هل سمى المسيح نفسه ابن الله؟
أول ما يلفت المحققون النظر إليه أنه لم يرد عن المسيح - في الأناجيل- تسميته لنفسه بابن الله سوى مرة واحدة في يوحنا (10/36)، وفيما سوى ذلك فإن الأناجيل تذكر أن معاصريه وتلاميذه كانوا يقولون بأنه ابن الله.
لذا فإن المحققين يشككون في صدور هذه الكلمات من المسيح أو تلاميذه، يقول سنجر في كتابه "قاموس الإنجيل": ليس من المتيقن أن عيسى نفسه قد استخدم ذلك التعبير".
ويقول شارل جنيبر: " والنتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين، هي : أن المسيح لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه إنه ابن الله... فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية". ( )
وقد قال العالم كولمن بخصوص هذا اللقب: "إن الحواريين الذين تحدث عنهم أعمال الرسل تأسَوا بمعلمهم الذي تحفظ على استخدام هذا اللقب ولم يرغب به، فاستنوا بسنته".
ويرى جنيبر أن المفهوم الخاطئ وصل إلى الإنجيل عبر الفهم غير الدقيق من المتنصرين الوثنيين فيقول: "مفهوم "ابن الله" نبع من عالم الفكر اليوناني".
ويرى القس السابق سليمان مفسر - ويوافقه الدكتور شارل جنيبر - أن بولس هو أول من استعمل الكلمة، وكانت حسب لغة المسيح (عبد الله) وترجمتها اليونانية servant، فأبدلها بالكلمة اليونانية pais بمعنى طفل أو خادم تقرباً إلى المتنصرين الجدد من الوثنيين. ( )
المسيح هو أيضاً ابن الإنسان
ثم هذه النصوص التي تصف المسيح أنه ابن الله معارضة بثلاثة وثمانين نصاً من النصوص التي أطلقت على المسيح لقب " ابن الإنسان "، فلئن كانت تلك التي أسمته ابن الله دالة على ألوهيته فإن هذه مؤكدة لبشريته، صارفة تلك الأخرى إلى المعنى المجازي.
ومنها قول متى: " قال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له، أين يسند رأسه" (متى 8/20)، وأيضاً قوله: " ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه" (مرقس 14/21)، وقد جاء في التوراة: "ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم" (العدد 23/9). فالمسيح ليس الله.
أبناء كثر لله، فهل هم أيضاً آلهة؟
ولفظ البنوة الذي أطلق على المسيح أطلق على كثيرين غيره، ولم يقتضِ ذلك ألوهيتهم، بل حملت بنوتهم على المعنى المجازي، أي المؤمنين والصالحين.
منهم آدم الذي قيل فيه: "آدم ابن الله" (لوقا 3/38).
ومثله قوله لداود: " أنت ابني، أنا اليوم ولدتك " (المزمور 2/7).
وسليمان أيضاً قيل أنه ابن الله، فقد جاء في سفر الأيام عنه: "هو يبني لي بيتاً …أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً" (الأيام (1) 17/12-13).
كما سمى لوقا الملائكة أبناء الله لشيوع مثل هذه الاستخدام في الصدر الأول للمسيحية "مثلَ الملائكةِ وهم أبناء الله " (لوقا 20/36).
وسمت النصوص أيضاً آخرين أبناء الله، أو ذكرت أن الله أبوهم، ومع ذلك لا يقول النصارى بألوهيتهم. فالحواريون أبناء الله، كما قال المسيح عنهم: " قولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " (يوحنا 20/17).
وقال للتلاميذ أيضاً: " فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متى 5/48).
وعلمهم المسيح أن يقولوا: "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك.." (متى 6/9)، وقوله: " أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه" (متى 6/11)، فكان يوحنا يقول: " انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله" (يوحنا (1) 3/1).
بل واليهود أيضاً كلهم أبناء الله كما يوضحه قول المسيح لليهود: "أنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد، وهو الله" (يوحنا 8/41).
