السلام عليكم :
هذه ترجمة للصفحات من 114 حتى 130 من كتاب " أصول المسيحيه " origins of christianity لعالم اللاهوت الألمانى أوتو فليدرر Otto Pfliederer
و هاكم رابط الكتاب :
http://www.archive.org/details/cu31924031319720
و الجدير بالإنتباه , أن أستاذ اللاهوت يؤكد أن يسوع لم يعتبر نفسه سوى انسان و نبى , و لم يفكر أن له مقام أعلى من هذا مطلقا
كما يؤكد أستاذ اللاهوت أن المسيح لم يتنبأ لا بصلبه و لا بقيامته , و أن هذا الكلام قد وضعه كتبة الأناجيل على لسانه ليوافق ايمان المجتمع المسيحى فى زمنهم
فى الحقيقه احترت أين أضع هذا الموضوع , فى أى قسم من أقسام المنتدى , ثم قررت أن أضعه هنا , فلعله ذو صلة بموضوع الألوهيه , و إن كان الموضوع يتحدث عن الصلب و أمور أخرى مثل المسيانيه .
أترككم مع الترجمه .
___________________________
هذه ترجمة للصفحات من 114 حتى 130 من كتاب " أصول المسيحيه " origins of christianity لعالم اللاهوت الألمانى أوتو فليدرر Otto Pfliederer
و هاكم رابط الكتاب :
http://www.archive.org/details/cu31924031319720
و الجدير بالإنتباه , أن أستاذ اللاهوت يؤكد أن يسوع لم يعتبر نفسه سوى انسان و نبى , و لم يفكر أن له مقام أعلى من هذا مطلقا
كما يؤكد أستاذ اللاهوت أن المسيح لم يتنبأ لا بصلبه و لا بقيامته , و أن هذا الكلام قد وضعه كتبة الأناجيل على لسانه ليوافق ايمان المجتمع المسيحى فى زمنهم
فى الحقيقه احترت أين أضع هذا الموضوع , فى أى قسم من أقسام المنتدى , ثم قررت أن أضعه هنا , فلعله ذو صلة بموضوع الألوهيه , و إن كان الموضوع يتحدث عن الصلب و أمور أخرى مثل المسيانيه .
أترككم مع الترجمه .
___________________________
ما الذى اعتقده يسوع بخصوص نفسه و كرازته و عن مكانته فى الملكوت ؟ هذا سؤال صعب , فالأناجيل تتحدث عن يسوع على أنه المسيح و أنه ابن الله و هى المعتقدات التى نشأت متأخرا فى ايمان المجتمع المسيحى , و نقلت للوراء لتصبغ حياة يسوع الأرضيه الذى وضع على فمه أقوالا تناسب هذه المعتقدات , و بالطبع أدى هذا الى وجود تناقضات عديده بين هذه الأقوال و بين المسار التاريخى للأحداث .
بحسب الإنجيل الرابع , يسوع هو الظهور المتجسد ل " اللوجوس " أو ابن الله , الذى كان مع الله منذ البدء , و كان هو نفسه الها , و الذى رأى التلاميذ مجده من تحت العباءه الأرضيه للإنسان يسوع ( يوحنا 1 - 14 ) , أما بحسب انجيلى لوقا و متى , فيسوع هو ابن الله المولود بطريقة معجزيه , و الذى رحبت به الأرواح السماويه كمخلص للعالم عند ميلاده , و حتى مرقص - على الرغم أنه لا يعرف شيئا عن الميلاد المعجزى - عنده صوت سماوى وقت المعموديه يعلن أن يسوع هو ابن الله الذى سر به - أو المعادل لهذا لقب "المسيح " - و هو الأمر الذى اعترفت به الشياطين , و العديد من المعجزات و بالأخص حادثة التجلى تؤكد هذا .
كل هذا ينتمى لعالم الأسطوره , و التى سوف نناقش كيف ظهرت فى المجتمع المسيحى لاحقا , و لكن من وجهة نظر تاريخية بحته , من المؤكد أن يسوع لم يكن واعيا بأن له أصل فوق بشرى أو طبيعه فوق بشريه , فقد ظهر كنبى كما كان يوحنا المعمدان قبلا منه , و عمل كمعلم و شاف للأمراض بين شعبه , كما فعل الكثير من سابقيه و معاصريه .
