎ ‎المراحل المعتادة للأحياء، ‏وتخضع كل المراحل لنظام المقادير المحددة في كل شيء: في‎ ‎العناصر، وفي الصفات، وفي ‏الزمان، وفي درجة الحرارة، وفي سائر ما يلزم لتكوين الحي،‎ ‎وإعداده لأداء وظائفه‎.

    هذا المثال الثاني كافٍ أيضًا لنقض كل ما قالوا في مبدأ‎ ‎التطور، ففكرة التراكم المقررة في ‏المبدأ فكرة منقوضة، ذلك؛ لأن الأحياء تخضع لنظام‎ ‎المقادير المحددة سواء في جواهرها ‏وأعراضها، ولا تخضع لفكرة التراكم الكمي، وفكرة‎ ‎التطور السريع المفاجئ المقررة في ‏المبدأ الشيوعي منقوضة أيضًا؛ لأن الأحياء تسير‎ ‎وفق نظام البناء المتدرج، لا وفق التطور ‏السريع المفاجئ، (أو الصدفة – كما‏‎ ‎يقولون‎-).

    فهذان المثالان من آلاف الأمثلة في نقض أقوال الشيوعية في القول‎ ‎بالتطور – على التفسير ‏الذي يريدونه – وبنقض مبدأ التطور ينقض أيضًا مبدؤهم القائل‏‎ ‎بأن الحياة وظيفة من ‏وظائف المادة، متى وصل تركيبها إلى وضع خاص بالتطور، فإن آخر‎ ‎ما توصلت إليه العلوم ‏الإنسانية التي قام بها الغربيون والشرقيون الماركسيون، والتي‎ ‎أنفقوا في سبيلها ألوف ‏الملايين، وعشرات السنين، قد انتهت إلى قرار علمي جازم هو‎ ‎أنه لا تتولد الحياة إلاّ من ‏الحياة، وأن وسائل العلوم الإنسانية لا تملك تحويل‎ ‎المادة التي لا حياة فيها، إلى أدنى وأبسط ‏خلية حية‎.
    وبما أن الوعي مرتبط‎ ‎بالحياة فهو مظهر من مظاهرها، وصِفة من صفاتها، فلا سبيل للمادة ‏الميتة أن يكون‎ ‎الوعي أحد وظائفها، مهما كانت عالية التنظيم‎.
    فالعلوم الإنسانية، قد كفتنا مهمة‎ ‎إبطال هذا المبدأ من مبادئ الماركسية وسائر الماديين ‏الملحدين‎.
    على أن مبدأهم‎ ‎هذا هو في الأساس ادعاء غير مقترن بأيّ دليلٍ عقلي أو علمي، وهو من ‏لوازم مبدئهم‎ ‎الأول الباطل الذي يرون فيه أن المادة هي أساس الوجود وجوهره‎.

    الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء‎:
    وكما سبق أن هذا ما مالوا إليه بعدما سمعوا أن‎ ‎داروين قد أظهر هذا القول، فوجدوا فيه ‏غايتهم المنشودة، فقالوا بها دعمًا لمواقفهم‎ ‎السابقة، وقالوا: انتصرت المادة‎.
    يقول (جون لويس): (لقد حول داروين ما كان يجول‎ ‎بخاطر العديد من المفكرين إلى فكرة ‏ممكنة مقنعة، وهي أن عالم الحيوان لم يوجد نتيجة‎ ‎خلق واحدة، بل هو ثمرة تغيرات ارتقائية ‏عملت على تحويل الأنواع التي ظهرت في عصور‏‎ ‎مبكرة إلى الأشكال الأكثر تعقيدًا، والتي ‏ظهرت في عصور متأخرة... والإنسان نفسه لم‎ ‎يُخلق بفعل خاص منفصل، بل هو ثمرة ‏الارتقاء، ونظرية الارتقاء لا تستبعد قوى ما فوق‎ ‎الطبيعة من عملية الخلق فحسب، بل ‏تضع بدل هذه القوى: تطور الحياة الطبيعي، وقد كان‎ ‎هذا تجديدًا مدهشًا‎).
    فهذا القول يُظهر لنا مدى تأثر الماديين بهذه النظرية‎ ‎الخبيثة، وسيأتي بيان مجمل لهذه النظرية ‏مع الرد عليها فيما بعد‎.

    الجانب الثالث: القول بوجود الخلق من الطبيعة‎:
    سبق أن ذكرنا: أن المادة والطبيعة عندهم شيء‎ ‎واحد، ولكنهم لما وجدوا ضغوطًا من ‏الكنائس البابوية المنحرفة قالوا: الخلق إنما هو‎ ‎من الطبيعة. فلينظر مدى صحة هذا القول، ‏وهل الطبيعة تصلح أن تكون خالقًا؟‎
    في‎ ‎الحقيقة: إن هذه فرية راجت في عصرنا هذا، راجت حتى على الذين – يظنون أنهم – ‏نبغوا‎ ‎في العلوم المادية، وعلل كثيرون وجود الأشياء وحدوثها بها، فقالوا: الطبيعة هي التي‎ ‎تُوجد وتحدثُ‎.
    وهؤلاء نوجه إليهم هذا السؤال: ماذا تريدون بالطبيعة؟ هل تعنون‎ ‎بالطبيعة ذوات الأشياء؟ ‏أم تريدون بها السنن والقوانين والضوابط التي تحكم الكون؟‎ ‎أم تريدون بها قوة أخرى وراء ‏هذا الكون أوجدته وأبدعته؟‎
    فإننا نرى: أن الطبيعة‎ ‎في اللغة: السجية‎.

    أمَّا في عقول الناس اليوم فلها مفاهيم‎:
    المفهوم الأول: أنها عبارة عن الأشياء بذاتها، (الكون نفسه)، فالجماد والنبات والحيوان كل ‏هذه‎ ‎الكائنات هي الطبيعة‎.
    وهو مفهوم غير دقيق وحكم غير سديد، فإن هذا القول يصبح‎ ‎ترديدًا للقول السابق بأن ‏الشيء يوجد نفسه – بأسلوب آخر، أي أنهم يقولون: الكون خلق‎ ‎الكون، فالسماء خلقت ‏السماء، والأرض خلقت الأرض، والكون خلق الإنسان والحيوان، هذا‎ ‎القول لا يخرج ‏بالطبيعة بالنسبة لخلق الوجود عن تفسير الماء بالماء، والأشياء أوجدت‎ ‎ذاتها، فهي الحادث ‏والمُحدِث، وهي الخالق والمخلوق في الوقت ذاته، وقد سبق بيان كون‎ ‎العقل الإنساني ‏يرفض التسليم بأن الشيء يوجِد نفسه، كما أن الشيء لا يخلق شيئًا‎ ‎أرقى منه، فالطبيعة من ‏سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار لا تملك عقلاً ولا سمعًا ولا‎ ‎بصرًا، فكيف تخلق إنسانًا ‏سميعًا بصيرًا عليمًا؟ هذا لا يكون، فبطلان هذا القول‎ ‎بيّن، فهو لا يخلو عن أمرين‎:
    1- ‎إمّا ادعاء بأن الشيء وجد بذاته من غير‎ ‎سبب‎.

    2- ‎وإمّا ازدواج الخالق والمخلوق في كائنٍ واحد، فالسبب عين المسبب، وهو‎ ‎مستحيل، ‏بل هو من التهافت والتناقض بحيث لا يحتاج إلى الوقوف والشرح‎.

    فإن قالوا: ‎خلق كل ذلك مصادفة،
    يقال: ثبت لدينا يقينًا أن لا مصادفة في خلق الكون – ‏كما‎ ‎سيأتي‎-.
    وكان مما ساعد على انتشار هذا القول: نظرية التولد الذاتي، وكان من‎ ‎أدلتها: ما شاهده ‏العلماء الطبيعيين من تكوّن (دود) على براز الإنسان أو الحيوان،‎ ‎وتكون بكتيريا تأكل ‏الطعام فتفسده، فقالوا: هاهي ذي حيوانات تتولد من الطبيعة‎ ‎وحدها، وراجت هذه ‏النظرية التي مكنّت للوثن الجديد (الطبيعة) في قلوب الضالين‎ ‎والتائهين بعيدًا عن هدي الله ‏الحق، لكن الحق ما لبث أن كشف باطل هذه النظرية على‎ ‎يد العالم الفرنسي المشهور ‏‏(باستير) الذي أثبت أن الدود المتكون والبكتيريا‎ ‎المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتيًّا من ‏الطبيعة، وإنما من أصول صغيرة سابقة لم‎ ‎تتمكن العين من مشاهدتها، وقام بتقدير الأدلة التي ‏أقنعت العلماء بصدق قوله، فوضع‎ ‎غذاء وعزله عن الهواء وأمات البكتيريا بالغليان، فما ‏تكونت بكتيريا جديدة ولم يفسد‎ ‎الطعام، وهذه هي النظرية التي قامت عليها الأغذية ‏المحفوظة (المعلبات‎).
    وبهذا‎ ‎يظهر بطلان هذا المفهوم للطبيعة جليًّا وبينًا‎.

    المفهوم الثاني: أن الطبيعة‎ ‎عبارة عن القوانين التي تحكم الكون؛ بمعنى أنها تعني صفات ‏الأشياء وخصائصها، فهذه‎ ‎الصفات من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، وملاسة وخشونة، ‏وهذه القابليات: من حركة‎ ‎وسكون، ونمو واغتذاء، وتزاوج وتوالد، كل هذه الصفات ‏والقابليات: هي الطبيعة‎.
    إن‎ ‎هذا تفسير الذين يدَّعون العلم والمعرفة من القائلين بأن الطبيعة هي الخالقة،
    فهم‎ ‎يقولون: إن هذا الكون يسير على سُنن وقوانين تسيّره وتنظم أموره في كل جزئية،‎ ‎والأحداث التي تحدث فيه تقع وفق هذه القوانين، مثله كمثل الساعة التي تسير بدقة‎ ‎وانتظام دهرًا طويلاً، فإنها تسير بذاتها دون مسيّر‎.

    الردود‎:
    1- ‎إن هذا القول‎ ‎ليس جوابًا، وإنما هو انقطاع عن الجواب، وذلك؛‎
    إن هؤلاء في واقع الأمر لا‎ ‎يُجيبون عن السؤال المطروح: من خلق الكون؛ ولكنهم ‏يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل‎ ‎الكون بها، هم يكشفون لنا كيف يعمل القوانين في ‏الأشياء، ونحن نريد إجابة عن موجِد‎ ‎الكون وموجِد القوانين التي تحكمه‎.
    (‎كان الإنسان القديم يعرف أن السماء تُمطر،‎ ‎لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر ‏الماء في البحر، حتى نزول الماء على الأرض،‏‎ ‎وكل هذه المشاهدات صور للوقائع، وليست ‏في ذاتها تفسيرًا لها، فالعلم لا يكشف لنا‎ ‎كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت ‏بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة‎ ‎المدهشة، حتى إن العلماء يستنبطون منها ‏قوانين علمية؟‎
    إن ادعاء الإنسان بعد كشفه‎ ‎لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة ‏لنفسه، فإنه قد وضع بهذا‎ ‎الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة‎).

    2- ‎الطبيعة لا تفسّر شيئًا‎ (‎من الكون)، وإنما هي نفسها بحاجةٍ إلى تفسير، وذلك؛ (لو ‏أنك سألت طبيبًا: ما السبب‎ ‎وراء احمرار الدم؟‎).
    لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء، حجم كل خلية منها 1/700 من‏‎ ‎البوصة‎.
    ‎- ‎حسنًا، ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟‎
    ‎- ‎في هذه الخلايا مادة‎ ‎تُسمّى (الهيموجلوبين)، وهي مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط ‏بالأكسجين في‎ ‎القلب‎.

    ‎- ‎هذا جميل، ولكن من أين تأتي هذه الخلايا التي تحمل‎ (‎الهيموجلوبين)؟‎
    ‎- ‎إنها تُصنع في كبدك‎.

    ‎- ‎عجبًا! ولكن كيف ترتبط هذه‎ ‎الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكَبِد وغيرها، بعضها ‏ببعض ارتباطًا كليًّا‎ ‎وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟‎

    ‎- ‎هذا ما نُسميه «بقانون‎ ‎الطبيعة‎».

