وتوالت الأيام، وازداد تردد رجال القبائل والمسافرين العابرين والقوافل، على مكة حيث كانوا يجدون فيها أو يتركون فيها شيئاً من معتقداتهم وشعائرهم حتى أصبحت بمثابة معبد أو مجمع آلهة. كانت اليهودية منتشرة في اليمن وخاصة في نجران التي ما يزال فيها عدد من اليهود، وفي خيبر والمدينة في الحجاز إلى الشمال والجنوب من مكة على التوالي. واعتنقت عدة قبائل من ربيعة الديانة المسيحية وخاصة في شرقي الجزيرة العربية ودومة الجندل في الشمال ثم جاءت المسيحية أيضاً إلى اليمن من الحبشة عبر البحر الأحمر. لكن معظم القبائل وسكان الواحات في قلب الجزيرة العربية كانوا وثنيين يبجلون ويعبدون اله القمر (ود) أكثر من إله الشمس. وما زال بعض الأعراب حتى يومنا هذا(6) يعتقدون بأن القمر هو الذي ينظم حياتهم وأنه هو الذي يكثف بخار الماء ويحوله إلى مطر ويصفي الندى في المراعي، وأنه بالتعاون مع الثريا يجلب المطر. ومن ناحية أخرى يعتقدون بأن الشمس وهي آلهة أنثى معروفة في المستوطنات الزراعية تنزع إلى تدمير حياة البدو والحيوانات بلا استثناء وأنها قاسية وصارمة. وهكذا كانت قبيلة كنانة تعبد القمر و (الدبران) أما قبيلتا لخم وجرهم فعبدتا المريخ بينما عبدت بنو أسد عطارد، وعبدت القبائل الأخرى نجوماً أخرى. ومع ذلك كان معظم العرب يؤمنون بأن الموت لا ينهي كل شيء وقلائل منهم آمنوا بالبعث (القيامة) وأن الروح تغادر الجسد على شكل طائر أطلقوا عليه اسم (الهامة) أو (الصدى) وتزور قبر صاحبها وهي تتأرجح وتتشقلب وتطلق أصواتاً مروعة تخبر الميت بواسطتها بكل ما يفعله أولاده من بعده. لكن ثمة حقيقة مؤكدة وهي أن العرب منذ أقدم العصور كانوا يؤمنون بأن ثمة إلهاً واحداً مسيطراً ومهيمناً على العالم وأن ألهتهم الخاصة مجرد واسطة للشفاعة لهم عنده.
إن أحد أوائل الأوروبيين الذين وصفوا ساحل البحر الأحمر الشرقي وذكروا قدسية مكة هو ديودورس الصقلّي حيث يقول: "لا يوجد على هذا الساحل سوى موانئ قليلة بسبب الجبال الشاهقة الممتدة على طوله ذات الألوان الزاهية والمتنوعة التي تبهج أنظار المسافرين. وثمة نتوءات صخرية كثيرة داخل البحر. أما بعد هذا الشاطئ الجبلي فثمة بلدات وقرى يسكنها عرب يسمون الأنباط الذين يملكون أراضي شاسعة على طول الساحل الشمالي وفي عمق الأراضي إلى الشرق والشمال وهذه المنطقة مزدحمة بالسكان الذين يمتلكون قطعاناً وافرة من الماشية. وكان الأنباط يعيشون بسلام وسعادة وقانعين بما لديهم من مواش. لكن بعد أن سمح ملوك الإسكندرية للتجار بالإبحار في البحر الأحمر؛ فإنهم لم يكتفوا بسرقة الأنباط وحطام السفن على الساحل بل تحولوا إلى قراصنة أيضاً وصاروا يهاجمون السفن الأخرى المبحرة في هذا البحر… وفي وقت لاحق بنى الأنباط أسطولاً قوياً استطاع أن يدمر سفن القراصنة في البحر ويعاقبهم على الشرور التي ارتكبوها"(7).
ويضيف ديودوراس: "بعد اجتياز هذه المنطقة ثمة منطقة سهلية غنية بالمراعي تنتج الكثير من الأعشاب الطبية وأزهار الزنابق التي يبلغ طول النبتة منها قامة الرجل"(8).
ويصف ديودوراس بعد ذلك شعباً آخر يطلق عليه اسم (البيرومينيين) ويقول: "إن هذا الشعب يعيش على صيد الحيوانات المفترسة وثمة هيكل مقدس يحظى بإجلال كبير بين كافة العرب".