لقد كانت قدراته فوق الأرواح و الأجسام المريضه على الرغم ما فيها من معجزه , إلا أنها لم تكن قوة الهية مطلقه , بل هى قوه تتوقف على ايمان المريض كما تقرأ فى ( مرقص 6 - 5 ) أنه لم يستطع أن يفعل معجزة واحدة فى الناصره بسبب عدم ايمانهم ,و كذلك لم يكن علمه النبوى مطلقا , فهو لا يعلم ميعاد ساعة الخلاص الموعود التى لا يعلمها سوى الآب ( مرقص 13 - 32 ) , بل و بكل نبل انسانى رفض أن يدعى صالحا عندما ناداه أحدهم " أيها المعلم الصالح " ( مرقص 10 - 18 ) .
لقد وضع نفسه فى نفس الرتبه مع باقى البشر , فقد كان يصلى لله كما لأب , و علم تلاميذه أن يصلوا " أبانا " , و لم يشعر أنه ابن الله وفق أى معنى سوى المعنى الأخلاقى , و الذى دعانا نحن أيضا بحسبه لنكون أبناء الله , و سمى صانعى السلام " أبناء الله " و كذلك كل من يصنع مشيئة الله هم أخوته و أخواته ( مرقص 3 - 35 ) .
و حتى فى الفقرات التى يذكر فيها لقب " ابن الله " ليسوع وفق معنى فريد , كما نجد فى الصوت السماوى ساعة المعموديه و أثناء حادثة التجلى , و من الشيطان أثناء التجربه , و من الكاهن الأكبر أثناء المحاكمه , فهذه الكلمات فى الأناجيل الاقدم ليست سوى طريقة أخرى للتعبير عن لفظ " المسيح " , و لا تدل على معنى سامق أو ميتافيزيقى .
اعتمادا على الأناجيل الأقدم , يمكننا أن نعلن أن وعى يسوع بإنسانيته المحضه أمر مقرر تاريخيا , و من الصعب أن نحدد ما اذا كان يسوع قد ادعى لنفسه الكرامه المسيانيه أم لا ؟ و اذا كان قد فعل فكيف ؟ , و لكن على أى حال , من المحتمل جدا أنه لم يدع ذلك فى البدايه , و هو الأمر الذى يستنتج من الأناجيل الثلاثه الأولى , بأنه عند ختام نشاطه فى الجليل , و فى رحلة الى قيصرية فيلبى فى الجوار , سأل يسوع تلاميذه " من يقول الناس إنى أنا ؟ " , فأجابوا يوحنا المعمدان - يقصدون أنه قام من الأموات - و آخرون ايليا , و آخرون واحد من الأنبياء , فقال لهم و أنتم من تقولون إنى أنا ؟ فأجاب بطرس و قال له أنت المسيح ( مرقص 8 - 29 ) و فى انجيل لوقا " أنت مسيح الله ", و فى انجيل متى " أنت المسيح ابن الله الحى " .
القارىء الذى يقرأ الإنجيل بنظرة تاريخيه سيقف أمام مفترق طرق , فإما أن تكون التعبيرات العديده المسيانيه عن المسيح و الاعترافات التى تقال عنه فى مرحلة مبكرة فى الأناجيل صحيحة تاريخيا , مما يجعل المشهد الذى حدث فى قيصريه من الصعب حدوثه , و إما أن يكون مشهد قيصريه هو الصحيح تاريخيا و تكون تعبيرات هؤلاء الإنجيليين التى تصف يسوع ب " المسيح " منذ البدايه ليس لها أصل تاريخى , بل هى نقل للإيمان اللاحق للمجتمع المسيحى للوراء فى حياة يسوع أو فى فترة نشاطه العلنى .
إن هذا الموقف فى قيصريه , يتناقض ببلادة شديده مع الافتراضات الأخرى التى تذكرها الأناجيل , مما يؤيد بقوه الصحه التاريخيه لكلام بطرس , و مما يؤيد هذا أيضا الوقت و الزمان المميز .
من المؤكد أن كمالة القصه تظهر صعوبات جديده , حتى لو قصرنا انفسنا على انجيل مرقص و أهملنا تمجيد بطرس بأنه الصخره التى تبنى عليها الكنيسه ( و هو التعبير الذى ليس له أصل تاريخى بكل تأكيد و لم يذكره سوى متى ) .
