بسم الله الرحمن الرحيم
أسباب ظاهرة الإلحاد وطرق علاجها
أولاً: مدخل وتعريف
مدخل:
يعاني العالم المعاصر من مشكلات كثيرة فبالرغم من التقدم المادي الهائل الذي
نعيش فيه والخيرات العظيمة التي وفرها العلم لحياة الإنسان ورفاهيته، إلا
أننا نعيش في ظل مشكلات رهيبة يتولد بعضها عن بعض، ويؤثر بعضها في وجود بعض،
ومن هذه المشكلات القلق النفسي والاضطراب، وانتشار الجريمة، وانعدام الأخلاق
والفردية والأنانية، والظلم بكل معانيه وصوره، والانحلال والفساد، فالفضائح
السياسية والمالية نسمع عنها كل يوم تقريباً، ولا يكاد يخلو بلد من بلدان
العالم من هذه المشكلات، ولم يستطع تقدم الإنسان المادي أن يقضي أن يخفف من
هذه المشكلات بل على العكس من ذلك كلما ارتقت حياة الإنسان المادية كلما ظهرت
وانتشرت هذه المشكلات.
وبالرغم من كثرة هذه المشكلات وتعددها فإن أعظم هذه المشكلات وأكبرها أثراً
في ظهور الفساد والاضطراب والقلق هي مشكلة الإلحاد. فهذه المشكلة في الحقيقة
هي أم المشكلات وسببها جميعاً. فماذا نعني بمشكلة الإلحاد؟ وما سبب هذه
المشكلة التي أصبحت إحدى مظاهر العصر؟ وكيف يعالج الإسلام هذه المشكلة؟ هذا
ما سنناقشه في الصفحات التالية بحول الله.
ماذا نعني بكلمة الإلحاد:
نعني بالإلحاد الكفر بالله والميل عن طريق أهل الإيمان والرشد. وظهور التكذيب
بالبعث والجنة والنار وتكريس الحياة كلها للدنيا فقط والإلحاد اليوم ظاهرة
عالمية فالعالم الغربي في أوربا وأمريكا وإن كان وارثاً في الظاهر للعقيدة
النصرانية التي تؤمن بالبعث والجنة والنار إلا أنه ترك هذه العقيدة الآن
وأصبح إيمان الناس هناك بالحياة الدنيا فقط وأصبحت الكنيسة مجرد تراث وأثر من
آثار الماضي، ولا تشكل في حياة الناس وعقولهم إلا شيئاً تافهاً جداً وقد أصبح
(الإلحاد) هو الدين الرسمي المنصوص عليه في كل دساتير البلدان الأوربية
والأمريكية ويعبر عن ذلك (بالعلمانية) تارة، و (اللادينية) تارة أخرى وكل ذلك
يعني الإلحاد والكفر بالله.
وفي الشرق تقوم أكبر دولة على الإلحاد وهي الدولة الروسية التي تحمل العقيدة
الشيوعية التي من بنودها رفض الغيب كله والقول بأن الحياة مادة فقط وأن صراع
الإنسان في هذه الحياة إنما هو من أجل العيش والبقاء فقط، وأما الدول الأخرى
فبالرغم من أنه كان ينتشر فيها أديان تقوم على بعض العقائد الغيبية
كالهندوكية والبوذية والكونفشيوسية إلا أن هذه الأديان اختفت الآن تقريباً
أمام مد الإلحاد الغربي والحياة العصرية.
وبالرغم من أن العالم الإسلامي ما زال يتمسك نوعاً ما بالإسلام ويقر بالتوحيد
ويؤمن بالبعث والجنة والنار إلا أن موجة الإلحاد العارمة تطغى عليه من كل
جانب، وتشكك أبناءه في دينهم وعقيدتهم ويحسن بنا ونحن نجابه هذه المشكلة أن
نبحث بحثاً موضوعياً علمياً في أسباب هذه المشكلة وكيفية علاجها.
