المرابط ولد محمد لخديم
رئيس الحمعية الوطنية للتأليف والنشر
موريتانيا
لقد تقدم في منتدي الاسلام العام الجزء الأول من هذه السلسلة وفي هذا المنتدي سنواصل بحول الله عرض باقي السلسلة..
خلق الله الإنسان بيديه في أحسن تقويم، ثم نفخ فيه من روحه، وخصه بقسمات وطبائع خاصة به، وسوى بنانه وأفرده ببصمة لا يشاركه فيها أحد لتكون بمثابة توقيعه، ووهبه العقل ميزه به عن سائر مخلوقاته، وأمره بإعماله في الكشف عن قوانين الكون المسخر له، وهداه النجدين وخيره أن يسلك أحدهما بمحض اختياره، وحمله المسؤولية أمانة أبت السماوات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها, وحملها الإنسان شفقة واعتدادا. فأسجد الله له ملائكته تقديرا وإكبارا وحسن ظن به، في أنه سوف يحسن اختيار طريق الخير بكدحه وجهده ومعاناته رغم قدرته على اختيار طريق الشر.
ثم جعل منه الذكر والأنثى، وسيلة لحفظ نسله ونمائه، وجعل من آياته فيه اختلاف ألسنته وألوانه، وجعل منه شعوبا وقبائل وأمما وحضارات، تتدافع وتتخاصم ثم تتناحر وتتعارف وتتفاهم، وعد ذلك الاختلاف ضرورة لتطور الإنسانية ونموها وتلاقح الثقافات وارتقائها.
(والإنسان بفطرته طلعة لا يقتنع من الحياة بمظاهر أشكالها وألوانها كما تنقلها إليه حواسه أو كما ينفعل بها شعوره، بل يتناولها بعقله، وينفذ إليها ببصيرته ليعرف حقيقة كل شيء.!!. من أين جاء؟ وكيف صار؟ وإلا ما ينتهي؟.
وهو في إشباع رغبته تلك لا يدخر وسعا من ذكاء أو جهاد حتى يبلغ من ذلك ما يطمئن إليه عقله وتستريح به نفسه. وكذلك كان شان الإنسان في بحثه عن الله، الحقيقة الكبرى التي هي مصدر وجود هذا العالم واليها مصائر أموره.. فلقد أكثر من التطلع إليها والبحث عنها حتى تفرقت به السبل واختلفت فيها مذاهبه، إذ لا شك أن هذه النظرات المتطلعة إلى تلك الحقيقة الكبرى قد أخذت ولا تزال تأخذ صورا وأشكالا متعددة متباينة، تختلف باختلاف الناس واستعدادهم الفكري وما يحيط بهم من ظروف الحياة وأحوالها. فلكل وجهته التي هو موليها، ولكل مبلغه من العلم وحظه من التوفيق.
فبينما يصل إليها بعضهم عن طريق النظر في ملكوت السموات والأرض على اختلاف في مجال هذا النظر عمقا وامتدادا، إذ يصل إليها بعضهم الآخر عن طريق العاطفة المجردة عن الإدراك، الواقعة تحت تأثير الوراثة أو السماع والتي لا تكاد تلامس الفكر أو تثيره. وبين هؤلاء وهؤلاء طوائف وطوائف تقطع الطريق إلى تلك الحقيقة في مراحل متعددة تخلط بين العاطفة والفكر بنسب وأقدار متباينة.
ومن هنا نستطيع أن نقول أن لكل إنسان تصورا خاصا لإلهه الذي يعبده والذي ينزل من نفسه المنزلة التي هداه إليها عقله أو قلبه، احدهما أو كلاهما، وبالقدر الذي تكشف له من الحقيقة، وعلى الصورة التي تمثلت في خاطره.
ولذا تعددت الآلهة وتفرقت بالناس مذاهب الرأي فيها، فكان لكل امة ربها، ولكل جماعة دينها، ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ (64) ولا نريد أن نبحث في تاريخ الأديان بعيدها وقريبها، ولا أن نستقصي تعدد المعبودات والبواعث التي دعت إليها، والصور والأشكال التي ظهرت فيها، ولا أن نتحدث عن فكرة التوحيد أو التعدد فذلك ما لا سبيل إليه في هذا المقام، وإنما نريد أن نقول إن صورة الإله أو الآلهة التي عبدها الناس منذ كانوا إنما كانت وليدة اقتناع وإيمان أيا كان حظهما من العمق، ومداهما من الصدق.
فعابد النار أو الحجر أو الحيوان أو الشمس أو القمر إنما عبد معبوداته تلك بعد أن ملكت عليه زمام نفسه، وأخذت بمجاميع قلبه، وتمثلت له قوة خارقة لا حد لها، إليها مصائر أموره، وعليها مدار ضره ونفعه، فآمن بها واستسلم لها ووجه إليها وجهه وقلبه وعقله. وسواء أكان هذا الإيمان منبعثا من أعماق النفس أم ملقى إليها من طريق الإيحاء والإغراء، فهو على أية حال إيمان ملك النفس وخالط المشاعر، وبغير هذا لا يكون إيمانا ولا يسمى دينا. وانه إذا لم يبلغ هذا الحد فستظل نفس الإنسان فارغة خواء، وسيظل الإنسان قلقا مضطربا حتى يقع على الإله الذي يسكن إليه قلبه ويطمئن به وجدانه..
ويعتبرالدين من أقوى النظم الاجتماعية التي عرفتها المجتمعات البشرية منذ بدء الخليقة… ولئن اختلف العلماء في تحديداتهم لماهيته.وتضاربت آراؤهم حول تحديد مصادره.. أو سبب وجوده .. فإنهم لا يختلفون على أنه موجود كظاهرة اجتماعية صاحبت الإنسان في جميع أطواره الثقافية عبر التاريخ.وان له علاقة تأثير وتأثر بمعظم النظم الاجتماعية السائدة في المجتمع لعلاقته بالإنسان وارتباطه بصميم الواقع الاجتماعي.
وتقوم أي ديانة أو عقيدة على أسس معينة وقد تسمى هذه الأسس مثلا(الكتاب المقدس أو الأناجيل، أو حتى مؤلفات ماركس وانجلز ولنين، بحيث تحدد تلك الأسس طبيعة الهيكل المقام عليها ولا بد أن تكون هذه الأسس قادرة على تحمل البناء المقام عليها، فهي أسس ثابتة تم وضعها ورسوخها ولا مجال لتغييرها.
ينطبق هذا على الإسلام أيضا، فقد قام صرحه على أسس ثابتة راسخة، لا تغير فيها ألا وهي القرآن والسنة.
بعد هذا تتفق الأديان والعقائد (الإيديولوجيات) الفكرية، في أن نموها الحقيقي رهن بمجابهتها لمختلف التحديات، الموجودة في كل بيئة ومكان، وفي كل زمان.
هذه المجابهة ينتج عنها بنيات فكرية متراكمة، أو مدارس ومذاهب معقدة، بحيث لا يمكن تفادي تراكبها المتزايد، إلا أن يأتي عليها حين من الدهر، تستقل فيه بطابع مستقر الملامح، هو الطابع التقليدي، أو لكلاسيكي أو الارثودكسي. ثم تغدوا هذه التقليدية أو لكلاسيكية المثل الأعلى الذي يحتذيه المؤمن البسيط والشيوعي الساذج، وذلك لعجزهما عن الاجتهاد واتخاذ حكم خاص نابع منهما، نظرا لتشابك الفروع وتشابه الأمور وتشاكلها، وتعقد البنية الفكرية للعقيدة أو المذهب.
في مثل هذه المرحلة يتبدى سلطان الفقهاء، والقساوسة والخبراء، ويمسى القول في العقائد والمذاهب حكرا عليهم.
هذه الحتمية التاريخية جعلت الأديان والإيديولوجيات كذلك متفقة على ضرورة العودة إلى الدين كما انزل أصلا، أو إلى محاولة رؤية جديدة الأصول إيديولوجياتها أو عقائدها الفكرية، آملة أن تستطيع إزاحة الرواسب والتراكمات التي ليست من الدين أو العقيدة في شيء، والتي ألصقها الإنسان باختلاف الزمان والمكان بالأديان، هادفا إلى التعرف على المشاكل المعاصرة، والتعامل معها، من خلال تشخيصها ورؤيتها رؤية حديثة.
