مراتب العلم
قال الله تعالي { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } ق37
قال الإمام ابن القيم :
وللعلم ست مراتب اولها حسن السؤال الثانية حسن الانصات والاستماع الثالثة حسن الفهم الرابعة الحفظ الخامسة التعليم السادسة وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده , فمن الناس من يحرمه لعدم حسن سؤاله أما لانه لا يسال بحال او يسال عن شيء وغيره اهم اليه منه كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها ويدع مالا غنى له عن معرفته وهذه حال كثير من الجهال المتعلمين ومن الناس من يحرمه لسوء انصاته فيكون الكلام والممارات آثر عنده وأحب اليه من الانصاب وهذه آفة كامنة في اكثر النفوس الطالبة للعلم وهي تمنعهم علما كثيرا ولو كان حسن الفهم ذكر ابن عبدالبر عن بعض السلف انه قال من كان حسن الفهم رديء الاستماع لم يقم خيره بشره وذكر عبدالله بن احمد في كتاب العلل له قال كان عروة بن الزبير يحب مماراة ابن عباس فكان يخزن علمه عنه وكان عبيد الله بن عبدالله بن عتبة يلطف له في السؤال فيعزه بالعلم عزا وقال ابن جريج لم أستخرج العلم الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به وقال بعض السلف إذا جالست العالم فكن على ان تسمع احرص منك على ان تقول وقد قال الله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد فتأمل ما تحت هذه الالفاظ من كنوز العلم وكيف تفتح مراعاتها للعبد ابواب العلم والهدى وكيف ينغلق باب العلم عنه من اهمالها وعدم مراعاتها فإنه سبحانه أمر عباده ان يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة بما تكون تذكرة لمن كان له قلب فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية ومرور الايات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم ومرورها على من لا بصر له فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات فإنه يراها ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه الا بأمرين احدهما ان يحضره ويشهده لما يلقى اليه فإن كان غائبا عنه مسافرا في الاماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به فإذا احضره اشهده لم ينتفع الا بان يلقى سمعه ويصغى بكليته الى مايوعظ به ويرشد اليه وها هنا ثلاثة امور:
احدها سلامة القلب وصحته وقبوله الثاني احضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق الثالث القاء السمع وأصغاؤه والاقبال على الذكر فذكر الله تعالى الامور الثلاثة في هذه الاية قال ابن عطية القلب هنا عبارة عن العقل إذ هو محله والمعنى لمن كان له قلب واع ينتفع به قال وقال الشبلي قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين وقوله او القى السمع وهو شهيد معناه صرف سمعه الى هذه الانباء الواعظة واثبته في سمعه فذلك القاء له عليها ومنه قوله والقيت عليك محبة مني أي اثبتها عليك وقوله وهو شهيد قال بعض المتأولين معناه وهو شاهد مقبل على الامر غير معرض عنه ولا مفكر في غير ما يسمع قال وقال قتادة هي إشارة إلى اهل الكتاب فكأنه قال ان هذه العبر لتذكرة لمن له فهم فتدبر الأمر او لمن سمعها من اهل الكتاب فشهد بصحتها لعلمه بها من كتابه التوراة وسائر كتب بني اسرائيل قال فشهيد على التأويل الاول من المشاهدة وعلى التاويل الثاني من الشهادة وقال الزجاج معنى من كان له قلب من شرف قلبه الى التفهم الا ترى ان قوله صم بكم عمي انهم لم يستمعوا استماع مستفهم مسترشد فجعلوا بمنزلة من لم يسمع كما قال الشاعر اصم عما ساءه سميع ومعنى او القى السمع استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع والعرب تقول الق الى سمعك أي استمع مني وهو شهيد أي قلبه فيما يسمع وجاء في التفسير انه يعني به اهل الكتاب الذين عندهم صفة النبي صلى الله عليه و سلم فالمعنى او القى السمع وهو شهيد اشاهد ان صفة النبي صلى الله عليه و سلم في كتابه وهذا هو الذي حكاه ابن عطية عن قتادة وذكر ان شهيدا فيه بمعنى شاهد أي مخبر وقال صاحب الكشاف لمن كان له قلب واع لان من لا يعي قلبه فكانه لا قلب له والقاء السمع والاصغاء وهو شهيد أي حاضر بفطنته لان من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب او هو مؤمن شاهد على صحته وانه وحي من الله وهو بعض الشهداء في قوله لتكونوا شهداء على الناس وعن قتادة وهو شاهد على صدقه من اهل الكتاب لوجود نعته عنده فلم يختلف في ان المراد بالقلب القلب الواعي وان المراد بالقاء السمع إصغاؤه وإقباله على المذكر وتفريغ سمعه له واختلف في الشهيد على اربعة اقوال احدها انه من المشاهدة وهي الحضور وهذا اصح الاقوال ولا يليق بالاية غيره الثاني انه شهيد من الشهادة وفيه على هذه ثلاثة اقوال احدها انه شاهد على صحة ما معه من الايقان الثاني انه شاهد من الشهداء على الناس يوم القيامة الثالث انه شهادة من الله عنده على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه و سلم بما علمه من الكتب المنزلة والصواب القول الاول فإن قوله وهو شهيد جملة حالية والواو فيها واو الحال أي القى السمع في هذه الحال وهذا يقتضى ان يكون حال القائه السمع شهيدا وهذا هو من المشاهدة والحضور ولو كان المراد به الشهادة في الاخرة او الدنيا لما كان لتقييدها بالقاء السمع معنى اذ يصير الكلام ان في ذلك لاية لمن كان له قلب