ثانياً: أسباب مشكلة الإلحاد
منذ مائتي عام فقط لم تكن مشكلة الإلحاد بهذه الحدة والانتشار ولكن في
القرنين الأخيرين ظهرت عوامل كثيرة جعلت من الإلحاد والكفر بالله ديناً عاماً
منتشراً، ونستطيع أن نجمل أهم الأسباب في انتشار الإلحاد فيما يلي:
1- الكنيسة الأوروبية:
لقد كانت الكنيسة الأوروبية سبباً غير مباشر أحياناً وسبباً مباشراً أحياناً
أخرى في نشر الإلحاد والزندقة والكفر الكامل بوجود الله وذلك لأن القائمين
على هذه الكنيسة من الرهبان والقساوسة أدخلوا في دينهم كثيراً من الخرافات
والخزعبلات، وجعلوها عقائد دينية، كرفعهم عيسى عليه السلام من مرتبة البشرية
إلى الألوهية وظهور فكرة الخطيئة والصلب والخلاص وأضافوا إلى ذلك كثيراً من
الخرافات الدارجة عن الأرض والكون والحياة، وعندما بدأ عصر النهضة الأوربية
واكتشف بعض العلماء حقائق جديدة عن الأرض والكون والحياة هب الرهبان
والقساوسة ينكرون ذلك، ويتهمون من يعتقد بالحقائق الجديدة ويصدق بها بالكفر
والزندقة ويوعزون إلى السلطات الحاكمة بقتلهم وحرقهم بالنار، ولقد لقي كثير
من العلماء هذا المصير المؤلم جزاء مخالفتهم لآراء الكنيسة.. ولكن حركة العلم
لم تتوقف واستطاع العلماء أن يقدموا كل يوم براهين جديدة على نظرياتهم
العلمية وابتدأت آراء الكنيسة ومعتقداتها تهزم كل يوم هزيمة جديدة وكانت
الجولة في النهاية لعلماء المادة على رجال الكهنوت فاندفع الناس نحو الإيمان
بالعلم المادي كإله جديد سيحمل الرخاء والقوة والرفاهية للناس، وفتش الناس
أسرار الكنيسة فهالهم ما رأوه من فساد أخلاقي بين الرهبان والراهبات وأرادوا
التخلص إلى غير رجعة من السلطان الكهنوتي والقهر الزمني الذي مارسته الكنيسة
ضدهم ومن الإتاوات والضرائب التي فرضتها الكنيسة على رقابهم فكان الرفض
الكامل لكل المعتقدات الدينية والكراهية العامة لكل عقيدة تنادي بالإيمان
بالغيب واتهام الرسل جميعاً بالكذب والتدليس وهكذا برزت الموجة الأولى من
موجات الإلحاد العالمي.
2- مظالم العالم الرأسمالي:
ما كادت أوربا تتخلص جزئياً من سلطان الكنيسة ويكتشف الناس قوة البخار والآلة
حتى تحول الناس من الزراعة إلى الصناعة، وهرع أهل الإقطاع إلى التصنيع
فامتلكوا المصانع الكبيرة وحازوا الثروات الضخمة واستغلوا العمال استغلالاً
فاحشاً وانتشرت المظالم الهائلة وظهرت الطبقات المتفاوتة من رأسماليين جشعين
إلى عمال فقراء مظلومين، وكان رؤية هذا الظلم الجديد، ومساندة رجال الدين أو
سكوتهم عنه سبباً جديداً في انتشار الإلحاد والشك في وجود الله، واتهام الدين
بمساندة الظلم أو عجزة عن تقديم حل ناجح لمشكلات الإنسان على الأرض وابتدأت
العقائد الدينية تنحسر انحساراً جديداً عن حياة الناس وابتدأ الناس يعملون
أفكارهم في خلق عقائد تستطيع أن تحل مشكلاتهم على الأرض، وتقنع عقولهم وعجزت
الكنيسة الأوروبية أيضاً عن تقديم هذا العلاج للناس.
