بيان أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام

تقليص

عن الكاتب

تقليص

ظل ظليل مسلم اكتشف المزيد حول ظل ظليل
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ظل ظليل
    مشرف قسم الإستشراق والتغريب والتبشير

    • 26 أغس, 2008
    • 3506
    • باحث
    • مسلم

    بيان أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام

    بيان أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه

    معلوم أن العلوم إنما قصد بها مصنفوها بيانها وإيضاحها للمتعلمين وتفهيمهم إياها بأقرب ما يقدرون عليه من الطرق فإن سلط التأويل على ألفاظهم وحملها على غير ظواهرها لم ينتفع بها وفسدت وعاد ذلك إلى موضوعها ومقصودها بالإبطال فإذا حمل كلام الأطباء على غير عرفهم المعروف من خطابهم وتأول المخاطب كلامهم على غير ظاهره لم يصل إلى فهم مرادهم البتة بل أفسد عليهم علمهم وصناعتهم وهكذا أصحاب علم الحساب والنحو وجميع أرباب العلوم إذا سلط التأويل على كلامهم لم يوصل إلى شيء من تلك العلوم مع أنه يجوز عليهم الخطأ والتناقض والتلبيس في بعض المواضع والتعمية ومقصورهم في البيان ووجوه التعبير ومع نقصان إدراكهم للحقائق وعلومهم ومعارفهم فكيف يسلط التأويل على كلام من لا يجوز عليه الخطأ والغلط والتناقض وضد البيان والإرشاد هذا مع كمال علمه وكمال قدرته على أعلى أنواع البيان وكمال نصحه وهداه وإحسانه وقصده الإفهام والبيان لا التعمية والإلغاز.
    ولهذا لما سلط المحرفون التأويلات الباطلة على نصوص الشرع فسد الدين فسادا لولا أن الله سبحانه تكفل بحفظه وأقام له حرسا وكلهم بحمايته من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين لجرى عليه ما جرى على الأديان السالفة ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأمة يبعث لها عند دروس السنة وظهور البدعة من يجدد لها دينها ولا يزال يغرس في دينه غرسا يستعملهم فيه علما وعملا.
    وكما أن التأويل إن سلط على علوم الخلائق أفسدها فكذلك إذا استعمل في مخاطباتهم أفسد الأفهام والفهم ولم يمكن لأمة أن تعيش عليه أبدا فإنه ضد البيان الذي علمه الله الإنسان لقيام مصالحه في معاشه ومعاده وقد تقدم تقرير ذلك بما فيه الكفاية وبالله التوفيق



    فصل: في بيان أنه إن سلط على آيات التوحيد القولي العلمي وأخباره لزم تسليطه على آيات التوحيد العملي وأخباره وفسد التوحيد معرفة وقصدا.


    هذا فصل عظيم النفع جليل القدر إنما ينتفع به من عرف نوعي التوحيد القولي العلمي الخبري والتوحيد القصدي الإرادي العملي كما دل على الأول سورة:
    {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص1] وعلى الثاني سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون1] وكذلك دل على الأول قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية [البقرة136] وعلى الثاني قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [آل عمران64] ولهذا كان النبي يقرأ بهاتين السورتين في سنة الفجر وسنة المغرب ويقرأ بهما في ركعتي الطواف ويقرأبالآيتين في سنة الفجر لتضمنهما التوحيد العلمي والعملي والتوحيد العلمي أساسه إثبات صفات الكمال للرب تعالى ومباينته لخلقه وتنزيهه عنالعيوب والنقائص والتمثيل والتوحيد العملي أساسه تجريد القصد بالحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والاستعانة والاستغاثة والعبودية بالقلب واللسان والجوارح لله وحده فمدار ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه على هذين التوحيدين وأقرب الخلق إلى الله أقومهم بهما علما وعملا ولهذا كانت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أقرب الخلق إلى الله وأقربهم إليه وسيلة أولو العزم وأقربهم الخليلان وخاتمهم سيد ولد آدم وأكرمهم على الله لكمال توحيده وعبوديته لله فهذان الأصلان هما قطب رحى القرآن وعليهما مداره وبيانهما من أهم الأمور والله سبحانه بينهما غاية البيان بالطرق الفطرية والعقلية والنظرية والأمثال المضروبة ونوع سبحانه الطرق في إثباتهما أكمل التنويع بحيث صارت معرفة القلوب الصحيحة والفطر السليمة لها بمنزلة رؤية الأعين المبصرة التي لا آفة بها للشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء فذاك للبصيرة بمنزلة هذا للبصر فإن سلط التأويل على التوحيد الخبري العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهل وانمحت رسوم التوحيد وقامت معالم التعطيل والشرك ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمين لا ينفك أحدهما عن صاحبه وإمام المعطلين المشركين فرعون فهو إمام كل معطل ومشرك إلى يوم القيامة كما أن إمام الموحدين إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما إلى يوم القيامة قال الله تعالى لإمام المعطلين وأتباعه:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص41] وقال وقام لإمام الحنفاء {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة124] وقال لأتباعه {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة24] فلا يأتي المعطل للتوحيد الخبري بتأويل إلا أمكن المشرك المعطل للتوحيد العملي أن يأتي بتأويل من جنسه وقد اعترف بذلك حذاق الفلاسفة وفضلاؤهم فقال أبو الوليد بن رشد في كتاب الكشف عن مناهج الأدلة القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزلأهل الشريعة يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة مثل قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5]ومثل قوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة255] ومثل قوله {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة17] ومثل قوله {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة5] ومثل قوله {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج4] ومثل قوله {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك16] إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي حتى قرب من سدرة المنتهى وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك. والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية ونحن نقول إن إثبات هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة وبهذا نقول إن للحيوان فوقا وأسفل ويمينا وشمالا وأماما وخلفا وإما سطوح جسم آخر يحيط بالجسم ذي الجهات الست فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلا وأما سطوح الأجسام المحيطة به فهي له مكان مثل سطوح الهواء المحيط بالإنسان وسطوح الفلك المحيط بسطوح الهواء هي أيضا مكان للهواء وهكذا الأفلاك بعضها محيطة ببعض ومكان له وأما سطح الفلك الخارجي فقد برهن أنه ليس خارجه جسم لأنهلو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم جسم آخر ويمر الأمر إلى غير نهاية فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم لأن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسم فإذا إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم والذي يمنع وجوده هناك هو عكس ما ظنه القوم وهو موجود هو جسم لا موجود ليس بجسم وليس لهم أن يقولوا إن خارج العالم خلاء وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئا أكثر من أبعاد ليس فيها جسم أعني طولا وعرضا وعمقا لأنه إن رفعت الأبعاد عنه عاد عدما وإن أنزل الخلاء موجودا لزم أن تكون أعراضا موجودة في غير جسم وذلك أن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد ولكنه قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين يريدون الله والملائكة وذلك أن ذلك الموضع ليس هو مكانولا يحويه زمان وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن وقد تبين هذا المعنى مما أقوله وذلك أنه لما لم يكن ها هنا شيء إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم وكان من المعروف بنفسه أن الموجود إنما ينسب إلى الوجود أعني أنه يقال إنه موجود أي في الوجود إذ لا يمكن أن يقال إنه موجود في العدم فإن كان ها هنا موجودا هو أشرف الموجودات فواجب أن ينسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهي السموات ولشرف هذا الجزء قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر57] وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه وإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع وإن وجه العسر في تفهيم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في الشاهد مثال له فهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك معلوم الوجود في الشاهد مثل العلم بالصانع فإنه لما كان في الشاهد شرطا في وجوده كان شرطا في وجود الصانع الغائب وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته مثل العلم بالنفس أو يضرب له مثالا من الشاهد إن كان بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم والشبهة الواقعة في نفي الجهة عندالذين نفوها ليس يتفطن الجمهور إليها لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم فيجب أن يمتثل في هذا كله فعل الشرع وأن لا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأويله. والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث مراتب:
    صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى وخاصة متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع وهؤلاء هم الأكثر وهم الجمهور.
    وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء وهم العلماء الراسخون في العلم وهؤلاء هم ألأقل من الناس.
    وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها وهؤلاء هم فوق العامة ودون العلماء وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع وهم الذين ذمهم الله.


    وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم التشابه ومثال ما عرض لهذا الصنف مع الشرع مثال ما يعرض في خبز البر مثلا الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان أن يكون لأقل الأبدان ضارا وهو نافع للأكثر وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر وربما ضر الأقل ولهذا الإشارة بقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة26] ولكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في الأقل منها والأقل من الناس وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد فيعبر عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها وأكثرها شبها بها فيعرض لبعض الناس أن يأخذالممثل به هو المثال نفسه فيلزمه الحيرة والشك وهو الذي يسمى متشابها في الشرع وهذا ليس يعرض للعلماء ولا الجمهور وهم صنفا الناس في الحقيقة لأن هؤلاء هم الأصحاء والغذاء الملائم إنما يوافق أبدان الأصحاء وأما أولئك فمرضى والمرضى هم الأقل ولذلك قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران7] وهؤلاء أهل الجدل والكلام وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا إن هذا التأويل هو المقصود به وإنما أتى الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم ونعوذ بالله من هذا الظن بالله بل نقول إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح والبيان فإذا ما أبعد من مقصد الشرع من قال فيما ليس بمتشابه إنه متشابه ثم أول ذلكالمتشابه بزعمه وقال لجميع الناس إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آيات الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه. وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذ تؤولت وجدت ليس يقوم عليها برهان ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعملهم بها فإن المقصود الأول بالعلم في حق الجمهور إنما هو العمل فما كان أنفع في العمل فهو أجدر وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا أعني العلم والعمل.
    ومثال من أول شيئا من الشرع وزعم أن ما أوله هو الذي قصده الشرع وصرح بذلك التأويل للجمهور مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من الناس فزعم أن بعض الأدوية التي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركب لم يرد به ذلك الدواء التي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلكالاسم عليه وإنما أراد به دواء آخر مما يمكن أن يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه الذي قصده الطبيب وقال للناس هذا هو الذي قصده الطبيب الأول فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه ذلك المتأول ففسدت به أمزجة كثير من الناس فجاء آخرون فشعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير النوع الأول فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك المركب غيرالتأويل الأول والثاني فعرض من ذلك للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة فعرض منه للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة فلما طال الزمن بهذا الدواء المركب الأعظم وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها عرض منه للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس وهذه هي حال هذه الفرقالحادثة في الشريعة مع الشريعة وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلا غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم حتى تمزق الشرع كل ممزق وبعد جدا عن موضوعه الأول ولما علم صاحب الشرع أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال: "ستفترق أمتي على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله.


    وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى اه وذكر كلاما بعد ذلك يتعلق بكتب أبي حامد ليس لنا غرض في حكايته.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ( ابن قيم الجوزية ) .