    ‎- ‎ولكن ما المراد «بقانون الطبيعة» هذا يا سيادة الطبيب؟‎

    ‎- ‎المراد بهذا القانون هو: الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية‎ ‎والكيماوية‎.

    ‎- ‎ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائمًا إلى نتيجة معلومة؟ وكيف‎ ‎تُنظم نشاطها حتى تطير ‏الطيور في الهواء، ويعيش السمك في الماء، ويوجد إنسان في‎ ‎الدنيا، بجميع ما لديه من ‏الإمكانيات والكفاءات العجيبة المثيرة؟‎
    ‎- ‎لا‎ ‎تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلاَّ عن (ما يحدث)، وليس له أن يجيب: (لماذا‎ ‎يحدث؟‎).

    هكذا يتضح من هذه الأسئلة عدم صلاحية العلم الحديث لشرح العلل‎ ‎والأسباب وراء هذا ‏الكون، وأن من أمعن النظر في تعبير الطبيعيين يجد أنها جميعها‎ ‎أفعال مبنية للمجهول؛ لجهلهم ‏أو تجاهلهم الفاعل الحقيقي‎.

    3- ‎إن مبدأ السببية‎ ‎متفق عليه بين المؤمنين والملحدين نظريًّا، فأين تطيقه عمليًّا؟ والمراد ‏بالسببية‎ ‎هنا: أن الإنسان الذي أنعم الله عز وجل عليه بالعقل، منذ أن أشرقت أشعة عقله ‏على‎ ‎الوجود بدأ يتساءل ولا يزال وسيبقى يتساءل عن بداية نشأته، وأين سينتهي مصيره؟‎ ‎ويتساءل عن هذه الموجودات، والكائنات، كيف وجدت؟ ومن أوجدها؟ وما هي الأسباب‎ ‎الكامنة وراءها؟‎
    هذا المبدأ من المبادئ الثابتة التي لم تتغير على مدى التاريخ،‎ ‎وهو محل اتفاق بين المؤمنين ‏والملحدين، أما المؤمنون فيقولون به نظريًّا وعمليًّا،‎ ‎وهذا أشهر من أن يقام عليه دليل، أمّا ‏الملحدون، فهؤلاء أيضًا قالوا به نظريًّا،‎ ‎والدليل عليه ما يلي‎:
    يقول «سبركين وياخوت»: (نواجه دائمًا في نشاطنا سؤالاً عن‎ ‎علل هذه الظواهر أو تلك، ‏وهو أحد الأسئلة التي تساعد على تبيّن الطبيعة الداخلية‏‎ ‎للظواهر التي تجري حولنا ‏والتوصل إلى جوهرها، ولم يكن عبثًا؛ أن كتب الفيلسوف‎ ‎اليوناني «ديموقريطس» يقول: ‏‏(لأفضّل أن أجد السبب الحقيقي ولو لظاهرة واحدة من أن‎ ‎أصبح قيصرًا على بلاد فارس). ‏فإذن، ماذا تعني مقولتنا (السبب) و(النتيجة)؟ تعرف من‎ ‎الخبرة أنه (لا شيء) لا ينتج شيئًا، ‏وكل ظاهرة لها ما يُولدها، وهو الذي يُسمّونه‎ (‎السبب).
    السبب هو: ما يخلق وينتج ويولد ‏ظاهرة أخرى، وما ينتج تحت تأثير السبب‎ ‎يُسمّى نتيجة أو فعلاً‎).
    فهذا المبدأ العام الذي اعترف به الماديون الملحدون‎ ‎وأخذوا به من الناحية النظرية هل ‏طبقوه من الناحية العملية؟‎

    هذا ما سيتضح لنا‎ ‎عندما يطرح سؤال – وهو مثار خلاف جذري بين المؤمنين من جهة، ‏وبين الماديين الملحدين‎ ‎من جهة أخرى- وهو‏‎:
    ما هو السبب الكامن وراء هذا الوجود من أرض وسماوات ونبات‎ ‎وحيوانات وإنسان ‏وغيره من المخلوقات؟‎
    هذا السؤال نجد الإجابة عليه جاهزة وميسرة‏‎ ‎ومتوفرة عند الماديين، وهي أن هذا من الأمور ‏الميتافيزيقية التي لا تهمنا بحالٍ من‎ ‎الأحوال، ولا نشغل عقولنا بها؛ لأنها أمور تافهة، والبحث ‏عنها مضيعة للوقت، فكل شيء‎ ‎يخالف نظريتهم – ولو كان صحيحًا – لا يأخذون به ‏ويصمونه بوصمة عار عندهم وهي إرجاعه‎ ‎إلى الميتافيزيقية، أو المثالية التي هي في عرفهم ‏عدوة للعلم، فهم لا يعرفون إلا‎ ‎العالم المادّي، هذا العالم وجد، ولا خالق له، وبالتالي فليس ‏له سبب أول‎ ‎أوجده‎.

    وقد كتب «لينين» بصدد المفهوم المادّي عند فيلسوف العهد القديم‎ (‎هيراكليت)
    يقول في ‏ترجمة حرفية: (العالم، وحدة الكل، لم يخلقه أي إله ولا أيّ‎ ‎إنسان، ولكن كان وسيبقى نارًا ‏حية أزليًّا تشتعل وتنطفئ بموجب قوانين... هذا عرض‎ ‎جيد جدًّا لمبادئ المادية الجدلية‎).
    في هذا النص نرى أن «لينين» نفى السبب الأول‎ ‎في إيجاد العالم المادّي، وهذا نفي صريح ‏للقانون الذي قرروه هم أنفسهم، حين وقفوا‎ ‎في تفسيره عند حدود معينة لم يتجاوزوها؛ ‏لأن تجاوز هذه الحدود يؤدّي بهم إلى‎ ‎الاعتراف بخالق الكون، ومن ثَمَّ الاعتراف بالأديان، ‏وهذا ما لا‎ ‎يرضونه‎.
    والمقصود: بيان كون تفسيرهم لمظاهر الكون في وجوده وتغيره بالطبيعة وعدم‎ ‎تفسيرهم ‏للطبيعة إنما هو هروب منهم لقانون السببية – المعترف به لديهم – فإن‏‎ ‎تطبيقهم العملي لهذا ‏القانون سيؤدي بهم حتمًا إلى الاعتراف بخالق للكون. وهذا ما لا‎ ‎يستيسغونه مطلقًا‎.
    وبهذا يظهر بطلان هذا المفهوم (الثاني) أيضًا للطبيعة، فما‎ ‎بقي إلاَّ أن يقولوا بالمفهوم الثالث ‏حتمًا، وإن كانوا ينكرونه بشدة لما يترتب على‎ ‎الاعتراف به من إثبات وجود الله وبالتالي ‏بمستلزمات هذا الإثبات التي هي عبادة الله‎ ‎وحده لا شريك له. وهذا المفهوم الثالث بيانه ما ‏يلي‎:

    المفهوم الثالث: أن يقول‎: ‎إن الطبيعة قوة أوجدت الكون، وهي قوة حيّة سميعة بصيرة ‏حكيمة قادرة.. فإننا نقول‎ ‎لهم: هذا صواب وحق، وخطؤكم في أنكم سمّيتم هذه القوة ‏‏(الطبيعة)، وقد دلتنا هذه‎ ‎القوة المبدعة الخالقة على الاسم الذي تستحقه وهو (الله)، وهو ‏عرفنا بأسمائه الحسنى‎ ‎وصفاته العليا، فعلينا أن نُسمّيه بما سمّى به نفسه سبحانه وتعالى‎.
    قال ابن‎ ‎القيم: (وكأنّي بك أيها المسكين تقول: هذا كله من فعل الطبيعة، وفي الطبيعة ‏عجائب‎ ‎وأسرار! فلو أراد الله أن يهديك لسألت نفسك بنفسك، وقلت: أخبريني عن هذه ‏الطبيعة،‎ ‎أهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست ‏كذلك؟ بل عرض‎ ‎وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه؟‎

    فإن قالت لك: بل من ذات قائمة بنفسها،‎ ‎لها العلم التام والقدرة والإرادة والحكمة،
    فقل ‏لها: هذا هو الخالق البارئ المصوّر،‎ ‎فلم تسمّيه طبيعة؟‎!
    ويا لله! عن ذكر الطبائع يرغب فيهافهلاّ سميتَه بما سمّى‏‎ ‎به نفسه على ألسن رسله ودخلتَ ‏في جملة العقلاء والسعداء، فإن هذا الذي وصفته به‎ ‎الطبيعة صفته تعالى‎.

    وإن قالت لك: بل الطبيعة عرض محمول مفتقر إلى حامل، وهذا‎ ‎كله فعلها بغير علم منها ‏ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلاً، وقد شوهد من آثارها ما‎ ‎شوهد‎!
    فقل لها: هذا ما لا يصدقه ذو عقل سليم، كيف تصدر هذه الأفعال العجيبة‎ ‎والحكم الدقيقة ‏التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممّن لا فعل له‎ ‎ولا قدرة ولا شعور؟ ‏وهل التصديق بمثل هذا إلاَّ دخول في سلك المجانين‎ ‎والمبرسمين‎.
    ثم قُل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادعيت فمعلوم أنّ مثل هذه الصفة ليست‎ ‎بخالقة لنفسها ولا ‏مبدعة لذاتها، فمن ربّها ومُبدعها وخالقها؟ ومن طبعها وجعلها‎ ‎تفعل ذلك؟ فهي إذن من ‏أدل الدليل على بارئها وفاطرها وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم‎ ‎يُجْدِيْكَ تعطيلك ربّ ‏العالم جحدك لصفاته وأفعاله إلاَّ مخالفتك العقل‎ ‎والفطرة‎.

    ولو حاكمناك إلى الطبيعة لأريناك أنك خارج عن موجبها، فلا أنت مع موجب‎ ‎العقل، ولا ‏الفطرة، ولا الطبيعة، ولا الإنسانية أصلاً، وكفى بذلك جهلاً وضلالاً،‎ ‎فإن رجعت إلى ‏العقل وقلت: لا يوجد حكمة إلا من حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن‎ ‎إلاَّ من صانع قادر ‏مدبّر عليم بما يريد قادر عليه، لا يُعجزه ولا يصعب عليه ولا‎ ‎يؤوده‎.
    قيل لك: فإذن أقررت – ويحك – بالخلاق العظيم الذي لا إله غيره ولا ربّ‏‎ ‎سواه، فدَع ‏تسميته طبيعة أو عقلاً فعالاً أو موجبًا بذاته، وقل: هذا هو الله الخالق‎ ‎البارئ المصوّر ربّ ‏العالمين، وقيوم السماوات والأرضين، وربّ المشارق والمغارب،‎ ‎الذي أحسن كل شيء ‏خَلَقَه، وأتقن ما صنع، فما لك جحدت أسماءه وصفاته – بل وذاته‏‎ – ‎وأضفت صُنعه إلى ‏غيره وخلقَه إلى سواه؟ مع أنك مضطر إلى الإقرار به وإضافة الإبداع‎ ‎والخلق والربوبية ‏والتدبير إليه ولا بدّ، فالحمد لله رب العالمين‎.

    على أنك لو‎ ‎تأمّلت قولك: (طبيعة) ومعنى هذه اللفظة، لدلّك على الخالق الباري لفظها ‏كما دلّ‎ ‎العقولَ عليه معناها؛ لأن (طبيعة) فعلية بمعنى مفعولة، أي مطبوعة، ولا يحتمل غير‎ ‎هذا ألبتة؛ لأنها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم ووضعت فيه كالسجية والغريزة،‎ ‎والبحيرة والسليقة، والطبيعة؛ فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه‎.
    ومعلوم أن‎ ‎طبيعة من غير طابع لها محال، فقد دلَّ لفظ الطبيعة على الباري تعالى كما دلَّ‎ ‎معناها عليه‎.

    والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خلق من خلق الله مسخر مربوب، وهي سنة‎ ‎في خليقته التي ‏أجراها عليه، ثم إنه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء، فيسلبها تأثيرها‎ ‎إذا أراد، ويقلب ‏تأثيرها إلى ضدّه إذا شاء؛ ليُريَ عباده أنه وحده البارئ المصوّر،‎ ‎وأنه يخلق ما يشاء، "إِنَّمَا ‏أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ‎ ‎كُنْ فَيَكُونُ" يس : 82. وإن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش إليها إنما ‏هي خلق من خلقه‎ ‎بمنزلة سائر مخلوقاته‎..).