3- ظهور المذاهب الاقتصادية الالحادية:
كان العامل الثالث الذي ساعد على انتشار موجة الإلحاد هو ظهور المذاهب
الاقتصادية الإلحادية وخاصة الشيوعية التي بشر بها كارل ماركس (اليهودي
الألماني الذي تنصر والده) فبالرغم من أن هذا المذهب ينطلق من منطلق اقتصادي
ويستهدف حسب إعلان المبشرين به معالجة المظالم الرأسمالية الفردية والسيطرة
على مجتمع اشتراكي يعمل فيه كل إنسان حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته فقط، إلا أن
القائمين على هذا المذهب الاقتصادي صبغوه بالصبغة العقائدية وأعطوه أبعاداً
أخرى غير اقتصادية فزعموا أن الحياة التي يعيشها الناس حياة مادية فقط وأنه
لا يوجد روح ولا بعث ولا إله، ولا حياة أخرى وأن الناس منذ وجدوا لا هم لهم
إلا المصالح المادية وزعموا أن ظهور الأديان إنما كان من فعل الأغنياء
ليلبسوا على الفقراء ويستغلوهم وأن الأخلاق كالأمانة والعفة والصدق ما هي إلا
نتاج خبيث للفكر الديني الذي يريد أن يخدم المصالح الرأسمالية، واعتقد
الشيوعيون لذلك أن الأنبياء ما كانوا إلا دجالين أرادوا بنشر أديانهم تخدير
الشعوب لتستنيم للظلم والقهر وبهذا أصبح هذا المذهب الاقتصادي بفلسفته التي
أطلقها على الأديان موجة جديدة من موجات الإلحاد والزندقة. ولعل هذه الموجة
الجديدة التي جاءت بها الشيوعية كانت أعتى موجات الإلحاد جميعاً وذلك أن
الشيوعية تبنت الدفاع عن المظلومين والفقراء وهذه قضية عادلة وإنسانية في
ذاتها ولذلك تبنى هؤلاء الفقراء والمظلومون وهم أغلبية الناس دائماً هذه
العقيدة الجديدة والدين الجديد لأنه يدافع عن مصالحهم ويتبنى قضاياهم وبالطبع
أخذوا هذا الدين بفلسفته العقائدية وليس بفكره الاقتصادي فقط.
وهكذا انتشر الإلحاد سريعاً مع هذا المذهب الاقتصادي الجديد وكان النجاح
الهائل الذي لاقته الدعوة الشيوعية بتفجير الثورة البلشفية في روسيا
والاستيلاء على الحكم عاملاً كاسحاً في هدم الأديان ونشر الإلحاد وانتقاله
ليصبح عقيدة عالمية.
ولما كانت الدعوة الشيوعية ترى أن نهاية العالم الحتمية إلى الشيوعية وتدعو
لذلك بل تنتهج الثورة والعنف الدموي سبيلاً إلى نشر الشيوعية فإنه سرعان ما
تأجج العالم من أقصاه إلى أقصاه بالثورات التي أججتها هذه العقيدة وابتدأت
التحولات القسرية لشعوب بأجمعها نحو الإلحاد كما حدث في الجمهوريات الإسلامية
في روسيا وكذلك في الصين وغيرها وما زال المد الإلحادي الذي تؤججه العقيدة
الماركسية يمتد عبر بلدان العالم جميعها. وها هي البلدان العربية التي كانت
معقلاً للإسلام تغزوها العقيدة الماركسية الإلحادية في عقر دارها.
4- اقتران الإلحادية بالقوة المادية:
السبب الرابع الذي شجع الناس على الكفر بالله والانطلاق نحو الإلحاد الكامل
هو اقتران القوة المادية بالإلحاد، وذلك أن الناس رأوا أن أوربا لم تتقدم
وتمتك القوى المادية وتكتشف أسرار الحياة إلا بعد أن تركت أفكار الكنيسة
وعقائدها. وأن دولة كروسيا لم تصبح دولة عظمى إلا بعد أن أعلنت أنها دولة
إلحادية، ورأوا مع ذلك أن الدول التي ما زالت تتمسك بالدين دولاً متخلفة في
القوة والصناعات فظن الناس لذلك أن الإلحاد سبب للقوة والعلم، وأن الدين يعني
التخلف والجهل، ولما كان للعلم المادي آثاره الظاهرة والباهرة من تيسير حياة
الإنسان على ظهر الأرض ونشر الرفاهية والرخاء فإن الناس انصرفوا عن العقائد
الدينية وآمنوا بالعلم المادي كإله جديد قادر على أن يذلل لهم كل الصعاب على
هذه الأرض، بل أطمعهم هذا الإله المادي أيضاً في الوصول إلى الكواكب الأخرى
وتسخيرها في خدمة الإنسان وهكذا ساعد اقتران العلم المادي والكشوف الجديدة
بالإلحاد على ظن الناس أن العلم ثمرة ونتيجة للإلحاد، وكان هذا خطأ عظيماً
عمت بسببه موجة الإلحاد.