  • ظل ظليل
    مشرف قسم الإستشراق والتغريب والتبشير

    • 26 أغس, 2008
    • 3506
    • باحث
    • مسلم

    #2
    بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا

    هذا من أعظم آفات التأويل وجنايته على الإسلام أنه يبطل حجج الله على المبطلين على ألسنة المتأولين وإلا فلا تبطل حجج الله وبيناته أبدا.
    من المعلوم أن كل مبطل أنكر على خصمه شيئا من الباطل قد شاركه في بعضه أو في نظيره فإنه لا يتمكن من دحض حجته وكسر باطله لأن خصمه تسلط عليه بمثل ما سلط هو به عليه وهذا شأن أهل الأهواء مع بعضهم بعضا ولهذا كان عامة ما يأتون به أبدا يناقضبعضهم بعضا ويكسر أقوال بعضهم ببعض وفي هذا منفعة جليلة لطالب الحق فإنه يكتفي بإبطال كل فرقة لقول الفرقة الأخرى فيقول إذا احتج المؤول بحجة سمعية على مبطل أمكن خصمه أن يقول له أنا أتأول هذه الحجة كما تأولت أنت كيت وكيت.
    مثاله أن يحتج من يتأول الصفات الخبرية وآيات الفوقية والعلو على من ينكر ثبوت صفة السمع والبصر والعلم بالآيات والأحاديث الدالة على ثبوتها فيقول له خصمه هذه عندي مؤولة كما أولت أنت نصوص الاستواء والفوقية والوجه واليدين والنزول والضحك والفرح والغضب والرضا ونحوها فما الذي جعلك أولى بالصواب في تأويلك مني فلا يذكر سببا حمله على التأويل إلا أتاه خصمه بسبب من جنسه أو أقوى منه أو دونه يحمله على التأويل.
    وإذا استدل المتأول على منكري المعاد وحشر الأجساد بنصوص الوحي أبدوا لها تأويلات تخالف ظاهرها وحقائقها وقالوا لمن استدل بها عليهم تأويلنا لهذه الظواهر كتأويلك لنصوص الصفات ولا سيما أنها أكثر وأصرح فإذا تطرق التأويل إليها فهو إلى ما دونها أقرب تطرقا.
    وإذا استدل على الرافضة بالنصوص الدالة على فضل الشيخين وسائر الصحابة تأولوها بما هو من جنس تأويل الجهمي لآيات الصفات وقد تكون تأويلاتهم في كثير من المواضع أقوى من تأويلات الجهمي كما تكون مثلها ودونها.
    وإذا احتج الجهمي على الخارجي بالنصوص الدالة على إيمان مرتكب الكبائر وأنه لا يكفر ولا يخلد في النار واحتج بها على الوعيدية القائلين بنفوذ الوعيد والتخليد قالوا هذه متأولة.وتأويله أقرب من تأويل نصوص الصفات.
    وإذا احتج على المرجئة بالنصوص الدالة على أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد وينقص قالوا هذه النصوص قابلة للتأويل كما قبلته نصوص الاستواء والفوقية والصفات الخبرية فنعمل فيها ما عملتم أنتم في تلك النصوص والقواعد التي حملتكم على تأويلها عندنا قواعد حملتنا على تأويل هذه الظواهر.
    وإذا احتج أهل الجبر على أهل القدر بالنصوص الدالة على أن أفعال العباد مخلوقة لله واقعة بقدرته ومشيئته تأولوها بنظير ما تأول به خصومهم النصوص الدالة على أنها أفعال للعباد حقيقة وأنها واقعة بقدرتهم ومشيئتهم وكذلك خصومهم معهم بهذه المثابة.


    وإذا احتج من أثبت الرؤية في الآخرة من أهل التأويل على من نفاها قال له أتأول هذه الظواهر بما تأولت به أنت آيات الصفات الخبرية وأحاديثها. وإذا احتج من أثبت العلم بجميع المعلومات جزئياتها وكلياتها لله من أهل التأويلات بالنصوص الدالة على ذلك قال له المنكر ليست هذه النصوص بأكثر من نصوص الفوقية والعلو واستواء الرب على عرشه ونزول الأمر من عنده وعروج الملائكة إليه فإذا كانت تلك مؤولة عندك على كثرتها وتضافرها فهذه أولى بقبول التأويل.
    فقد بان أنه لا يمكن أهل التأويل أن يقيموا على مبطل حجة من كتاب ولا سنة فحينئذ فيترك الاستدلال بالكتاب والسنة على كل مبطل ولم يبق إلا تصادم الآراء ونتائج الأفكار لا سيما وقد أعطى الجهمي من نفسه أن أكثر اللغة مجاز وأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين وأن العقل إذا عارض السمع وجب تقديم العقل والإعراض عن السمع وإهداره ثم إما أن يشتغل بتأويلهوهي طريقة الخلف العالمين أو يفوضه ولا يحتج به وهي طريقة السلف السالمين فكيف يقوم بعد هذا حجة من كتاب أو سنة على مبطل من العالمين.

    ولهذا كان فتح باب التأويل على النصوص يتضمن عيبها والطعن فيها وعزلها عن سلطانها وولاية الآراء الباطلة والشبه الفاسدة.
    بل نقول إنه لا يمكن أرباب التأويل أن يقيموا على مبطل حجة عقلية أبدا وهذا أعجب من الأول وبيانه: أن الحجج السمعية مطابقة للمعقول والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح بل هما أخوان نصيران وصل الله بينهما وقرن أحدهما بصاحبه فقال تعالى:
    {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف26].
    فذكر ما ينال به العلوم وهي السمع والبصر والفؤاد الذي هو محل العقل وقال تعالى:
    {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك10] فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل.
    وقال تعالى
    {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس67] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد4] وقال {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد24] فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم وتدبره بعقولهم ومثله قوله {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون68] وقال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق37]. فجمع سبحانه بين السمع والعقل وأقام بهما حجته على عباده فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلا فالكتاب المنزل والعقل المدرك حجة الله على خلقه وكتابه هو الحجة العظمى فهو الذي عرفنا ما لم يكن لعقولنا سبيل إلىاستقلالها بإدراكه أبدا فليس لأحد عنه مذهب ولا إلى غيره مفزع في مجهول يعلمه ومشكل يستبينه وملتبس يوضحه فمن ذهب عنه فإليه يرجع ومن دفع حكمه فبه يحاج خصيمه إذ كان بالحقيقة هو المرشد إلى الطرق العقلية والمعارف اليقينية التي بالعباد إليها أعظم حاجة فمن رد من مدعي البحث والنظر حكومته ودفع قضيته فقد كابر وعاند ولم يكن لأحد سبيل إلى إفهامه ولا محاجته ولا تقرير الصواب عنده وليس لأحد أن يقول إني غير راض بحكمه بل بحكم العقل فإنه متى رد حكمه فقد رد حكم العقل الصريح وعاند الكتاب والعقل.

    والذين زعموا من قاصري العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه على السمع عند تعارضهما إنما أتوا من جهلهم بحكم العقل ومقتضى السمع فظنوا ما ليس بمعقول معقولا وهو في الحقيقة شبهات توهم أنه عقل صريح وليست كذلك أو من جهلهم بالسمع إما لنسبتهم إلى الرسول ما لم يرده بقوله وإما لعدم تفريقهم بين ما لا يدرك بالعقول وبين ما تدرك استحالته بالعقول فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظن التعارض بين السمع والعقل.
    أحدها: كون القضية ليست من قضايا العقول.
    الثاني: كون ذلك السمع ليس من السمع الصحيح المقبول.
    الثالث: عدم فهم مراد المتكلم به.
    الرابع: عدم التمييز بين ما يحيله العقل ومالا يدركه.