اعتمادا على اعلان بطرس , يحكى مرقص أن المسيح انتهر التلاميذ حتى لا يقولوا لأحد عن مسيانيته , و أنه بدأ يعلمهم ضرورة أن يعانى ابن الإنسان , و أن يرفض من قادة اليهود , و أن يقتل و يقوم من الموت بعد ثلاثة أيام ... هنا ابتدأ بطرس ينتهر المسيح بخصوص هذا المصير , و لكن المسيح قال له " اذهب عنى يا شيطان , لأنك لا تهتم بما لله , بل بما للناس " ... هنا يبرز السؤال فورا , لماذا انتهر المسيح تلاميذه و منعهم أن يتحدثوا عن مسيانيته ؟ , اذا كان يعتقد أنه المسيح , أو لنكون محددين أكثر , اذا كان يعتقد أنه اختير لهذا الشرف , ألم يرغب أن يسمع الناس ايمانه و ايمان تلاميذه ؟ , ألم يرغب أن يشارك أكبر عدد ممكن من الناس فى هذا الإيمان ؟
فى الواقع فإن المسيح الذى يرغب أن يكون مسيحا فى السر فقط أمر بالغ الصعوبه على الفهم , و هذا يجعلنا نفهم لماذا أن بعض النقاد المعاصرين قد قالوا أن يسوع لم يرغب أن يعتبر هو المسيا , و أن المجتمع المسيحى نسب هذا الشرف زورا للمسيح القائم من الأموات و ليس للمسيح التاريخى , و حاول آخرون أن يحلوا الإشكال فقالوا أن يسوع منع نشر مسيانيته لحكمة تربويه و بعد نظر , لأنه خاف أن يفهم الناس أنه مسيح سياسى , بل أراد هو أن يصير مسيحا روحيا فقط , أو مسيحا سماويا عن طريق موته و قيامته , و لكن هناك صعوبات كثيره تواجه هذه النظريه .... من العدل أن نتساءل ألم يكن أسهل لتجنب سوء الفهم هذا أن يعلن يسوع بوضوح و بجلاء أنه يريد أن يكون المسيح و لكن ليس حسب المفهوم اليهودى التقليدى , و لكن وفق مفهوم جديد روحى أو سماوى ؟
لا نجد فى أى مكان أنه أراد أن يعطى الفكره اليهوديه التقليديه عن المسيح تفسيرا جديدا , و هو نفس الوضع بخصوص الفكره التقليديه عن ملكوت الله . إلا أن الإحتياج كان لكليهما ليس فقط للناس بل أيضا للتلاميذ , لأن الأناجيل تظهر مدى اشتراك التلاميذ فى الفكره التقليديه الشهيره عن المسيح و الملكوت , على سبيل المثال , عندما طلب ابنى زبدى أماكن شريفه لهم عن يمين و شمال المسيح فى مجده ( مرقص 10 - 37 ) , و كذلك فى الموكب الإحتفالى الذى كان التلاميذ جزءا منه , و فى تكريمه بطريقة مسيانيه , فالتحيه التى تقدم ليسوع هى " ابن داود " أثناء دخوله الى أورشليم , و الفرح ب " الملكوت القادم , ملكوت أبينا داود " ( مرقص 11 - 9 ) .
اذا افترضنا أن حكمه تربويه و بعد نظر ليسوع هو ما جعله يمنع كل الإعلانات المسيانيه , فلا بد أن نتوقع فى مثل هذا الموقف أن يسوع لم يكن ليدع الفرصة تمر دون أن يخبر تلاميذه و أصدقاءه أن هذه التوقعات خاطئه , و أن يشرح لهم المفهوم السليم للفكره المسيانيه , إلا أنه لم يفعل ذلك فى أى موضع , و لم يحرر عقلى ابنى زبدى من أماكن الشرف فى الملكوت , و لكنه شرح فقط أن الله - و ليس هو - هو من يحدد هذا , و قبل صامتا اعتراف بطرس بمسيانيته و شرف الموكب الملكى , و عند تطهير الهيكل ظهر كمصلح قوى ضد العادات الدينيه , و فى مثل الكرامين الذين ليس لهم ايمان أعلن لذوى السلطه دون مورابه اقتراب نهاية سيطرتهم .