من هنا، تعددت الرؤى الإصلاحية: فاتخذ البعض البروتستانتية أو الإنجيلية بدلا من الكاثوليكية، وحاول البعض تبني وتطبيق فلسفة ماركس المفكر، ولجأ البعض إلى (تعصير) توماس مبستر، ولم يتورع البعض الآخر عن خلقة صورة غريبة للمسيح، تحفل بعناصر وملامح من هنا وهناك، مثلما فعل فرانس ألت(66)
والآن لنعالج الموضوع بشعور من الإجلال، لا تحده الحدود الدقيقة التي تفرضها العقائد الدينية، أو الحقائق العلمية بشان سبب العقائد الدينية ومصدرها، ولنتصور لأنفسنا الدين المعترف عليه والذي يقوم على أسس قادرة على حمل البناء المقام عليها ولا مجال لتغييرها. وبذا يمكننا أن نحكم، وأمامنا الموضوع كاملا. وبهذه الطريقة يمكننا أن نعلم أي من هذه العقائد يحمل هذه المواصفات ? ويفسر لنا ما عجز عنه الإنسان!.
إن المتناول لتاريخ الأديان يصطدم دائما بمصطلح يطلق عليه (الأصولية) ويختلف تعريفها من دين إلى آخر ففي حين يُعرفها متحرري اليهود من (الليبراليين) الكاثوليك السلفيين، والمسيحيين المطالبين باتخاذ آراء ليففر(67) بأنها تعصير الدين كي يتفق ومتطلبات العصر الحديث. يرى البعض الآخر أنها إحياء الدين بالرجوع إلى مصادره الأولى وهذا يمكن أن يحدث في سبيل أصولية عاقلة، تستند إلى الوحي أساسا لها، متفهمة مغزى الوحي والغاية منه، بهدف التكيف معه في العصر الحديث، أو في سبيل صحوة أصولية في مجال الأدب الملتزم، الذي يدور بالدرجة الأولى حول العودة إلى الكلمة وحدها، آخذا إياها مأخذ الجد كما أسلفنا.
أما الاتجاه الأول، فيريد العودة إلى المصادر الأولى للعقيدة، دون التقيد بمنهجية محددة، وأما الاتجاه الثاني، فيريد الاقتصار على النص الحرفي للمصادر، فالاتجاه الأول يريد التأويل أو التفسير الجديد للمصادر الأولى، وهذا عينه ما يرفضه الاتجاه الثاني رفضا قاطعا. هذان الضربان من الأصولية، موجودان في الإسلام على أن المصطلح (Fundamentalism) بالانجليزية ليس له مطابق في العربية لأنه مصطلح منحوت من أصل غربي لكي يطلق على ظاهرة (غربية)، وإذا عدنا إلى أصول الكلمة أدبيا فإننا نرى انه استعمل أول الأمر لتميز الأمريكيين البروتستانت في القرن 19 الذين أكدوا على عصمة الإنجيل خاصة في قصة الخلق حيث رفضوا النظرية "الفجة" التي تطورت عن نظرية دارويين في النشوء والارتقاء.
ونفس المفهوم نجده عند القائلين من اليهود بالعصمة الحرفية المطلقة لتوراتهم ومنهم الحاخام شنيرزومس في نيويورك وقومه من يهود (بيت المقدس) التابعين لحركة لباويت الدينية).
بهذا يتبين أن الأصولية لا توجد في الإسلام وحده، وإنما في الديانات الأخرى. أما عن تعريف الأصولية في الإسلام: فهي عبارة عن موقف فكري ورؤية عالمية بالمعنى البعيد ترى الالتزام بالإسلام كما كان في أول عهده، وكما عرفه السلف الصالح من الصحابة منطلقا ومثالا يحتذي يه، في صياغة المعايير والقيم وقواعد السلوك والمعاملات، في عملية بناء الحضارة.
لقد صيغ المذهب الفقهي لابن حنبل الإسلام كما يعرفه السنيون، مع الأخذ بالانتقادات الفلسفية التي قال بها الاشاعرة، من القرن العاشر الميلادي فظهر تأثير الأصولية البالغ، والذي كان يلح، فيما يبدوا، على المعنى الظاهر الحرفي للكلمة فحسب.
ولقد قام بإحياء الإسلام الإمام أحمد بن حنبل وبعده كل من:الشيخ ولي الله (توفي 1763) ومحمد بن عبد الوهاب ( المتوفي عام1787) وهو مؤسس ال*****ة السعودية، والسنوسي والحركة السنوسية الليبية في الثلاثينيات، والإخوان المسلمون في مصر، والجماعة الإسلامية الباكستانية وقد اتهم مثقفو الأصوليين آنذاك بما يتهمون يه اليوم أيضا, بأنهم سذج، متأخرون وأغبياء، وذلك لاستمساكهم بالظاهر الحرفي للنصوص، علما بان وسائلهم في الدرس والتحليل والاستنتاج ومعالجة النصوص، تتفق وأفضل نتائج فلسفة اللغة التحليلية للمعاصرين في أوطانهم.
وبينما ألحت الدراسات النقدية العلمية للعهد الجديد على اتهام موثوقية نصوصه، ومن ثم شجعت على عدم الاعتقاد في المسيحية، أدت دراسات المستشرقين النقدية العلمية الدقيقة الممحصة للقرآن إلى الإقرار الكامل بموثوقية النص القرآني، وإحكامه التام، وانسجامه المذهل مع الثابت من نتائج أبحاث العلوم الطبيعية والكونية، وزادت تلك الموثوقية تثبيتا ورسوخا.. فما هو الدليل على ذالك؟
للإجابة على هذا السؤال يجدر بنا أن نعرض لنظرية جديدة في علم النفس التربوي بالإضافة إلى الطرق الفكرية المعروفة: الطريقة العلمية والعقلية..لتقوية الاستدلال؛
تقول هذه النظرية: إن الكلام مرآة لنفسية المتكلم بمعنى أن الإنسان كلما أفاض في الكلام وتحدث تتجلى مظاهر نفسيته وخصائصها في كلامه. ومنذ القديم والناس يقولون الكلام صفة المتكلم، ومصداقا لهذا نجد أن المحققين لما يباشروا التحقيق مع المتهمين يسألونهم عن حياتهم، عن ظروف معاشهم، عن هوياتهم، عن أعمالهم، من اجل استدراجهم للمزيد من الكلام. ليتبينوا خصائص نفسياتهم، مع العلم أن الأساليب تختلف ما بين متكلم وآخر ولا يستطيع احد أن يتخلى عن أسلوبه ليتبنى أسلوب أخيه أو زميله أو صاحبه لماذا؟ لأن هناك إلى جانب الجانب الجامع المشترك وهو لإنسانية, خصائص نفسية أخرى, لي خصوصيتي.. النفسية، الأخلاقية، المزاجية، الجدلية، ولك خصائصك النفسية ومن ثم تختلف الأساليب فلا يستطيع زيد أن يقلد أسلوب عمر أبدا ولا يستطيع خالد أن يقلد أسلوب علي إن كانا في عصر واحد أو في غير عصر هذا إلى جانب أنهما يلتقيان في جانب مشترك وهو الطبيعة الإنسانية(69).
ثانيا: الطريقة العقلية
وتعرف بأنها منهج معين للبحث يسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه، عن طريق نقل الحس بالواقع، بواسطة الحواس، إلى الدماغ، ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع، فيصدر حكمه عليه وهذا الحكم هو الفكر، أو الإدراك العقلي. وتكون في بحث المواد المحسوسة كالكيمياء والفيزياء، وفي بحث الأفكار كبحث العقائد والتشريع، وفي فهم الكلام، كبحث الأدب والفقه. وهذه الطريقة هي الطريقة الطبيعية في الوصول الإدراك العقلي من حيث هو، وعمليتُها هي التي يتكون بها عقل الأشياء أي إدراكها، وهي نفسها تعريف للعقل، وعلى منهجها يصل الإنسان من حيث هو إنسان إلى إدراك أي شيء، سبق أن أدركه أو يريد أن يدركه والنتيجة التي يصل إليها الباحثُ على الطريقة العقلية ينظر فيها, فان كانت هذه النتيجة هي الحكم على وجود الشيء فهي قطعية لا يمكن أن يتسرب الخطأ إليها مطلقا ولا مجال من الأحوال. وذلك لأن هذا الحكم جاء عن طريق الإحساس بالواقع، والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع، إذ أن إحساس الحواس بوجود الواقع قطعي، فالحكم الذي يصدره العقل عن وجود الواقع في هذه الطريقة قطعي.
أما إن كانت النتيجة هي الحكم على حقيقة الشيء أو صفته فإنها تكون نتيجة ظنية فيها قابلية الخطأ لأن هذا الحكم جاء عن طريق المعلومات, أو تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات، وهذه يمكن أن يتسرب إليها الخطأ ولكن تبقى فكرا صائبا حتى يتبين خطؤها. وحينئذ فقط, يحكم عليها بالخطأ ولهذا فان الأفكار التي يتوصلُ اليها العقل بطريقة التفكير العقلية ان كانت مما يتعلق بوجود الشيء, كالعقائد, مثلا وجود الله, والقرآن الكريم من عند الله, ومحمد رسول الله الخ…فإنها أفكار قطعية.
