أكاد أُجَنّ ن ن ن (2)
· ربى يسوع : كنتَ فى عليائك على عرش هذا الكون الواسع الهائل منذ الأزل ، فى الملأ الأعلى ، تدبّر أمره ، ملائكته وإنسه وجِنّهُ ، حيوانه ونباته وجماده ، نجومه وكواكبه وأجرامه ، ثم قبِلتَ أن تتجسد فى بويضةٍ قطرها 1,. مم ، قذفها مبيض ، فى رحم امرأة ، ثم فى علقةٍ فمضغةٍ مُخَلّقةٍ وغيرِ مخلقة ، بين فرث ودم " فمن عجائب صبر الله أنه احتمل أن يكون جنينا فى بطن العذراء ، وانتظر حتى زمان الولادة ، ثم احتمل أن يمر فى مراحل النمو العادية " (1) . تركت هذا المجد كله ، من أجل محبتك لنا ؟ ؟ صبرتَ على شىء أمر من الصبر !!! يا له من تنَزُّل واتّضاع لا يليق إلا بالآلهة ، عندما تتجسد فى أرحام العذارى من مخلوقاتها .
· ربى وإلهى : " كل شىء به كان ، وبغيره لم يكن شىء مما كان " يو 1/3 ، بيده القدوسة خلق هذا الكون ( مائتى مليون مجرة ) ، وأبدع هذه العوالم " الطفل الماسك الثدى ويرضع منه اللبن ... يمسك الثدىَ باليمين التى بسطتْ السماء... صنع لنفسه لبنا ووضعه فى الثدى الطاهر ، ورجع فرضع من ذلك المحبوب الذى صنعه " (2) ، ما أقدس هذه اليد وهذه الأصابع الإلهية المباركة ، التى داعبتَ بها ثدىَ الصبيةِ الصغيرة ، وأنت ترضع ، تستدر منها اللبن للإله الجائع الباكى ، أخليتَ ذاتك من كل مظاهر المجد والرفعة والعظمة ، وقبلتَ حياة الضعف والمهانة والذلة ، فما أعظم اتّضاع ربى ، تباركتَ وتعاليتَ .
· لك القوة والمجد ، لا يعجزك شىء ، تمسكُ السماءَ وما أظلّتْ ، والأرضَ وما أقلّتْ ، فلا تزول السمواتُ وتتساقط نجومُها ، وتتزعزع قواتُها ، ولا تنحل العناصرُ وتذوب محترقة ، وتحترق الأرض والمصنوعات التى فيها (3) ، ثم ظهرْتَ فى صورة إنسان ضعيف ، لا تمسك بولة ، ولا تحبس ضرطة أو فَسْوَة ، يا لك من إله قدوس قدير ، وما أعظم هذا الاتضاع من قيومِ السمواتِ والأرض .
· ربى وإلهى : لك مُلْك السمواتِ والأرضِ وما بينهما وما تحت الثرى ، هذا الوجود كله ، علويّهُ وسفليّهُ ، ثرواتُه ومعادنُه ، كله رهن أمرك ، ولك أضعافه بمجرد كلمة تخرج من فمك ، أو تتعلق به إرادتك " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " و " عند الله كل شىء مستطاع " مت 19/26 ، لك كل هذا الملك والملكوت ، ظاهره وخفيّه ، ورغم ذلك " للثعالب أوجرة ، ولطيور السماء أوكار ، أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسَه " لو 9/58 ، ما أعظم وأجمل الاتضاع ، حين يعيش الإله حياة الفقر المدقع ، لا يجد مأوى ، ولا قوتَ يومه .
· ربى وإلهى : لك القدرة والجبروت ، والعزة والعظمة ، كما يليق بجلال الألوهية ، ومع ذلك " فهو فى اضطجاعه فى المِزْوَد كان يملأ السماء والأرض ... فى الميلاد ظهر الله وديعا بصوت خافت ، من فم طفل رضيع ، فاهتزت السموات ، وانحدرت جند العلى تسبح الله من فرط تأثرها ، لأن اتضاع الله أرهبهم " (4) ، اهتزت لبكائك مائتا مليون مجرة !!! ( مجرتنا الصغيرة عرضها مائة ألف سنة ضوئية ، وسمكها عشرة آلاف سنة ضوئية ) ، ارتعشتْ كلها ، ومارت مَوْرًا ، كاد بعضها يصطك ببعض ، فتنهار على رءوس ساكنيها ، بسبب الصوت الخافت الوديع ، من فم الطفل الرضيع !!! صدقنى ولست أكذب ، كم يبهرنى مجدُك ، وكم – حقا – أُعظّمك فى اتضاعك الرهيب .