    المرجع:
    رسالة: الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ‎ ‎أبوبكر محمد زكريا، 2 / ‏‏712-730‏

    المصدر:
    https://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2665
    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
    وينصر الله من ينصره

    تعليق

    • سيف الكلمة
      إدارة المنتدى

      • 13 يون, 2006
      • 6036
      • مسلم

      #3
      حصر إيمانهم بالمحسوسات فقط
      الكاتب: سليمان الخراشي

      قالوا: إذا كان الله موجودًا، فلماذا لا نراه بأعيننا ولا ندركه بحواسنا كما‎ ‎ندرك ونرى ‏الموجودات؟ وهل يسوغ لنا أن نؤمن بما لا نراه؟‎

      الرد على هذه‎ ‎الشبهة‎:
      1- ‎إن الإيمان بالمحسوسات والموجودات فقط مسخ للإنسان، وتغليب لجانب من‎ ‎شخصيته على الجانب الآخر مما ينتج عنه القلق والفزع الذي يعاني منه الوجودي، وإلاَّ‎ ‎فالإنسان جسد وروح، وحصر الموجودات فيما يرى ويحس غير صحيح، فكم من ‏موجودات لا تحس‎ ‎ولا ترى، كما أن حصر وسائل المعرفة في الإدراك الحسي غير صحيح ‏كذلك، فالإنسان يعرف‎ ‎ويدرك عن طريق البداهة والفطرة، وعن طريق العقل والفكر، ‏وعن طريق البصيرة‎ ‎والإلهام‎.
      كما يدرك، ويدرك عن طريق الحس والرؤية، فعلماء الفلك يقدرون وجود‎ ‎كواكب بيننا ‏وبينها ملايين السنين الضوئية، وقدَّروا مواقعها والأبعاد بين بعضها؛‎ ‎لأن وجودها في المواقع ‏التي حددوها، يفسر لهم آثارًا وظواهر معينة، في حركة الكواكب‎ ‎التي رصدوها، ويستدلون ‏بما رأوه على ما لم يروه، ويتبين بالملاحظات العلمية صحة‎ ‎الفرض الذي فرضوه، فهل يلام ‏هؤلاء العلماء على إيمانهم بما لم يروه ولم يحسوه، مع‎ ‎أنهم اهتدوا إليه بالمنطق الرياضي الذي ‏يعتمد على الأرقام لا على الأوهام؟‎

      إن‎ ‎هؤلاء العلماء قد اعتمدوا على منطق بسيط ولكنه صادق – هو الاستدلال بالأثر على‏‎ ‎المؤثر -، فهم قد عرفوا الكواكب البعيدة بآثارها لا بذاتها، وعلى هذا النهج نفسه‎ ‎درس ‏العلماء الطبيعيين (الذرة)، واستخدموا قوانين الكتلة والطاقة، مع أنهم لم يروا‎ ‎الذرة حتى ‏الآن، كل ما انتهوا إليه بوسائلهم الإلكترونية الجبارة أنهم استطاعوا أن‎ ‎يروا ظلها أو خيالها ‏بعد تكبيره وتضخيمه، فكيف نسلم بهذا المنطق – منطق الاستدلال‏‎ ‎بالآثار – ونستخدمه ‏في علوم الطبيعة والفلك ثم ننكره في معرفة الخالق؟‎.

      2- ‎إن‎ ‎هذا الزعم لا دليل عليه مطلقًا، إنه مجرد إنكار ورجم بالغيب، لقد كان الماديون‎ ‎ينكرون ما لا تصل إليه الحواس الإنسانية قبل أن يتوصل البحث العلمي إلى اكتشاف‎ ‎أجهزة تستطيع أن تحس بأشياء كونية كانت بالنسبة إلى الحواس البشرية أمورًا من أمور‎ ‎الغيب، ولمَّا اكتشفت هذه الأجهزة، وكشفت للعلماء الباحثين ما كشفت من خفايا داخل‏‎ ‎الكون تراجع الفكر المادي عن تعنته قليلاً، فاعترف بوجود أشياء يمكن أن تدركها‎ ‎الأجهزة ‏التي توصل العلماء الباحثون إلى اكتشافها‎.
      ومنها أجهزة الإحساس بالأشعة‎ ‎التي لا تدركها حواس الناس، وأجهزة الإحساس ‏بالذبذبات الصوتية التي تنطلق في‎ ‎الأجواء، وأجهزة الإحساس بالطاقات الكهربائية ‏والمغناطيسية والحرارية‎ ‎وغيرها‎.
      وكلما تقدم العلم تطورت أجهزة الإحساس بالموجودات كانت غيبًا على الناس‎ ‎قبل ‏التوصل إليها، تراجع الفكر المادي الوجودي عن بعض تعنتاته، ولكن ظل منكرًا ما‎ ‎وراءه ‏مما لا يزال غيبًا‎.

      لقد كان الاستنتاج العقلي يثبت أمورًا، وكان الفكر‎ ‎المادي الوجودي ينكر بتعنت وعناد، ‏وحين كشفت الأجهزة المستحدثة ما كان يثبته العقل،‎ ‎تجاهل الماديون الوجوديون إنكارهم ‏الأول، وأخذوا يراوغون، ويوسعون مذهبهم المادي،‎ ‎حتى يشمل ما أثبتته الأجهزة ‏المستحدثة وأحست به، وقدمت للعلماء شهادة بما شاهدت من‎ ‎خفايا كانت قبلها غيبًا عن ‏حواس الناس‎.

      أما الماديون المعاصرون الذين يعترفون‎ ‎بقوانين العلوم، وما توصلت إليه استنتاجًا عقليًّا، ‏فإنهم يتناقضون مع أنفسهم حين‎ ‎يسلمون بمقررات علمية لم يتوصل إليها العلم إلا عن ‏طريق الاستنتاج العقلي، ويرفضون‎ ‎مع ذلك الاستنتاجات العقلية التي توصل إلى ضرورة ‏الإيمان بالخالق‎.

      ما أعجب أمر‎ ‎هؤلاء الوجوديين والماديين‎!!

      إنهم يرفضون الاستنتاج العقلي، حينما يُلزمهم‎ ‎ويُلزم جميع العقلاء بضرورة الإيمان بالخالق ‏الذي هو غيب عن الحواس بذاته، لكن‎ ‎ضرورة وجوده تعلم حتمًا بآثار صنعته المتقنة، ثم ‏هم يقبلون بمقررات علمية كونية‎ ‎كثيرة ما زالت غيبًا عن الحواس، وغيبًا عن الأجهزة ‏العلمية المتقدمة جدًّا، مثل‎ ‎صفات الذرة، وحركاتها، وصفات الخلية وتطورها، مع أن هذه ‏المقررات يوجد في بعضها ما‎ ‎دلّ عليه الاستنتاج العقلي بإمارات ظنية، لا بأدلة قطعية‎.
      أليس هذا منهم تناقضًا‎ ‎مع أنفسهم؟‎!

      إنهم لو كانوا منسجمين مع الأدلة العلمية انسجامًا سويًا لم يتدخل‎ ‎معه الهوى لما كانوا ‏متناقضين في مناهجهم، ولقبلوا على طول خط المعرفة ومكتسباتها‎ ‎كل الاستنتاجات العقلية ‏القطعية، أو التي تعطي ظنًّا قويًا راجحًا، ولما فرقوا بين‎ ‎أفرادها وهي متماثلة في قوة دلالتها‎.
      لكنهم متعصبون أصحاب هوى ضد قضية الإيمان‎ ‎بالرب الخالق، فهم يرفضون كل دليل ‏يثبت وجوده عز وجل، مهما كان دليلاً برهانيًّا‎ ‎قويًّا، وحينما يكون لهم هوى في أن ينتفعوا ‏من طاقات الكون وخصائصه يقبلون ما يقدمه‎ ‎لهم الاستنتاج العقلي حول هذه الطاقات ‏والخصائص، ولو كان استنتاجًا ظنيًّا أو‎ ‎وهميًّا أحيانًا، ويخادعون بأن هذا مما تثبته الوسائل ‏العلمية‎.

      3- ‎يضاف إلى ذلك :‎أن البصيرة العقلية ومستنبطاتها التجريدية لا تسمح مطلقًا بانغلاق ‏في حدود المادة‎ ‎والوجود‎.
      إن الشيء الذي لا نشاهده في الواقع الحسي لا يلزم عقلاً أن يكون غير‏‎ ‎ممكن الوجود، ‏فعدم الوجود فعلاً لا يدلُّ على استحالة الوجود. فما بالك بالحكم على‎ ‎الخالق بأنه غير ‏موجود، وبأنه متناقض وجوده، لمجرد أننا لم نشاهده في دوائر حواسنا‎ ‎المحدودة جدًّا؟‎

      4- ‎إن وسائل العلم ثلاثة‎:
      الأولى: المعرفة المباشرة، وتكون‎ ‎بالإدراك الحسي، ولو عن طريق الأجهزة والأدوات‎.
      الثانية: الخبر الصادق، ومن‎ ‎الخبر الصادق الوحي الذي يتلقاه نبي من أنبياء الله مؤيد ‏بالمعجزات الباهرات، ومن‎ ‎الخبر الصادق قطعًا ما يبلغه عن الوحي هذا النبي‎.
      فهؤلاء الملحدون حصروا العلوم‎ ‎المدركة في دوائر ضيقة، فما أدركوه بحواسهم وتجاربهم ‏أثبتوه، وما لم يدركوه بذلك‎ ‎نفوه، وهذا باطل، بل قصور في العلم، فمن ليس عنده علم ‏بشيء مَّا يجب أن يتعلم من‎ ‎الآخر، وليس عليه أن ينكر ذلك الشيء‎.

      قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ما أخبرت به‎ ‎الرسل من الغيب فهي: أمور موجودة ثابتة ‏أكمل وأعظم مما نشهده نحن في هذه الدار،‎ ‎وتلك أمور محسوسة تشاهد وتحس ولكن بعد ‏الموت في الدار الآخرة، ويمكن أن يشهدها في‎ ‎هذه الدار مَن يختصه الله بذلك، ليست عقلية ‏قائمة بالعقل كما تقوله الفلاسفة؛ ولهذا‎ ‎كان الفرق بينها وبين الحسيات التي نشهدها أن ‏تلك غيب وهذه شهادة، وكون الشيء‎ ‎غائبًا أو شاهدًا أمر إضافي بالنسبة إلينا، فإذا غاب ‏عنا كان غيبًا، وإذا شهدناه‎ ‎كان شهادة، وليس هو فرقًا يعود إلى أن ذاته تعقل ولا تشهد ‏ولا تحس، بل كل ما يعقل‎ ‎ولا يمكن أن يحس بحال فإنما يكون في الذهن، والملائكة يمكن أن ‏يشهدوا ويروا، والرب‎ ‎تعالى يمكن رؤيته بالأبصار، والمؤمنون يرونه يوم القيامة وفي الجنة ‏كما تواترت بذلك‎ ‎النصوص‎).

      وبهذا يبطل أصل الملاحدة الذين يحصرون المعلومات بمدركاتهم الخاصة‎ ‎القاصرة، فإن هؤلاء ‏قصروا معرفتهم في شيء ولم يعرفوا غيره، ومن عرف له حجة على من‎ ‎لم يعرف، فليس كل ‏من لم يعرف شيئًا ينكره على حجة عدم علمه ومعرفته‏‎.
      ولنضرب لذلك‎ ‎مثلاً: لو أن عالمًا من علماء الحيوان تحدث عن وجود حيوان برِّيٍّ غريب ‏رآه بعينه،‎ ‎وأخذ يصف مشاهداته الحسية له، ثم جاء سمَّاك فقال: لا أجد المبرر العقلي ‏لوجود هذا‎ ‎الحيوان الغريب الذي يتحدث عنه هذا العالم، فإنا لم نشاهد في البحر نظيره. لما ‏كان‎ ‎كلامه أكثر سقوطًا من ناحية الاستدلال العلمي من كلام هؤلاء الوجوديين، فقد ‏جاءتنا‎ ‎الأخبار الصادقة من قِبَل الرسل الكرام الصدِّيقون في أخبارهم بأن هناك إله ورب‎ ‎خالق له الصفات العُلى كذا، وكذا، ثم جاء بعض من أعمى الله بصره وحجب عنه بصيرته،‎ ‎فيقول: لا أحسُّ به، ليس كلامه هذا أقل سقوطًا من كلام هذا السمَّاك‎.