    والله سبحانه حاج عباده على ألسن رسله وأنبيائه فيما أراد تقريرهم به وإلزامهم إياه بأقرب الطرق إلى العقل وأسهلها تناولا وأقلها تكلفا وأعظمها غناء ونفعا وأجلها ثمرة وفائدة فحججه سبحانه العقلية التي بينها في كتابه جمعت بين كونها عقلية سمعية ظاهرة واضحة قليلة المقدمات سهلة الفهم قريبة التناول قاطعة للشكوك والشبه ملزمة للمعاند والجاحد ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخ ولعموم الخلق أنفع.
    وإذا تتبع المتتبع ما في كتاب الله مما حاج به عباده في إقامة التوحيد وإثبات الصفات وإثبات الرسالة والنبوة وإثبات المعاد وحشر الأجساد وطرق إثبات علمه بكل خفي وظاهر وعموم قدرته ومشيئته وتفرده بالملك والتدبير وأنه لا يستحق العبادة سواه وجد الأمر في ذلك على ما ذكرناه من تصرف المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجل وجوه الحجاج وأسبقها إلى القلوب وأعظمها ملاءمة للعقول وأبعدها من الشكوك والشبه في أوجز لفظ وأبينه وأعذبه وأحسنه وأرشقه وأدله على المراد وذلك مثل قوله تعالى فيما حاج به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك وقطع أسبابه وحسم مواده كلها:
    {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ23 , 22] فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكا للأسباب التي ينفع بها عابده أو شريكا لمالكها أو ظهيرا أو وزيرا ومعاونا له أو وجيها ذا حرمة وقدر يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض فقد يقول المشرك هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له فيقول المشرك قد تكون ظهيرا ووزيرا ومعاونا فقال {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها.
    وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه.
    وكذلك قوله سبحانه مقررا لبرهان التوحيد أحسن تقرير وأوجزه وأبلغه:
    {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء42] فإن الآلهة التي كانوا يثبتونها معه سبحانه كانوا يعترفون بأنها عبيده ومماليكه ومحتاجة إليه فلو كانوا آلهة كما يقولون لعبدوه وتقربوا إليه وحده دون غيره فكيف يعبدونهم من دونه وقد أفصح سبحانه بهذا يعينه في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء57].أي هؤلاء الذين يعبدونهم من دوني هم عبيدي كما أنتم عبيدي يرجون رحمتي ويخافون عذابي كما ترجون أنتم رحمتي وتخافوني عذابي فلماذا تعبدونهم من دوني. وقال تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون91] فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى بشركة الإله الآخر معه بل إن قدر على قهره وتفرده بالإلهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب به كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضا بممالكهم.

    إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر والعلو عليه فلا بد من أحد أمور ثلاثة:

    ما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.وإما أن يعلو بعضهم على بعض.وإما أن يكون كلهم تحت قهر إله واحد وملك واحد يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه ويمتنع من حكمهم عليه ولا يمتنعون من حكمه عليهم فيكون وحده هو الإله الحق وهم العبيد المربوبون المقهورون.
    وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض وجريانه على نظام محكم لا يختلف ولا يفسد من أدل دليل على أن مدبره واحد لا إله غيره كما دل دليل التمانع على أن خالقه واحد لا رب له غيره فذاك تمانع في الفعل والإيجاد وهذا تمانع في العبادة والإلهية فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان يستحيل أن يكون له إلهان معبودان.ومن ذلك قوله تعالى
    {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان11] فلله ما أحلى هذا اللفظ وأوجزه وأدله على بطلان الشرك فإنهم إن زعموا أن آلهتهم خلقت شيئا مع الله طولبوا بأن يروه إياه وإن اعترفوا بأنها أعجز وأضعف واقل من ذلك كانت آلهيتها باطلا ومحالا.
    ومن ذلك قوله تعالى
    {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف4] فطالبهم بالدليل العقلي والسمعي. وقال تعالى {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد16].


    فاحتج على تفرده بالإلهية بتفرده بالخلق وعلى بطلان إلهية ما سواه بعجزهم عن الخلق وعلى أنه واحد بأنه قهار والقهر التام يستلزم الوحدة فإن الشركة تنافي تمام القهر.
    وقال تعالى
    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج74 , 73] فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه فمن لم يستمعه فقد عصى أمره كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصح برهان في أوجز عبارة وأحسنها وأحلاها وأسجل على جميع آلهة المشركين أنهملو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد وساعد بعضهم بعضا وعاونه بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد ثم بين ضعفهم وعجزهم عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب إياه حين يسقط عليهم فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب ومن عابده الطالب نفعه وخيره فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها.
    فأقام سبحانه حجة التوحيد وبين إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب ألفاظ وأحسنها لم يستكرهها غموض ولم يشنها تطويل ولم يعبها تقصير ولم تزر بها زيادة ولا نقص بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز مالا يتوهم متوهم ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها وتحتها من المعنى الجليل القدر العظيم الشرف البالغ في النفع ما هو أجل من الألفاظ.
    ومن ذلك احتجاجه سبحانه على نبوة رسوله وصحة ما جاء به من الكتاب وأنه من عنده وكلامه الذي يتكلم به وأنه ليس من صنعة البشر ولا من كلامهم بقوله:
    {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة23].