وان كانت مما يتعلق بالحكم علي الشيء وصفته كالأحكام الشرعية فإنها أفكار ظنية, أي غَلبَ على الظن أن الشيء الفلاني حكمه كذا, وهذا الحادث المعين حكمه كذا, فهي صواب يحتمل الخطأ ولكنه يبقى صوابا حتى يتبين خطؤه. والطريقة العقلية لا بد لها من توفر أربعة عوامل هي:
1)- الواقع 2)- الإحساس 3)- الدماغ 4)- معلومات سابقة.
وسنعرض لهذه العوامل بشيء من التفاصيل.
فمثلا: لو سئلت عزيزي القارئ عن معنى كلمة (وضيمة) لوقفت متحيرا مرتبكا بماذا تجيب؟ وقلت أخير لا ادري، مع أن كلمة وضيمة هي الواقع الذي وقع تحت طائلة سمعك وسُميتٌ واقعا لأنها وقَعتٌ عليها إحدى الحواس الخمس وكل شيء يقع تحت طائلة احدى الحواس الخمسيسمى واقعا، وكلمة وضيمة التي هي الواقعُ وقعت تحت السمع ُنقلتٌ فورا بواسطة السمع إلى الدماغ فانطبعتٌ فيه ومُيزتٌ عنٌ سواهَا من الانطباعات، نتيجة لهذه العملية التي جمعت العوامل السابقة وهي:
1ـ الواقع: الذي هو كلمة "وضيمة"
2ـ الإحساس بالواقع: ألا وهو السمع
3ـ الدماغ الذي يميزُ الانطباعات.
وتكون العملية الفكرية قد احتاجت إلى العامل الرابع ألا وهو المعلومات السابقة. لذلك لم يتوفر عند صاحبها حكم واضح على الواقع ـ أي: عن معنى كلمة وضيمة.
(ونفس الشيء يطلق على الكلام الذي لا تتوفر عنه معلومات سابقة) مع انك أيها القارئ لو سئلت عن معنى كلمة "وليمة" لأجبت على الفور: دعوة إلى الطعام، لماذا أجبت بهذه السرعة؟ لأنه متوفر لديك العوامل الأربعة، ألا وهي:
1ـ الواقع: معنى وليمة
2ـ الإحساس: الذي نقل هذا الواقع إلى الدماغ.
3ـ الدماغ: الذي ميز انطباع هذا الواقع
4ـ المعلومات السابقة: التي رُبطتٌ بالعوامل الثلاثة, ونتيجة لهذه العملية الفكرية كان الحكم على الواقع واضحا، وكذلك عندما يقال لك أن كلمة وضيمة تعني: دعوة إلى الطعام في حالة الأتراح (الأحزان) ووليمة تعني دعوة إلى الطعام في حالة الأفراح.
والسؤال الذي يطرح نفسه ما هي هذه المعلومات السابقة؟ وما هو مقياسها؟ وما هو الدليل على صحتها؟
والجواب يكمن في: أن الفكر مؤلف من أربعة عوامل منها عاملان من تكوين الإنسان هما الحواس الخمسة أولا، والدماغ ثانيا. وعاملان خارجان عن تكوينه هما حقيقة الواقع، أولا ، وحالته واسمه، ثانيا.
فبالإمكان نقل معلومات مشوهة وملفقة عن حالة الواقع واسمه كما بينا آنفا في حالة جمع الأديان في سلة واحدة. وكمثل أن يقال لك: إن المطار ضرب فتذهب لتتأكد فترى أن المطار مازال سليما. فإن حقيقة الواقع الموجود نفت التشويه والتلفيق والتضليل، فمقياس المعلومات السابقة والدليل على صحتها أو كذبها يكون حقيقة الواقع الموجود.
وبناء على هذا يكون ما تعني هذه اللفظة، وما طعم هذه الفاكهة، وما ينفع أو يضر هذا المركب، وما اسم هذا الشيء، هذه هي المعلومات السابقة التي تعطى مسبقا للإنسان ليربطها، فالعبرة ليست بإعطائها فقط بل العبرة بإعطائها وربطها معا لإنتاج الفكر، لان التدريب على الربط منذ الصغر هو الذي يربط العوامل الأربعة التي هي الواقع، والإحساس بالواقع، والدماغ المميز، والمعلومات السابقة، فيوجد الفكر أي الحكم على الواقع، إلا أن هذه المعلومات إذا كانت صحيحة كان الحكم على الواقع صحيحا وان كانت كاذبة كان الحكم كاذبا والمقياس على ذلك هو حقيقة الواقع الموجود.
ثالثا: الطريقة العلمية
هي منهج معين في البحث، يسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه. عن طريق إجراء تجارب على الشيء، ولا تكون إلا في بحث المواد المحسوسة، ولا يتأتى وجودها في بحث الأفكار، ولا تكون إلا بإخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة المادة والظروف والعوامل الأصلية التي أخضعت لها، ثم يستنتج من هذه العملية على المادة حقيقة مادية ملموسة، كما هي الحال في المختبرات. وتفرض هذه الطريقة التخلي عن جميع الآراء السابقة عن الشيء الذي يبحث، ثم يبدأ بملاحظة المادة وتجربتها، لأنها تقتضي, أن يمحو الباحث من رأسه كل رأي، وكل إيمان سابق في هذا البحث، وأن يبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية، فإذا وصل إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية أي حقيقة علمية خاضعة للبحث والتمحيص، ولكنها تظل حقيقة علمية، ما لم يثبت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها.
وبناء على هذا التعريف للطريقةالعلمية، والطريقة العقلية، تكون الطريقة العقلية هي الطريقة الوحيدة التي يجري عليها الإنسان من حيث هو إنسان في تفكيره وحكمه على الأشياء وإدراكه لحقيقتها وصفاتها.
وتأسيسا على هذه الطرق سنحاول تطبيقها على الإسلام لأنه من بين جميع الديانات والفلسفات والثقافات الذي يطالب بالبرهان نقرأ في قوله تعالي ﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾(368) وقوله جل وعلا﴿ قل هذه سيبلى أدعوا إلى الله على بصيرة ﴾ (369) . وهذا الخطاب القرآني يبين أن عقائده مبرهنة فهو يخاطب القلب والوجدان والاعتماد عليهما أساسا للاعتقاد, وهذا ما لا نجده في بعض العقائد الأخرى التي تقول:( آمن ثم أعلم) أو (أغمض عينيك ثم اتبعني). وقد تقدم محاربة الكنيسة للعلم في ما يعرف بعصر الظلام وردة فعل رواد الثورة العلمية اتجاه كل ما يتصل بالدين من قريب أو بعيد..
وأكثر من هذا فان الإسلام يتبع مسائله بالحجة المقنعة الدامغة, والبرهان الواضح, الذي يملك أزمة العقول ويأخذ الطريق إلى القلوب..
فالقرآن الكريم يقيم الأدلة في مسألة الألوهية من الكون, ومن النفس, والحياة, وفطرتهم, فلا مناقضة بينه وبين فطرة الإنسان؛
يقول تعالي ﴿ فلينظر الإنسان مم خلق﴾ (370)﴿ أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت ﴾ (371)﴿ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من آلهة إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض﴾ (372) (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذونه منه ضعف الطالب والمطلوب﴾ (373) إلى غير ذلك من الآيات فهي تأمر باستعمال الحس لنقل الواقع حتى تصل إلى النتيجة الصحيحة.
فالحكم على الأشياء ما هي؟ لا يتم إلا بعملية ربط وربط معلومات سابقة، حتى يوجد العقل أي حتى تكون العملية العقلية. ومن هنا كان لا بد أن تكون عند الإنسان الأول معلومات سابقة عن الواقع من قبل أن يعرض عليه الواقع، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن آدم عليه السلام (الإنسان الأول)(365)؛﴿ وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (366)، ثم بعد ذلك قال عز وجل: ﴿ يا آدم أنبئهم بأسمائهم﴾ فهذه الآية تدل على أن المعلومات السابقة لا بد منها للوصول إلى المعرفة، فآدم قد علمه الله سبحانه وتعالى أسماء الأشياء أو مسمياتها فلما عرضت عليه عرفها.
فالإنسان الأول وهو(آدم) قد أعطاه الله معلومات ولولا هذه المعلومات السابقة لما عرفها. فتكون المعلومات السابقة شرطا أساسيا ورئيسيا للعملية العقلية أي لمعنى العقل وهو الحكم على الشيء ما هو؟. وعلى ذلك فان الطريق القويم الذي يؤدي إلى معرفة العقل معرفة يقينية جازمة هو انه لا بد من وجود أربعة أشياء.
1ـ واقع. 2ـ إحساس بالواقع. 3 ـ دماغ. . 4 ـ ومعلومات سابقة عن الواقع.