وفي سفر هوشع "يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعدّ، ويكون عوضاً عن أن يقال لهم: لستم شعبي، يقال لهم: أبناء الله الحي" ( هوشع 1/10).
ونحوه قال عنهم: "لما كان إسرائيل غلاماً أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هوشع 11/1).
ومن ذلك أيضاً ما جاء في سفر الخروج عن جميع شعب " فتقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر. فقلت لك: أطلق ابني ليعبدني، فأبيت" (الخروج 4/22).
وخاطبهم داود قائلاً: "قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجداً وعزّاً" (المزمور 29/1).
ومثله قوله: "لأنه من في السماء يعادل الرب. من يشبه الرب بين أبناء الله" ( المزمور 89/6).
وفي سفر أيوب: "كان ذات يوم أنه جاء بنو الله، ليمثلوا أمام الرب " (أيوب 1/6).
وقال الإنجيل عنهم: "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون" (متى 5/9).
وعن المؤمنين يقول بولس : "فإذ نحن ذرية الله، لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان" (أعمال 17/29)، فوسم المؤمنين بأنهم ذرية الله، أي المحبون والمطيعون لله.
كما نرى في التوراة هذا الإطلاق على الشرفاء والأقوياء من غير أن يفهم منه النصارى أو غيرهم الألوهية الحقيقية، فقد جاء فيها: "أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.... إذ دخل بنو الله على بنات الناس، وولدن لهم أولاداً، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" (التكوين 6/2).
وعليه فلا يمكن النصارى أن يجعلوا من النصوص المتحدثة عن بنوة المسيح لله أدلة على ألوهيته ثم يمنعوا إطلاق حقيقة ذات اللفظ على آدم وسليمان و… ، وتخصيصهم المسيح بالمعنى الحقيقي يحتاج إلى مرجح لا يملكونه ولا يقدرون عليه.
معنى البنوة الصحيح
والمعنى المقصود للبنوة في كل ما قيل عن المسيح وغيره إنما هو معنى مجازي بمعنى حبيب الله أو مطيع الله، أو المؤمن بالله.
لذلك قال مرقس وهو يحكي عبارة قائد المائة الذي شاهد المصلوب وهو يموت فقال: "حقاً كان هذا الإنسان ابن الله " (مرقس 15/39).
ولما حكى لوقا القصة نفسها أبدل العبارة بمرادفها فقال: "بالحقيقة كان هذا الإنسان بارّاً" (لوقا 23/47).
ومثل هذا الاستخدام وقع من يوحنا حين تحدث عن أولاد الله المؤمنين، فقال: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12)، ونحوه في قول بولس: "كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (غلاطية 8/14).
ومثله قول يوحنا: "الذي يسمع كلام الله من الله" (يوحنا 8/47).
ومثل هذا الإطلاق المجازي للبنوة معهود في الكتب المقدسة التي تحدثت عن أبناء الشيطان، وأبناء الدهر (الدنيا)…(انظر يوحنا 8/44، لوقا 16/8).
وأما المعنى الحقيقي للبنوة فقد نطقت به الشياطين، فانتهرها المسيح، ففي إنجيل لوقا " كانت شياطين أيضاً تخرج من كثيرين، وهي تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح" (لوقا 4/41)، فهو المسيح فحسب، وليس ابن الله على الحقيقة.
بكورية المسيح بين الأبناء
لكن النصارى يرون تميزاً مستحقاً للمسيح في بنوته عن سائر الأبناء، فهم لا ينازعون في صحة الإطلاق المجازي عندما ترد لفظ البنوة بحق سائر المخلوقات.
لكن النـزاع إنما يكمن في تلك الأوصاف التي أطلقت على المسيح ويثبتها النصارى على الحقيقة محتجين بأمور، منها: أنه قد جاء وصف المسيح بأنه الابن البكر أو الوحيد لله. (انظر عبرانيين 1/6، يوحنا 3/18) أو أنه سمي ابن الله العلي ( انظر لوقا 1/32، 76)، أو أنه ابن ليس مولوداً من هذا العالم كسائر الأبناء، بل هو مولود من السماء، أو من فوق. (انظر يوحنا 1/18).