      ولهذا قال‎ ‎ابن القيم: (المعلومات المعاينة التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات‎ ‎التي تدرك بالحسِّ والعقل، بل لا نسبة بينها بوجه من الوجوه، ولهذا كان إدراك السمع‎ ‎أعم ‏وأشمل من إدراك البصر، فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة،‎ ‎والمعلومات التي لا تدرك بالحسِّ والأمور الغائبة عن الحسِّ نسبة المحسوس إليها‎ ‎كقطرة من ‏بحر، ولا سبيل إلى العلم بها إلا بالخبر الصادق‎).

      فإذا أبطلنا هذه‎ ‎العلوم فإننا قد أبطلنا علومًا جمّة، ومعارف كثيرة، وليس هذا إلا نداء إلى ‏الجهل‎ ‎والطيش‎.

      المرجع :
      رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد‎ ‎زكريا ، 2 / ‏‏751-757‏

      المصدر:
      https://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2666
      أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
      والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
      وينصر الله من ينصره

      تعليق

      • سيف الكلمة
        إدارة المنتدى

        • 13 يون, 2006
        • 6036
        • مسلم

        #4
        ادعاؤهم أن وجود الله ينافي حرية الإنسان‎!‎
        الكاتب: سليمان الخراشي

        ومقصودهم بهذا القول: أن الإنسان لا يكون حرًّا إلا إذا أنكر وجود‎ ‎الله، فإنه ما دام يثبت ‏وجود الله فإنه لا بد من اتباع أوامره واجتناب نواهيه. وهذا‎ ‎مخالف للحرية التامة، فإذا ‏قُضي على فكرة وجود الله فقد ثبتت الحرية، وإلا‎ ‎فلا‎.

        الرد على هذه الشبهة‎:
        إن دعوى الحرية التامة المطلقة – التي أسس عليها‏‎ ‎الوجوديون إنكار الله الخالق الرازق ‏المحيي والمميت – لا وجود لها إلا في خيالهم‏‎ ‎المريض؛ إذ لو كان الإنسان حرًّا حرية مطلقة ‏لتحكَّم في مسيره ومجريات أحداثه، وكان‎ ‎عالمًا بكل ما يحيط به من أحداث، بل لكان هو ‏المتحكم والمخطط لمسيرها في الحياة،‎ ‎ولما كان هناك ما يقع على الإنسان غير ما يبتغيه أو ‏يرغب فيه، بل يتمنى ألا يقع،‎ ‎تأكد كذب ما ترتب على دعوى الوجودية من استغناء ‏الإنسان من خالق أوجده أو قدره‎. ‎وبيان ذلك: أن الإنسان وهو بطريق الحياة تنتابه ‏الأقدار‎:

        1- ‎أحداث تقع به‎ ‎فيفجؤه، بل يفجعه نزولها به دون أن يدور بخلده – قط – أنها ستصيبه ‏أو ستلِم به،‎ ‎مثل: النوازل والكوارث التي قد تصيب الإنسان وهو بطريق الحياة دون سابق ‏إنذار، وما‎ ‎يستطيع عاقل أن يقول: إن الإنسان هو الذي وضعها بنفسه أو أنزلها بساحته ‏بناء على‎ ‎حريته المطلقة‎.

        2- ‎تنويه أحداث أخرى ما يتمناها لنفسه – قط – لكنها تقع به، مثل‏‎: ‎ضعف البصر، ‏انحناء الظهر، عجز القدمين عن حمل الجسم، تجاعيد الوجه، ابيضاض الشعر،‎ ‎فلو كان ‏الإنسان سيد أفعاله لما أوقع بنفسه ما تكرهه نفسه‎.

        3- ‎لو كان‎ ‎الإنسان هو الخالق لنفسه لكان عالمًا بتفاصيل حياته وأسباب وجوده، أو ‏الغاية التي‎ ‎تصير إليها بعد رحيله، وهذا يتناقض مع ما تنادي به الوجودية في أضل مبادئها، ‏فهي‎ ‎ترى أن الإنسان قد قذف به في الحياة دون قصد وهدف، وسيرحل عن الحياة دون ‏إرادة أو‎ ‎غاية، وتوضيح ذلك وبيانه أوضح من أن يثار‏‎.

        4- ‎هل يعقل أن يلغي الإنسان وجود‎ ‎الله لمجرد إثبات حريته الكاملة، وهل هذه إلاَّ حرية ‏بهيمية شيطانية لنيل مقصوده‎ ‎والتسلط على حقوق الآخرين؟‎

        المرجع:
        رسالة: الشرك في القديم والحديث، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا، 2 / 750-751) .


        المصدر:
        https://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2841
        أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
        والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
        وينصر الله من ينصره

        تعليق

        • سيف الكلمة
          إدارة المنتدى

          • 13 يون, 2006
          • 6036
          • مسلم

          #5
          ادعاؤهم أن وجود الله كوجود الإنسان
          الكاتب: سليمان الخراشي

          ومنشأ الخطأ لدى «سارتر» وغيره من الوجوديين ممن تشبث بهذه الشبهة‎ ‎أنه اعتقد أن كل ‏موجود مفتقر في وجوده لآخر حتى وجود الله، فتصور وجوده كوجود‎ ‎الإنسان، ولذلك لم ‏يتصور أنه أصل الوجود الذي ليس وراءه أصل، والوجود لا يكون إلا‎ ‎هكذا، إذ إنه لا بد ‏‏– في الوجود – من موجِد أوجد غيره ولم يوجده الغير، هو الأول‏‎ ‎للوجود، كما عبر عنه ‏‏«فيثاغورس» بأنه كالعدد واحد، أصل الأعداد، ولا يوجد أصل‎ ‎له‎.
          ولذلك قال تعالى: "هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ‎ ‎وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‎" الحديد : 3.
          وقوله‎:‎"أنت الأول فليس قبلك شيء".
          وقوله‎ :"كان الله ولم يكن شيء قبله‎".

          ولكي يتضح هذا التقدير يُستدل بما يلي‎:
          إن‎ ‎التساؤل عن علة وجود المصدر الأول، حجة يوسوس بها الشيطان للإنسان، منذ أن بدأ‎ ‎الفكر الإلحادي يدب إلى أذهان بعض الناس، ولهذا قال‎ صلى الله عليه وسلم: (‎الشيطان يأتي أحدكم ‏فيقول:‎ من خلق السماء؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من ‏خلق‎ ‎الله؟ فقولوا: آمنا بالله ورسوله)، وفي رواية: (فعند ذلك يضلون(‎.

          فهذه الحجة‎ ‎الشيطانية تزعم أن الإيمان بأن الله هو المصدر الأول للأشياء، والوقوف عنده، ‏يساوي‎ ‎نظريًّا وقوف الملحدين عند المادة الأولى للكون، التي يطلقون عليها اسم السديم،‎ ‎وتزعم أن كلا الفريقين لا يجد جوابًا على هذا التساؤل عن علة وجود المصدر الأول،‎ ‎إلا ‏أن يقول: لا أعرف إلا أن وجود هذا الأصل غير معلول، وتزعم أن الملحد اعترف بهذا‎ ‎قبل المؤمن بخطوة واحدة، وبعد هذه المزاعم يخادع مطلقوها (بأن إعلان الجهل‎ ‎والاعتراف ‏به من متطلبات الأمانة الفكرية، حين لا توجد أدلة وشواهد وبراهين‎ ‎كافيات‎).

          ولدى البحث المنطقي الهادئ يتبين لكل ذي فكر صحيح، أن هذه الحجة ليست‎ ‎إلا مغالطة ‏من المغالطات الفكرية، وهذه المغالطة قائمة على التسوية بين أمرين‎ ‎متباينين تباينًا كليًّا، ولا ‏يصح التسوية بينهما في الحكم. وفيما يلي تعرية تامة‎ ‎لهذه المغالطة من كل التلبيسات التي ‏سترت بها‎.

          سبق إثبات كون الله عز وجل‎ ‎أزليًّا، كما سبق إثبات كون المادة حدثت بعد أن لم يكن لها ‏وجود، واستنادًا على هذا‎ ‎الإثبات إننا إذا وضعنا هذه المغالطة بعبارتها الصحيحة كان كما ‏يلي‎:

          ما دام‎ ‎الموجود الأزلي الذي هو واجب الوجود عقلاً، ولا يصح في حكم العقل عدمه بحال ‏من‎ ‎الأحوال غير معلول الوجود، فلم لا يكون الموجود الحادث غير معلول الوجود‎ ‎أيضًا؟‎
          إن كل ذي فكر سليم صحيح من الخلل يعلم علم اليقين أنه لا يصح أن يقاس‎ ‎الحادث على ‏القديم الأزلي الذي لا أول له، فلا يصح أن يشتركا بناءً على ذلك في حكم‎ ‎هو من ‏خصائص أحدهما‎.

          وعلى هذه الطريقة من القياس الفاسد من أساسه صنعت هذه‎ ‎المغالطة الجدلية، والتورط في ‏هذه المغالطة راجع إلى علة نفسية، غفلة منا وانصياعًا‎ ‎للتصور الغالب، شأن رجل يشتغل ‏عمره بكيمياء النحاس، فعرض له الذهب فجأة، فراح يطبق‎ ‎عليه قوانين النحاس، أتراه ‏يصيب، أم يخطئ؟ لا جرم أن خطأه نشأ من انهماكه الدائم‎ ‎في قانون معين، وغفلته عن ‏التفريق بين القوانين حينما اختلفت مجالات التطبيق، ولقد‎ ‎عرفنا أن خالق الحوادث لا ‏يتصف بالحدوث قطعًا، فكيف نطبق عليه قانون‎ ‎الحوادث؟‎!
          ذكروا: (أن رجلاً جاء إلى عالم من علماء الأمة فقال: إذا أقررنا‎ ‎بالخالق فمن ذا خلقه؟ قال: ‏عُدَّ من الواحد صعودًا، ففعل الرجل، قال: عُدَّ قبل‎ ‎الواحد، قال: ليس قبل الواحد شيء. ‏قال: كذلك ليس قبل الواحد شيء‎!).

          والخلاصة: إن‎ ‎الخالق ليس بحادث، فنطبق عليه قانون الحوادث في السؤال عن خالقه، ‏فذلك غير سائغ،‎ ‎وأنه كامل مطلق، والكامل المطلق لا يحتاج إلى غيره، وبذلك ينهدم آخر ‏صرح من صروح‎ ‎الشك، فنقول: الكامل المطلق لا يمكن أن يفتقر إلى الموجد‎.

          وأما أزلية الخالق،‎ ‎وعدم احتياج وجوده إلى علة، فبرهان ذلك يمكن إيجازه بما يلي‎:
          إن العدم العام‎ ‎الشامل لكل شيء يمكن تصوره في الفكر، لا يصح في منطق العقل أن يكون ‏هو الأصل؛ لأنه‎ ‎لو كان هو الأصل لاستحال أن يوجد شيء مَّا‎.

          إذن: فلا بد أن يكون وجود موجِد مَّا‎ ‎هو الأصل، ومن كان وجوده هو الأصل فإن وجوده ‏لا يحتاج عقلاً لأية علة، بل وجوده‎ ‎واجب عقلاً، ولا يصح في العقل تصور عدمه، وأي ‏تساؤل عن علة لوجوده لا يكون إلا على‎ ‎أساس اعتبار أن أصله العدم ثم وجد، وهذا ‏يتناقض مع الإقرار باستحالة أن يكون العدم‎ ‎العامل الشامل هو الأصل الكلي‎.
          ومن كان وجوده واجبًا بالحتمية العقلية باعتبار‎ ‎أنه هو الأصل، فإنه لا يمكن بحال من ‏الأحوال أن يتصف بصفات تستلزم أن يكون‎ ‎حادثًا‎.