5- هزيمة العالم الإسلامي أمام الهجمة الأوربية:
ما كاد الأوربيون يمتلكون القوة المادية، ويستخدمون الآلة، ويبنون المصانع
حتى اتجهوا إلى دول العالم بحثاً وراء الأسواق لمنتجاتهم الصناعية، وجلباً
للمواد الخام اللازمة للصناعة. ولما كانت هذه الدول تطمع في الحصول على ما
تريد بأبخس الأثمان أو بلا ثمن أصلاً فإنها استخدمت قوتها العسكرية النامية
للحصول على ما تريد. ولما كان العالم الإسلامي في غاية الضعف العسكري والسياسي،
فإنه لم يصمد طويلاً أمام الهجمة الأوربية الاستعمارية،
وكان للهزيمة العسكرية التي مني بها المسلمون أمام الغزو الأوربي أثرها
البعيد في زلزلة العقائد الإسلامية، وانحسارها أمام المد الإلحادي الذي حمله
المستعمرون الأوربيون، وطفقت الشعوب الإسلامية، تقلد المستعمر الأوربي وتتشبه
بأخلاقه وعاداته، وتدخل في عقيدته الإلحادية ظناً منها أن الأوربيين لم يصلوا
إلى القوة إلا برفضهم للدين، وكانت هذه خطيئة جديدة وسبباً آخر أسهم في
الظاهرة الإلحادية العالمية.
6- الحياة الجديدة ومباهج الحضارة:
فتح العلم المادي للناس أبواباً عظيمة من أبواب الرفاهية والترف ومغريات
الحياة، فالمراكب الفخمة من سيارات وطائرات، وقطارات، ووسائل الاتصال ووسائل
الراحة والتسلية، والمطاعم والمشارب الفاخرة، والألبسة الأنيقة، والتفنن
العجيب في التلذذ بالحياة، والجري وراء الشهوات والمغريات كل هذا فتح على
الناس ألواناً لم يعهدوها من الاستمتاع بالحياة، والانغماس في الشهوات
والملذات.
ولما كان الدين بوجه عام ينهى عن الإسراف ويأمر بالقصد والاعتدال، ويحرم
الاستمتاع بالحرام كالخمر والزنا والتعري فإن الناس الذين يجهلون سر أمر
الدين بذلك ظنوا أن هذه قيوداً على حريتهم، وحجراً لملذاتهم وشهواتهم
فازدادوا لذلك بعداً عن الدين، وكراهية لمن يذكرهم بالآخرة ومن يحذرهم من نار
أو يطمعهم في جنة. وبذلك أيضاً ازدادت غربة العقائد الدينية وانتشرت عقائد
الإلحاد والزندقة.
7- دوامة الحياة:
كان لانطلاق الناس الصارخ نحو العب من الحياة والاستمتاع بكل ما أفرزته
الحضارة الغربية من ملهيات ومغريات، واقتناء كل مستطاع من وسائلها الحديثة
أثره البالغ في انشغال الناس عن كل شيء حتى عن أنفسهم، فضاعف الناس ساعات
عملهم طمعاً في المزيد من الأجور ولتحصيل المزيد من وسائل الراحة كالغسالات
والثلاجات والسيارات، ونحوها، وفي سبيل ذلك أيضاً انطلقت المرأة من المنزل
لتشارك الرجل أعباء الحياة وتكاليفها الجديدة، وللحصول على مزيد من الرفاهية
والراحة، وابتدأ السعار المجنون والرغبة الجامحة نحو اقتناء مغريات الحياة
فتطلب ذلك زيادة في الجد والنشاط وانشغالاً بالليل والنهار، وهكذا بدأت دوامة
الحياة تطحن الإنسان المعاصر وتشغله في ليله ونهاره ولا تترك له فرصة للتفكير
في نفسه أو في مصيره فهو يعمل في متجره أو مصنعه ويعود لملهياته وشهواته ثم
يعود إلى عمله وهكذا دون أن تترك له الحياة المعاصرة وقتاً للفراغ يستطيع فيه
أن يفكر في حقائق الدين، وأن يجيب عن الأسئلة الخالدة التي تتردد داخل كل
نفس: من خلق هذا الكون؟ ومن خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وهل لهذا
العالم نهاية؟ وهل له من بداية؟ ولماذا يعيش الناس متفاوتين فهذا غني وهذا
فقير، وهذا ظالم، وذاك مظلوم، وهذا قاتل، وذاك مقتول؟ وفيم كل هذا؟ بل بقيت
هذه الأسئلة حائرة في أكثر النفوس وبلا جواب وذلك أن الإنسان المعاصر
المستهلك الذي تطحنه دوامة الحياة لا يجد وقتاً للتفكير في كل هذه الأسئلة.