ولكن ذلك كله تثبت النصوص أمثاله لأبناء آخرين.
فالبكورية وصف بها إسرائيل: " إسرائيل ابني البكر" (الخروج 4/22-23).
وكذا إفرايم "لأني صرت لإسرائيل أباً، وإفرايم هو بكري" (إرميا 31/9).
وكذا داود "هو يدعوني: أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أيضاً أجعله بكراً، فوق ملوك الأرض علياً" (المزمور 89/26-27).
ولئن قيل في المسيح أنه ابن الله العلي، فكذلك سائر بني إسرائيل "وبنو العلي كلكم" (المزمور 82/6).
وكذا تلاميذ المسيح فهم أيضاً بنو العلي " أحبوا أعداءكم…فيكون أجركم عظيماً، وتكونوا بني العلي" (لوقا 6/35).
الابن النازل من السماء
وتعلق مؤلهو المسيح بما ذكرته الأناجيل عن المسيح الذي أتى من فوق أو من السماء، و"الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع" (يوحنا 3/31)، وهم يرون صورة ألوهيته مشرقة في قوله: " أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (يوحنا 8/23)، فدل ذلك - وفق رأي النصارى - على أنه كائن إلهي فريد، وهو ابن لا كسائر الأبناء.
لكن المقصود من المجيء السماوي هو إتيان المواهب والشريعة لا إتيان الذات، وهو أمر يستوي به مع سائر الأنبياء، ومنهم يوحنا المعمدان فقد سأل المسيح اليهود: "معمودية يوحنا من أين كانت من السماء؟ أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، فيقولوا لنا: فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، نخاف من الشعب…" (متى 21/25-26).
وأما النازلون على الحقيقة من السماء فهم كثر، ولا تعتبر النصارى أيا منهم آلهة، منهم الملائكة، "لأن ملاك الرب نزل من السماء" (متى 28/2).
وكذا صعد أخنوخ إلى السماء "وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد، لأن الله أخذه" (التكوين 5/24)، ومن المعلوم أن "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا 3/13)، فأخنوخ مثله، ولا يقولون بألوهيته.
وكذا إيليا صعد إلى السماء "ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء" (الملوك (2) 2/11).
كما تذكر الأناجيل أن التلاميذ، هم أيضاً مولودون من فوق أو من الله، أي هم مؤمنون به، ففي يوحنا: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12). فالمقصود بالولاد، الولاد الروحي، بحيث يتغير قلب الإنسان الخاطئ تغيراً عظيماً كاملاً مستمراً، كأنه ولد ثانية، ويحدث ذلك عند توبته وإيمانه.
والمؤمنون بالمسيح مولودون من فوق بما أعطاهم الله من الإيمان، فهم كسائر المؤمنين كما قال المسيح: "الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يوحنا 3/3).
وكذا قال: "كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/1).
وقال: " كل من يصنع البر مولود منه" (يوحنا (1) 2/29).
وقول المسيح : " أما أنا فلست من هذا العالم " ليس دليلاً على الألوهية بحال، فمراده اختلافه عن سائر البشر باستعلائه على العالم المادي، بل هو من فوق ذلك الحطام الذي يلهث وراءه سائر الناس.
وقد قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً بعد أن لمس فيهم حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، فقال: " لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، لكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم" (يوحنا 15/19).
وفي موضع آخر قال عنهم: " أنا قد أعطيتهم كلامك، والعالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لست من العالم" ( 17/14-15)، فقال في حق تلاميذه ما قاله في حق نفسه من كونهم جميعاً ليسوا من هذا العالم، فلو كان هذا على ظاهره، وكان مستلزماً الألوهية، للزم أن يكون التلاميذ كلهم آلهة، لكن تعبيره في ذلك كله نوع من المجاز، كما يقال: فلان ليس من هذا العالم، يعني: هو لا يعيش للدنيا و لا يهتم بها، بل همُّـهُ دوماً رضا الله والدار الآخرة.