          أما ادعاء أصلية الوجود للكون بصفاته المتغيرة فهو ادعاء باطل، وذلك‎ ‎بموجب الأدلة التي ‏تثبت أنه حادث وليس أزليًّا‎.
          إن هذا الكون يحمل دائمًا‎ ‎وباستمرار صفات حدوثه، تشهد بهذه الحقيقة: النظريات العقلية ‏المستندة إلى المشاهدات‎ ‎الحسية، وتشهد بها البحوث العلمية المختلفة في كل مجال من ‏مجالات المعرفة،‎ ‎والقوانين العلمية التي توصل إليها العلماء الماديون‎.
          وإذ قد ثَبَتَ أن هذا‎ ‎الكون عالم حادث، له بداية ونهاية، فلابد له حتمًا من علة تسبب له ‏هذا الحدوث،‎ ‎وتخرجه من العدم إلى الوجود، وذلك؛ لاستحالة تحول العدم بنفسه إلى ‏الوجود‎.
          أما‎ ‎ما لا يحمل في ذاته صفات تدل على حدوثه مطلقًا، وتقضي الضرورة العقلية بوجوده،‎ ‎فوجوده هو الأصل، لذلك فهو لا يحتاج أصلاً إلى موجِد يوجده، وكل تساؤل عن سبب ‏وجوده‎ ‎تساؤل باطل بالحتمية العقلية؛ لأنه أزلي واجب الوجود، ولا يمكن أن يكون غير ‏ذلك‎ ‎عقلاً، وليس حادثًا حتى يتساءل الفكر عن سبب وجوده‎.

          وهنا نقول: لو كانت صفات‎ ‎الكون تقتضي أزليته لقلنا فيه أيضًا كذلك، لكن صفات ‏الكون المشاهدة المدروسة تثبت‎ ‎حدوثه‎.
          يضاف إلى هذا: أن مادة الكون الأولى عاجزة بطبيعتها عن المسيرة‎ ‎الارتقائية التي ترتقي بها ‏ذاتيًّا إلى ظاهر الحياة، فالحياة الراقية في‎ ‎الإنسان‎.
          وبهذا تنكشف للبصير المنصف: المغالطة الشيطانية التي يوسوس بها‎ ‎الشيطان، وتخطر على ‏أذهان بعض الناس، بمقتضى قصور رؤيتهم عن استيعاب كل جوانب‎ ‎الموضوع وزواياه، ‏فهم بسبب هذا القصور في الرؤية يتساءلون: وما علة وجود‎ ‎الله؟‎
          إنها مغالطة تريد أن تجعل الأزلي حادثًا، وأن تجعل واجب الوجود عقلاً ممكن‏‎ ‎الوجود عقلاً، ‏وأن الأصل فيه العدم، ليتساءل الفكر عن علة وجوده‎.
          أو تريد أن‎ ‎توهم بأن ما قامت الأدلة على حدوثه فهو أزلي، أو هو واجب الوجود لذاته؛ ‏لتسوي بين‎ ‎الحادث والأزلي في عدم الحاجة إلى علة لوجوده‎.

          وتريد هذه المغالطة أن تطمس‎ ‎الضرورة العقلية التي تقتضي بأن الأصل هو وجود موجِد ‏أزلي، وهذا الموجِد الأزلي لا‎ ‎يصح عقلاً أن يُسأل عن علة لوجوده مطلقًا؛ لتنافي هذا ‏السؤال مع منطق العقل، وهذا‎ ‎الموجِد الأزلي لا يمكن أن تكون له صفات تستلزم حدوثه‎.
          أما الكون فصفاته تستلزم‎ ‎بالبراهين العقلية والأدلة العلمية المختلفة - حدوثه، لذلك كان ‏لا بد من السؤال عن‎ ‎علة لوجوده، ولا تكون هذه العلة إلاَّ من قبل الموجِد الأزلي، الذي ‏يقضي منطق العقل‎ ‎بضرورة وجوده، خارجًا عن حدود الزمن ذي البداية والنهاية، وخلاف ‏ذلك مستحيل‎ ‎عقلاً‎.
          والحدوث من العدم العام الشامل، دون سبب من موجِد سابق له مستحيل‎ ‎عقلاً‎.

          المرجع:
          رسالة: الشرك في القديم والحديث، للأستاذ أبو بكر محمد زكريا، ‏‎2 / ‎‎744-749.‎

          المصدر:
          https://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2670
          أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
          والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
          وينصر الله من ينصره

          تعليق

          • سيف الكلمة
            إدارة المنتدى

            • 13 يون, 2006
            • 6036
            • مسلم

            #6
            القول بالمصادفة
            الكاتب: سليمان الخراشي

            وأن الكون أو الإنسان لا يحتاج إلى موجِد‎ ‎أوجده، بل وجد صدفة دون تقدير ولا تدبير، ‏فلا خالق ولا موجِد له‎.

            الرد على هذه‎ ‎الشبهة‎:
            القول بالصدفة هو المخرج الثاني للقائلين بنظرية النشوء والارتقاء لأصل‎ ‎الإنسان، فإنهم لمَّا ‏قالوا بنظرية الارتقاء والتطور، والنشوء سُئلوا عن أساس‎ ‎التطور، فأجابوا بأنه حدث فعلاً ‏بالصدفة، وأن الحياة والكون إنما هما نتيجتا‎ ‎الصدفة، وقد سبق معنا الرد على نظرية التطور ‏والنشوء والارتقاء، وأما القول بالصدفة‎ ‎فيقال في الرد عليها‎:

            إن القول بالصدفة من الافتراءات الآثمة التي قال بها‎ ‎الغافلون عن الإبداع الكوني، وما في ‏العالم من أسرار ونواميس هي أكبر شاهد على مدبر‎ ‎حكيم، إن ما يحدث في الكون من ‏تقدير في الأرزاق والآجال، وما عليه الكون من إبداع،‎ ‎وما يحتوي عليه من أسرار لا مرد ‏له إلى العشوائية والارتجال، فهي قضية من‎ ‎المسلَّمات التي اتفقت عليها الدلائل العلمية ‏المادية، والبراهين العقلية‎ ‎المنطقية‎.

            فالدلائل العلمية المادية المستندة إلى الوسائل الإنسانية تحيل وجود‎ ‎المتقنات الراقية الدقيقة ‏المعقدة بالمصادفة، وترفض المصادفة في أية ظاهرة كونية‎ ‎ذات إتقان دقيق معقد، والباحثون ‏العلميون سواء أكانوا مثاليين أو ماديين، يبحثون‎ ‎باستمرار عن سبب أية ظاهرة كونية ‏يشاهدونها، ويرفضون ادعاء المصادفة فيها رفضًا‎ ‎قاطعًا؛ لأن المناهج العلمية الاستقرائية قد ‏أثبتت للعلماء أنه ما من ظاهرة تحدث في‎ ‎الكون دون أن تكون مسبوقة بسبب مكافئ ‏لحدوثها، وإذا كانت هذه الظاهرة من الظواهر‎ ‎التي تحتاج إلى علم ومهارة حتى يكون قادرًا ‏على إنتاجها، قرروا أن منتجها صاحب علم‎ ‎ومهارة، وهكذا. فكيف بالكون كله وما فيه ‏من متقنات لا حصر لها، أصغرها الذرة‎ ‎وأكثرها المجرة – في نظرنا -، وأدناها في الأحياء ‏التي اكتشفناها الفيروس، وأعلاها‎ ‎فيما نشاهد: الإنسان؟‎

            وللرد عليهم علميًّا، يُذكر ما يلي‎:
            1- ‎إن البروتينات‎ ‎من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية، وهي تتكون من خمسة ‏عناصر، هي: الكربون‎ ‎والأيدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، والكبريت، ويبلغ عدد ‏الذرات في الجزء الواحد‎ (40) ‎ألف ذرة، ولمَّا كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة ‏‏(92) عنصرًا موزعة بقدر‎ ‎معلوم، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون ‏جزئيًا واحدًا من جزئياتِ‎ ‎البروتين يمكن حسابه لمعرفة كميات المادة التي ينبغي أن تخلط ‏خلطًا مستمرًا لكي‎ ‎تُؤلِّف هذا الجزئي. وقد‎ ‎حاول أحد العلماء حساب الفترة الزمنية التي ‏يجب أن‎ ‎تستغرقها عملية خلط العناصر المذكورة هي (10) 243 سنة.... معنى ذلك أنه ‏قبل وجود‎ ‎الكون وما بعد أيامنا هذه بمليون سنة أمامه (239) صفر، واشترط العلماء توفر ‏مواد‎ ‎كونية تساوي حجم الكون مليون أمامه (431) صفر مرة، فهل هذا معقول؟ كل ‏تلك الأرقام‏‎ ‎المستحيلة يطلبها قانون الصدفة لتكوين جزئي، واحدة من جزئيات الخلية ‏الحية،... ألا‎ ‎يكفي خلق الإنسان من بلايين الخلايا [الحية] التي تحركها إشعاعة الحياة (تلك ‏النفخة‎ ‎الإلهية العظمى في المادة)، ألا يكفي هذا لكي يؤمن الملحدون بالخالق الواحد الأحد‎ ‎الفرد الصمد؟‎).

            2- ‎يقول أحد الباحثين المعاصرين: إن (معظم الحيوانات والنباتات‎ ‎تتكون من عدد هائل ‏من تلك الوحدات الدقيقة الحجم التي نسمِّيها (الخلايا)، كما‎ ‎يتكون المبنى من مجموعة من ‏الأحجار المرصوصة‎).
            وخلايا أجسامنا وأجسام غيرنا من‎ ‎الحيوانات دائمة الانقسام، وذلك الانقسام قد يكون ‏لنمو الجسم أو لتعويض ما يفقد أو‎ ‎يموت من الخلايا لأسباب عديدة، وكل خلية من هذه ‏الخلايا تتكون أساسًا من مادة عجيبة‎ ‎نطلق عليها اسم (البروتوبلازم‎).

            وتوجد بداخل كل خلية محتويات عديدة ذات وظائف‎ ‎محددة، ومن هذه المحتويات أجسام ‏دقيقة تحمل عوامل وراثية هي التي نطلق عليها اسم‎ (‎الكروموسومات)، وعدد هذه ‏الكروموسومات ثابت في خلايا كل نوع من أنواع الحيوانات‎ ‎والنباتات المختلفة، فعددها ‏في خلايا القط – مثلاً – يختلف عن عددها في خلايا الكلب‏‎ ‎أو الفيل أو الأرنب أو نبات ‏الجزر أو الفول. وفي كل خلية من الخلايا التي يتكون‎ ‎منها جسم الإنسان يوجد ستة ‏وأربعون من هذه الكروموسومات‎.
            وعندما تنقسم الخلية‎ ‎إلى خليتين داخل أجسامنا، فإن كل خلية جديدة لا بد أن تحتوي على ‏العدد نفسه من‎ (‎الكروموسومات)، وهي ستة وأربعون، إذ لو اختل هذا العدد لما أصبح ‏الإنسان‎ ‎إنسانًا‎.

            والخلايا – كما ذكرت – دائمة الانقسام. يحدث هذا في جميع ساعات اليوم‎ ‎حتى في أثناء ‏نومنا، ونحن حتى الآن ما ندرك حقيقة القوى المهيمنة على هذه العملية‎ ‎المذهلة – عملية ‏انقسام الخلايا –، بل يكتفي العلم بوصف خطوات العملية التي يمكن‎ ‎ملاحظتها تحت ‏عدسات (الميكروسكوب) العادي، أو عن طريق (الميكروسكوب الإلكتروني‎) ‎الذي يكبر ‏الأشياء تكبيرًا أكثر بكثير من تكبير الميكروسكوب العادي‎.

            إن جميع‎ ‎الخلايا الناتجة عن عمليات الانقسام في جسم الإنسان لا بد أن تحتوي – كما ‏ذكرت‎ – ‎على ستة وأربعين كروموسومًا، فيما عدا نوعين من الخلايا؛ هما الخلايا ‏التناسلية، أي‎ ‎الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى، إذ عندما تنقسم خلايا الأنسجة ‏لتكوين‎ ‎هذه الخلايا التناسلية فإنها تنتج خلايا لا تحتوي على الستة والأربعين كروموسومًا،‎ ‎بل تحتوي على نصف هذا العدد؛ أي يصبح في كل خلية تناسلية ذكرية أو أنثوية ثلاثة‎ ‎وعشرون كروموسومًا فقط‎.