وفي الأحكام نجد: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم﴾ (374)﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ (375) ﴿أوفوا بالعقود﴾ (376) ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ (377) (حرض المؤمنين على القتال﴾ (378). ﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع..﴾ (379), إلى غيرها من الآيات وكلها تعطي أحكاما محسوسة لوقائع محسوسة وسواء كان للحكم أو للواقعة التي جاء بها الحكم، فهو إنما يأتي بالطريقة العقلية وبهذا نجد أن القرآن سلك الطريقة العقلية..
أما عن ادعائهم أن القرآن الكريم من صنع محمد, وأنه صلى الله عليه وسلم كان تلميذا لليهود والنصارى. وأن التراث الفكري للمسلمين, إنما هو صدى وامتداد للفكر اليوناني الفلسفي, والفكر الروماني الأدبي..
فإن البرهان العقلي يطلب منا أولا: أن نستقصى عن ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم عن القرآن الكريم..ففي الحديث الصحيح( ) عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما من مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي, فأرجوا أني أكثرهم تابعا يوم القيامة».
ثم نحاول ثانيا: أن نطبق على هذا لادعاء النظرية السابقة التي تقول: الكلام مرآة لنفسية المتكلم لنرى مدى مصداقية هذا الكلام!
من المعلوم أن الطبيعة الإنسانية تتجلى في نفسية المتكلم، لذالك نجد أن المحققين يستعينون لاكتشاف خفايا نفسية المتكلم لاسترجاعه إلى الحديث لاستزادة من الكلام.
هذه حقيقة علمية تدرس في علم النفس التربوي. ونظرا لأن الإنسان بشر مطبوع بالصفات البشرية المعروفة, فلا شك أنه عندما يتكلم تتجلى صفاته البشرية الإنسانية المختلفة من خلال كلامه كما بينا ذالك آنفا..)
وبالرجوع إلى الافتراض القائل: (إن القرآن كلام بشر) أو أنه من صنع محمد فيجب إذن أن تتجلى في هذا القرآن صفات البشر طبقا لهذه القاعدة العلمية. بمعنى أن يكون القرآن مرآة للطبائع الإنسانية المختلفة, تماما كما يتكلم أي إنسان أو أي مؤلف كتاب، ولكننا عندما نقرأ القرآن ونلتمس فيه أي معلمة أو أي مظهر مما يتصل بالطبائع البشرية من صفات لا نجده. فعلى سبيل المثال نقرأ في القرآن:
﴿ أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون, وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون(287) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (288)..وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون. كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون﴾.(289)
هذه الآيات القرآنية ما من عاقل يقرؤها أو يصغي إليها إلا ويجد أنها تختلف عن الأفكار الإنسانية وطبيعة الإنسان ومهامه، وشؤونه، حيث أن الإنسان عادة مايتحدث عن أشجانه، عن آماله، عن طموحاته، عن تجارة له، عن اهتماماته، وعلاقته بالآخرين.
عن أعدائه وموقفه منهم عن أحبائه وأصدقائه، والصلة التي بينه وبينهم، يتحدث عن آماله في بناء أسرة، وفي جمع المال، عن آلامه التي تتعلق بجسمه أو التي تتعلق بأمور أخرى، عن أمنه عن طمأنينته، أو عكس ذالك..هذا ما يتحدث عنه الإنسان أيا كان.ومن غير المعقول أن يتحدث في موضوع خارج عن دائرته الإنسانية وإذا أراد لا يستطيع..
فالمخلوق ليس من شأنه أن يتكلم ويجعل من نفسه خالقا، المخلوق الذي خلق بالأمس وسيموت غدا ليس من شأنه أن يقول خلقت النجوم بالطريقة التالية..وأبدعت السماوات على النهج كذا.. وأنا سأفعل بالخليقة الإنسانية كذا ..
إن هذه الآيات تتحدث عن مهمة أخرى ووظيفة أخرى لا علاقة لها بأفكار الإنسان ومهامه وشئونه نهائيا. والملاحظ أن الموضوعات التي طرقتها ليست مما من شأنه أن ينسبه الإنسان إلى نفسه أو أن يدعيه لذاته.
في حين نرى الخطاب الإلهي هو الذي ينسب هذا الكلام إلى ذاته بلا منازع بدليل الضمير ﴿ ففتقناهما﴾ ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾.
ومن المعلوم في دنيا العلوم اليوم أن هذا القانون الأخير من أعظم وأوسع وأضخم القوانين الكونية, وهو القائل: إن كلما يتسم بالحياة لا بد أن يكون الماء هو العنصر الأساسي فيه..
وفي الآية الأخرى:﴿ وجعلنا في الأرض رواسي﴾ يتكلم عن صنعته والرواسي هي الجبال. ﴿ وجعلنا﴾ ينسب هذا المتكلم هذا الأمر إلى ذاته.(290) والمخاطب هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يقول:
﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون﴾(291)
﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالخير والشر فتنة والينا ترجعون﴾ (292)
يتكلم عن قانون من القوانين الاجتماعية السارية منذ بدأ الخليقة إلى يوم الناس هذا.
﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة﴾ أي: امتحانا وابتلاء
﴿ وإلينا ترجعون﴾ ولسنا بحاجة بعد هذا إلى بيان مدى تقبل العقل مما يقال بأن القرآن كلام بشر حيث أنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أن الذي يقول:
﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون﴾.
﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ ﴿ ونبلوكم﴾ ينسب هذا إلى نفسه ﴿ بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾.بدليل قوله﴿ وإلينا ترجعون﴾؟ لأنه لا يعقل أن يقول الإنسان أن البشرية سترجع إليه؟! الإنسان الذي خلق قبل سنوات وسيموت غدا فتح عينيه على هذا الكون وطرح الأسئلة منذ نضوجه من أنا؟ ما هذا الكون ؟!! وإلى أين المصير؟!! هل يمكنه أن يقول الكلام السابق، من إبداع الكون، والخليقة؟! والجواب أن العقل لا يمكنه أن يتقبل هذا الإدعاء. وإذا لم يكن هذا الكلام كلام بشر إذن ما المعنى الذي يشع به هذا الكلام؟!
إنه يشع بكمال الربوبية هذه الصفات التي يتحدث عنها هذا النص إنما هي صفات الخالق، المدبر، المكون، قيوم السموات والأرض.
وهذه المعاني التي تنبثق من هذا الكلام هي عبارة عن إشعاع يسري إلى كيان الإنسان أيا كان هذا الإنسان، حتى ولو لم يكن عربيا.
والإنسان عندما يسمع هذا الكلام فلا بد أن يسري إلى نفسيته ما لم يكن متكبرا.
أما إذا كان من المتكبرين فإن هذا الإشعاع المنبثق من الكلام السابق الذكر يصطدم بمشاعر الكبرياء في كيان هذا الإنسان ويرتد له..وهكذا..(293).
ويصف لنا البوطي هذا الصنف من البشر المتكبر من خلال حادثة وقعت في مجتمعه في مجلس عزاء، وهي أن أحد الحاضرين لما سمع تلاوة القرآن، وهو بعد لم يكد يمر على جلوسه دقيقتين، حتى التفت إلى زميله الذي يجلس إلى جانبه وأسر إليه قائلا:
( قم فإن هذا الكلام يكاد يغير عقلي) وخرج هاربا، فما الذي خافه هذا الإنسان على نفسه؟! لقد تأثر من شعاع الربوبية الذي يسري من هذا الكلام الذي سمعه إلى نفسيته ولقد كاد أن يدخل إلى نفسيته لكن سرعان ما اصطدم بكبريائه.
ومن هنا كان الفصل بين جلال الربوبية, وبين نفسية هذا الإنسان. وكانت النتيجة أن قام هذا الرجل يفر لائذا بكبريائه, من الحقيقة التي يلاحقه بها كتاب الله سبحانه وتعالى.
أي أن القرآن يخاطب العقل الإنساني السليم, لا العقل المتكبر, الذي يعيش في بيئات تشكوا من الفقر الثقافي بكل وجوهه ومستوياته، المائل إلى البساطة في التفكير وإصدار الأحكام القطعية، ورفض كل ما يخالف ما هو عليه، وذالك لأن بيئته، جعلت قدرته على المقارنة محدودة وهذا هو الاستثناء حيث أن الأصل " أن بني البشر يملكون درجة من العقلانية، وتلك الدرجة متوقفة على نحو جوهري على مدى حيوية الثقافة وغناها وانفتاحها، وقبل ذالك الإطار الذي تشكلت فيه.
إن مما أضر بفهمنا لمسألة نسبة الصواب والخطأ في الأفكار أننا كثيرا ما ننزع الرأي من إطاره البنيوي وبيئته الثقافية والاجتماعية، فيبدو وكأنه يستمد صوابه من ذاته وقدرته على الإقناع ، واقتناع الناس به.
وهذا حرمنا من فهم المرتكزات .......