    فأمر من ارتاب في هذا القرآن الذي نزله على عبده وأنه كلامه أن يأتي بسورة واحدة مثله وهذا يتناول أقصر سورة من سوره ثم فسح له إن عجز عن ذلك أن يستعين بمن أمكنه الاستعانة به من المخلوقين.
    وقال تعالى
    {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} [يونس38] وقال {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود13] وقال {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور34-33] ثم أسجل سبحانه عليهم إسجالا عاما فيكل زمان ومكان بعجزهم عن ذلك ولو تظاهر عليه الثقلان فقال {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء88] فانظر أي موقع يقع من الأسماع والقلوب هذا الحجاج القاطع الجليل الواضح الذي لا يجد طالب الحق ومؤثره ومريده عنه محيدا ولا فوقه مزيدا ولا وراءه غاية ولا أظهر منه آية ولا أصح منه برهانا ولا أبلغ منه بيانا.
    وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمل دعوته وما جاء به
    {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} [المؤمنون70-68] فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل حال القائل فإن كون القول للشيء كذبا وزورا يعلم من نفس القول تارة وتناقضه واضطرابه وظهور شواهد الكذب عليهفالكذب باد على صفحاته وباد على ظاهره وباطنه ويعرف من حال القائل تارة فإن المعروف بالكذب والفجور والمكر والخداع لا تكون أقواله إلا مناسبة لأفعاله ولا يتأتى منه من القول والفعل ما يتأتى من البار الصادق المبرأ من كل فاحشة وغدر وكذب وفجور بل قلب هذا وقصده وقوله وعمله يشبه بعضه بعضا وقلب ذلك وقوله وعمله وقصده يشبه بعضه بعضا فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل سيرة القائل وأحواله وحينئذ تتبين لهم حقيقة الأمر وأن ما جاء به في أعلى مراتب الصدق.
    وقال تعالى
    {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس16] فتأمل هاتين الحجتين القاطعتين تحت هذا اللفظ الوجيز إحداهما أن هذا من الله لا من قبلي ولا هو مقدور لي ولا من جنس مقدور البشر وأن الله سبحانه وتعالىلو شاء لأمسك عنه قلبي ولساني وأسماعكم وأفهامكم فلم أتمكن من تلاوته عليكم ولم تتمكنوا من درايته وفهمه.
    الحجة الثانية: أني قد لبثت فيكم عمري إلى حين أتيتكم به وأنتم تشاهدوني وتعرفون حالي وتصحبوني حضرا وسفرا وتعرفون دقيق أمري وجليله وتتحققون سيرتي هل كانت سيرة من هو من أكذب الخلق وأفجرهم وأظلمهم فإنه لا أكذب ولا أظلم ولا أقبح سيرة ممن جاهر ربه وخالفه بالكذب والفرية عليه وطلب إفساد العالم وظلم النفوس والبغي في الأرض بغير الحق.
    هذا وأنتم تعلمون أني لم أكن أقرأ كتابا ولا أخطه بيميني ولا صاحبت من أتعلم منه بل صحبتكم أنتم في أسفاركم لمن تتعلمون منه وتسألونه عن أخبار الأمم والملوك وغيرها ما لم أشارككم فيه بوجه ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وما سيكون على التفصيل.


    فأي برهان أوضح من هذا وأي عبارة أفصح وأوجز من هذه العبارة المتضمنة له. وقال تعالى {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ46] ولما كان للإنسان الذي يطلب معرفة الحق والصواب حالتان: أحدهما: أن يكون ناظرا مع نفسه.
    والثانية: أن يكون مناظرا لغيره.
    أمرهم بخصلة واحدة وهي أن يقوموا لله إثنين إثنين فيتناظران ويتساءلان بينهما وواحدا واحدا يقوم كل واحد مع نفسه فيتفكر في أمر هذا الداعي وما يدعو إليه ويستدعي أدلة الصدق والكذب ويعرض ما جاء به عليها ليتبين له حقيقة الحال. فهذا هو الحجاج الجليل والإنصاف البين والنصح التام.


    وقال سبحانه في تثبيت أمر البعث {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس79 , 78] إلى آخر السورة.
    فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها في ألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز والاختصار ووضوح الدلالة وصحة البرهان لألفى نفسه ظاهر العجز منقطع الطمع يستحي الناس من ذلك.
    فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده الملحد اقتضى جوابا فكان في قوله سبحانه
    {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ما وفى بالجواب وأقام الحجة وأزال الشبهة لولا ما أراد سبحانه من تأكيد حجته وزيادة تقريرها وذلك أنه سبحانه أخبر أن هذا الملحد السائل عن هذه المسألة لو لم ينس خلق نفسه وبدأ كونه وذكر خلقه لكانت فكرته فيه كافية في جوابه مسكتة له عن هذا السؤال ثم أوضح سبحانه ما تضمنه قوله {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وصرح به جوابا له عن مسألته فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس79].


    فاحتج بالإبداء على الإعادة وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى إذ كل عاقل يعلم علما ضروريا أن من قدر على هذه قدر على هذه وأنه لو كان عاجزا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه اتبع ذلك بقوله {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس79] فهو عليم بالخلق الأول وتفاصيله وجزئياته ومواده وصورته وعلله الأربع.
    وكذلك هو عليم بالخلق الثاني وتفاصيله ومواده وكيفية إنشائه فإن كان تام العلم كامل القدرة كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهانظاهر يتضمن جوابا عن سؤال ملحد آخر يقول العظام إذا صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة لتقبل صورة الحياة فتولى سبحانه جواب هذا السؤال بما يدل على أمر البعث ففيه الدليل والجواب معا فقال:
    {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس80] فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة فالذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها ولا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه من إحياء العظام وهي رميم. ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر وأن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر.


    فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارا فقال {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس81] فأخبر سبحانه أن الذي أبدع السموات والأرض على جلالتهما وعظم شأنهماوكبر أجسامهما وسعتهما وعجيب خلقتهما أقدر على أن يحيي عظاما قد صارت رميما فيردها إلى حالتها الأولى كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر57] وقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف33]. ثم أخذ سبحانه ذلك وبينه بيانا آخر يتضمن مع إقامة الحجة دفع شبهة كل ملحد وجاحد وهو أنه ليس في فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة ولا يمكنه الاستقلال بالفعل بل لا بد معه من آلة ومشارك ومعين بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته وقوله للمكون كن فإذا هو كائن كما شاءه وأراده.
    فأخبر عن نفاذ مشيئته وإرادته وسرعة تكوينه وانقياد المكون له وعدم استعصائه عليه.
    ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وهوقوله:
    {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس83] فتبارك الذي تكلم بهذا الكلام الذي جمع في نفسه بوجازته وبيانه وفصاحته وصحة برهانه كل ما تلزم الحاجة إليه من تقرير الدليل وجواب الشبهة ودحض حجة الملحد وإسكات المعاند بألفاظ لا أعذب منها عند السمع ولا أحلى منها ومن معانيها للقلب ولا أنفع من ثمرتها للعبد.
    ومن هذا قوله سبحانه:
    {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء52-49] فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل فإنهم قالوا أولا إذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا فقيل لهم في جواب هذا السؤال إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب فهلا كنتم خلقا جديدا لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد أو ما هو أكبر في صدوركم من ذلك فإن قلتم لنا رب خالق خلقنا على هذه الصفة وأنشأنا هذه النشأة التي لا تقبل البقاء ولم يجعلنا حجارة ولا حديدا فقد قامت عليكم الحجة بإقراركم فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقا جديدا.