هذه هي الأسباب البارزة لوجود ظاهرة الإلحاد وانتشارها على هذا النحو الذريع
والآن كيف أثرت هذه الظاهرة في حياتنا المعاصرة وما آثارها على التحديد؟
أسباب ظاهرة الإلحاد وطرق علاجها
أولاً: مدخل وتعريف
مدخل:
يعاني العالم المعاصر من مشكلات كثيرة فبالرغم من التقدم المادي الهائل الذي
نعيش فيه والخيرات العظيمة التي وفرها العلم لحياة الإنسان ورفاهيته، إلا
أننا نعيش في ظل مشكلات رهيبة يتولد بعضها عن بعض، ويؤثر بعضها في وجود بعض،
ومن هذه المشكلات القلق النفسي والاضطراب، وانتشار الجريمة، وانعدام الأخلاق
والفردية والأنانية، والظلم بكل معانيه وصوره، والانحلال والفساد، فالفضائح
السياسية والمالية نسمع عنها كل يوم تقريباً، ولا يكاد يخلو بلد من بلدان
العالم من هذه المشكلات، ولم يستطع تقدم الإنسان المادي أن يقضي أن يخفف من
هذه المشكلات بل على العكس من ذلك كلما ارتقت حياة الإنسان المادية كلما ظهرت
وانتشرت هذه المشكلات.
وبالرغم من كثرة هذه المشكلات وتعددها فإن أعظم هذه المشكلات وأكبرها أثراً
في ظهور الفساد والاضطراب والقلق هي مشكلة الإلحاد. فهذه المشكلة في الحقيقة
هي أم المشكلات وسببها جميعاً. فماذا نعني بمشكلة الإلحاد؟ وما سبب هذه
المشكلة التي أصبحت إحدى مظاهر العصر؟ وكيف يعالج الإسلام هذه المشكلة؟ هذا
ما سنناقشه في الصفحات التالية بحول الله.
ماذا نعني بكلمة الإلحاد:
نعني بالإلحاد الكفر بالله والميل عن طريق أهل الإيمان والرشد. وظهور التكذيب
بالبعث والجنة والنار وتكريس الحياة كلها للدنيا فقط والإلحاد اليوم ظاهرة
عالمية فالعالم الغربي في أوربا وأمريكا وإن كان وارثاً في الظاهر للعقيدة
النصرانية التي تؤمن بالبعث والجنة والنار إلا أنه ترك هذه العقيدة الآن
وأصبح إيمان الناس هناك بالحياة الدنيا فقط وأصبحت الكنيسة مجرد تراث وأثر من
آثار الماضي، ولا تشكل في حياة الناس وعقولهم إلا شيئاً تافهاً جداً وقد أصبح
(الإلحاد) هو الدين الرسمي المنصوص عليه في كل دساتير البلدان الأوربية
والأمريكية ويعبر عن ذلك (بالعلمانية) تارة، و (اللادينية) تارة أخرى وكل ذلك
يعني الإلحاد والكفر بالله.
وفي الشرق تقوم أكبر دولة على الإلحاد وهي الدولة الروسية التي تحمل العقيدة
الشيوعية التي من بنودها رفض الغيب كله والقول بأن الحياة مادة فقط وأن صراع
الإنسان في هذه الحياة إنما هو من أجل العيش والبقاء فقط، وأما الدول الأخرى
فبالرغم من أنه كان ينتشر فيها أديان تقوم على بعض العقائد الغيبية
كالهندوكية والبوذية والكونفشيوسية إلا أن هذه الأديان اختفت الآن تقريباً
أمام مد الإلحاد الغربي والحياة العصرية.
وبالرغم من أن العالم الإسلامي ما زال يتمسك نوعاً ما بالإسلام ويقر بالتوحيد
ويؤمن بالبعث والجنة والنار إلا أن موجة الإلحاد العارمة تطغى عليه من كل
جانب، وتشكك أبناءه في دينهم وعقيدتهم ويحسن بنا ونحن نجابه هذه المشكلة أن
نبحث بحثاً موضوعياً علمياً في أسباب هذه المشكلة وكيفية علاجها.