أول ما يلفت المحققون النظر إليه أنه لم يرد عن المسيح - في الأناجيل- تسميته لنفسه بابن الله سوى مرة واحدة في يوحنا (10/36)، وفيما سوى ذلك فإن الأناجيل تذكر أن معاصريه وتلاميذه كانوا يقولون بأنه ابن الله.
لذا فإن المحققين يشككون في صدور هذه الكلمات من المسيح أو تلاميذه، يقول سنجر في كتابه "قاموس الإنجيل": ليس من المتيقن أن عيسى نفسه قد استخدم ذلك التعبير".
ويقول شارل جنيبر: " والنتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين، هي : أن المسيح لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه إنه ابن الله... فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية". ( )
وقد قال العالم كولمن بخصوص هذا اللقب: "إن الحواريين الذين تحدث عنهم أعمال الرسل تأسَوا بمعلمهم الذي تحفظ على استخدام هذا اللقب ولم يرغب به، فاستنوا بسنته".
ويرى جنيبر أن المفهوم الخاطئ وصل إلى الإنجيل عبر الفهم غير الدقيق من المتنصرين الوثنيين فيقول: "مفهوم "ابن الله" نبع من عالم الفكر اليوناني".
ويرى القس السابق سليمان مفسر - ويوافقه الدكتور شارل جنيبر - أن بولس هو أول من استعمل الكلمة، وكانت حسب لغة المسيح (عبد الله) وترجمتها اليونانية servant، فأبدلها بالكلمة اليونانية pais بمعنى طفل أو خادم تقرباً إلى المتنصرين الجدد من الوثنيين. ( )
المسيح هو أيضاً ابن الإنسان
ثم هذه النصوص التي تصف المسيح أنه ابن الله معارضة بثلاثة وثمانين نصاً من النصوص التي أطلقت على المسيح لقب " ابن الإنسان "، فلئن كانت تلك التي أسمته ابن الله دالة على ألوهيته فإن هذه مؤكدة لبشريته، صارفة تلك الأخرى إلى المعنى المجازي.
ومنها قول متى: " قال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له، أين يسند رأسه" (متى 8/20)، وأيضاً قوله: " ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه" (مرقس 14/21)، وقد جاء في التوراة: "ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم" (العدد 23/9). فالمسيح ليس الله.
أبناء كثر لله، فهل هم أيضاً آلهة؟
ولفظ البنوة الذي أطلق على المسيح أطلق على كثيرين غيره، ولم يقتضِ ذلك ألوهيتهم، بل حملت بنوتهم على المعنى المجازي، أي المؤمنين والصالحين.
منهم آدم الذي قيل فيه: "آدم ابن الله" (لوقا 3/38).
ومثله قوله لداود: " أنت ابني، أنا اليوم ولدتك " (المزمور 2/7).
وسليمان أيضاً قيل أنه ابن الله، فقد جاء في سفر الأيام عنه: "هو يبني لي بيتاً …أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً" (الأيام (1) 17/12-13).
كما سمى لوقا الملائكة أبناء الله لشيوع مثل هذه الاستخدام في الصدر الأول للمسيحية "مثلَ الملائكةِ وهم أبناء الله " (لوقا 20/36).
وسمت النصوص أيضاً آخرين أبناء الله، أو ذكرت أن الله أبوهم، ومع ذلك لا يقول النصارى بألوهيتهم. فالحواريون أبناء الله، كما قال المسيح عنهم: " قولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " (يوحنا 20/17).
وقال للتلاميذ أيضاً: " فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متى 5/48).
وعلمهم المسيح أن يقولوا: "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك.." (متى 6/9)، وقوله: " أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه" (متى 6/11)، فكان يوحنا يقول: " انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله" (يوحنا (1) 3/1).
بل واليهود أيضاً كلهم أبناء الله كما يوضحه قول المسيح لليهود: "أنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد، وهو الله" (يوحنا 8/41).