رئيس الحمعية الوطنية للتأليف والنشر
موريتانيا
لقد تقدم في منتدي الاسلام العام الجزء الأول من هذه السلسلة وفي هذا المنتدي سنواصل بحول الله عرض باقي السلسلة..
خلق الله الإنسان بيديه في أحسن تقويم، ثم نفخ فيه من روحه، وخصه بقسمات وطبائع خاصة به، وسوى بنانه وأفرده ببصمة لا يشاركه فيها أحد لتكون بمثابة توقيعه، ووهبه العقل ميزه به عن سائر مخلوقاته، وأمره بإعماله في الكشف عن قوانين الكون المسخر له، وهداه النجدين وخيره أن يسلك أحدهما بمحض اختياره، وحمله المسؤولية أمانة أبت السماوات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها, وحملها الإنسان شفقة واعتدادا. فأسجد الله له ملائكته تقديرا وإكبارا وحسن ظن به، في أنه سوف يحسن اختيار طريق الخير بكدحه وجهده ومعاناته رغم قدرته على اختيار طريق الشر.
ثم جعل منه الذكر والأنثى، وسيلة لحفظ نسله ونمائه، وجعل من آياته فيه اختلاف ألسنته وألوانه، وجعل منه شعوبا وقبائل وأمما وحضارات، تتدافع وتتخاصم ثم تتناحر وتتعارف وتتفاهم، وعد ذلك الاختلاف ضرورة لتطور الإنسانية ونموها وتلاقح الثقافات وارتقائها.
(والإنسان بفطرته طلعة لا يقتنع من الحياة بمظاهر أشكالها وألوانها كما تنقلها إليه حواسه أو كما ينفعل بها شعوره، بل يتناولها بعقله، وينفذ إليها ببصيرته ليعرف حقيقة كل شيء.!!. من أين جاء؟ وكيف صار؟ وإلا ما ينتهي؟.
وهو في إشباع رغبته تلك لا يدخر وسعا من ذكاء أو جهاد حتى يبلغ من ذلك ما يطمئن إليه عقله وتستريح به نفسه. وكذلك كان شان الإنسان في بحثه عن الله، الحقيقة الكبرى التي هي مصدر وجود هذا العالم واليها مصائر أموره.. فلقد أكثر من التطلع إليها والبحث عنها حتى تفرقت به السبل واختلفت فيها مذاهبه، إذ لا شك أن هذه النظرات المتطلعة إلى تلك الحقيقة الكبرى قد أخذت ولا تزال تأخذ صورا وأشكالا متعددة متباينة، تختلف باختلاف الناس واستعدادهم الفكري وما يحيط بهم من ظروف الحياة وأحوالها. فلكل وجهته التي هو موليها، ولكل مبلغه من العلم وحظه من التوفيق.
فبينما يصل إليها بعضهم عن طريق النظر في ملكوت السموات والأرض على اختلاف في مجال هذا النظر عمقا وامتدادا، إذ يصل إليها بعضهم الآخر عن طريق العاطفة المجردة عن الإدراك، الواقعة تحت تأثير الوراثة أو السماع والتي لا تكاد تلامس الفكر أو تثيره. وبين هؤلاء وهؤلاء طوائف وطوائف تقطع الطريق إلى تلك الحقيقة في مراحل متعددة تخلط بين العاطفة والفكر بنسب وأقدار متباينة.
ومن هنا نستطيع أن نقول أن لكل إنسان تصورا خاصا لإلهه الذي يعبده والذي ينزل من نفسه المنزلة التي هداه إليها عقله أو قلبه، احدهما أو كلاهما، وبالقدر الذي تكشف له من الحقيقة، وعلى الصورة التي تمثلت في خاطره.
ولذا تعددت الآلهة وتفرقت بالناس مذاهب الرأي فيها، فكان لكل امة ربها، ولكل جماعة دينها، ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ (64) ولا نريد أن نبحث في تاريخ الأديان بعيدها وقريبها، ولا أن نستقصي تعدد المعبودات والبواعث التي دعت إليها، والصور والأشكال التي ظهرت فيها، ولا أن نتحدث عن فكرة التوحيد أو التعدد فذلك ما لا سبيل إليه في هذا المقام، وإنما نريد أن نقول إن صورة الإله أو الآلهة التي عبدها الناس منذ كانوا إنما كانت وليدة اقتناع وإيمان أيا كان حظهما من العمق، ومداهما من الصدق.
فعابد النار أو الحجر أو الحيوان أو الشمس أو القمر إنما عبد معبوداته تلك بعد أن ملكت عليه زمام نفسه، وأخذت بمجاميع قلبه، وتمثلت له قوة خارقة لا حد لها، إليها مصائر أموره، وعليها مدار ضره ونفعه، فآمن بها واستسلم لها ووجه إليها وجهه وقلبه وعقله. وسواء أكان هذا الإيمان منبعثا من أعماق النفس أم ملقى إليها من طريق الإيحاء والإغراء، فهو على أية حال إيمان ملك النفس وخالط المشاعر، وبغير هذا لا يكون إيمانا ولا يسمى دينا. وانه إذا لم يبلغ هذا الحد فستظل نفس الإنسان فارغة خواء، وسيظل الإنسان قلقا مضطربا حتى يقع على الإله الذي يسكن إليه قلبه ويطمئن به وجدانه..
ويعتبرالدين من أقوى النظم الاجتماعية التي عرفتها المجتمعات البشرية منذ بدء الخليقة… ولئن اختلف العلماء في تحديداتهم لماهيته.وتضاربت آراؤهم حول تحديد مصادره.. أو سبب وجوده .. فإنهم لا يختلفون على أنه موجود كظاهرة اجتماعية صاحبت الإنسان في جميع أطواره الثقافية عبر التاريخ.وان له علاقة تأثير وتأثر بمعظم النظم الاجتماعية السائدة في المجتمع لعلاقته بالإنسان وارتباطه بصميم الواقع الاجتماعي.
وتقوم أي ديانة أو عقيدة على أسس معينة وقد تسمى هذه الأسس مثلا(الكتاب المقدس أو الأناجيل، أو حتى مؤلفات ماركس وانجلز ولنين، بحيث تحدد تلك الأسس طبيعة الهيكل المقام عليها ولا بد أن تكون هذه الأسس قادرة على تحمل البناء المقام عليها، فهي أسس ثابتة تم وضعها ورسوخها ولا مجال لتغييرها.
ينطبق هذا على الإسلام أيضا، فقد قام صرحه على أسس ثابتة راسخة، لا تغير فيها ألا وهي القرآن والسنة.
بعد هذا تتفق الأديان والعقائد (الإيديولوجيات) الفكرية، في أن نموها الحقيقي رهن بمجابهتها لمختلف التحديات، الموجودة في كل بيئة ومكان، وفي كل زمان.
هذه المجابهة ينتج عنها بنيات فكرية متراكمة، أو مدارس ومذاهب معقدة، بحيث لا يمكن تفادي تراكبها المتزايد، إلا أن يأتي عليها حين من الدهر، تستقل فيه بطابع مستقر الملامح، هو الطابع التقليدي، أو لكلاسيكي أو الارثودكسي. ثم تغدوا هذه التقليدية أو لكلاسيكية المثل الأعلى الذي يحتذيه المؤمن البسيط والشيوعي الساذج، وذلك لعجزهما عن الاجتهاد واتخاذ حكم خاص نابع منهما، نظرا لتشابك الفروع وتشابه الأمور وتشاكلها، وتعقد البنية الفكرية للعقيدة أو المذهب.
في مثل هذه المرحلة يتبدى سلطان الفقهاء، والقساوسة والخبراء، ويمسى القول في العقائد والمذاهب حكرا عليهم.
هذه الحتمية التاريخية جعلت الأديان والإيديولوجيات كذلك متفقة على ضرورة العودة إلى الدين كما انزل أصلا، أو إلى محاولة رؤية جديدة الأصول إيديولوجياتها أو عقائدها الفكرية، آملة أن تستطيع إزاحة الرواسب والتراكمات التي ليست من الدين أو العقيدة في شيء، والتي ألصقها الإنسان باختلاف الزمان والمكان بالأديان، هادفا إلى التعرف على المشاكل المعاصرة، والتعامل معها، من خلال تشخيصها ورؤيتها رؤية حديثة.