أما هيرودتس(9) فيقول: إن العرب يعبدون (أوروتال) وأليلات (لعلها اللات المترجم) وأن أوروتال هو باخوس(10) واليلات هي أورانيا. وأوروتال هو الله بينما اليلات (أو اللات) فمركزها في الطائف على حافة الهضبة ليس بعيداً عن مكة باتجاه الشرق. ويصف كيفية الارتباط بالقسم أو التوحيد بين عربيين وهي مراسم ما زالت قيد الممارسة في أوساط بعض القبائل(11) على النحو التالي:
"عندما يرغب رجلان أن يقسما على توثيق الصداقة بينهما يقفان إلى جانبي رجل ثالث يقوم باستعمال حجر حاد بجرح رسغيهما باتجاه باطن الكف ثم يأخذ قطعتين صغيرتين من ملابسهما ويغمسهما في دم كل منهما ويعلّم بالدم سبعة أحجار لا بد من وجودها قبل هذه المراسم ثم يدعو كلاً من باخوس وأورانيا".
ويضيف هيرودتس: "أن العرب يقدسون ويحافظون على هذه الشعائر أكثر من أي شعب آخر. وإذا مورست هذا الشعائر في مكة نفسها فإنها تصبح أشد إلزاماً".
هذه بعض اللمحات القليلة التي وردتنا عن مكة وعبادة العرب السخيفة في تلك الأيام. وكان بطليموس (الفلكي الإسكندراني) يسمي مكة (المكربة أو الماركورابا) وتعني (المكان المقدس) بلغة السبئيين (نسبة إلى سبأ) الذين سيطروا على جنوب الجزيرة العربية والتجارة العربية في الألف الأول قبل الميلاد.
وكان العرب يحجّون إليها كل عام في وقت معين وهو الخريف. وقد تمت اتفاقات متبادلة بين القبائل العربية بحظر القتال خلال فترة الحج. ولعل الأسماء العربية للأشهر المستعملة قبل الإسلام وما زالت، تثبت ذلك. إذ إن من بينها شهر (محرّم) الذي أتفق على حظر القتال فيه، وثمة نقطة جديرة بالملاحظة هنا وهي أن الأشهر العربية (القمرية) كانت تتسق مع أشهر النظام الشمسي لأن العرب اعتادوا على إضافة عدة أيام للسنة القمرية حتى تتطابق مع السنة الشمسية ثم جاء الإسلام ومنع إضافة أي يوم إلى السنة القمرية.
وعندما كان الحجاج يقتربون من بيت الله (أو الكعبة) في مكة، يخلعون ملابسهم كلها بلا استثناء ويسيرون عراة، إشارة إلى الرضوخ والذل بين يدي الله ويطوفون حول الكعبة ويقبلون الحجر الأسود ويسعون (هرولة) بين الصفا والمروة ويرجمون الحجارة قرب (مِنى) وبعد ذلك يضحّون بشاة تماماً كما يفعل الحجاج هذه الأيام.
وجاء الرسول العربي r وثبت هذه المناسك لكنه أمر بارتداء مئزر من الكتان، وذمّ عادة الوثنيين (في التصفيق بالأيدي والتصفير بواسطة وضع اصبعين أو أكثر بين الشفاه) وانتقد هذه العادات البالية واستعاض عنها بطريقة منتظمة للدعاء في أثناء الطواف (لبيك اللهم لبيك… لا شريك لك لبيك الخ). وحتى أيام الرسول كانت العادة شائعة في ذهاب الرجال عراة عند الفجر إلى الكعبة المغطاة بالجلد لممارسة شعائر طلب الغفران التي كانت تنتهي بنشوة من الابتهاج والسرور تحت شمس الظهيرة. وما زالت العادة شائعة حتى الآن بالدعاء لكل من يعلن عزمه على الحج: (غفر الله ذنوبك).
مقتبس من الترجمه العربيه من
إن أحد أوائل الأوروبيين الذين وصفوا ساحل البحر الأحمر الشرقي وذكروا قدسية مكة هو ديودورس الصقلّي حيث يقول: "لا يوجد على هذا الساحل سوى موانئ قليلة بسبب الجبال الشاهقة الممتدة على طوله ذات الألوان الزاهية والمتنوعة التي تبهج أنظار المسافرين. وثمة نتوءات صخرية كثيرة داخل البحر. أما بعد هذا الشاطئ الجبلي فثمة بلدات وقرى يسكنها عرب يسمون الأنباط الذين يملكون أراضي شاسعة على طول الساحل الشمالي وفي عمق الأراضي إلى الشرق والشمال وهذه المنطقة مزدحمة بالسكان الذين يمتلكون قطعاناً وافرة من الماشية. وكان الأنباط يعيشون بسلام وسعادة وقانعين بما لديهم من مواش. لكن بعد أن سمح ملوك الإسكندرية للتجار بالإبحار في البحر الأحمر؛ فإنهم لم يكتفوا بسرقة الأنباط وحطام السفن على الساحل بل تحولوا إلى قراصنة أيضاً وصاروا يهاجمون السفن الأخرى المبحرة في هذا البحر… وفي وقت لاحق بنى الأنباط أسطولاً قوياً استطاع أن يدمر سفن القراصنة في البحر ويعاقبهم على الشرور التي ارتكبوها"(7).