            لماذا يحدث ذلك؟ يحدث هذا؛ لحكمة بالغة ولهدف عظيم، إذ‎ ‎إن الخلية الذكرية (الحيوان ‏المنوي) لا بد أن تندمج مع الخلية الأنثوية (البويضة‎) ‎لتكوين أول خلية في جسم الجنين، ‏وهي التي نطلق عليها اسم (الخلية الملقحة)، وبهذا‎ ‎الاندماج يعود عدد الكروموسومات في ‏الخلية الجديدة إلى العدد الأصلي وهو ستة‎ ‎وأربعون (كروموسومًا‎).

            وهذه الخلية الملقحة التي أصبحت تحتوي على ستة وأربعين‎ (‎كروموسومًا) توالي انقسامها ‏فتصبح خليتين، ثم أربع خلايا، ثم ثمان خلايا، وهكذا‎ ‎حتى يتم تكوين الجنين الذي يخرج من ‏بطن أمه ويستمر نموه عن طريق انقسام الخلايا حتى‎ ‎يصبح إنسانًا كامل النمو في كل خلية ‏من خلاياه ستة وأربعون (كروموسومًا)، كما هو‎ ‎الحال في خلايا جسد أبيه وأمه وأجداده ‏وجميع أفراد الجنس البشري‎.

            إن اختزال عدد‎ ‎الكروموسومات إلى النصف عند تكوين الخلايا التناسلية بالذات لكي ‏تندمج فيعود العدد‎ ‎الأصلي (للكروموسومات) في الخلايا لا يمكن مطلقًا نتيجة مصادفة ‏عمياء، بل لا بد أن‎ ‎يكون نتيجة تخطيط دقيق من قوة عُليا تعرف ماذا تفعل، وهي في ‏الوقت نفسه لا يمكن أن‎ ‎تخضع للتجربة واحتمال الخطأ، إذ لو حدث خطأ مرة واحدة عند ‏بدء الخلق لقُضي على‎ ‎الكائن الحي قبل تكوين الجيل الثاني؛ أي أن هذا الترتيب لا بد أن ‏يكون قد تَمَّ منذ‎ ‎تكوين أول جنين ظهر في الوجود. ألا يكفي هذا وحده دليلاً على وجود ‏قوة عُليا مدبرة‎ ‎مقدرة حكيمة؟ بل لا يمكن أبدًا أن يكون هذا المبدأ أو القانون الذي يسود ‏جميع‎ ‎الكائنات الحية من صنع مصادفة عمياء تتخبط في الظلام، إذ إن المصادفة لا يمكن أن‎ ‎تتخذ مظهر قانون عام تخضع له جميع الكائنات‎.

            فهذه بعض الأمثلة من جملة عشرات‎ ‎الأمثلة للدلائل العلمية المادية المستندة إلى الوسائل ‏الإنسانية، تحيل وجود‎ ‎المتقنات الراقية الدقيقة المعقدة بالصدفة‎.

            وأما البراهين العقلية المنطقية فهي‎ ‎أيضًا تحيل وجود المتقنات الراقية الدقيقة المعقدة بالصدفة. ‏وفيما يلي استعراض سريع‎ ‎لبعض هذه الأدلة‎:

            1- ‎إن الأرض هي الكوكب الوحيد الذي يمكن أن توجد فيه الحياة‎ ‎على الوجه الذي ‏نعرفه (إن حركة دوران الأرض حول نفسها إن أسرعت أو أبطأت عمَّا هي‎ ‎عليه؛ لطالت ‏الأيام أو قصرت، ولتوقفت الحياة بسبب برودة الليل أو قيظ النهار،‎ ‎والشمس في نفس ‏الموقع بالضبط الذي يمكنها من حفظ الحياة على الأرض، ودرجة حرارتها‎ ‎البالغة (6500) ‏درجة مئوية هي على وجه التحديد درجة الحرارة اللازمة لكوكبنا، فلو‎ ‎انحرف متوسط ‏درجة الحرارة صعودًا أو هبوطًا على الهامش الصغير الذي لا يتجاوز (28‏‎) ‎درجة ‏لانعدمت أمواج المد، فغمرت السهول والجبال وغطت كل شيء على ظهر الأرض تحت ‏طبقة‎ ‎من الماء عمقها (2500) متر‎.

            أما محور الأرض فإنه إن لم يكن على زاوية (23) درجة‎ ‎كما هو، فلن تكون هناك فصول، ‏ولتحركت أبخرة المحيطات نحو القطبين: الشمالي‎ ‎والجنوبي، مكونة تراكمات هائلة من الثلج ‏عند القطبين، تاركة وسط الأرض خاليًا‎ ‎تمامًا من الماء، لن تكون هناك عندئذٍ أمطار، ‏وستخلو المحيطات من مياهها، وستنبعج‎ ‎الأرض عند خط الاستواء تحت ضغط الثلوج ‏المتراكمة عند القطبين، وسيترتب على ذلك آثار‎ ‎هائلة‎.

            أما الغازات التي يتكون منها الغلاف الجوي فإنها إن اختلفت عمَّا هي عليه‎ ‎فلن يستطيع أي ‏شيء أن يبقى حيًّا، واحتمال أن يكون كل هذا وليد الصدفة احتمال‎ ‎متناهي الضآلة، ولا ‏يعدو أن يكون واحدًا في المليار؛ ولذلك يقول «آينشتين»: (لا‎ ‎أستطيع أن أصدق أن الكون ‏قد نتج عن رمية زهر‎).

            2- ‎لقد وجد من يقول: (لو جلست ستة‎ ‎من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب ‏على حروفها بلايين السنين فلا نستبعد أن نجد‎ ‎في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبتها قصيدة ‏من قصائد شكسبير – فكذلك الكون الموجود‏‎ ‎الآن، نتيجة لعمليات عمياء، ظلَّت تدور في ‏المادة لبلايين السنين‎).
            هذا قول أحد‎ ‎الملاحدة من المنكرين لوجود الله، ويجاب عن هذه الفرية؛ بأن أي كلام من ‏هذا القبيل‎ (‎لغو مثير)، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ، فإن جميع علومنا تجهل – إلى ‏يوم‎ ‎الناس هذا – أية مصادفة أنتجت واقعًا عظيمًا ذا روح عجيبة، في روعة الكون‏‎.

            ثم إن‎ ‎الرياضيات التي تعطينا نكتة (المصادفة) هي نفسها التي تنفي أي إمكان رياضي في ‏وجود‎ ‎الكون الحالي بفعل قانون المصادفة، ولهذا ردَّ على هذه الفرية عالم آخر من الغرب‎ ‎بقوله: (لو تناولت عشرة دراهم وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في‎ ‎جيبك، وخلطتها جيدًا، ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى العشرة بالترتيب العددي بحيث‏‎ ‎تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه‎ ‎واحد في المحاولة الأولى هو واحد في المائة، وإمكان أن نخرج الدراهم (1، 2، 3، 4‏‎) ‎بالترتيب هو واحد في عشرة آلاف... حتى إن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم من‎ ‎‎(1-10) ‎بالترتيب واحد في عشرة بلايين من المحاولات). وعلى ذلك فكم يستغرق ‏بناء هذا‎ ‎الكون لو نشأ بالمصادفة والاتفاق؟ إن حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا ‏الاحتمال‎ ‎خاليًا يصعب حسابه فضلاً عن تصوره‎.

            إن كل ما في الكون يحكي أنه إيجاد موجِد حكيم‏‎ ‎عليم خبير، ولكن الإنسان ظلوم جهول: "قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ*مِنْ أَيِّ‎ ‎شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ‎ ‎يَسَّرَهُ * ثُمَّ ‏أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلاَّ‎ ‎لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا‎ ‎صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا‎ ‎حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا ‏وَنَخْلاً" عبس : 17-29. كيف يمكن أن تتأتى‎ ‎المصادفة في ذلك كله، في خلق الإنسان وتكوينه، وفي صنع ‏طعامه على هذا النحو‎ ‎المقدَّر الذي تشارك فيه الأرض والسماء. "قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ". ‏وصدق‎ ‎الله في وصفه للإنسان: "إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً‎" الأحزاب : 72.

            قال الإمام ابن‎ ‎القيم: سل المعطل الجاحد: ما تقول في دولاب دائر على نهر قد أُحكمت ‏آلاته، وأُحكم‎ ‎ترتيبه، وقُدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه بحيث لا يرى الناظر فيه خللاً في ‏مادته‎ ‎ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثمار والزروع ‏يسقيها‎ ‎حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلِمُّ شعثها ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع‎ ‎مصالحها فلا يختل منها شيء ولا تتلف ثمارها، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر‏‎ ‎المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا ‏على‎ ‎الدوام... أترى هذا اتفاقًا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر؟بل اتفق وجود ذلك‏‎ ‎الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقًا من غير فاعل ولا قيِّم ولا مدبر.. افترى ما يقول‎ ‎لك ‏عقلك في ذلك لو كان؟ وما الذي يفتيك به؟ وما الذي يرشدك إليه؟‎

            ولكن من حكمة‎ ‎العزيز الحكيم أنْ خلق قلوبًا عميًا لا بصائر لها – فلا ترى هذه الآيات ‏الباهرة إلا‎ ‎رؤية الحيوانات البهيمية‎ – ‎كما خلق أعينًا عميًا لا أبصار لها، والشمس والقمر‎ ‎والنجوم مسخرات بأمره وهي لا تراها، فما ذنبها إن أنكرتها وجحدتها! فهي تقول في ضوء‎ ‎النهار: هذا ليل! ولكن أصحاب الأعين لا يعرفون شيئًا‎.

            ولقد أحسن‎ ‎القائل‎:
            وَهَبْنِي قلت هذا الصبــح ليـل‎ ** أَيَعْمَى العالمون عند الضيــاء‎
            أخيرًا ما أقول، هو ما اعترف به كبار علماء الكون المعاصرين، من تراجع العلم‎ ‎المعاصر عن ‏اعتبار الكون عن طريق المصادفة إلى إدراك أنه مظهر لخطة عليم حكيم قدير‎ ‎مهيمن على ‏كل شيء‎.

            يقول العلاَّمة الفلكي الرياضي البريطاني السيد (جيمس جينز)‎) :‎لقد كنا قبل ثلاثين سنة ‏‏– ونحن ننظر إلى الكون – نظن أننا أمام حقيقة من النوع‏‎ ‎الميكانيكي، وكان يبدو لنا أن ‏الكون يشتمل على ركام من المادة المبعثرة، وقد اجتمعت‎ ‎أجزاؤه بالمصادفة، وأنَّ عمل هذه ‏المادة ينحصر في أن ترقص لبعض الوقت رقصًا لا معنى‎ ‎له، تحت تأثير قوى عمياء لا هدف ‏لها، وأنها بعد نهاية الرقص ستنتهي هذه المادة في‎ ‎صورة كون ميت، وأن الحياة قد وجدت ‏مصادفة خلال عمل هذه القوى العمياء، وأن بقعة‎ ‎صغيرة جدًّا من الكون قد نعمت بهذه ‏الحياة، أو على سبيل الاحتمال يمكن أن توجد هذه‎ ‎الحياة في بقاع أخرى، وأن كل هذه ‏ستنتهي يومًا ما، وسيبقى الكون فاقد‎ ‎الروح‎.
            ولكن توجد اليوم أدلة قوية، تضطر علم الطبيعة إلى قبول الحقيقة القائلة‎: ‎بأن نهر العلم ‏ينساب نحو حقيقة غير ميكانيكية‎.

            إن الكون أشبه بفكر عظيم منه‎ ‎بماكينة عظيمة. إن (الذهن) لم يدخل إلى هذا العالم المادي ‏كأجنبي عنه، ونحن نصل‎ ‎الآن إلى مكان يجدر بنا فيه استقبال (الذهن) كخالق هذا الكون ‏وحاكمه‎.