    وللحجة تقرير آخر وهو أنكم لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما لكان قادرا على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال.
    ومن قدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة ونقلها من حال إلى حال فما يعجزه عن التصرف فيما هو دونها بإفنائه وإحالته ونقله من حال إلى حال.
    فأخبر سبحانه أنهم يسألون سؤالا آخر بقولهم من يعيدنا إذا استحالت أجسامنا وفنيت فأجابهم بقوله
    {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة} [الإسراء51] وهذا الجواب نظير جواب قول السائل {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس78] فلما أخذتهم الحجة ولزمهم حكمها ولم يجدوا عنها معدلا انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به كما يتعلل المقطوع بالحجاج بمثل ذلك وهو قولهم متى هو فأجيبوا بقوله:{عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} [الإسراء52 , 51] ومن هذا قوله سبحانه {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة40-36] فاحتج سبحانه على أنه لا يترك الإنسان مهملا معطلا عن الأمر والنهي والثواب والعقاب وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك فإن من نقله من نطفة مني إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم خلقه وشق سمعه وبصره وركب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أسره وأتقن خلقه وأحكمه غاية الإحكام وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى فلا يليق ذلك بحكمته ولا تعجز عنه قدرته.


    فانظر إلى هذا الحجاج العجيب بالقول الوجيز الذي لا يكون أوجز منه والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.
    وكذلك ما احتج به سبحانه على النصارى مبطلا لدعوى إلهية المسيح كقوله
    {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء17] فأخبر أن هذا الذي أضافه من نسبة الولد إلى الله من مشركي العرب والنصارى غير سائغ في العقول إذا تأمله المتأمل ولو أراد الله أن يفعل هذا لكان يصطفي لنفسه ويجعل هذا الولد المتخذ من الجوهر الأعلى السماوي الموصوف بالخلوص والنقاء من عوارض البشر المجبول على الثبات والبقاء لا من جوهر هذا العالم الفاني الدائر الكثير الأوساخ والأدناس والأقذار ولما كان هذا الحجاج كما ترى في هذه القوة والجلالة أتبعه بقول {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء18]ونظير هذا قوله {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر4] وقال سبحانه {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة75] وقد تضمنت هذه الحجة دليلين ببطلان إلهية المسيح وأمه أحدهما: حاجتهما إلى الطعام والشراب وضعف بنيتهما عن القيام بنفسهما بل هي محتاجة فيما يقيمها إلى الغذاء والشراب والمحتاج إلى غيره لا يكون إلها إذ من لوازم الإله أن يكون غنيا.
    الثاني: أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحي الإنسان من نفسه وغيره حال انفصالها عنه بل يستحي من التصريح بذكرها.


    ولهذا والله أعلم كنى سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة فكيف يليق بالرب سبحانه أن يتخذ صاحبة وولدا من هذا الجنس. ولو كان يليق به ذلك أو يمكن لكان الأولى به أن يكون من جنس لا يأكل ولا يشرب ولا يكون منه الفضلات المستقذرة التي يستحي منها ويرغب عن ذكرها.
    فانظر ما تضمنه هذا الكلام الوجيز البليغ المشتمل على هذا المعنى العظيم الجليل الذي لا يجد سامعه مغمزا له ولا مطعنا فيه ولا تشكيكا ولا سؤالا يورده عليه بل يأخذ بقلبه وسمعه.
    ومن ذلك قوله تعالى
    {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف18 , 17] احتج سبحانه على هؤلاء الذين جعلوا له البنات بأن أحدهم لا يرضى بالبنات وإذا بشر بالأنثى حصل له من الحزن والكآبة ما ظهر منه السواد على وجهه فإذا كان أحدكم لا يرضى بالإناث بناتا فكيف تجعلونها لي كما قال تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل62] ثم ذكر سبحانه ضعف هذا الجنس الذي جعلوه له وأنه أنقص الجنسين ولهذا يحتاج في كماله إلى الحلية وأضعفهما بيانا فقال تعالى {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف18] فأشار بنشأتهن في الحلية إلى أنهن ناقصات فيحتجن إلى حلية يكملن بها وأنهن عييات فلا يبن عن حجتهن وقت الخصومة.
    مع أن في قوله
    {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} تعريضا بما وضعت له الحلية من التزين لمن يفترشهن ويطأهن وتعريضا بأنهم لا ينشأن في الحرب والطعان والشجاعةفذكر الحلية التي هي علامة الضعف والعجز والوهن.
    ومن هذا ما حكاه سبحانه في محاجة إبراهيم قومه بقوله:
    {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله مالم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام82 , 81 , 80] فهذا الكلام لم يخرج في ظاهره مخرج كلام البشر الذي يتكلفه أهل النظر والجدال والمقايسة والمعارضة بل خرج في صورة كلام خبري يشتمل على مبادئ الحجاج ومقاطعه مشيرا إلى مقدمات الدليل ونتائجه بأوضح عبارة وأفصحها وأقربها تناولا.