يبدو لى أن كل هذه الأمور مجتمعة لا تؤدى الى نتيجة أن يسوع رفض الفكره الشائعه عن المسيح كملك لشعب الله , و لا أنه أحل محلها فكرة المسيح الروحانى . إن فكرة المسيح الروحانى الذى يهتم فقط بسلوك الناس , مفتقدا لعناصر الشرف و القوه الخارجيه , كانت غريبة تماما ليس فقط على إيمان اليهود , بل و حتى على ايمان المجتمع المسيحى الأول , الذى آمن أنه بقيامة سيدهم يسوع , قد وضعه الله عن يمينه و بالتالى " جعله ربا و مسيحا " , أى أن الله منحه الكرامه الملكيه و القوه للحكم , و هو الأمر الذى يرتبط دون انفصال بفكرة المسيح .
يا له من سوء فهم كامل كان عند التلاميذ حتى النهايه , اذا كان سيدهم يفكر بشكل آخر و اذا كان فكره يتركز بالكامل فى مسيح روحانى . هذه الفكره عن ملكوت الله الروحانى هى نتاج لانعكاسات لاهوتيه , بعيدة كل البعد عن المفاهيم البسيطه الواقعيه التى كانت فى اليهوديه و المسيحيه الأولى .
و بالتالى اذا استبعدنا فرضية " المسيح الروحانى " من تفكيرنا التاريخى , يظل السؤال مطروحا بخصوص وجود تقدم ما بخصوص فرضية " المسيح السماوى " , أى الإفتراض بأن يسوع قد آمن كما آمن المجتمع المسيحى الأول بعد موته , بأنه على الرغم أن يسوع لم يكن المسيح أثناء وجوده على الأرض , إلا أنه قد اختير بعد موته و قيامته , و رفع الى مقام الملكيه الإلهيه لشعب الله , و سوف يظهر على هذا النحو عندما يعود من السماء , و يؤسس مملكته .
يبدو أن هذه الفرضيه تجد لها دعما فى تلك الفقرات الإنجيليه التى يقال بحسبها أن يسوع قد تنبأ بكل دقه عن آلامه و موته و قيامته و رجوعه على سحاب السماء , و لكن الفحص الدقيق عما اذا كان يسوع قد نطق حقا بهذه الأقوال يسبب شكوكا قويه . إن تكرار النبوءه ثلاث مرات بحد ذاته و زيادة استخدام التفاصيل ( مرقص 8 - 31 , 9 - 31 , 10 - 33 و ما يليه ) يقودنا أن نخمن أن كاتب الإنجيل هو من حول معرفة و آمال المجتمع المسيحى الى علم مسبق بديع و نبوءات على لسان يسوع .
هل تبنأ يسوع حقا بمثل هذه الأمور ؟ , سيكون هذا أمرا عسيرا على الفهم لأنه لا يوجد أحد فى الدائره الأضيق أو الأوسع من تلاميذه كان لديه هاجس عن موته الوشيك و قيامته التاليه , فقد أتت الكارثة غير متوقعه , و دمرت آمالهم تماما فى التو و اللحظه لدرجة أفقدتهم السيطرة و الشجاعه و جعلتهم يتفرقون الى منازلهم . الى جوار هذا , فإن كتبة الإنجيل أنفسهم يقولون أن هذه النبوءات عن آلام و قيامة يسوع , و التى لا يكتنفها غموض كما هو مفترض , لم يفهمها التلاميذ فى أى وقت , و هذا يدل بوضوح أن المصير الذى يزعم أن يسوع قد تنبأ عنه كان أمرا غير معروف فى دائرة التلاميذ قبل أن يحدث على أرض الواقع , و باختصار , لا يمكن أن يكون يسوع قد تحدث بمثل هذه النبوءات .
سوف نرى فى مرحلة لاحقه كيف أن تصرفات يسوع فى أيامه الأخيره فى أورشليم , لا تعطيك انطباعا أنه رأى فى موته ضرورة ملحه , و مصيرا الهيا مقضيا به , و بالتالى فمن الواضح أن فرضية أن المسيح توقع " مسيانية سمائيه " أمر لا يمكن الدفاع عنه .
اذا كانت " المسيانيه الروحيه " و المسيانيه السمائيه " لا يمكن قبول أى منهما , اذن لا بديل سوى أن يسوع لم يرغب أن يكون المسيح بصورة مطلقه , أو أنه تمنى أن يكون المسيح وفق المفهوم التقليدى الشائع .هناك فرضية ثالثه يمكن أن نفكر فيها , و هى فرضية وساطيه , و التى ربما صنعت لتفسر المسار التاريخى للأحداث .