او القي السمع حال كونه شاهدا بما معه في التوراة او حال كونه شاهدا يوم القيامة ولا ريب ان هذا ليس هو المراد بالاية وايضا فالاية عامة في كل من له قلب والقى السمع فكيف يدعى تخصيصها بمؤمني اهل الكتاب الذين عندهم شهادة من كتبهم على صفة النبي صلى الله عليه و سلم وأيضا فالسورة مكية والخطاب فيها لا يجوز ان يختص بأهل الكتاب ولا سيما مثل هذا الخطاب الذي علق فيه حصول مضمون الاية ومقصودها بالقلب الواعي وإلقاء السمع فكيف يقال هي في اهل الكتاب فإن قيل المختص بهم قوله وهو شهيد فهذا افسد وافسد لان قوله وهو شهيد يرجع الضمير فيه الى جملة من تقدم وهو من له قلب او القى السمع فكيف يدعى عوده الى شيء غايته ان يكون بعض المذكور اولا ولا دلالة في اللفظ عليه وأيضا فإن المشهود به محذوف ولا دلالة في اللفظ عليه فلو كان المراد به وهو شاهد بكذا لذكر المشهود به إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه وهذا بخلاف ما إذا جعل من الشهود وهو الحضور فإنه لايقتضى مفعولا مشهودا به ليتم الكلام بذكره وحده وايضا فإن الاية تضمنت تقسيما وترديدا بين قسمين احدهما من كان له قلب والثاني من القى السمع وحضر بقلبه ولم يغب فهو حاضر القلب شاهده لا غائبه وهذا والله اعلم سر الاتيان باو دون الواو لأن المنتفع بالايات من الناس نوعان احدهما ذو القلب الواعي الزكي الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه ولا يحتاج الى ان يستجلب قلبه ويحضره ويجمعه من مواضع شتاته بل قلبه واع زكي قابل للهدى غير معرض عنه فهذا لا يحتاج الا الى وصول الهدى اليه فقط لكمال استعداه وصحة فطرته فإذا جاءه الهدى سارع قلبه الى قبوله كانه كان مكتوبا فيه فهو قد أدركه مجملا ثم جاء الهدى بتفصيل ما شهد قلبه بصحته مجملا وهذه حال أكمل الخلق استجابة لدعوة الرسل كما هي حال الصديق الاكبر رضي الله عنه والنوع الثاني من ليس له هذا الاستعداد والقبول فإذا ورد عليه الهدى اصغى اليه بسمعه واحضر قلبه وجمع فكرته عليه وعلم صحته وحسنه بنظره واستدلاله وهذه طريقة اكثر المستجيبين ولهم نوع ضرب الامثال وإقامة الحجج وذكر المعارضات والاجوبة عنها والاولون هم الذين يدعون بالحكمة وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة فهؤلاء نوعا المستجيبين واما المعارضون المدعون للحق فنوعان نوع يدعون بالمجادلة بالتي هي احسن فان استجابوا وإلا فالمجادلة فهؤلاء لا بد لهم من جدال او جلاد ومن تأمل دعوة القرآن وجدها شاملة لهؤلاء الاقسام متناولة لها كلها كما قال تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن فهؤلاء المدعوون بالكلام واما اهل الجلاد فهم الذين امر الله قتالهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله واما من فسر الاية بأن المراد بمن كان له قلب هو المستغنى بفطرته عن علم المنطق وهو المؤيد بقوة قدسية ينال بها الحد الاوسط بسرعة فهو لكمال فطرته مستغن عن مراعات اوضاع المنطق والمراد بمن القى السمع وهو شهيد من ليست له هذه القوة فهو محتاج الى تعلم المنطق ليوجب له مراعاته وإصغاؤه اليه ان لا يزيغ في فكره وفسر قوله ادع الى سبيل ربك بالحكمة انها القياس البرهاني والموعظة الحسنة القياس الخطابي وجادلهم بالتي هي احسن القياس الجدلي فهذا ليس من تفاسير الصحابة ولا التابعين ولا احد من ائمة التفسير بل ولا من تفاسير المسلمين وهو تحريف لكلام الله تعالى وحمل له على اصطلاح المنطقية المبخوسة الحظ من العقل والايمان وهذا من جنس تفاسير القرامطة والباطنية وغلاة الاسماعيلية لما يفسرونه من القرآن وينزلونه على مذاهبهم الباطلة والقرآن بريء من ذلك كله منزه عن هذه الاباطيل والهذيانات وقد ذكرنا بطلان ما فسر به المنطقيون هذه الاية التي نحن فيها والاية الاخرى في موضع آخر من وجوه متعددة وبينا بطلانه عقلا وشرعا ولغة وعرفا وأنه يتعالى كلام الله عن حمله على ذلك وبالله التوفيق والمقصود بيان حرمان العلم من هذه الوجوه الستة احدها ترك السؤال الثاني سوء الانصات وعدم القاء السمع الثالث سوء الفهم الرابع عدم الحفظ الخامس عدم نشره وتلعيمه فإن من خزن علمه ولم ينشره ولم يعلمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه جزاء من جنس عمله وهذا أمر يشهد به الحس والوجود السادس عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه فإذا اهمل العمل به نسيه قال بعض السلف كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به وقال بعض السلف ايضا العلم يهتف بالعمل فإن اجابه حل والا ارتحل فالعمل به من اعظم اسباب حفظه وثباته وترك العمل به أضاعه له فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به وأما قوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله فليس من هذا الباب بل هما جملتان مستقلتان طلبية وهي الامر بالتقوى وخبرية وهي قوله تعالى ويعلمكم الله أي والله يعلمكم ما تتقون وليست جوابا للأمر بالتقوى ولو أريد بها الجزاء لأتى بها مجزومة مجردة عن الواو فكان يقول واتقوا الله يعلمكم او إن تتقوه يعلمكم كما قال إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا فتدبره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ( ابن قيم الجوزية )
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ( ابن قيم الجوزية )
تعليق