وفي سفر هوشع "يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعدّ، ويكون عوضاً عن أن يقال لهم: لستم شعبي، يقال لهم: أبناء الله الحي" ( هوشع 1/10).
ونحوه قال عنهم: "لما كان إسرائيل غلاماً أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هوشع 11/1).
ومن ذلك أيضاً ما جاء في سفر الخروج عن جميع شعب " فتقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر. فقلت لك: أطلق ابني ليعبدني، فأبيت" (الخروج 4/22).
وخاطبهم داود قائلاً: "قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجداً وعزّاً" (المزمور 29/1).
ومثله قوله: "لأنه من في السماء يعادل الرب. من يشبه الرب بين أبناء الله" ( المزمور 89/6).
وفي سفر أيوب: "كان ذات يوم أنه جاء بنو الله، ليمثلوا أمام الرب " (أيوب 1/6).
وقال الإنجيل عنهم: "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون" (متى 5/9).
وعن المؤمنين يقول بولس : "فإذ نحن ذرية الله، لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان" (أعمال 17/29)، فوسم المؤمنين بأنهم ذرية الله، أي المحبون والمطيعون لله.
كما نرى في التوراة هذا الإطلاق على الشرفاء والأقوياء من غير أن يفهم منه النصارى أو غيرهم الألوهية الحقيقية، فقد جاء فيها: "أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.... إذ دخل بنو الله على بنات الناس، وولدن لهم أولاداً، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" (التكوين 6/2).
وعليه فلا يمكن النصارى أن يجعلوا من النصوص المتحدثة عن بنوة المسيح لله أدلة على ألوهيته ثم يمنعوا إطلاق حقيقة ذات اللفظ على آدم وسليمان و… ، وتخصيصهم المسيح بالمعنى الحقيقي يحتاج إلى مرجح لا يملكونه ولا يقدرون عليه.
معنى البنوة الصحيح
والمعنى المقصود للبنوة في كل ما قيل عن المسيح وغيره إنما هو معنى مجازي بمعنى حبيب الله أو مطيع الله، أو المؤمن بالله.
لذلك قال مرقس وهو يحكي عبارة قائد المائة الذي شاهد المصلوب وهو يموت فقال: "حقاً كان هذا الإنسان ابن الله " (مرقس 15/39).
ولما حكى لوقا القصة نفسها أبدل العبارة بمرادفها فقال: "بالحقيقة كان هذا الإنسان بارّاً" (لوقا 23/47).
ومثل هذا الاستخدام وقع من يوحنا حين تحدث عن أولاد الله المؤمنين، فقال: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12)، ونحوه في قول بولس: "كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (غلاطية 8/14).
ومثله قول يوحنا: "الذي يسمع كلام الله من الله" (يوحنا 8/47).
ومثل هذا الإطلاق المجازي للبنوة معهود في الكتب المقدسة التي تحدثت عن أبناء الشيطان، وأبناء الدهر (الدنيا)…(انظر يوحنا 8/44، لوقا 16/8).
وأما المعنى الحقيقي للبنوة فقد نطقت به الشياطين، فانتهرها المسيح، ففي إنجيل لوقا " كانت شياطين أيضاً تخرج من كثيرين، وهي تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح" (لوقا 4/41)، فهو المسيح فحسب، وليس ابن الله على الحقيقة.
بكورية المسيح بين الأبناء
لكن النصارى يرون تميزاً مستحقاً للمسيح في بنوته عن سائر الأبناء، فهم لا ينازعون في صحة الإطلاق المجازي عندما ترد لفظ البنوة بحق سائر المخلوقات.
لكن النـزاع إنما يكمن في تلك الأوصاف التي أطلقت على المسيح ويثبتها النصارى على الحقيقة محتجين بأمور، منها: أنه قد جاء وصف المسيح بأنه الابن البكر أو الوحيد لله. (انظر عبرانيين 1/6، يوحنا 3/18) أو أنه سمي ابن الله العلي ( انظر لوقا 1/32، 76)، أو أنه ابن ليس مولوداً من هذا العالم كسائر الأبناء، بل هو مولود من السماء، أو من فوق. (انظر يوحنا 1/18).