ويضيف ديودوراس: "بعد اجتياز هذه المنطقة ثمة منطقة سهلية غنية بالمراعي تنتج الكثير من الأعشاب الطبية وأزهار الزنابق التي يبلغ طول النبتة منها قامة الرجل"(8).
ويصف ديودوراس بعد ذلك شعباً آخر يطلق عليه اسم (البيرومينيين) ويقول: "إن هذا الشعب يعيش على صيد الحيوانات المفترسة وثمة هيكل مقدس يحظى بإجلال كبير بين كافة العرب".
أما هيرودتس(9) فيقول: إن العرب يعبدون (أوروتال) وأليلات (لعلها اللات المترجم) وأن أوروتال هو باخوس(10) واليلات هي أورانيا. وأوروتال هو الله بينما اليلات (أو اللات) فمركزها في الطائف على حافة الهضبة ليس بعيداً عن مكة باتجاه الشرق. ويصف كيفية الارتباط بالقسم أو التوحيد بين عربيين وهي مراسم ما زالت قيد الممارسة في أوساط بعض القبائل(11) على النحو التالي:
"عندما يرغب رجلان أن يقسما على توثيق الصداقة بينهما يقفان إلى جانبي رجل ثالث يقوم باستعمال حجر حاد بجرح رسغيهما باتجاه باطن الكف ثم يأخذ قطعتين صغيرتين من ملابسهما ويغمسهما في دم كل منهما ويعلّم بالدم سبعة أحجار لا بد من وجودها قبل هذه المراسم ثم يدعو كلاً من باخوس وأورانيا".
ويضيف هيرودتس: "أن العرب يقدسون ويحافظون على هذه الشعائر أكثر من أي شعب آخر. وإذا مورست هذا الشعائر في مكة نفسها فإنها تصبح أشد إلزاماً".
هذه بعض اللمحات القليلة التي وردتنا عن مكة وعبادة العرب السخيفة في تلك الأيام. وكان بطليموس (الفلكي الإسكندراني) يسمي مكة (المكربة أو الماركورابا) وتعني (المكان المقدس) بلغة السبئيين (نسبة إلى سبأ) الذين سيطروا على جنوب الجزيرة العربية والتجارة العربية في الألف الأول قبل الميلاد.
وكان العرب يحجّون إليها كل عام في وقت معين وهو الخريف. وقد تمت اتفاقات متبادلة بين القبائل العربية بحظر القتال خلال فترة الحج. ولعل الأسماء العربية للأشهر المستعملة قبل الإسلام وما زالت، تثبت ذلك. إذ إن من بينها شهر (محرّم) الذي أتفق على حظر القتال فيه، وثمة نقطة جديرة بالملاحظة هنا وهي أن الأشهر العربية (القمرية) كانت تتسق مع أشهر النظام الشمسي لأن العرب اعتادوا على إضافة عدة أيام للسنة القمرية حتى تتطابق مع السنة الشمسية ثم جاء الإسلام ومنع إضافة أي يوم إلى السنة القمرية.
وعندما كان الحجاج يقتربون من بيت الله (أو الكعبة) في مكة، يخلعون ملابسهم كلها بلا استثناء ويسيرون عراة، إشارة إلى الرضوخ والذل بين يدي الله ويطوفون حول الكعبة ويقبلون الحجر الأسود ويسعون (هرولة) بين الصفا والمروة ويرجمون الحجارة قرب (مِنى) وبعد ذلك يضحّون بشاة تماماً كما يفعل الحجاج هذه الأيام.
وجاء الرسول العربي r وثبت هذه المناسك لكنه أمر بارتداء مئزر من الكتان، وذمّ عادة الوثنيين (في التصفيق بالأيدي والتصفير بواسطة وضع اصبعين أو أكثر بين الشفاه) وانتقد هذه العادات البالية واستعاض عنها بطريقة منتظمة للدعاء في أثناء الطواف (لبيك اللهم لبيك… لا شريك لك لبيك الخ). وحتى أيام الرسول كانت العادة شائعة في ذهاب الرجال عراة عند الفجر إلى الكعبة المغطاة بالجلد لممارسة شعائر طلب الغفران التي كانت تنتهي بنشوة من الابتهاج والسرور تحت شمس الظهيرة. وما زالت العادة شائعة حتى الآن بالدعاء لكل من يعلن عزمه على الحج: (غفر الله ذنوبك).
مقتبس من الترجمه العربيه من
كتاب تاريخ مكة المكرمة منذ تاسيسها وحتى عام 1925 م تأليف: جيرالد دي غوري
تعليق