من هنا، تعددت الرؤى الإصلاحية: فاتخذ البعض البروتستانتية أو الإنجيلية بدلا من الكاثوليكية، وحاول البعض تبني وتطبيق فلسفة ماركس المفكر، ولجأ البعض إلى (تعصير) توماس مبستر، ولم يتورع البعض الآخر عن خلقة صورة غريبة للمسيح، تحفل بعناصر وملامح من هنا وهناك، مثلما فعل فرانس ألت(66)
والآن لنعالج الموضوع بشعور من الإجلال، لا تحده الحدود الدقيقة التي تفرضها العقائد الدينية، أو الحقائق العلمية بشان سبب العقائد الدينية ومصدرها، ولنتصور لأنفسنا الدين المعترف عليه والذي يقوم على أسس قادرة على حمل البناء المقام عليها ولا مجال لتغييرها. وبذا يمكننا أن نحكم، وأمامنا الموضوع كاملا. وبهذه الطريقة يمكننا أن نعلم أي من هذه العقائد يحمل هذه المواصفات ? ويفسر لنا ما عجز عنه الإنسان!.
إن المتناول لتاريخ الأديان يصطدم دائما بمصطلح يطلق عليه (الأصولية) ويختلف تعريفها من دين إلى آخر ففي حين يُعرفها متحرري اليهود من (الليبراليين) الكاثوليك السلفيين، والمسيحيين المطالبين باتخاذ آراء ليففر(67) بأنها تعصير الدين كي يتفق ومتطلبات العصر الحديث. يرى البعض الآخر أنها إحياء الدين بالرجوع إلى مصادره الأولى وهذا يمكن أن يحدث في سبيل أصولية عاقلة، تستند إلى الوحي أساسا لها، متفهمة مغزى الوحي والغاية منه، بهدف التكيف معه في العصر الحديث، أو في سبيل صحوة أصولية في مجال الأدب الملتزم، الذي يدور بالدرجة الأولى حول العودة إلى الكلمة وحدها، آخذا إياها مأخذ الجد كما أسلفنا.
أما الاتجاه الأول، فيريد العودة إلى المصادر الأولى للعقيدة، دون التقيد بمنهجية محددة، وأما الاتجاه الثاني، فيريد الاقتصار على النص الحرفي للمصادر، فالاتجاه الأول يريد التأويل أو التفسير الجديد للمصادر الأولى، وهذا عينه ما يرفضه الاتجاه الثاني رفضا قاطعا. هذان الضربان من الأصولية، موجودان في الإسلام على أن المصطلح (Fundamentalism) بالانجليزية ليس له مطابق في العربية لأنه مصطلح منحوت من أصل غربي لكي يطلق على ظاهرة (غربية)، وإذا عدنا إلى أصول الكلمة أدبيا فإننا نرى انه استعمل أول الأمر لتميز الأمريكيين البروتستانت في القرن 19 الذين أكدوا على عصمة الإنجيل خاصة في قصة الخلق حيث رفضوا النظرية "الفجة" التي تطورت عن نظرية دارويين في النشوء والارتقاء.
ونفس المفهوم نجده عند القائلين من اليهود بالعصمة الحرفية المطلقة لتوراتهم ومنهم الحاخام شنيرزومس في نيويورك وقومه من يهود (بيت المقدس) التابعين لحركة لباويت الدينية).
بهذا يتبين أن الأصولية لا توجد في الإسلام وحده، وإنما في الديانات الأخرى. أما عن تعريف الأصولية في الإسلام: فهي عبارة عن موقف فكري ورؤية عالمية بالمعنى البعيد ترى الالتزام بالإسلام كما كان في أول عهده، وكما عرفه السلف الصالح من الصحابة منطلقا ومثالا يحتذي يه، في صياغة المعايير والقيم وقواعد السلوك والمعاملات، في عملية بناء الحضارة.
لقد صيغ المذهب الفقهي لابن حنبل الإسلام كما يعرفه السنيون، مع الأخذ بالانتقادات الفلسفية التي قال بها الاشاعرة، من القرن العاشر الميلادي فظهر تأثير الأصولية البالغ، والذي كان يلح، فيما يبدوا، على المعنى الظاهر الحرفي للكلمة فحسب.
ولقد قام بإحياء الإسلام الإمام أحمد بن حنبل وبعده كل من:الشيخ ولي الله (توفي 1763) ومحمد بن عبد الوهاب ( المتوفي عام1787) وهو مؤسس ال*****ة السعودية، والسنوسي والحركة السنوسية الليبية في الثلاثينيات، والإخوان المسلمون في مصر، والجماعة الإسلامية الباكستانية وقد اتهم مثقفو الأصوليين آنذاك بما يتهمون يه اليوم أيضا, بأنهم سذج، متأخرون وأغبياء، وذلك لاستمساكهم بالظاهر الحرفي للنصوص، علما بان وسائلهم في الدرس والتحليل والاستنتاج ومعالجة النصوص، تتفق وأفضل نتائج فلسفة اللغة التحليلية للمعاصرين في أوطانهم.
وبينما ألحت الدراسات النقدية العلمية للعهد الجديد على اتهام موثوقية نصوصه، ومن ثم شجعت على عدم الاعتقاد في المسيحية، أدت دراسات المستشرقين النقدية العلمية الدقيقة الممحصة للقرآن إلى الإقرار الكامل بموثوقية النص القرآني، وإحكامه التام، وانسجامه المذهل مع الثابت من نتائج أبحاث العلوم الطبيعية والكونية، وزادت تلك الموثوقية تثبيتا ورسوخا.. فما هو الدليل على ذالك؟
للإجابة على هذا السؤال يجدر بنا أن نعرض لنظرية جديدة في علم النفس التربوي بالإضافة إلى الطرق الفكرية المعروفة: الطريقة العلمية والعقلية..لتقوية الاستدلال؛
تقول هذه النظرية: إن الكلام مرآة لنفسية المتكلم بمعنى أن الإنسان كلما أفاض في الكلام وتحدث تتجلى مظاهر نفسيته وخصائصها في كلامه. ومنذ القديم والناس يقولون الكلام صفة المتكلم، ومصداقا لهذا نجد أن المحققين لما يباشروا التحقيق مع المتهمين يسألونهم عن حياتهم، عن ظروف معاشهم، عن هوياتهم، عن أعمالهم، من اجل استدراجهم للمزيد من الكلام. ليتبينوا خصائص نفسياتهم، مع العلم أن الأساليب تختلف ما بين متكلم وآخر ولا يستطيع احد أن يتخلى عن أسلوبه ليتبنى أسلوب أخيه أو زميله أو صاحبه لماذا؟ لأن هناك إلى جانب الجانب الجامع المشترك وهو لإنسانية, خصائص نفسية أخرى, لي خصوصيتي.. النفسية، الأخلاقية، المزاجية، الجدلية، ولك خصائصك النفسية ومن ثم تختلف الأساليب فلا يستطيع زيد أن يقلد أسلوب عمر أبدا ولا يستطيع خالد أن يقلد أسلوب علي إن كانا في عصر واحد أو في غير عصر هذا إلى جانب أنهما يلتقيان في جانب مشترك وهو الطبيعة الإنسانية(69).
ثانيا: الطريقة العقلية
وتعرف بأنها منهج معين للبحث يسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه، عن طريق نقل الحس بالواقع، بواسطة الحواس، إلى الدماغ، ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع، فيصدر حكمه عليه وهذا الحكم هو الفكر، أو الإدراك العقلي. وتكون في بحث المواد المحسوسة كالكيمياء والفيزياء، وفي بحث الأفكار كبحث العقائد والتشريع، وفي فهم الكلام، كبحث الأدب والفقه. وهذه الطريقة هي الطريقة الطبيعية في الوصول الإدراك العقلي من حيث هو، وعمليتُها هي التي يتكون بها عقل الأشياء أي إدراكها، وهي نفسها تعريف للعقل، وعلى منهجها يصل الإنسان من حيث هو إنسان إلى إدراك أي شيء، سبق أن أدركه أو يريد أن يدركه والنتيجة التي يصل إليها الباحثُ على الطريقة العقلية ينظر فيها, فان كانت هذه النتيجة هي الحكم على وجود الشيء فهي قطعية لا يمكن أن يتسرب الخطأ إليها مطلقا ولا مجال من الأحوال. وذلك لأن هذا الحكم جاء عن طريق الإحساس بالواقع، والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع، إذ أن إحساس الحواس بوجود الواقع قطعي، فالحكم الذي يصدره العقل عن وجود الواقع في هذه الطريقة قطعي.
أما إن كانت النتيجة هي الحكم على حقيقة الشيء أو صفته فإنها تكون نتيجة ظنية فيها قابلية الخطأ لأن هذا الحكم جاء عن طريق المعلومات, أو تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات، وهذه يمكن أن يتسرب إليها الخطأ ولكن تبقى فكرا صائبا حتى يتبين خطؤها. وحينئذ فقط, يحكم عليها بالخطأ ولهذا فان الأفكار التي يتوصلُ اليها العقل بطريقة التفكير العقلية ان كانت مما يتعلق بوجود الشيء, كالعقائد, مثلا وجود الله, والقرآن الكريم من عند الله, ومحمد رسول الله الخ…فإنها أفكار قطعية.