على أى حال , من المؤكد أن يسوع لم يظهر بإدعاء مسيانى عند بداياته , بل ظهر بكل بساطه كنبى يبشر بملكوت الله القادم , و يعد الطريق له بكلامه , و اعتبر أن هذا هو مهمته الإلهيه , و بسبب هذا أمكنه أن يتجاهل التساؤل بخصوص ما اذا كان الله هو الملك الوحيد المباشر فى هذا الترتيب الجديد للأشياء الذى سيصنعه بقوته ( كما كان متوقعا على سبيل المثال فى العمل الأبوكريفى Assumtio Mosis ) , أو عما اذا كان الله سيستخدم أداة بشرية و و يجعل بشرا هو الملك المسيانى , و أيضا التساؤل بخصوص من سيكون هذا الإنسان .
إن فكرة أنه نفسه قد يكون هو الرجل المختار من قبل الله , قد تكون بعيدة منذ البدايه , و بالتالى رفض التحيات المسيانيه التى يفترض أن المرضى قالوها له فى فترة مبكرة من عمله ( اذا كان كلام الإنجيل محل ثقه بهذا الصدد ) .
على الرغم من ذلك , فى الوقت الذى تأثر فيه الناس بقوة أقواله التعليميه و الشفائيه و التفوا حوله , أظهرت العداوه المتناميه للكتبه و الفريسيين أن انقاذ الجوعى و القطيع المبعثر لن يتم من خلال هذا المريع , و بالتالى ربما طاردته الفكره أكثر و أكثر بأنه نفسه قد دعى ليفتتح مملكة الله الخلاصيه عبر اصلاح دينى - اجتماعى . و عندما عرض عليه سؤال يوحنا المعمدان " هل أنت المسيح ؟ " أشار يسوع الى نجاحاته فى شفاء الأجساد و الأرواح المريضه و كرازته بالإنجيل للفقراء .
إنه بكل تأكيد , لم يرغب أن يكون مسيحا بحسب المفهوم الذى تمناه الفريسيون , أى المسيح الذى سيساعد الأمه اليهوديه لتنتصر على الأمم الأخرى و لتتحرر من الحكم الرومانى , بل أراد أن يكون مسيحا للفقراء و التعساء و الثقيلى الأحمال , و لمن يعانون و يبعدون , و للقطيع الضعيف الذى ينوى الآب أن يعطيهم الملكوت ( لوقا 12 - 32 ) .
لإتمام هذه المهمه , لن يكون كافيا ما تم فى الجليل , و لا بد من ايصال الأمر الى قلب السلطه فى أورشليم , و يبدو أن اعتراف بطرس قد أنضج هذا القرار باتخاذ هذه الخطوه الأخيره , و التى سيتحدد على إثرها كل شىء , خطوة جريئه و غرض محدد .
لم يذهب يسوع الى أورشليم حتى يتم اعدامه , و لم يذهب الى هناك ليحتفل بالعيد , بل ذهب لينتصر على الرؤوساء , و ليظهر المثال النبوى لمملكة الله فى الأمه المجدده , و بالطبع لم يغب عن ذهنه الصعوبات و الأخطار المحدقه , و بالتالى طلب من تلاميذه أن يستعدوا لأية تضحيه . ربما قال فى تلك الفتره " جئت لألقى نارا على الأرض , فماذا أريد لو اضطرمت ؟ , و لى صبغة اصطبغها , و كيف أنحصر حتى تكمل ؟ , أتظنون أنى جئت لأعطى سلاما على الأرض ؟ , كلا أقول لكم بل انقساما " ( لوقا 12 - 49 و ما يليه ) .... هذه لغة مخلصة من بطل يتحرك باتجاه معركة حاسمه و صعبه , مستعدا أن يضحى بكل شىء حتى حياته فى سبيل الله , و لكن لأنه لا يغفل عن احتمالية ابادته , فإنه لا يفكر فيها كأمر حتمى .