    والغرض منه أن إبراهيم قال لقومه متعجبا مما دعوه إليه من الشرك أتحاجوني في الله وتطمعون أن تستنزلوني عن توحيده بعد أن هداني وتأكدت بصيرتي واستحكمت معرفتي بتوحيده بالهداية التي رزقنيها وقد علمتم أن من كانت هذه حاله في اعتقاده أمرا من الأمور عن بصيرة لا يعارضه فيها ريب ولا يتخالجه فيها شك فلا سبيل إلى استنزاله عنها.
    وأيضا فإن المحاجة والمجادلة بعد وضوح الشيء وظهوره نوع من العبث بمنزلة المحاجة في طلوع الشمس وقد رآها من يحاجونه بأعينهم فكيف يؤثر حجاجكم له أنها لم تطلع بعد.
    ثم قال
    {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} وكأنه صلوات الله وسلامه عليه يذكر أنهمخوفوه آلهتهم أن يناله منها معرة كما قاله قوم هود له {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود54] فقال إبراهيم إن أصابني مكروه فليس ذلك من قبل هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله وهي أقل من ذلك فإنها ليست مما يرجى ويخاف بل يكون ذلك الذي أصابني من قبل الحي الفعال الذي يفعل ما يشاء الذي بيده الضر والنفع يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
    ثم ذكر سعة علمه سبحانه في هذا المقام منبها على موقع احتراز لطيف وهو أن لله سبحانه علما في وفيكم وفي هذه الآلهة لا يصل إليه علمي فإذا شاء أمرا من الأمور فهو أعلم بما يشاء فإنه وسع كل شيء علما فإذا أراد أن يصيبني بمكروه لا علم لي من أي جهة أتاني فعلمه محيط بما لم أعلمه وهذا غاية التفويض والتبري من الحول والقوة وأسباب النجاة وأنها بيد الله لا بيدي وهكذا قال شعيب لقومه:
    {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف89] فردت الرسل العلم بما يفعله الله إليه وأنه إذا شاء شيئا فهو أعلم بما يشاؤه ولا علم لنا بامتناعه وعدم كونه.
    ثم رجع الخليل إليهم مقررا للحجة فقال
    {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام81]
    يقول لقومه كيف يسوغ في عقل أو عند ذي لب أن أخاف ما جعلتموه لله شريكا في الإلهية وهي ليست بموضع نفع ولا ضر وأنتم لا تخافون أنكم أشركتم بالله في إلهيته أشياء لم ينزل بها حجة عليكم ولا شرعها لكم فالذي أشرك بخالقه وفاطره وباريه الذي يقر بأنه خالق السماوات والأرض ورب كل شيء ومليكه ومالك الضر والنفع آلهة لا تخلق شيئا وهي مخلوقة ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وجعلها نداله ومثلا في الإلهية تعبد ويسجد لها ويخضع لها ويتقرب إليها أحق بالخوف ممن لم يجعل مع الله إلها آخر بل وحده وأفرده بالإلهية والربوبية والعظمة والسلطان والحب والخوف والرجاء فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون فحكم الله سبحانه بينهما بأحسن حكم خضعت له القلوب وأقرت به الفطر وانقادت له العقول فقال
    {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام82]
    فتأمل هذا الكلام وعجيب موقعه في قطع الخصوم وإحاطته بكل ما وجب في العقل أن يرد به ما دعوه إليه وأرادوا حمله عليه وأخذه بمجامع الحجة التي لم تبق لطاعن مطعنا ولا سؤالا ولما كانت بهذه المثابة أشار سبحانه بذكرها وعظمها بالإشارة إليها وأضافها إلى نفسه تعظيما لشأنها فقال: {
    وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام83].


    فعلم السامع بإضافته إياها إلى نفسه أنه هو الذي فهمها خليله ولقنها إياه وعنه سبحانه أخذها الخليل وكفى بحجة يكون الله عز وجل ملقنها لخليله وحبيبه أن تكون قاطعة لمواد العناد قامعة لأهل الشرك والإلحاد.
    وشبيه بهذا الاحتجاج القصة الثانية لإبراهيم في محاجة المشرك الذي أخبر الله سبحانه عما جرى بينه وبينه في قوله
    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة258]
    فإن من تأمل موقع الحجاج وقطع المجادل فيما تضمنته هذه الآية وقف على أعظم برهان بأوجز عبارة فإن إبراهيم لما أجاب المحاج له في الله بأنه الذي يحيي ويميت أخذ عدو الله معارضته بضرب من المغالطة وهو أنه يقتل من يريد ويستبقي من يريد فقد أحيا هذا وأمات هذا فألزمه إبراهيمعلى طرد هذه المعارضة أن يتصرف في حركة الشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها إذا كان بزعمه قد ساوى الله في الإحياء والإماتة.
    فإن كان صادقا فليتصرف في الشمس تصرفا تصح به دعواه وليس هذا انتقالا من حجة إلى حجة أوضح منها كما زعم بعض النظار وإنما هو إلزام للمدعي بطرد حجته إن كانت صحيحة. ومن ذلك احتجاجه سبحانه على إثبات علمه بالجزئيات كلها بأحسن دليل وأوضحه وأصحه حيث يقول
    {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك13]
    ثم قرر علمه بذلك بقوله
    {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك14]
    وهذا من أبلغ التقرير فإن الخالق لا بد أن يعلم مخلوقه والصانع يعلم مصنوعه وإذا كنتم مقرين بأنه خالقكم وخالق صدوركم وما تضمنته فكيف تخفى عليه وهي خلقه وهذاالتقرير مما يصعب على القدرية فهمه فإنه لم يخلق عندهم ما في الصدور فلم يكن في الآية على أصولهم دليل على علمه بها ولهذا طرد غلاة القوم ذلك ونفوا علمه فأكفرهم السلف قاطبة.
    وهذا التقرير من الآية صحيح على التقديرين أعني تقدير أن تكون من في محل رفع على الفاعلية وفي محل نصب على المفعولية فعلى التقدير الأول ألا يعلم الخالق الذي شأنه الخلق وعلى التقدير الثاني ألا يعلم الرب مخلوقه ومصنوعه.
    ثم ختم الحجة باسمين مقتضيين لثبوتها وهما اللطيف الذي لطف صنعه وحكمته ودق حتى عجزت عنه الأفهام والخبير الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها فكيف يخفى على اللطيف الخبير ماتحويه الضمائر وتخفيه الصدور.
    ومن هذا احتجاجه سبحانه على المشركين بالدليل المقسم الحاصر الذي لا يجد سامعه إلى رده ولا معارضته سبيلا حديث يقول تبارك وتعالى
    {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور36 , 35] فتأمل هذا الترديد والحصر المتضمن لإقامة الحجة بأقرب طريق وأفصح عبارة يقول تعالى هؤلاء مخلوقون بعد أن لم يكونوا فهل خلقوا من غير خالق خلقهم فهذا من المحال الممتنع عند كل من له فهم وعقل أن يكون مصنوع من غير صانع ومخلوق من غير خالق.
    ولو مر رجل بأرض قفر لا بناء فيها ثم مر بها فرأى فيها بنيانا وقصورا وعمارات محكمة لم يتخالجه شك ولا ريب أن صانعا صنعها وبانيا بناها.
    ثم قال أم هم الخالقون وهذا أيضا من المستحيل أن يكون العبد موجدا خالقا لنفسه فإن من لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده وتعاطيه أسباب الحياة ساعة واحدة ولا أصبعا ولا ظفرا ولا شعرة كيف يكون خالقا لنفسه في حال عدمهوإذا بطل القسمان تعين أن لهم خالقا خلقهم وفاطرا فطرهم فهو الإله الحق الذي يستحق عليهم العبادة والشكر فكيف يشركون به إلها غيره وهو وحده الخالق لهم. فإن قيل فما موقع قوله
    {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور36]
    من هذه الحجة قيل أحسن موقع فإنه بين بالقسمين الأولين أن لهم خالقا وفاطرا وأنهم مخلوقون وبين بالقسم الثالث أنهم بعد أن وجدوا وخلقوا فهم عاجزون غير خالقين فإنهم لم يخلقوا نفوسهم ولم يخلقوا السموات والأرض وأن الواحد القهار الذي لا إله غيره ولا رب سواه هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض فهو المتفرد بخلق المسكن والساكن بخلق العالم العلوي والسفلي وما فيه.
    ومن هذا ما حكاه الله سبحانه عن محاجة صاحب يس لقومه بقوله
    {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس21 , 20]
    فنبه على موجب الاتباع وهو كون المتبوع رسولا لمن لا ينبغي أن يخالف ولا يعصى وأنه على هداية ونبه علىانتفاء المانع وهو عدم سؤال الأجر فلا يريد منكم دنيا ولا رياسة فموجب الاتباع كونه مهتديا والمانع منه منتف وهو طلب العلو في الأرض والفساد وطلب الأجر.
    ثم قال:
    {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس22]
    أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفا لهم ونبه على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب في العقول مستهجن تركها قبيح الإخلال بها فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه ونعمة كلها بعد تابعة لإيجاده وخلقه وقد جبل الله العقول والفطر على شكر المنعم ومحبة المحسن ولا يلتفت إلى ما يقوله نفاة التحسين والتقبيحفي ذلك فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول والفطر والشرائع ثم أقبل عليهم مخوفا لهم تخويف الناصح فقال:
    {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس22] ثم أخبر عن الآلهة التي تعبد من دونه أنها باطلة وأن عبادتها باطلة فقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس23].