وان كانت مما يتعلق بالحكم علي الشيء وصفته كالأحكام الشرعية فإنها أفكار ظنية, أي غَلبَ على الظن أن الشيء الفلاني حكمه كذا, وهذا الحادث المعين حكمه كذا, فهي صواب يحتمل الخطأ ولكنه يبقى صوابا حتى يتبين خطؤه. والطريقة العقلية لا بد لها من توفر أربعة عوامل هي:
1)- الواقع 2)- الإحساس 3)- الدماغ 4)- معلومات سابقة.
وسنعرض لهذه العوامل بشيء من التفاصيل.
فمثلا: لو سئلت عزيزي القارئ عن معنى كلمة (وضيمة) لوقفت متحيرا مرتبكا بماذا تجيب؟ وقلت أخير لا ادري، مع أن كلمة وضيمة هي الواقع الذي وقع تحت طائلة سمعك وسُميتٌ واقعا لأنها وقَعتٌ عليها إحدى الحواس الخمس وكل شيء يقع تحت طائلة احدى الحواس الخمسيسمى واقعا، وكلمة وضيمة التي هي الواقعُ وقعت تحت السمع ُنقلتٌ فورا بواسطة السمع إلى الدماغ فانطبعتٌ فيه ومُيزتٌ عنٌ سواهَا من الانطباعات، نتيجة لهذه العملية التي جمعت العوامل السابقة وهي:
1ـ الواقع: الذي هو كلمة "وضيمة"
2ـ الإحساس بالواقع: ألا وهو السمع
3ـ الدماغ الذي يميزُ الانطباعات.
وتكون العملية الفكرية قد احتاجت إلى العامل الرابع ألا وهو المعلومات السابقة. لذلك لم يتوفر عند صاحبها حكم واضح على الواقع ـ أي: عن معنى كلمة وضيمة.
(ونفس الشيء يطلق على الكلام الذي لا تتوفر عنه معلومات سابقة) مع انك أيها القارئ لو سئلت عن معنى كلمة "وليمة" لأجبت على الفور: دعوة إلى الطعام، لماذا أجبت بهذه السرعة؟ لأنه متوفر لديك العوامل الأربعة، ألا وهي:
1ـ الواقع: معنى وليمة
2ـ الإحساس: الذي نقل هذا الواقع إلى الدماغ.
3ـ الدماغ: الذي ميز انطباع هذا الواقع
4ـ المعلومات السابقة: التي رُبطتٌ بالعوامل الثلاثة, ونتيجة لهذه العملية الفكرية كان الحكم على الواقع واضحا، وكذلك عندما يقال لك أن كلمة وضيمة تعني: دعوة إلى الطعام في حالة الأتراح (الأحزان) ووليمة تعني دعوة إلى الطعام في حالة الأفراح.
والسؤال الذي يطرح نفسه ما هي هذه المعلومات السابقة؟ وما هو مقياسها؟ وما هو الدليل على صحتها؟
والجواب يكمن في: أن الفكر مؤلف من أربعة عوامل منها عاملان من تكوين الإنسان هما الحواس الخمسة أولا، والدماغ ثانيا. وعاملان خارجان عن تكوينه هما حقيقة الواقع، أولا ، وحالته واسمه، ثانيا.
فبالإمكان نقل معلومات مشوهة وملفقة عن حالة الواقع واسمه كما بينا آنفا في حالة جمع الأديان في سلة واحدة. وكمثل أن يقال لك: إن المطار ضرب فتذهب لتتأكد فترى أن المطار مازال سليما. فإن حقيقة الواقع الموجود نفت التشويه والتلفيق والتضليل، فمقياس المعلومات السابقة والدليل على صحتها أو كذبها يكون حقيقة الواقع الموجود.
وبناء على هذا يكون ما تعني هذه اللفظة، وما طعم هذه الفاكهة، وما ينفع أو يضر هذا المركب، وما اسم هذا الشيء، هذه هي المعلومات السابقة التي تعطى مسبقا للإنسان ليربطها، فالعبرة ليست بإعطائها فقط بل العبرة بإعطائها وربطها معا لإنتاج الفكر، لان التدريب على الربط منذ الصغر هو الذي يربط العوامل الأربعة التي هي الواقع، والإحساس بالواقع، والدماغ المميز، والمعلومات السابقة، فيوجد الفكر أي الحكم على الواقع، إلا أن هذه المعلومات إذا كانت صحيحة كان الحكم على الواقع صحيحا وان كانت كاذبة كان الحكم كاذبا والمقياس على ذلك هو حقيقة الواقع الموجود.
ثالثا: الطريقة العلمية
هي منهج معين في البحث، يسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه. عن طريق إجراء تجارب على الشيء، ولا تكون إلا في بحث المواد المحسوسة، ولا يتأتى وجودها في بحث الأفكار، ولا تكون إلا بإخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة المادة والظروف والعوامل الأصلية التي أخضعت لها، ثم يستنتج من هذه العملية على المادة حقيقة مادية ملموسة، كما هي الحال في المختبرات. وتفرض هذه الطريقة التخلي عن جميع الآراء السابقة عن الشيء الذي يبحث، ثم يبدأ بملاحظة المادة وتجربتها، لأنها تقتضي, أن يمحو الباحث من رأسه كل رأي، وكل إيمان سابق في هذا البحث، وأن يبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية، فإذا وصل إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية أي حقيقة علمية خاضعة للبحث والتمحيص، ولكنها تظل حقيقة علمية، ما لم يثبت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها.
وبناء على هذا التعريف للطريقةالعلمية، والطريقة العقلية، تكون الطريقة العقلية هي الطريقة الوحيدة التي يجري عليها الإنسان من حيث هو إنسان في تفكيره وحكمه على الأشياء وإدراكه لحقيقتها وصفاتها.
وتأسيسا على هذه الطرق سنحاول تطبيقها على الإسلام لأنه من بين جميع الديانات والفلسفات والثقافات الذي يطالب بالبرهان نقرأ في قوله تعالي ﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾(368) وقوله جل وعلا﴿ قل هذه سيبلى أدعوا إلى الله على بصيرة ﴾ (369) . وهذا الخطاب القرآني يبين أن عقائده مبرهنة فهو يخاطب القلب والوجدان والاعتماد عليهما أساسا للاعتقاد, وهذا ما لا نجده في بعض العقائد الأخرى التي تقول:( آمن ثم أعلم) أو (أغمض عينيك ثم اتبعني). وقد تقدم محاربة الكنيسة للعلم في ما يعرف بعصر الظلام وردة فعل رواد الثورة العلمية اتجاه كل ما يتصل بالدين من قريب أو بعيد..
وأكثر من هذا فان الإسلام يتبع مسائله بالحجة المقنعة الدامغة, والبرهان الواضح, الذي يملك أزمة العقول ويأخذ الطريق إلى القلوب..
فالقرآن الكريم يقيم الأدلة في مسألة الألوهية من الكون, ومن النفس, والحياة, وفطرتهم, فلا مناقضة بينه وبين فطرة الإنسان؛
يقول تعالي ﴿ فلينظر الإنسان مم خلق﴾ (370)﴿ أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت ﴾ (371)﴿ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من آلهة إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض﴾ (372) (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذونه منه ضعف الطالب والمطلوب﴾ (373) إلى غير ذلك من الآيات فهي تأمر باستعمال الحس لنقل الواقع حتى تصل إلى النتيجة الصحيحة.
فالحكم على الأشياء ما هي؟ لا يتم إلا بعملية ربط وربط معلومات سابقة، حتى يوجد العقل أي حتى تكون العملية العقلية. ومن هنا كان لا بد أن تكون عند الإنسان الأول معلومات سابقة عن الواقع من قبل أن يعرض عليه الواقع، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن آدم عليه السلام (الإنسان الأول)(365)؛﴿ وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (366)، ثم بعد ذلك قال عز وجل: ﴿ يا آدم أنبئهم بأسمائهم﴾ فهذه الآية تدل على أن المعلومات السابقة لا بد منها للوصول إلى المعرفة، فآدم قد علمه الله سبحانه وتعالى أسماء الأشياء أو مسمياتها فلما عرضت عليه عرفها.
فالإنسان الأول وهو(آدم) قد أعطاه الله معلومات ولولا هذه المعلومات السابقة لما عرفها. فتكون المعلومات السابقة شرطا أساسيا ورئيسيا للعملية العقلية أي لمعنى العقل وهو الحكم على الشيء ما هو؟. وعلى ذلك فان الطريق القويم الذي يؤدي إلى معرفة العقل معرفة يقينية جازمة هو انه لا بد من وجود أربعة أشياء.
1ـ واقع. 2ـ إحساس بالواقع. 3 ـ دماغ. . 4 ـ ومعلومات سابقة عن الواقع.