لقد كان يسوع مقتنعا أنه يؤدى عملا لله , و قد آمن بالله الصانع للعجائب و الكلى القدره , الذى يمكن أن يساعده اذا احتاج باثنى عشر فيلقا من الملائكه , اذن كيف لا يكون واثقا من انتصار قضيته على الرغم مما يعترى العقل البشرى من قلق كما قال بطرس ؟..... فى الواقع , فإن قصة رحلة يسوع الى أورشليم و أعماله هناك لا تشير الى مزاجية رثائيه , بل على العكس تظهر الصفة البطوليه لهذا المسعى الجرىء , و الصراع الشجاع , و الأمل السعيد .
زاد الحشد و الأصدقاء المتحمسون و هو فى الطريق الى أورشليم , عبر أريحا و من هناك الى أورشليم , صارت الرحلة كلها موكب انتصار توج بإثارة الحماسه فى الحجيج المؤمن الذين وجدوا متنفسا فى هذا الصراخ المسيانى المنفجر بالفرحه , و لم يقاوم يسوع أكثر من هذا , و عندما لفت خصومه نظره أن هذه الصرخات تلقى بظلال الريبه , يقال أنه أجابهم " إنه إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ " ( لوقا 19 - 40 ) . لقد اعتبر أن حماسة هذه الجماهير عنصر قوه لا يمكن أن يردعها أى عنف بشرى .
فى اليوم التالى , زار الهيكل , و عندما رأى الباحة الخارجيه يسودها انشغال التجار بالحيوانات التى تقدم كذبائح و بالعملات اليهوديه , طردهم بسلعهم . لقد كان هذا العمل ذا صلة بطقس الذبائح , و بالتالى بدا أن عمل يسوع الإصلاحى يمثل هجوما على طقس الذبائح نفسه , و هجوما على الرؤوساء بطريقة غير مباشره , و الذين كانوا يكتسبون دخلهم و يؤسسون مكانتهم و قوتهم الإجتماعيه على طقس الذبائح .
و بالتالى , بدأت المعركه , و استمر فيها يسوع فى الأيام التاليه فى حديثه مع الناس , و بكلمات ناريه قرأ سجل خطاياهم على الكتبه و الفريسيين , النفاق و التجاره بالدين , الطمع و الجشع , تحويل الناس الذى يجعلهم أكثر شرا , الفتوى الكاذبه , التوقى من البعوضه و بلع الجمل , الإهتمام بالنظافه الخارجيه بينما فى الداخل نفاق و ظلم , عبادة قبور الأنبياء , و الكراهيه التى بأرواحهم .
فى مثل الكرام غير المؤمن ( مرقص 12 - 12 و ما يليه ) فهم الرؤوساء أنه جعل الدينونة القادمة على رؤوسهم , فالله سيسترد كرمه و قيادة شعبه و يعطى هذا ل " آخرين " , و هو الأمر الذى يعنى بالطيبعه أن الله سيعطى هذا ليسوع و أصدقائه الذين عينهم الله للملكوت . منذ هذه اللحظه , أراد الرؤوساء أن يتخلصوا من هذا المصلح المزعج , و لكن بسبب خوفهم من الناس الملتصقين به لم يجرءوا على مهاجمته علنا ( مرقص 12 - 12 الى 37 ) , و وجدوا أنه أكثر أمنا أن يقبضوا عليه تحت جنح الظلام و يسلموه للحاكم الرومانى كمدع للمسيانيه و مثير للشعب , و قد علموا جيدا أن الحاكم سينهى الأمر سريعا .
لقد علم يسوع العداوة المميته التى فى قلوب الرؤوساء , و جهز نفسه لأسوأ الاحتمالات , و لكنه لم يفكر أبدا فى محاكمة اجراميه أمام القاده الرومان . لقد كان على وعى ببراءته من هذه الناحيه لأنه أمر بفصل السياسه عن الدين و الاعتراف بالسلطه الإمبراطوريه ( مرقص 12 - 17 ) .
هناك موضع فى انجيل لوقا يقود الى النتيجه المحتمله جدا بأنه اشتم الخطر قادما من جهة أخرى , نجده فى رومانسيات حياة يسوع , و التى كثيرا ما يغفل الناس عنها , و لكن لها قيمة كبيرة عند المؤرخ .... عندما كان يسوع يحتفل بوجبة الفصح مع تلاميذه فى الليله السابقه لموته , طلب منهم أن يقتنوا سيوفا على وجه السرعه بأى ثمن , حتى لو اضطر الواحد منهم أن يبيع ثيابه , و عندما قالوا له أنه يوجد معهم سيفان , قال أن هذا يكفى ( لوقا 22 - 36 الى 38 ) . لا يمكن أن نفسر هذه الكلمات بطريقة مجازيه دون تكلف شديد , و لكن اذا قبلناها حرفيا فإنها تعنى شيئا واحدا , أن يسوع اعتبر الحاجة الى السلاح فوريه من أجل الدفاع فى حالة هجوم أناس مستأجرين للقتل .