ثانياً: أسباب مشكلة الإلحاد
منذ مائتي عام فقط لم تكن مشكلة الإلحاد بهذه الحدة والانتشار ولكن في
القرنين الأخيرين ظهرت عوامل كثيرة جعلت من الإلحاد والكفر بالله ديناً عاماً
منتشراً، ونستطيع أن نجمل أهم الأسباب في انتشار الإلحاد فيما يلي:
1- الكنيسة الأوروبية:
لقد كانت الكنيسة الأوروبية سبباً غير مباشر أحياناً وسبباً مباشراً أحياناً
أخرى في نشر الإلحاد والزندقة والكفر الكامل بوجود الله وذلك لأن القائمين
على هذه الكنيسة من الرهبان والقساوسة أدخلوا في دينهم كثيراً من الخرافات
والخزعبلات، وجعلوها عقائد دينية، كرفعهم عيسى عليه السلام من مرتبة البشرية
إلى الألوهية وظهور فكرة الخطيئة والصلب والخلاص وأضافوا إلى ذلك كثيراً من
الخرافات الدارجة عن الأرض والكون والحياة، وعندما بدأ عصر النهضة الأوربية
واكتشف بعض العلماء حقائق جديدة عن الأرض والكون والحياة هب الرهبان
والقساوسة ينكرون ذلك، ويتهمون من يعتقد بالحقائق الجديدة ويصدق بها بالكفر
والزندقة ويوعزون إلى السلطات الحاكمة بقتلهم وحرقهم بالنار، ولقد لقي كثير
من العلماء هذا المصير المؤلم جزاء مخالفتهم لآراء الكنيسة.. ولكن حركة العلم
لم تتوقف واستطاع العلماء أن يقدموا كل يوم براهين جديدة على نظرياتهم
العلمية وابتدأت آراء الكنيسة ومعتقداتها تهزم كل يوم هزيمة جديدة وكانت
الجولة في النهاية لعلماء المادة على رجال الكهنوت فاندفع الناس نحو الإيمان
بالعلم المادي كإله جديد سيحمل الرخاء والقوة والرفاهية للناس، وفتش الناس
أسرار الكنيسة فهالهم ما رأوه من فساد أخلاقي بين الرهبان والراهبات وأرادوا
التخلص إلى غير رجعة من السلطان الكهنوتي والقهر الزمني الذي مارسته الكنيسة
ضدهم ومن الإتاوات والضرائب التي فرضتها الكنيسة على رقابهم فكان الرفض
الكامل لكل المعتقدات الدينية والكراهية العامة لكل عقيدة تنادي بالإيمان
بالغيب واتهام الرسل جميعاً بالكذب والتدليس وهكذا برزت الموجة الأولى من
موجات الإلحاد العالمي.
2- مظالم العالم الرأسمالي:
ما كادت أوربا تتخلص جزئياً من سلطان الكنيسة ويكتشف الناس قوة البخار والآلة
حتى تحول الناس من الزراعة إلى الصناعة، وهرع أهل الإقطاع إلى التصنيع
فامتلكوا المصانع الكبيرة وحازوا الثروات الضخمة واستغلوا العمال استغلالاً
فاحشاً وانتشرت المظالم الهائلة وظهرت الطبقات المتفاوتة من رأسماليين جشعين
إلى عمال فقراء مظلومين، وكان رؤية هذا الظلم الجديد، ومساندة رجال الدين أو
سكوتهم عنه سبباً جديداً في انتشار الإلحاد والشك في وجود الله، واتهام الدين
بمساندة الظلم أو عجزة عن تقديم حل ناجح لمشكلات الإنسان على الأرض وابتدأت
العقائد الدينية تنحسر انحساراً جديداً عن حياة الناس وابتدأ الناس يعملون
أفكارهم في خلق عقائد تستطيع أن تحل مشكلاتهم على الأرض، وتقنع عقولهم وعجزت
الكنيسة الأوروبية أيضاً عن تقديم هذا العلاج للناس.