وفي الأحكام نجد: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم﴾ (374)﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ (375) ﴿أوفوا بالعقود﴾ (376) ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ (377) (حرض المؤمنين على القتال﴾ (378). ﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع..﴾ (379), إلى غيرها من الآيات وكلها تعطي أحكاما محسوسة لوقائع محسوسة وسواء كان للحكم أو للواقعة التي جاء بها الحكم، فهو إنما يأتي بالطريقة العقلية وبهذا نجد أن القرآن سلك الطريقة العقلية..
أما عن ادعائهم أن القرآن الكريم من صنع محمد, وأنه صلى الله عليه وسلم كان تلميذا لليهود والنصارى. وأن التراث الفكري للمسلمين, إنما هو صدى وامتداد للفكر اليوناني الفلسفي, والفكر الروماني الأدبي..
فإن البرهان العقلي يطلب منا أولا: أن نستقصى عن ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم عن القرآن الكريم..ففي الحديث الصحيح( ) عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما من مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي, فأرجوا أني أكثرهم تابعا يوم القيامة».
ثم نحاول ثانيا: أن نطبق على هذا لادعاء النظرية السابقة التي تقول: الكلام مرآة لنفسية المتكلم لنرى مدى مصداقية هذا الكلام!
من المعلوم أن الطبيعة الإنسانية تتجلى في نفسية المتكلم، لذالك نجد أن المحققين يستعينون لاكتشاف خفايا نفسية المتكلم لاسترجاعه إلى الحديث لاستزادة من الكلام.
هذه حقيقة علمية تدرس في علم النفس التربوي. ونظرا لأن الإنسان بشر مطبوع بالصفات البشرية المعروفة, فلا شك أنه عندما يتكلم تتجلى صفاته البشرية الإنسانية المختلفة من خلال كلامه كما بينا ذالك آنفا..)
وبالرجوع إلى الافتراض القائل: (إن القرآن كلام بشر) أو أنه من صنع محمد فيجب إذن أن تتجلى في هذا القرآن صفات البشر طبقا لهذه القاعدة العلمية. بمعنى أن يكون القرآن مرآة للطبائع الإنسانية المختلفة, تماما كما يتكلم أي إنسان أو أي مؤلف كتاب، ولكننا عندما نقرأ القرآن ونلتمس فيه أي معلمة أو أي مظهر مما يتصل بالطبائع البشرية من صفات لا نجده. فعلى سبيل المثال نقرأ في القرآن:
﴿ أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون, وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون(287) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (288)..وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون. كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون﴾.(289)
هذه الآيات القرآنية ما من عاقل يقرؤها أو يصغي إليها إلا ويجد أنها تختلف عن الأفكار الإنسانية وطبيعة الإنسان ومهامه، وشؤونه، حيث أن الإنسان عادة مايتحدث عن أشجانه، عن آماله، عن طموحاته، عن تجارة له، عن اهتماماته، وعلاقته بالآخرين.
عن أعدائه وموقفه منهم عن أحبائه وأصدقائه، والصلة التي بينه وبينهم، يتحدث عن آماله في بناء أسرة، وفي جمع المال، عن آلامه التي تتعلق بجسمه أو التي تتعلق بأمور أخرى، عن أمنه عن طمأنينته، أو عكس ذالك..هذا ما يتحدث عنه الإنسان أيا كان.ومن غير المعقول أن يتحدث في موضوع خارج عن دائرته الإنسانية وإذا أراد لا يستطيع..
فالمخلوق ليس من شأنه أن يتكلم ويجعل من نفسه خالقا، المخلوق الذي خلق بالأمس وسيموت غدا ليس من شأنه أن يقول خلقت النجوم بالطريقة التالية..وأبدعت السماوات على النهج كذا.. وأنا سأفعل بالخليقة الإنسانية كذا ..
إن هذه الآيات تتحدث عن مهمة أخرى ووظيفة أخرى لا علاقة لها بأفكار الإنسان ومهامه وشئونه نهائيا. والملاحظ أن الموضوعات التي طرقتها ليست مما من شأنه أن ينسبه الإنسان إلى نفسه أو أن يدعيه لذاته.
في حين نرى الخطاب الإلهي هو الذي ينسب هذا الكلام إلى ذاته بلا منازع بدليل الضمير ﴿ ففتقناهما﴾ ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾.
ومن المعلوم في دنيا العلوم اليوم أن هذا القانون الأخير من أعظم وأوسع وأضخم القوانين الكونية, وهو القائل: إن كلما يتسم بالحياة لا بد أن يكون الماء هو العنصر الأساسي فيه..
وفي الآية الأخرى:﴿ وجعلنا في الأرض رواسي﴾ يتكلم عن صنعته والرواسي هي الجبال. ﴿ وجعلنا﴾ ينسب هذا المتكلم هذا الأمر إلى ذاته.(290) والمخاطب هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يقول:
﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون﴾(291)
﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالخير والشر فتنة والينا ترجعون﴾ (292)
يتكلم عن قانون من القوانين الاجتماعية السارية منذ بدأ الخليقة إلى يوم الناس هذا.
﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة﴾ أي: امتحانا وابتلاء
﴿ وإلينا ترجعون﴾ ولسنا بحاجة بعد هذا إلى بيان مدى تقبل العقل مما يقال بأن القرآن كلام بشر حيث أنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أن الذي يقول:
﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون﴾.
﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ ﴿ ونبلوكم﴾ ينسب هذا إلى نفسه ﴿ بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾.بدليل قوله﴿ وإلينا ترجعون﴾؟ لأنه لا يعقل أن يقول الإنسان أن البشرية سترجع إليه؟! الإنسان الذي خلق قبل سنوات وسيموت غدا فتح عينيه على هذا الكون وطرح الأسئلة منذ نضوجه من أنا؟ ما هذا الكون ؟!! وإلى أين المصير؟!! هل يمكنه أن يقول الكلام السابق، من إبداع الكون، والخليقة؟! والجواب أن العقل لا يمكنه أن يتقبل هذا الإدعاء. وإذا لم يكن هذا الكلام كلام بشر إذن ما المعنى الذي يشع به هذا الكلام؟!
إنه يشع بكمال الربوبية هذه الصفات التي يتحدث عنها هذا النص إنما هي صفات الخالق، المدبر، المكون، قيوم السموات والأرض.
وهذه المعاني التي تنبثق من هذا الكلام هي عبارة عن إشعاع يسري إلى كيان الإنسان أيا كان هذا الإنسان، حتى ولو لم يكن عربيا.
والإنسان عندما يسمع هذا الكلام فلا بد أن يسري إلى نفسيته ما لم يكن متكبرا.
أما إذا كان من المتكبرين فإن هذا الإشعاع المنبثق من الكلام السابق الذكر يصطدم بمشاعر الكبرياء في كيان هذا الإنسان ويرتد له..وهكذا..(293).
ويصف لنا البوطي هذا الصنف من البشر المتكبر من خلال حادثة وقعت في مجتمعه في مجلس عزاء، وهي أن أحد الحاضرين لما سمع تلاوة القرآن، وهو بعد لم يكد يمر على جلوسه دقيقتين، حتى التفت إلى زميله الذي يجلس إلى جانبه وأسر إليه قائلا:
( قم فإن هذا الكلام يكاد يغير عقلي) وخرج هاربا، فما الذي خافه هذا الإنسان على نفسه؟! لقد تأثر من شعاع الربوبية الذي يسري من هذا الكلام الذي سمعه إلى نفسيته ولقد كاد أن يدخل إلى نفسيته لكن سرعان ما اصطدم بكبريائه.
ومن هنا كان الفصل بين جلال الربوبية, وبين نفسية هذا الإنسان. وكانت النتيجة أن قام هذا الرجل يفر لائذا بكبريائه, من الحقيقة التي يلاحقه بها كتاب الله سبحانه وتعالى.
أي أن القرآن يخاطب العقل الإنساني السليم, لا العقل المتكبر, الذي يعيش في بيئات تشكوا من الفقر الثقافي بكل وجوهه ومستوياته، المائل إلى البساطة في التفكير وإصدار الأحكام القطعية، ورفض كل ما يخالف ما هو عليه، وذالك لأن بيئته، جعلت قدرته على المقارنة محدودة وهذا هو الاستثناء حيث أن الأصل " أن بني البشر يملكون درجة من العقلانية، وتلك الدرجة متوقفة على نحو جوهري على مدى حيوية الثقافة وغناها وانفتاحها، وقبل ذالك الإطار الذي تشكلت فيه.
إن مما أضر بفهمنا لمسألة نسبة الصواب والخطأ في الأفكار أننا كثيرا ما ننزع الرأي من إطاره البنيوي وبيئته الثقافية والاجتماعية، فيبدو وكأنه يستمد صوابه من ذاته وقدرته على الإقناع ، واقتناع الناس به.
وهذا حرمنا من فهم المرتكزات .......
تعليق