هل هناك فكرة أقرب الى الذهن من أن يحاول الرؤوساء التخلص منه بهدوء باستئجار قتلة ليغتالوه , بما أن محاكمة المجرمين لا تقع ضمن سلطتهم القضائيه منذ الاحتلال الرومانى ؟ , لقد أراد يسوع الاستعداد لمثل هذه المحاوله , و كان السيفان يفيان بالغرض . لاحقا فى بستان جثسيمانى , وجد نفسه محاطا بحشد من خدام السلطه و ليس من قتلة مستأجرين , و بالتالى منع التلاميذ من المقاومه ( لوقا 22 - 50 ) .
إن حديث لوقا عن شراء السيوف يعتبر بكل تأكيد أكثر ثقه من الناحيه التاريخيه , لأنه يتعارض بكل وضوح مع نظرة الكنيسه المتأخره عن موت يسوع التى تصبغ باقى الأوصاف الوارده فى هذا الإنجيل , فإذا كان يسوع قد خاف من الإغتيال فى الليلة الأخيرة من حياته و استعد لها بالأسلحه , فلا يمكن أن يكون قد عرف أو تنبأ بموته على الصليب , و لا بد أن مثل هذه التنبوءات قد وضعت على لسانه بعد ذلك . و نفس الأمر يقال عن الفقره التى تفترض صنع يسوع للخبز و الخمر فى العشاء الأخير , و الرمز بذلك الى جسده و دمه , و سوف نرى بعد ذلك أن هذه الكلمات قد نشأت فى التعليم المستيكى لبولس عن الموت الفدائى للمسيح و الاحتفال المقدس بذلك فى المجتمع المسيحى , و هو التعليم الذى لم يكن موجودا فى المجتمع المسيحى الأقدم , و بالتالى لم يسمعوه من شفتى يسوع .
إن الكلمات التى قيلت فى العشاء الأخير , و التى تنتمى بالفعل الى التقليد الأصلى , لا توحى بهاجس الفراق أو الموت , بل على العكس انها مفعمة بالأمل فى النصر , و بالتالى فالكلمات التى قيلت عن شرب الخمر فى ملكوت الآب قد جاءت بعدها , و جاء الوعد للتلاميذ أنه سيجلسون على مائدة يسوع تحت ملكيته و يدينون أسباط اسرائيل الإثنى عشر ( لوقا 22 - 18 , 22 - 28 و ما يليه ) . من المحتمل جدا أن هذا المزاج السعيد قد أفسح الطريق لأفكار متجهمه عند هذا المنعطف الحرج , اذا كان نص الصلاه التى قالها يسوع أثناء الخوله فى بستان جثسيمانى قد وصل الينا بصورة صحيحه , و التى تظهر أن روح يسوع قد ملئت بالهواجس القلقه , و لكن تأرجحه بين الخوف و الأمل علامة أخرى أنه لم يفكر فى موته كأمر حتمى .
يحق لنا أن نفترض أن ثقته بالله الذى يستطيع أن ينقذه بمعجزات و بملائكه كان هو الركن الذى يأوى اليه حتى أثناء الخزى و سوء المعامله التى لاقاها فى يومه الأخير , و أنه لم يفقد أمله إلا عندما صار على الصليب يموت , و عندما كانت الحياة تنحسر عنه , فهنا انفجر راثيا " الهى الهى لماذا تركتنى " .
هناك فكرة واحدة قد تعزينا فى هذه التراجيديا التى تمزق القلب فى ختام حياته , و هى أن هذا كان الطريق الحتمى للدخول الى حياة أعلى , فإن حبة الخنطه لا بد أن تسقط على الأرض و تموت من أجل أن تنتج ثمرا , و كان على المسيح اليهودى المصلح لشعبه أن يختفى ليعيش " المسيح بحسب الروح " فى إيمان المجتمع المسيحى القادم .
تعليق