3- ظهور المذاهب الاقتصادية الالحادية:
كان العامل الثالث الذي ساعد على انتشار موجة الإلحاد هو ظهور المذاهب
الاقتصادية الإلحادية وخاصة الشيوعية التي بشر بها كارل ماركس (اليهودي
الألماني الذي تنصر والده) فبالرغم من أن هذا المذهب ينطلق من منطلق اقتصادي
ويستهدف حسب إعلان المبشرين به معالجة المظالم الرأسمالية الفردية والسيطرة
على مجتمع اشتراكي يعمل فيه كل إنسان حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته فقط، إلا أن
القائمين على هذا المذهب الاقتصادي صبغوه بالصبغة العقائدية وأعطوه أبعاداً
أخرى غير اقتصادية فزعموا أن الحياة التي يعيشها الناس حياة مادية فقط وأنه
لا يوجد روح ولا بعث ولا إله، ولا حياة أخرى وأن الناس منذ وجدوا لا هم لهم
إلا المصالح المادية وزعموا أن ظهور الأديان إنما كان من فعل الأغنياء
ليلبسوا على الفقراء ويستغلوهم وأن الأخلاق كالأمانة والعفة والصدق ما هي إلا
نتاج خبيث للفكر الديني الذي يريد أن يخدم المصالح الرأسمالية، واعتقد
الشيوعيون لذلك أن الأنبياء ما كانوا إلا دجالين أرادوا بنشر أديانهم تخدير
الشعوب لتستنيم للظلم والقهر وبهذا أصبح هذا المذهب الاقتصادي بفلسفته التي
أطلقها على الأديان موجة جديدة من موجات الإلحاد والزندقة. ولعل هذه الموجة
الجديدة التي جاءت بها الشيوعية كانت أعتى موجات الإلحاد جميعاً وذلك أن
الشيوعية تبنت الدفاع عن المظلومين والفقراء وهذه قضية عادلة وإنسانية في
ذاتها ولذلك تبنى هؤلاء الفقراء والمظلومون وهم أغلبية الناس دائماً هذه
العقيدة الجديدة والدين الجديد لأنه يدافع عن مصالحهم ويتبنى قضاياهم وبالطبع
أخذوا هذا الدين بفلسفته العقائدية وليس بفكره الاقتصادي فقط.
وهكذا انتشر الإلحاد سريعاً مع هذا المذهب الاقتصادي الجديد وكان النجاح
الهائل الذي لاقته الدعوة الشيوعية بتفجير الثورة البلشفية في روسيا
والاستيلاء على الحكم عاملاً كاسحاً في هدم الأديان ونشر الإلحاد وانتقاله
ليصبح عقيدة عالمية.
ولما كانت الدعوة الشيوعية ترى أن نهاية العالم الحتمية إلى الشيوعية وتدعو
لذلك بل تنتهج الثورة والعنف الدموي سبيلاً إلى نشر الشيوعية فإنه سرعان ما
تأجج العالم من أقصاه إلى أقصاه بالثورات التي أججتها هذه العقيدة وابتدأت
التحولات القسرية لشعوب بأجمعها نحو الإلحاد كما حدث في الجمهوريات الإسلامية
في روسيا وكذلك في الصين وغيرها وما زال المد الإلحادي الذي تؤججه العقيدة
الماركسية يمتد عبر بلدان العالم جميعها. وها هي البلدان العربية التي كانت
معقلاً للإسلام تغزوها العقيدة الماركسية الإلحادية في عقر دارها.
4- اقتران الإلحادية بالقوة المادية:
السبب الرابع الذي شجع الناس على الكفر بالله والانطلاق نحو الإلحاد الكامل
هو اقتران القوة المادية بالإلحاد، وذلك أن الناس رأوا أن أوربا لم تتقدم
وتمتك القوى المادية وتكتشف أسرار الحياة إلا بعد أن تركت أفكار الكنيسة
وعقائدها. وأن دولة كروسيا لم تصبح دولة عظمى إلا بعد أن أعلنت أنها دولة
إلحادية، ورأوا مع ذلك أن الدول التي ما زالت تتمسك بالدين دولاً متخلفة في
القوة والصناعات فظن الناس لذلك أن الإلحاد سبب للقوة والعلم، وأن الدين يعني
التخلف والجهل، ولما كان للعلم المادي آثاره الظاهرة والباهرة من تيسير حياة
الإنسان على ظهر الأرض ونشر الرفاهية والرخاء فإن الناس انصرفوا عن العقائد
الدينية وآمنوا بالعلم المادي كإله جديد قادر على أن يذلل لهم كل الصعاب على
هذه الأرض، بل أطمعهم هذا الإله المادي أيضاً في الوصول إلى الكواكب الأخرى
وتسخيرها في خدمة الإنسان وهكذا ساعد اقتران العلم المادي والكشوف الجديدة
بالإلحاد على ظن الناس أن العلم ثمرة ونتيجة للإلحاد، وكان هذا خطأ عظيماً
عمت بسببه موجة الإلحاد.
