ظاهرة الزوجية في الخلق
الله عزّ و جل هو صاحب الحكمة المطلقة في كل شيء و هو الرحمن الرحيم ، و مما اقتضته حكمته البالغة في خلقه أن يجعل من كل شيء زوجين ، و ظاهرة الزوجية هذه تعتبر دليل على وحدانية الخالق جلّ و علا ، فهو المتفرد بصفاته عن مخلوقاته ، و هي دليل أيضا ًعلى عجز المخلوقات و افتقارها لغيرها ، و أول ما نلاحظ تواجد هذه الظاهرة فيه هو الإنسان الذي جعل منه الله تبارك و تعالى الزوجين الذكر و الأنثى ، قال سبحانه : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا ًو قبائل لتعارفوا } [ الحجرات / 13 ] ، و شملت هذه الإرادة الإلهية عالم الحيوان أيضا ً، قال الله جلّ جلاله : { و أنه خلق الزوجين الذكر و الأنثى من نطفة إذا تمنى } [ النجم / 45 – 46 ] ، و شملت كذلك عالم النبات ، قال الله سبحانه و تعالى : { و من كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [ هود / 40 ] ، و لكن الحكمة الإلهية البالغة لا تتوقف عند حدود هذه العوالم فحسب ، فيقول الله عزّ و جلّ في كتابه العظيم : { و من كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } [ الذاريات / 49 ] ، فكلمة شيء تشمل الإنسان و الحيوان و النبات و تشمل الجماد أيضا ً، و قد أكدت علوم القرن العشرين على هذه الحقيقة بعد أربعة عشر قرنا ًمن ذكرها في كتاب الله ، فقد تجلت قاعدة الزوجية في الجمادات من الذرة و الى المجرة ، و أول ما نرى ظاهرة الزوجية فيه في عالم الجمادات هو الذرة التي يتكون منها كل شيء ، فهي تتكون من شحنة موجبة ( النواة ) و شحنة سالبة ( الإلكترونات ) ، و نرى قاعدة الزوجية أيضا ًفي الضوء الذي ينبعث من كل ما يحيط بنا فهو له طبيعة جسيمية و طبيعة موجية ، و هناك الكثير من الأمثلة الأخرى على هذه الظاهرة ، و من أعجبها و أشدها ابهارا ًهو حقيقة وجود قرين للمادة ...
كان الفيزيائي ( بول ديراك ) أول من أشار الى وجود المادة المضادة غير المرئية و ذلك بعد اجراءه العديد من الأبحاث في مجال الفيزياء النووية و دراسته المفصّلة للمعادلات النووية ، و لكن ظلت أعمال ( ديراك ) مجرد نظريات الى أن جاء ( كارل أندرسون ) و أثبتها عام 1932 ، فقد اكتشف آثار لجسيم مجهول في جهاز يسمى بغرفة الضباب ، و عند دراسة تأثير المجال المغناطيسي على هذه الآثار اكتشف أن كتلة ذلك الجسيم تساوي كتلة الإلكترون و أنه يحمل شحنة مساوية لمقدار شحنة الإلكترون و لكنها موجبة ، فعُرف هذا الجسيم بقرين الإلكترون أو البوزيترون ( e+ ) ، و هي كلمة مأخوذة من : (Positive Electron ) ، و بهذا الاكتشاف المذهل تمكن الفيزيائيون من حل الكثير من الألغاز المتعلقة بالتفاعلات النووية ، و بعد ذلك تم اكتشاف قرائن للجسيمات الأخرى ، الى أن تم اثبات و جود قرين للمادة المدركة من حولنا ، فأصبح من الثابت أن هناك مادة عادية مرئية و مادة مضادة غير مرئية ، فنحن وكل ما حولنا في هذا الكون من كائنات حية أو جماد نتكون من المادة العادية والتي تتكون من الجسيمات الأولية التي تشكل الذرات ( إلكترون ( - ) / بروتون ( + ) / نيوترون / ... ) ، و هناك ماد مضادة غير مرئية تشكل عالم مناظر لعالمنا و تتكون من الجسيمات المضادة ( البوزيترون ( + ) / البروتون المضاد ( - ) / ... ) و هذه الجسيمات المضادة تتحد فيما بينها لتشكل نجوم و مجرات مضادة ...
و إذا ما عدنا الى قوله تعالى : { و من كل شيءٍ خلقنا زوجين } نجد اعجازا ًمبهرا ً في التأكيد على أن الجماد تنطبق عليه ظاهرة الزوجية ، فالمادة توجد في صورة زوجين ؛ مادة عادية و مادة مضادة ، و الإلكترون له قرين و هو البوزيترون ، و كذلك البروتون و غيرهما من الجسيمات الأولية ...
حين نتذكر أن هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنا ًو أن فكرة عموم الزوجية حتى في الأحياء لم تكن معروفة حينذاك فضلا ًعلى عموم الزوجية في كل شيء ، حين نتذكر هذا نجد أنفسنا أمام أمر عجيب عظيم و هو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير ...
عندما تصطدم المادة العادية بالمادة المضادة تتبدد كل منهما و تتحولان الى طاقة هائلة في صورة أشعة جاما ، و يتصور العلماء وجود يوم تتقابل فيه المادة المرئية مع غير المرئية ، و عند ذلك تحدث ظواهر عظيمة ، و منها أن إصطدام المجرات و قرائنها سيؤدي الى تبددها و زوالها ، و ينتج عنه كمية هائلة من الطاقة فتبدو السماء و كأنها وردة ملونة ، هذا هو ما يصفه العلماء و يتوقعونه بعد السنين الطويلة من الأبحاث و الدراسات ، و لكن الأمر المدهش هو أن هذه الحقيقة ذكرت بدقة في وصف الله عز و جل لأهوال يوم القيامة ، و ذلك في قوله تعالى : { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } [ الرحمن / 37 ] ، فصدق الله العظيم ...
و مما يذكر أن الفيزيائي المسلم محمد عبد السلام الباكستاني الجنسية الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979 و الذي قام بأبحاث هامة في موضوع الجسيمات و قرائنها و كان له فضل في و ضع النظرية التي جمعت بين قوتين رئيسيتين من القوى الأربع المؤثرة في هذا الكون و هما القوة الكهرمغناطيسية و القوة النووية ، صرح بعد حصوله على الجائزة أن الآية القرآنية : { و من كل شيء خلقنا زوجين } [ الذاريات / 49 ] كانت بمثابة إحساس خفي و إلهام قوي له و ذلك أثناء أبحاثه على قرائن الجسيمات المادية ، فقد فهم هذه الآية فهما ًشاملا ًيطوي بين كلماتها حقيقة و جود قرائن للمادة كحقيقة و جود أزواج أو قرائن في مملكة النبات و الحيوان و الإنسان .
* * *
هذا هو كلام خالق الأكوان العليم بكل شيء
لا تنقضي عجائبه
لا تنقضي عجائبه
تعليق