· ربى وإلهى : أنت ديان هذه الخليقة كلها ، يوم تضع أعداءك تحت قدميك ويذبحونهم قدامك لو19/27 ، تجلس على كرسى مجدك ، ويجلس تلاميذك على اثنى عشر كرسيا يدينون أسباط إسرائيل الإثنى عشر مت 19/28 , بل سيدينون العالم ويدينون ملائكة (5) ، هربوا جميعا وتركوك تلقى مصيرك المشئوم وحدك ، ثم ها أنت يا شفيع البشرية ، تقف أمام بيلاطس لاتجد ناصرا ومؤيدا ، ولا شفيعا إلا امرأة ... امرأة ( يا للكارثة ) " أرسلت إليه امرأته قائلة : إياك وذلك البار ، لأنى تألمت اليوم كثيرا فى حلم من أجله " مت 27/19 . إن عالَمنا المسيحى ، لَيُمجّد فيك هذا الاتضاع .
· لكنك ربى وإلهى رفعتَ عَقِبَك على مريم أمك ، كما ترفع العقرب شولتها ، فلم تخاطبها قـط إلا بقولك : يا امرأة . أما علمتَ أن أفضلَ عرشٍ تطلبه المرأةُ هو الأمومة ؟ ؟ ، لقد حرمتَها من عذوبة لفظ : يا أمى . ترفع عَقِيرَتَكَ بكلمةٍ بذيئة ؟ لقد كانت تتوارى بك من سفالات اليهود وسفاهاتهم ، وربّتْك من غَزْل يديها النحيلتين ، ألا تذكرها صغيرة ووحيدة فى مخاضها ، تقطع سُرّتك وتقمّطك ؟ ألا يكفيها شرفُ الأمومة ؟ ألم تعلم أن " الجنةُ تحتَ أقدامِ الأمّهات " ؟ إن كرامتك من كرامتها ، لقد كتبت َبذلك على نفسك وثيقة العار ، انهارت كل أمجادك السابقات . لقد تكبّرتَ وتعظّمتَ فى غير موضع الكبرياء والعظمة ، لقد ضرب لسانُك عنقَك .
· عشتَ حياةَ القداسة ربى وإلهى ، ثم صُلِبتَ عريانا كيوم ولدتك أمّك ، مكشوفَ السوأتين ، قبُلك ودبُرك ، تنظرك النسوة ، ويرمقك الجمْع والجند والمارة ، ويتأمّلك المأبونون والشواذ والزانيات الذين يصاحبون كل مصلوب ، لقد تأكد اليهود من ختانك قبل أن تدخل المجمع (6) ، فهل كان من ضرورة ليعيد الجميع اكتشاف ذلك الختان ، وأنت فوق صليبك عريانا ؟ زعموا أنك صُلِبتَ عريانا لتفتدينا من عُرْىِ الخطية وخِزْيها (7) ، كلمات فضفاضة كأنها هذيان محموم ، ما كان يليق بالإله القدوس أن يظهرَ عورتيه على هذا النحو المُشِين ، يا لها من فضيحة !!!! أما كان لديك خيار آخر ؟ ؟ اضطُرِرتَ إلى هذه المهزلة ؟ ؟ يا للعار الذى لحق بجلال الألوهية !!!!
