التعلق بالأشخاص
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلقد صدم الصحابة وشدهوا، وخارت قواهم، وكادت أن تنقطع نياط قلوبهم - وحق لهم ذلك - حين أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل في معركة أحد، وجلس كثير منهم مهموما مبهوتا مغموما وترك القتال.
وبعد المعركة نزلت الآيات العظيمة في دروس أحد ومواعظها، وكان من تلك الدروس تنبيههم بأن هذا الدين تعلقه بالله جل وعلا، لا يتعلق بأي مخلوق كائنا من كان، حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله جل وعلا وبلغه للعالمين:
قال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}.
ثم صدموا مرة أخرى بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة، فاختلط على كثير من الصحابة الأمر، ونفى بعضهم وفاته، ووقف عمر رضي الله عنه يهدد من ينشر هذا النبأ. فجاء أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه ورفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أرق أصحابه بعده قلباً وأعمقهم علماً، فتحقق من وفاته صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر وجدد درس أحد مرة أخرى بصورة واضحة صريحة لا تقبل اللبس ولا التأويل: «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت».
من معالم ثبات الدعوة ارتباطها بالباقي لا بالفاني
إنها دعوة لله، وإلى الله، فليست قومية ولا عنصرية ولا وطنية، وليست دعوة لتمكين أشخاص مهما كانوا وقدموا لها، وقد أبان القرآن في عهد مبكر من عمر الدعوة أن هذا الدين لا يرتبط وجوده وقيامه بأشخاص حتى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}. وأن حظ الداعية من الدعوة إكرام الله له إن كان عمله خالصا صوابا، ومن تركها فقد حرم نفسه الخير. {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}.
وبهذا يقضى على حظوظ النفس أولاً، وتسلم الدعوة وتبقى ولا تنتكس بموت فلان، أو كسل وخور فلان.
وكثيرا ما تنازع النفسُ صاحبها في حب كثرة الأتباع والتلاميذ، وهذا من طبيعة النفس البشرية إذا أهملت ولم تحاسَب وتُذكَّر وتجاهَد وتحزم.
فينبغي لكل داعية حين تخالجه تلك الوساوس وينتابه حب الظهور والذكر أن يتذكر الأمور التالية، ويضعها نصب عينيه، ويجاهد نفسه عليها:
1- أن الدعوة نعمة ومنة امتن الله بها عليك، واختارك لها من أقل الأقلين.
2- أنك تعمل لله تعالى، وقد التحقت بوظيفة الأنبياء والمرسلين، فيبغي أن تحذو حذوهم وتخطو خطاهم، فإنك لا تدعو إلى شخصك، وبسط جاهك، ورفعة منزلتك، وظهور شهرتك. وانظر في سير الذين فازوا وسبقوا، فما حصل لهم ذلك إلا بدفن حظ النفس، والتشوق إلى ما عند الله الكريم المنان. وقد كان السلف يرسلون التلاميذ إلى الشيوخ يتفقهون منهم ويتلقون عنهم، ولا يحبسونهم على أنفسهم.
3- أن ما عند الله تعالى خير وأبقى، خير بكل المقاييس، وأبقى مما عند غيره. وأن كثيراً ممن انتظم بسلك الدعوة وترك نفسه تتشبع من حظوظها، وملأ قلبه من حظوظه الشخصية، تجد عاقبته في الدنيا التعب والعنت والأمراض النفسية؛ لأن كثيراً ممن كان يراهم أتباعاً له يطيعونه في كل أوامره ونواهيه قد قلَوْه وتركوه، وربما لم يزوره أو يحدثوه، وهذه سنة الحياة لا بد من الانشغال فيها إما بأمر الدنيا، أو بأمر الآخرة. فيضيق هذا الداعية ذرعاً بذلك ويتصور أن التلاميذ لا يكبرون ولا يتعلمون ولا ينشغلون ولا يتفقهون، وهذه من العقوبات العاجلة.
4- أن الناس والأتباع لن يغنوا عنك من الله شيئا. «اعمل ما شئت فإنك مجزي به». وتذكر أن من تعلق بك لشخصك لفرط إعجابه بك أو عاطفة قادته إليك فهو عرضة للتغيير نظراً لتبدل القناعات بين حين وآخر، ووجود نماذج قد تفوق تلك الصفات التي عندك، بل ربما انقلب الأمر على الضد، فيتحول الحب إلى بغض، وفرط الإعجاب إلى ضده.
5- تذكر اطلاع الله عليك وعلى كل شيء: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور}، {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}. فكلامك وتحركاتك وجميع عملك لا يخفى على الله منه شيء، فكيف تدعي الدعوة إليه والنصرة لدينه، وقد اطلع على أسرار صدرك وخلجات نفسك وعلم أنك تريد المكاثرة في الأتباع والتلاميذ؟!
6- كثير من الخلافات والنزاعات والشقاق بين صفوف العاملين في الدعوة منشأه تعلق كل فريق برموز معينة، عليها يوالون ويعادون. بل تجدهم يتعلقون بأشخاص أكثر من تعلقهم بالدعوة ذاتها.
7- إن من أعرض عن طلب الذكر والظهور في الدنيا تعجَّلَ راحةَ نفسه، حيث إن النفس لا تقتنع بشيء أبداً، بل تسعى دائما إلى طلب الزيادة.
والنفس طامعة إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
8 - توطين النفس على توقع حصول أسوأ الاحتمالات من المدعوين مما يخفف من وطأتها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم / د. يحي بن إبراهيم اليحي .