            إن هذا‎ ‎الذهن – بلا شك – ليس كأذهاننا البشرية، بل هو ذهن خَلَقَ الذهن الإنساني من‏‎ ‎‎(‎الذرة، المادة)، وهذا كله كان موجودًا في ذلك الذهن الكوني في صورة برنامج معد‎ ‎سابقًا‎.
            إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم، تلك‎ ‎التي أقمناها على ‏عجل، لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوة منظمة أو‎ ‎مهيمنة‎..).

            فهذا التراجع يدلنا على أن مواقفهم غير ثابتة، بل هي واهية البنيان‎ ‎والأساس، وما ‏الاستدلالات التي استدلوا بها على أفكارهم إلا ظنونًا وتخمينًا،‎ ‎فالعالم من خلق خالق مبدع ‏حكيم مريد خلقه على خطة مسبقة معدٍّ، وهو يهيمن عليه‎ ‎ويحيط به في جميع أجزائه‎.

            المرجع:
            رسالة: الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ‎ ‎أبوبكر محمد زكريا ، 2 / ‏‏734-744‏.‎

            المصدر:
            https://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2755
            أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
            والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
            وينصر الله من ينصره

            تعليق

            • سيف الكلمة
              إدارة المنتدى

              • 13 يون, 2006
              • 6036
              • مسلم

              #7
              قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
              الكاتب: سليمان الخراشي

              تتردد كثيرًا في كتابات المعارضين والمخالفين لشريعة الإسلام عندما يُلزمون بأحكامها عبارات خطيرة؛ مثل: "الحق المطلق لا يملكه أحد" أو "لا أحد يدعي امتلاك الحقيقة" أو "الحق نسبي" … وغيرها من العبارات المشابهة التي اتخذها هؤلاء حلا سريعًا يلجأون إليه عندما يريدون التملص والتخلص من التزام الحق الذي جاءت به الشريعة؛ حيث تكون الأمور فوضى لا ضابط لها، ولا حقيقة ثابتة يعرفها الناس ويتحاكمون إليها! بل أنت تعتقد أن هذا الأمر "حقيقة" وغيرك يعتقد خلافه "حقيقة" ، وكلاكما على صواب، ولا يُنكر أحد على أحد..! فتُمرر جميع أنواع "الكفر" أو "الشبهات" أو "الشهوات" على احتمال أن تكون هي "الحقيقة المنشودة" !!
              وقد أحببتُ في هذه الحلقة أن أكشف وجوه التلبيس في هذه العبارات، وبيان خطورتها على قائلها، مقدمًا بذكر نماذج لمن يقول بها، ثم تعريف بأول من قال بها، مع بيان كيفية الرد عليها؛ والله الموفق:

              نماذج من أقوال المرددين لهذه العبارات الخطيرة!
              – (لا أحد يملك الحقيقة الملكية المطلقة) . (الممنوع والممتنع، علي حرب، ص180) (وانظر أيضاً: كتابه: نقد الحقيقة، ص 2).

              - (يجب أن يكون واضحاً في غاية الوضوح: أن المطلق مطلق، ولكن الفهم البشري والتفسير البشري لأي جانب من جوانب المطلق هو فهم نسبي") .(تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها، د. محمد جابر الأنصاري، ص83).

              - (ينبني الدين على حقيقة مطلقة كلية هي الوحي ولما كانت الفلسفة تضع في اعتبارها تعددية المواقف والآراء، ونسبية الحقيقة –أي كونها موزعة من حيث الاحتمال المفتوح بين الناس جميعاً- فإن التصادم بينهما قائم لا محالة) . (آفاق فلسفية عربية معاصرة، طيب تيزيني، ص 167)

              - (ما بعد الحداثة هو عالم صيرورة كاملة، كل الأمور فيه متغيرة، ولذا لا يمكن أن يوجد فيه هدف أو غاية، وقد حلت ما بعد الحداثة مشكلة غياب الهدف والغاية والمعنى بقبول التبعثر باعتباره أمراً نهائياً طبيعياً، وتعبيراً عن التعددية والنسبية والانفتاح، وقبلت التغير الكامل والدائم). (السابق، ص 322).

              - (النسبية: هي الرأي الذي يقول بأن الحقيقة نسبية وتختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر) . (السابق، ص 329).

              - (ارتكزت التعددية بمعناها المعرفي على الفكرة القائلة بأن لا أحد يملك الحقيقة كلها، وبالتالي ليس من حق أحد مصادرة آراء وأفكار الآخرين) . (إشكالية مفهوم المجتمع المدني، د. كريم أبو حلاوة، ص 42).

              - (لن تكون متقدماً أو صاحب أمل في التقدم؛ إذا قبلت الرأي على أنه حقيقة، والحقيقة على أنها مطلقة وليست نسبية) . (من هنا يبدأ التغيير، تركي الحمد، ص 347).

              – (إن المنطلق الأول للبحث عن الحقيقة هو القناعة بنسبيتها) . (البحث عن الحقيقة، عبد الله بن حمد المعجل، ص 13).

              – جون ستيوارت مل (يرى أن التسامح يمتنع معه الاعتقاد في حقيقة مطلقة). (ملاك الحقيقة المطلقة، مراد وهبة، ص 193).

              – (العلمانية من حيث هي التفكير في النسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق). (السابق، ص 228).

              – (كل مجتمع لا يعترف بالتعددية العقائدية والسياسية هو مجتمع تنقصه الأنسنة إلى حد كبير. لماذا؟ لأن الاختلاف والتنوع في الرأي والفكر شرط من شروط تحرر الذهن من التحجر والانغلاق) .(هاشم صالح، معارك من أجل الأنسنة، محمد أركون، ص 16).

              – (إن اعتماد الشك في التفكير الفلسفي، والأخذ بنسبية الحقيقة: هو التسامح بعينه) (محمد عابد الجابري، قضايا الفكر المعاصر، ص20) .

              – (إن فكرة الحقيقة المطلقة تؤسس لدى حاملها شرعية امتشاق السلاح دفاعًا عنها، ليس هذا السلاح قطعا هو الفكر؛ فمالك الحقيقة لا يجادل). (عبد الإله بلقزيز، نهاية الداعية، ص 70).

              – ويقول شاكر النابلسي معددًا مواصفات المجتمع المدني الذي يطمح إليه!: (إن القيم في المجتمع المدني نسبية، وهذه النسبية تجعل القيم متغيرة غير ثابتة. لا احتكار للحقيقة في المجتمع المدني، وعدم الاحتكار يقود المجتمع المدني إلى التسامح لا إلى التعصب، وإلى الانفتاح لا إلى الانغلاق). (صعود المجتمع العسكري، ص 205-206) .

              – وانظر: "الفكر الإسلامي والتطور" لفتحي عثمان؛ (ص 15-16). ومقال: (ملاك الحقيقة وتصنيف الناس) لمحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، جريدة الجزيرة، 26/8/1425 . وانظر – أيضًا -: " التطور والنسبية في الأخلاق " للدكتور حسام الألوسي. (وهو متطرف في الأخذ بهذا المبدأ الخطير !)

              أول من قال بـ(نسبية الحقيقة):
              أول من قال بها هم السوفسطائيون – وعلى رأسهم كبيرهم الفيلسوف بروتاغوراس – الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد؛ حيث كانت اليونان تموج بمجموعة من الأفكار والمذاهب المتباينة المتنوعة؛ فلجأوا لهذا القول في تأييد الآراء المتناقضة؛ إما شكًا في الجميع، أو للتخلص من جهد طلب الحقيقة.

              يقول الدكتور علي سامي النشار: (نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة "إن الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكاك بعد، فطبقوها على الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء – كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر). (مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 191)

              ويقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين: (وكانت هذه الجماعة تنكر وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية). (السلم في علم المنطق للأخضري، ص7).
              - (لقد عبر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه "عن الحقيقة" الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله "إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً" وفي هذه العبارة القصيرة تكمن الثورة الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر. إنها تعني بالنسبة لنظرية المعرفة أن الإنسان الفرد هو مقياس أو معيار الوجود، فإن قال عن شيء إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً، فالمعرفة هنا نسبية، أي تختلف من شخص إلى آخر بحسب ما يقع في خبرة الإنسان الفرد الحسية، فما أراه بحواسي فقط يكون هو الموجود بالنسبة لي، وما تراه أنت بحواسك يكون هو الموجود بالنسبة لك، وهكذا). (مدخل لقراءة الفكر الفلسفي عند اليونان، للدكتور مصطفى النشار، ص70 -71).
              فتعاليمهم - كما يقول مؤلفا "قصة الفلسفة اليونانية - (تعاليم هدامة لكل نظام اجتماعي؛ للدين، للأخلاق، لكل نظم الدولة) . (ص 69) .

              وللزيادة عن السوفسطائيين؛ انظر: "تاريخ الفلسفة اليونانية" ليوسف كرم، و"الفلسفة اليونانية: تاريخها ومشكلاتها "لأميرة مطر (ص 115 وما بعدها)، و "تاريخ الفلسفة اليونانية" لماجد فخري، و"التعريفات" للجرجاني، و"قصة الإيمان" لنديم الجسر (ص 36-37)، و"فلسفة الأخلاق "للدكتور توفيق الطويل (ص 47-49)، و "مختصر تاريخ الفلسفة "للمختار بنعبد لاوي (ص 13-14)، و"الموسوعة الفلسفية" للدكتور عبد المنعم الحفني (482 وما بعدها)، و"المعجم الفلسفي" للدكتور مراد وهبة (ص 444 وما بعدها)، و"ربيع الفكر اليوناني" لبدوي (165-180)، و" قصة الفلسفة اليونانية" (ص 62-72)، ومقال "السوفسطائيون"لزكي نجيب محمود، مجلة الرسالة، صفر، 1353.

              وفي العصر الحديث :
              تلقف أصحاب المذهب "البراجماتي" هذه الفلسفة؛ لأنها تناسب مذهبهم النفعي المصلحي المتلون:
              - (ليس من شك لدى أحد الآن أن بروتاجوراس هو الجد الأول للبراجماتيين المعاصرين؛ سواء على المستوى الفلسفي، أو على المستوى الحياتي؛ إذ لا يمكن فهم أقوال هؤلاء البراجماتيين معزولة عن آراء جدهم الأكبر، فحينما يقول وليم جميس: "إن الحقيقي ليس سوى النافع الموافق المطلوب في سبيل تفكيرنا تماماً، كما أن الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب في سبيل مسلكنا" و"أن المطلق ليس صحيحاً على أي نحو". فهل يمكن أن نشك لحظة في أنه وأقرانه يمثلون بروتاغوراس العصر الحالي؟! لقد كان شيللر – وهو أحد كبار الفلاسفة البراجماتيين- على حق حينما كتب كتاب " why protagoras not plato معلناً أن بروتاغوراس هو جدهم الأول). (فلاسفة أيقظوا العالم، د. مصطفى النشار، ص 77).

              - (إن المذهب البراجماتي حين يقرر أن مقياس صحة الأفكار يتوقف على نتائجها، فهو بذلك يجعل الحقيقة نسبية غير ثابتة، أي تتغير وفقاً للظروف وأحوال الأفراد والمجتمعات). (تطور الفكر الغربي، لمجموعة من الباحثين، ص 424).
              - البراجماتية (تعيد إلى ذاكرة التاريخ نسبية السوفسطائية التي تزعم أن الفرد مقياس كل شيء). (أعلام الفلسفة الحديثة، د. رفقي زاهر، ص 171).

              - (الفلسفة البراجماتية تتلخص اليوم في أفكار موجزة ؛ من أشهرها : .. الحقائق نسبية، ولا يمكن الوصول إلى حقيقة مطلقة). (مقال: الطريق إلى العقلية الأمريكية، محمد فالح الجهني، مجلة المعرفة، شوال 1425). (وانظر : قصة الفلسفة اليونانية، ص 71).

              أقوال علماء الإسلام في السوفسطائية :
              لقد عرف علماء الإسلام خطورة هذه الفكرة السفسطائية التي تخلط الحق بالباطل، وتُشكك المسلمين في دينهم، وتساوي بينه وبين الديانات المحرفة والباطلة بدعوى التماس الحقيقة!، لاسيما وهناك من المنحرفين من يُغذي هذه الفكرة وينشرها؛ وعلى رأسهم غلاة المتصوفة أهل وحدة الوجود، ممن يقول قائلهم؛ وهو ابن عربي: (فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها؛ فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد). (ابن عربي، سميح الزين، ص 101).