· لقد غلبتْ على نفسِك عنصريةُ اليهودِ وغلواؤها ، فقلتَ عن الأمم : " لا تعطوا القدسَ للكلاب ، ولا تطرحوا دررَكم قدام الخنازير " مت 7/6 ، وقلتَ للكنعانية : " ليس حسنا أن يُؤخذَ خبزُ البنين ويُطرحَ للكلاب " مر 7/27. حقا إن البلاء موكل بالمنطق ، وطاعة اللسان ندامة ، لقد أسأتَ إلى الجميع بفلتات لسانك ،قيل عن غيرك : " ولو كنتَ فظا غليظَ القلبِ لانفَضّوا من حولِك " . يقولون : يا لك من إله عنصرى يتلذذ بأن يرى الناس فى ذلة ومهانة ، ولكنه لا يتورع ولا يتردد فى التدخل لإنقاذ يهودية عاهرة من حجارة الرجم . إنها صورة لإله عنصرى مزيف ، هكذا يقولون !!!! تكلم وأجبنى ، فقد كلم الله موسى . هل الكلمة أخرس ؟
· عجبى لك ربى وإلهى ، لماذا تتمرد وتقسو على أقرب الناس إلينا ، وأعطفهم علينا ، وأنت الحنان الرحيم المتواضع ؟ " إن كان أحد يأتى إلى ولا يبغض ( hate ) أباه وأمه ، وامرأتَه وأولادَه ، وإخوتَه وأخَوَاته ، حتى نفسَه أيضا فلا يقدر أن يكون لى تلميذا " لو 14/26 ، لِمَ لَمْ تخفِضْ لهم جناح الذل من الرحمة ، أليست الوصية " أكرم أباك وأمك " ؟ لقد قلَبتَ الكتابَ المقدسَ رأسا على عَقِب . يقولون : هذا يعنى أنك فى حاجة إلى مصحة نفسية ، حتى يستقيم ما اعوج من فكرك . لِمَ تتجبر وتتكبر ؟ كيف تجمع بين النقيضين ؟ هل أنت ممثل بارع أيضا ؟ ما كان لمن له هذا الاتضاع أن يقول ذلك .
· ربى وإلهى : تردّدْتَ وصحبك فى تلال الجليل ، وفى القرى والنجوع ، تصحبك النسوة، تنفقن عليك من أموالهن ، وتمسحن رجليك بشعورهن ، زعموا أنك كنتَ تتيح لهن فرصة تقديم خدمة للرب تواضعا منك ، لم ترافقك أمك ، اعتزلتك الطاهرة البتول فى رحلاتك ، وكذلك أخَوَاتك وإخوتك ، وأنت أعزب وأكولٌ وشِرّيبُ خمر ، وقد نسبوا إليك فى تلميذك المحبوب ما لا يقال ، وأبيحتْ لصحبك الخمور ، ومرافقوك هم بنو إسرائيل الأشرار ، إنها الغواية والفساد ، هل من التواضع ربى وإلهى أن تضع نفسك فى مواضع التّهَم ؟
· أرى أنك تخليت عن مجدك وكرامتك ، فها أنت تعلن " وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ، ولا الملائكة الذين فى السماء ، ولا الإبن ، إلا الآب " مر 13/32 . إن الآب مساوٍ لكَ فى المجد والكرامة والقوة والقدرة ، لا يزيد عنك خردلة ، أنت الكلمة والحكمة ، لولاك لكان الآبُ أخرسَ أخرق ، كيف يحجب عنك بعضَ علمِه وأنت فى حِضنه ؟ إنهم يزعمون : اتحاد بانفصال ، وانفصال باتحاد (8). تثليث فى توحيد ، وتوحيد فى تثليث ، انفصال باتصال ، واتصال بانفصال ، وإن كنت لا أفهم شيئا من ذلك . كيف نؤمن برغم هذا أنك إله عليم بما فى النفوس ، ومثاقيل الجبال ، ومكاييل البحار ، وأساسات الأرض وأعمدتها ، وذرات الكون وإشعاعاته ؟ تعلم ما فى الأجواء من ذبذبات المذياع والإرسال التلفزيونى ؟ خبير إلكترونى حضرتك ؟ ؟
· لقد تخطاك الكثير من المجد الإلهى الحقيقى . ألستَ عقلَ اللهِ وحكمتَه ، فكيف فاتك ذلك ؟ أم أن عقلَ الله لا يعقل الكثيرَ من الأمور . ألا ترى أن فى اتضاع الناسوت ، ضياع كرامة اللاهوت ؟ ولكنـهـا ديانتُـك يـا ربـى وإلهـى .
· أكـاد أُجَـنّ ن ن ن ن !!!!!
المراجع :
1 – تفسير الأناجيل الأربعة معا – د. شماس حمدى صادق صـ 36 .
2- الإبن تجسد من أجلى - القمص تادرس يعقوب ملطى – نقلا عن القديس مار يعقوب .
3- 2بط 3 ، مت 24/29 ، مر 13/25 .
4- تفسير الأناجيل الأربعة معا – د. شماس حمدى صادق صـ 15 ، 16 .
5- 1كورنثوس 6/3 .
6- تفسير الأناجيل الأربعة معا – د. شماس حمدى صادق صـ 39 .
7- تفسير الأناجيل الأربعة معا – د. شماس حمدى صادق صـ 277
8- الثالوث الذى نؤمن به – مفيد كامل صـ 23 .
تعليق