ولكن ذلك كله تثبت النصوص أمثاله لأبناء آخرين.
فالبكورية وصف بها إسرائيل: " إسرائيل ابني البكر" (الخروج 4/22-23).
وكذا إفرايم "لأني صرت لإسرائيل أباً، وإفرايم هو بكري" (إرميا 31/9).
وكذا داود "هو يدعوني: أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أيضاً أجعله بكراً، فوق ملوك الأرض علياً" (المزمور 89/26-27).
ولئن قيل في المسيح أنه ابن الله العلي، فكذلك سائر بني إسرائيل "وبنو العلي كلكم" (المزمور 82/6).
وكذا تلاميذ المسيح فهم أيضاً بنو العلي " أحبوا أعداءكم…فيكون أجركم عظيماً، وتكونوا بني العلي" (لوقا 6/35).
الابن النازل من السماء
وتعلق مؤلهو المسيح بما ذكرته الأناجيل عن المسيح الذي أتى من فوق أو من السماء، و"الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع" (يوحنا 3/31)، وهم يرون صورة ألوهيته مشرقة في قوله: " أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (يوحنا 8/23)، فدل ذلك - وفق رأي النصارى - على أنه كائن إلهي فريد، وهو ابن لا كسائر الأبناء.
لكن المقصود من المجيء السماوي هو إتيان المواهب والشريعة لا إتيان الذات، وهو أمر يستوي به مع سائر الأنبياء، ومنهم يوحنا المعمدان فقد سأل المسيح اليهود: "معمودية يوحنا من أين كانت من السماء؟ أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، فيقولوا لنا: فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، نخاف من الشعب…" (متى 21/25-26).
وأما النازلون على الحقيقة من السماء فهم كثر، ولا تعتبر النصارى أيا منهم آلهة، منهم الملائكة، "لأن ملاك الرب نزل من السماء" (متى 28/2).
وكذا صعد أخنوخ إلى السماء "وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد، لأن الله أخذه" (التكوين 5/24)، ومن المعلوم أن "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا 3/13)، فأخنوخ مثله، ولا يقولون بألوهيته.
وكذا إيليا صعد إلى السماء "ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء" (الملوك (2) 2/11).
كما تذكر الأناجيل أن التلاميذ، هم أيضاً مولودون من فوق أو من الله، أي هم مؤمنون به، ففي يوحنا: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12). فالمقصود بالولاد، الولاد الروحي، بحيث يتغير قلب الإنسان الخاطئ تغيراً عظيماً كاملاً مستمراً، كأنه ولد ثانية، ويحدث ذلك عند توبته وإيمانه.
والمؤمنون بالمسيح مولودون من فوق بما أعطاهم الله من الإيمان، فهم كسائر المؤمنين كما قال المسيح: "الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يوحنا 3/3).
وكذا قال: "كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/1).
وقال: " كل من يصنع البر مولود منه" (يوحنا (1) 2/29).
وقول المسيح : " أما أنا فلست من هذا العالم " ليس دليلاً على الألوهية بحال، فمراده اختلافه عن سائر البشر باستعلائه على العالم المادي، بل هو من فوق ذلك الحطام الذي يلهث وراءه سائر الناس.
وقد قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً بعد أن لمس فيهم حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، فقال: " لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، لكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم" (يوحنا 15/19).
وفي موضع آخر قال عنهم: " أنا قد أعطيتهم كلامك، والعالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لست من العالم" ( 17/14-15)، فقال في حق تلاميذه ما قاله في حق نفسه من كونهم جميعاً ليسوا من هذا العالم، فلو كان هذا على ظاهره، وكان مستلزماً الألوهية، للزم أن يكون التلاميذ كلهم آلهة، لكن تعبيره في ذلك كله نوع من المجاز، كما يقال: فلان ليس من هذا العالم، يعني: هو لا يعيش للدنيا و لا يهتم بها، بل همُّـهُ دوماً رضا الله والدار الآخرة.
تعليق