              لقد قسم علماء الإسلام السوفسطائيين - كما يقول الشيخ أحمد شاهين - ثلاثة أقسام: ( العِندية، والعنادية، واللاأدرية: فالعندية ترى أن حقائق الأشياء تابعة لعقائد المؤمنين بها؛ لأنهم أقيسة الحقائق. والعنادية تجزم بأن لا حقائق في الكون؛ لا في ذاتها ولا بالقياس إلى المؤمنين بها. وأما اللاأدرية فهي التي تتوقف عن الحكم في كل شيء؛ فهي لا تجزم بوجود ولا بعدم). ("السوفسطائيون في نظر العرب" مقال في مجلة الأزهر، م 21 ، ص 760-763).

              ويقول الشيخ عبد القادر بدران في حاشيته على "روضة الناظر" (ص 246-247): (وهم فرقٌ ثلاث: إحداهن اللاأدرية؛ سموا بذلك لأنهم يقولون لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه بل نحن متوقفون في ذلك. الثانية: تسمي العنادية نسبة إلى العناد؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً وعمدتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض والقدح في كل مذهب بالاشكالات المتجهة عليه من غير أهله. الثالثة: تسمى العندية نسبة إلى لفظ "عند"؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس، فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده) . (وانظر: شرح المواقف للجرجاني؛ ص 42-43).

              1 – وقد رد عليهم جميعًا ابن حزم في كتابه "الفِصل في الملل والأهواء والنِحل" (1/44-45)؛ ويهمنا رده على فرقة "العِندية" التي يُقلدها دعاة النسبية. قال رحمه الله: (ويقال – وبالله التوفيق- لمن قال هي حق عند من هي عنده حق، وهي باطل عند من هي عنده باطل: إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل، وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً، سواء اعتُقد أنه حق أو اعتُقِد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدوماً موجوداً في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال.
              وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق، فمن جملة تلك الأشياء التي تُعتَقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق بطلانُ قولِ من قال إن الحقائق باطلة، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق. وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء، فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق !! مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة، إذ حسُّه يشهد بخلافها. وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المُتَنَطِّعين على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق) .

              2- ورد عليهم - أيضًا - ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 41)؛ قائلا: (قال النوبختي: قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مراً، ويجده غيره حلواً. قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه، محدث عند من اعتقد حدوثه، واللون جسم عند من اعتقده جسماً، وعرض عند من اعتقده عرضاً. وهؤلاء من جنس السوفسطائية ؛ فيقال لهم: أقولكم صحيح؟ فسيقولون: هو صحيح عندنا، باطل عند خصمنا. قلنا: دعواكم صحة قولكم مردودة ، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه) .

              3- وقال ابن قدامة رادًا على من نُقل عنه مثل هذا القول من علماء المسلمين: (وقول العنبري: كل مجتهد مصيب. إن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده، فمحال؛ إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقاً، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها. فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية؛ فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات). (روضة الناظر 20/419-420).

              وقال - أيضًا -: (قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه) . (روضة الناظر، 2/425) ، ( وانظر : المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، ص314).

              4- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (حكي عن بعض السفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل). (الفتاوى 19/ 135) .
              وقال عنه - أيضًا -: (هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه … وأما كون آخره زندقة فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب وإن شاء أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفر وزندقة) .(الفتاوى 19/144 –145).

              بعض أقوال المعاصرين في مقولات أهل السفسطة:
              1- يقول الأستاذ بسطامي سعيد: (هل حقائق الدين نسبية؟ .. إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها، قالت العصرانية ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق و"إن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري".
              والكاتب الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلاً أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة وإن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها.
              وقضية النسبية Relativism في الحق truith أو في الأخلاق ethich قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة ، وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يوماً ما أن تحل لغزاً ؟!

              وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية ؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً شاملاً، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض.

              وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يُسأل ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم ؟!

              الأهم من ذلك أن يُسأل: هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة "ذوق"، لا تقوم على منهج علمي محدد، أو معايير منضبطة ؟.

              إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك.

              قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأً في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات والقول بأن حقائق الدين مسألة نسبية يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية ! فقول لا تسنده حجة ولا يمكن قبوله) . (مفهوم تجديد الدين ، ص 214-215) .

              2- ويقول الأستاذ غازي التوبة: (نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أن تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى.
              فمن المعروف أن الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص "الإنجيل المقدس" الذي كان ثابتاً والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعددة تناقض النص الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين (المحرف) والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكن الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم، وصار الربط منذئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة.
              ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين: الغربية والإسلامية، كان أبرز صور التصادم بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص "القطعي الثبوت القطعي الدلالة" في الثقافة الإسلامية). (مجلة المجتمع ، العدد 1337).

              3- ويقول الدكتور أحمد عبد الرحمن: (الفلسفة النسبية هي السند الفكري الأخير والمرجع النهائي، لكل التيارات المناوئة لمبدأ "الثبات الإسلامي" في العقيدة والشريعة والأخلاق والنظم، سواء كانت وضعية منطقية، أو ماركسية، أو وجودية أو براجماتية.
              فالنسبية فلسفة تزعم أن الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، والمبادئ التشريعية، والنظم الاجتماعية والسياسية، كلها تتبدل وتتغير بتغير الزمان والمكان، فما كان حقاً بالأمس لابد أن ينقلب باطلاً اليوم أو غداً، وما كان عدلاً لدى اليونان قبل قرون من الزمان يستحيل أن يظل كذلك إلى اليوم، لا فرق في ذلك بين قانون وضعي وشريعة دينية، وبهذا التصور الشامل للفلسفة النسبية يقرر أنصار التجديد أن الشعر المقفى، واللغة الفصحى، والعمارة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية إلخ إلخ، كانت صالحة لعصر النبوة والراشدين، ولكنها لا يمكن أن تصلح لنا اليوم، ولا مفر أمامنا من أحد أمرين: إما نقل نظائرها الأوروبية العصرية، وإما التخلف عن العصر والفناء تبعاً لذلك!

              وأحسب أن فلسفة بهذا الوصف وهذا الامتداد والتشعب في حياتنا الدينية والفكرية والتشريعية والثقافية لجديرة بأن ندرسها، ونتفهمها، ونقومها: وهذا هو ما أرجو أن أنجزه في هذه الكلمة بأقصى ما يسعني من الإيجاز.

              لقد ولدت النسبية في حجر السوفسطائيين، الذين صاغوها في العبارة المشهورة "الإنسان معيار كل شيء" بمعنى أنه هو الذي يحدد الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، وبوسعه أن يعدلها، أو يلغيها، أو يستبدل بها غيرها، وقد تصدى لهم سقراط، مدافعاً عن موضوعية الحقيقة والقيمة واستقلالهما عن إرادة الإنسان وشهواته.
              وماتت النسبية دهراً طويلاً، ثم بعثت من جديد وشاعت في الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث...). (أساطير المعاصرين، ص 169 – 170)

              كيف ترد على من يردد هذه السفسطة؟!
              من يردد هذه الفكرة إما أن يكون مسلمًا أو غير مسلم. وغير المسلم إما أن يكون ملحدًا أو غير ملحد. فالملحد تُقام عليه الأدلة البينة الدالة على وجود الله؛ ثم إذا آمن بذلك أقيمت عليه وعلى غير الملحد من الكفار الأدلة الدالة على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ (وتراجع في ذلك الكتب المختصة بهذا) فإذا آمن به لزمه أن يؤمن بكل ما جاء به من عند الله؛ ومن ذلك أن الإسلام هو خاتم الأديان، وهو الحق الذي لا يقبل الله غيره. ثم يُلحق بالمسلم - كما سيأتي -.

              وأما إن كان من يُردد هذه الفكرة أحد من يُظهر الإسلام؛ فإنه يُقال له: هل تعني بهذه العبارات أن الحق قد يكون في الإسلام وقد يكون في غيره من الديانات المحرفة أو الباطلة؟! فإن قال : نعم ! قيل له: هذه ردة صريحة وكفر بدين الله؛ القائل: "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" آل عمران : 85، والمخبر بأن الإسلام هو "الحق" في عدة آيات؛ منها قوله: "إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً" البقرة : 119، وقوله: "وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ" الأنعام : 66، وقوله: "قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ" التوبة : 29، وقوله: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ" التوبة : 33، وقوله: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ" يونس : 108، وقوله: "وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ" الرعد : 1، وقوله: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ" الكهف : 29، وقوله: "وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ" فاطر : 31.

              فإن قال: معاذ الله أن أقول بهذا ؟! ولكني أعني: أن لا أحد يدعي امتلاك الحق من "المسلمين".
              فيقال له: ولكن هذا يناقض الفكرة التي ترددها ! لأنك حصرت الحقيقة في أهل الإسلام ! فهذا يدل على بطلان ما تُردد. ولكن تنزلا معك يقال: هل تعني بذلك أن الحق قد يكون عند أهل السنة وقد يكون عند غيرهم من أهل البدع؛ كالصوفية والرافضة والمعتزلة .. الخ .
              فإن قال: نعم.
              قيل له: سبق أنك أقررت بأن الحق هو الإسلام؛ فلننظر أي هؤلاء يسير على الإسلام الذي أرسل لأجله محمد صلى الله عليه وسلم دون تحريف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أهل الإسلام يفترقون إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. فلما سئل: من هي؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"، وقال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه معروف معلوم؛ قد جاءت به نصوص الكتاب والسنة وآثار الصحابة، وما حدثت هذه الفرق إلا بعدهم باتفاق الجميع.

              فإن قال: بل أنا أعني أن الحق داخل إطار أهل السنة؛ ولكنه يختلف باختلاف أهل العلم والأشخاص.
              فيقال: يكفينا هذا منك! فلماذا لا تعلنه عندما تردد تلك العبارات الموهمة ؟!

              ثم الواحد من أهل السنة إن كان عاميًا سأل العلماء الثقاة. وإن كان عالمًا أو طالب علم مميز بين الأدلة رجح ما يدل عليه الكتاب والسنة. مع ملاحظة الفرق بين المسائل "الاجتهادية" التي لم يتبين فيها الدليل فلا حرج من الاختلاف فيها مع نية طلب الحق لا التشهي، وبين المسائل "الخلافية" التي تبين فيها الدليل ووضح "الحق" فلا عبرة بالمخالف؛ مع حفظ مكانته إن كان من أهل الفضل.

              (ويُراجع في هذا الكتب والرسائل المصنفة في الاختلاف؛ كرسالة "الاختلاف وما إليه" للشيخ بازمول).

              أسأل الله الهداية والتوفيق للمسلمين، وأن يُجنبنا الحيرة والشك وحال أهل الريب.

              المصدر:
              https://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2974
              أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
              والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
              وينصر الله من ينصره

              تعليق

              مواضيع ذات صلة

              تقليص

              مواضيع من نفس المنتدى الحالي

              تقليص

              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
              ابتدأ بواسطة محب المصطفى, 1 سبت, 2014, 12:47 ص
              ردود 339
              24,487 مشاهدات
              0 ردود الفعل
              آخر مشاركة فارس الميـدان
              ابتدأ بواسطة مسلم للأبد, 21 أغس, 2012, 11:40 م
              ردود 316
              44,890 مشاهدات
              0 ردود الفعل
              آخر مشاركة سعدون محمد1
              بواسطة سعدون محمد1
              ابتدأ بواسطة مسلم للأبد, 19 أكت, 2014, 04:34 م
              ردود 179
              159,184 مشاهدات
              0 ردود الفعل
              آخر مشاركة قلب ينبض بحب الله
              ابتدأ بواسطة قلب ينبض بحب الله, 28 أكت, 2012, 07:11 م
              ردود 154
              17,806 مشاهدات
              0 ردود الفعل
              آخر مشاركة أحمد.
              بواسطة أحمد.
              ابتدأ بواسطة Technology, 7 أكت, 2015, 09:56 ص
              ردود 121
              14,635 مشاهدات
              0 ردود الفعل
              آخر مشاركة فارس الميـدان
              يعمل...