فلقد صدم الصحابة وشدهوا، وخارت قواهم، وكادت أن تنقطع نياط قلوبهم - وحق لهم ذلك - حين أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل في معركة أحد، وجلس كثير منهم مهموما مبهوتا مغموما وترك القتال.
وبعد المعركة نزلت الآيات العظيمة في دروس أحد ومواعظها، وكان من تلك الدروس تنبيههم بأن هذا الدين تعلقه بالله جل وعلا، لا يتعلق بأي مخلوق كائنا من كان، حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله جل وعلا وبلغه للعالمين:
قال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}.
ثم صدموا مرة أخرى بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة، فاختلط على كثير من الصحابة الأمر، ونفى بعضهم وفاته، ووقف عمر رضي الله عنه يهدد من ينشر هذا النبأ. فجاء أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه ورفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أرق أصحابه بعده قلباً وأعمقهم علماً، فتحقق من وفاته صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر وجدد درس أحد مرة أخرى بصورة واضحة صريحة لا تقبل اللبس ولا التأويل: «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت».
من معالم ثبات الدعوة ارتباطها بالباقي لا بالفاني
إنها دعوة لله، وإلى الله، فليست قومية ولا عنصرية ولا وطنية، وليست دعوة لتمكين أشخاص مهما كانوا وقدموا لها، وقد أبان القرآن في عهد مبكر من عمر الدعوة أن هذا الدين لا يرتبط وجوده وقيامه بأشخاص حتى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}. وأن حظ الداعية من الدعوة إكرام الله له إن كان عمله خالصا صوابا، ومن تركها فقد حرم نفسه الخير. {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}.
وبهذا يقضى على حظوظ النفس أولاً، وتسلم الدعوة وتبقى ولا تنتكس بموت فلان، أو كسل وخور فلان.
وكثيرا ما تنازع النفسُ صاحبها في حب كثرة الأتباع والتلاميذ، وهذا من طبيعة النفس البشرية إذا أهملت ولم تحاسَب وتُذكَّر وتجاهَد وتحزم.
فينبغي لكل داعية حين تخالجه تلك الوساوس وينتابه حب الظهور والذكر أن يتذكر الأمور التالية، ويضعها نصب عينيه، ويجاهد نفسه عليها:
1- أن الدعوة نعمة ومنة امتن الله بها عليك، واختارك لها من أقل الأقلين.
2- أنك تعمل لله تعالى، وقد التحقت بوظيفة الأنبياء والمرسلين، فيبغي أن تحذو حذوهم وتخطو خطاهم، فإنك لا تدعو إلى شخصك، وبسط جاهك، ورفعة منزلتك، وظهور شهرتك. وانظر في سير الذين فازوا وسبقوا، فما حصل لهم ذلك إلا بدفن حظ النفس، والتشوق إلى ما عند الله الكريم المنان. وقد كان السلف يرسلون التلاميذ إلى الشيوخ يتفقهون منهم ويتلقون عنهم، ولا يحبسونهم على أنفسهم.
3- أن ما عند الله تعالى خير وأبقى، خير بكل المقاييس، وأبقى مما عند غيره. وأن كثيراً ممن انتظم بسلك الدعوة وترك نفسه تتشبع من حظوظها، وملأ قلبه من حظوظه الشخصية، تجد عاقبته في الدنيا التعب والعنت والأمراض النفسية؛ لأن كثيراً ممن كان يراهم أتباعاً له يطيعونه في كل أوامره ونواهيه قد قلَوْه وتركوه، وربما لم يزوره أو يحدثوه، وهذه سنة الحياة لا بد من الانشغال فيها إما بأمر الدنيا، أو بأمر الآخرة. فيضيق هذا الداعية ذرعاً بذلك ويتصور أن التلاميذ لا يكبرون ولا يتعلمون ولا ينشغلون ولا يتفقهون، وهذه من العقوبات العاجلة.
4- أن الناس والأتباع لن يغنوا عنك من الله شيئا. «اعمل ما شئت فإنك مجزي به». وتذكر أن من تعلق بك لشخصك لفرط إعجابه بك أو عاطفة قادته إليك فهو عرضة للتغيير نظراً لتبدل القناعات بين حين وآخر، ووجود نماذج قد تفوق تلك الصفات التي عندك، بل ربما انقلب الأمر على الضد، فيتحول الحب إلى بغض، وفرط الإعجاب إلى ضده.
5- تذكر اطلاع الله عليك وعلى كل شيء: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور}، {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}. فكلامك وتحركاتك وجميع عملك لا يخفى على الله منه شيء، فكيف تدعي الدعوة إليه والنصرة لدينه، وقد اطلع على أسرار صدرك وخلجات نفسك وعلم أنك تريد المكاثرة في الأتباع والتلاميذ؟!
6- كثير من الخلافات والنزاعات والشقاق بين صفوف العاملين في الدعوة منشأه تعلق كل فريق برموز معينة، عليها يوالون ويعادون. بل تجدهم يتعلقون بأشخاص أكثر من تعلقهم بالدعوة ذاتها.
7- إن من أعرض عن طلب الذكر والظهور في الدنيا تعجَّلَ راحةَ نفسه، حيث إن النفس لا تقتنع بشيء أبداً، بل تسعى دائما إلى طلب الزيادة.
والنفس طامعة إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
8 - توطين النفس على توقع حصول أسوأ الاحتمالات من المدعوين مما يخفف من وطأتها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم / د. يحي بن إبراهيم اليحي .
تعليق