    فإن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته إليه وإنما إذا أرادني الرحمن الذي فطرني بضر لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذوني بها من ذلك الضر ولا من الجاه والمكانة عنده ما يشفع لي إليه لأتخلص من ذلك الضر فبأي وجه يستحق العبادة و: {نِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس24] إن عبدت من دون الله مما هذا شأنه.
    وهذا الذي ذكرناه من حجاج القرآن يسير من كثير وإنما نبهنا على ما لم يذكر منه.
    والمقصود أنه يتضمن الأدلة العقلية والبراهين القطعية التي لا مطمع في التشكيك والأسئلة عليها إلا لمعاند مكابر. والمتأول لا يمكنه أن يقيم على مبطل حجة نقلية ولا عقلية:أما النقل فلأنه عنده قابل للتأويل وهو لا يفيد اليقين.
    وأما العقل فلأنه قد خرج عن صريحه وموجبه بالقواعد التي قادته إلى تأويل النصوص وإخراجها من ظواهرها وحقائقها فصارت تلك القواعد الباطلة حجابا بينه وبين العقل والسمع.
    فإذا احتج على خصمه بحجة عقلية نازعه خصمه في مقدماتها بما سلم له من القواعد التي يخالفها.
    فإن المعقول الصريح هو ما دلت عليه النصوص فإذا أبطله بالتأويل لم يبق معه معقول صريح يحتج به على خصمه كما لم يبق معه منقول صحيح.
    فإنه قد عرض المنقول للتأويل والمعقول الصريح خرج عنه بالذي ظن أنه معقول
    ومثال هذا أن العقل الصريح الذي لا يكذب ولا يغلط قد حكم حكما لا يقبل الغلط أن كل ذاتين قائمتين بأنفسهما إما أن تكون كل منهما مباينة للأخرى أو محايثة لها وأنه يمتنع أن تكون هذه الذات قائمة بنفسها وهذه قائمة بنفسها وإحداهما ليست فوق الأخرى ولا تحتها ولا عن يمينها ولا عن يسارها ولا خلفها ولا أمامها ولا متصلة بها ولا منفصلة عنها ولا مجاورة لها ولا محايثة ولا داخلة فيها ولا خارجة عنها.
    فإذا خولف مقتضى هذا المعقول الصريح ودفع موجبه فأي دليل عقلي احتج به المخالف بعد هذاعلى مبطل أمكنه دفعه بما دفع هو به حكم هذاالعقل.
    فإذا قال الجهمي: هذا من حكم الوهم لا من حكم العقل.
    قال له خصمه: فيما احتج به عليه من قضايا العقل هذا أيضا من حكم الوهم.
    فإنك لو قلت إن في النفس حاكمين الوهم والعقل.
    فإذا ادعيت فيما تشهد به العقول والفطر أنه من حكم الوهم كان ادعاء ذلك فيما هو دون هذه القضية بكثير أقرب وأقرب وأمثلة ذلك لا يتسع لها هذا الموضع.
    وإذا تأملت القواعد الحاملة لأرباب التأويل عليه وجدتها مخالفة لصريح العقل ومن خالف صريح العقل لم تقم له حجة عقلية ولا سمعية وبالله التوفيق.


    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
    الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

    تعليق

    مواضيع ذات صلة

    تقليص

    المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
    ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 9 أغس, 2023, 11:28 م
    ردود 0
    64 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة د.أمير عبدالله
    ابتدأ بواسطة عادل خراط, 17 أكت, 2022, 01:16 م
    ردود 112
    217 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة عادل خراط
    بواسطة عادل خراط
    ابتدأ بواسطة اسلام الكبابى, 30 يون, 2022, 04:29 م
    ردود 3
    46 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة عاشق طيبة
    بواسطة عاشق طيبة
    ابتدأ بواسطة عادل خراط, 28 أكت, 2021, 02:21 م
    ردود 0
    144 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة عادل خراط
    بواسطة عادل خراط
    ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 01:31 م
    ردود 3
    101 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة عادل خراط
    بواسطة عادل خراط
    يعمل...