5- هزيمة العالم الإسلامي أمام الهجمة الأوربية:
ما كاد الأوربيون يمتلكون القوة المادية، ويستخدمون الآلة، ويبنون المصانع
حتى اتجهوا إلى دول العالم بحثاً وراء الأسواق لمنتجاتهم الصناعية، وجلباً
للمواد الخام اللازمة للصناعة. ولما كانت هذه الدول تطمع في الحصول على ما
تريد بأبخس الأثمان أو بلا ثمن أصلاً فإنها استخدمت قوتها العسكرية النامية
للحصول على ما تريد. ولما كان العالم الإسلامي في غاية الضعف العسكري والسياسي،
فإنه لم يصمد طويلاً أمام الهجمة الأوربية الاستعمارية،
وكان للهزيمة العسكرية التي مني بها المسلمون أمام الغزو الأوربي أثرها
البعيد في زلزلة العقائد الإسلامية، وانحسارها أمام المد الإلحادي الذي حمله
المستعمرون الأوربيون، وطفقت الشعوب الإسلامية، تقلد المستعمر الأوربي وتتشبه
بأخلاقه وعاداته، وتدخل في عقيدته الإلحادية ظناً منها أن الأوربيين لم يصلوا
إلى القوة إلا برفضهم للدين، وكانت هذه خطيئة جديدة وسبباً آخر أسهم في
الظاهرة الإلحادية العالمية.
6- الحياة الجديدة ومباهج الحضارة:
فتح العلم المادي للناس أبواباً عظيمة من أبواب الرفاهية والترف ومغريات
الحياة، فالمراكب الفخمة من سيارات وطائرات، وقطارات، ووسائل الاتصال ووسائل
الراحة والتسلية، والمطاعم والمشارب الفاخرة، والألبسة الأنيقة، والتفنن
العجيب في التلذذ بالحياة، والجري وراء الشهوات والمغريات كل هذا فتح على
الناس ألواناً لم يعهدوها من الاستمتاع بالحياة، والانغماس في الشهوات
والملذات.
ولما كان الدين بوجه عام ينهى عن الإسراف ويأمر بالقصد والاعتدال، ويحرم
الاستمتاع بالحرام كالخمر والزنا والتعري فإن الناس الذين يجهلون سر أمر
الدين بذلك ظنوا أن هذه قيوداً على حريتهم، وحجراً لملذاتهم وشهواتهم
فازدادوا لذلك بعداً عن الدين، وكراهية لمن يذكرهم بالآخرة ومن يحذرهم من نار
أو يطمعهم في جنة. وبذلك أيضاً ازدادت غربة العقائد الدينية وانتشرت عقائد
الإلحاد والزندقة.
7- دوامة الحياة:
كان لانطلاق الناس الصارخ نحو العب من الحياة والاستمتاع بكل ما أفرزته
الحضارة الغربية من ملهيات ومغريات، واقتناء كل مستطاع من وسائلها الحديثة
أثره البالغ في انشغال الناس عن كل شيء حتى عن أنفسهم، فضاعف الناس ساعات
عملهم طمعاً في المزيد من الأجور ولتحصيل المزيد من وسائل الراحة كالغسالات
والثلاجات والسيارات، ونحوها، وفي سبيل ذلك أيضاً انطلقت المرأة من المنزل
لتشارك الرجل أعباء الحياة وتكاليفها الجديدة، وللحصول على مزيد من الرفاهية
والراحة، وابتدأ السعار المجنون والرغبة الجامحة نحو اقتناء مغريات الحياة
فتطلب ذلك زيادة في الجد والنشاط وانشغالاً بالليل والنهار، وهكذا بدأت دوامة
الحياة تطحن الإنسان المعاصر وتشغله في ليله ونهاره ولا تترك له فرصة للتفكير
في نفسه أو في مصيره فهو يعمل في متجره أو مصنعه ويعود لملهياته وشهواته ثم
يعود إلى عمله وهكذا دون أن تترك له الحياة المعاصرة وقتاً للفراغ يستطيع فيه
أن يفكر في حقائق الدين، وأن يجيب عن الأسئلة الخالدة التي تتردد داخل كل
نفس: من خلق هذا الكون؟ ومن خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وهل لهذا
العالم نهاية؟ وهل له من بداية؟ ولماذا يعيش الناس متفاوتين فهذا غني وهذا
فقير، وهذا ظالم، وذاك مظلوم، وهذا قاتل، وذاك مقتول؟ وفيم كل هذا؟ بل بقيت
هذه الأسئلة حائرة في أكثر النفوس وبلا جواب وذلك أن الإنسان المعاصر
المستهلك الذي تطحنه دوامة الحياة لا يجد وقتاً للتفكير في كل هذه الأسئلة.
هذه هي الأسباب البارزة لوجود ظاهرة الإلحاد وانتشارها على هذا النحو الذريع
والآن كيف أثرت هذه الظاهرة في حياتنا المعاصرة وما آثارها على التحديد؟
تعليق