من كتاب "سر تأخر العرب والمسلمين" للشيخ محمد الغزالي نقرأ ما يلي حول موضوع الالحاد والعلم: [جيل يذهب ضحية العجز والغدر بين يدي كتاب مدرسي مقرر على طلاب الثانوية العامة في دولة إسلامية عريقة، وثابت على غلاف الكتاب، أنه لجميع الشعب التي تريد نيل (البكالوريا). طالعت في هذا الكتاب الموضوع الذي يهمني، ويهم كل مسلم، موضوع "الإيمان بالله واليوم الاخر" وشعرت بغصة والمؤلف ينقض أسس هذا الإيمان. ويجعل منه حكاية أسطورية من مخلفات ماض قليل الوعي . . . ! وتساءلت : هل تضليل الألوف من أبنائنا على هذا النحو جريمة فردية؟ أعني هل هذا المؤلف ملحد يريد نشر فكره لرغبة خاصة لديه وحده؟ أم أنه يخدم جهات تريد تخريج نشء خرب القلب، جامح الهوى، فتمرر هذا الكتاب على كل شاب يريد الالتحاق بالجامعة، ليطمئن الاستعمار الثقافي بشقيه الشيوعي والصليبي على مستقبله في بلادنا؟ أضحكني زعم المؤلف أن الإيمان بالآخرة تصدع لما اكتشف (كوبرنيك ) أن الشمس لا الأرض مركز الكون! وأن الأمر على خلاف ما تعتقد الكنيسة وقلت : ما صلة الاخرة بهذا الكشف الفلكي؟ ولماذا ييأس الناس من عودتهم إلى الله، لأن الأرض هي التي تدور حول الشمس لا العكس ؟ هذا الربط العلمي العظيم يشبه القول بان أنف أبي الهول تحطم، لأن ملكة إنكلترة أنجبت ولدا ذكرا ! !، إن الكنيسة تخطئ وتصيب، وهي في زعمها أن الشمس تدور حول الأرض لم تعتمد على وحي سماوي، بل كانت تتبع رأى (أرسطو)، وقد خالف (أرسطو) في هذا الزعم (أريستاخوس الساموسي) مؤكدا أن الأرض هي التي تدور حول الشمس . . .
فليختلف فلاسفة اليونان وكهنة (الكنائس )، في هذا الأمر ما شاؤوا! ما علاقة ذلك بجعل اليوم الآخر خرافة؟ لكن هذا هو الفكر العلمي عند أهل الإلحاد. ومضى المؤلف يقول : إن قضية الاخرة انهارت بعد ظهور نظرية التطور، وثبوت أن الإنسان من سلالة القرود وهو يرى أنه أشرف للإنسان أن يكون من سلالة الحيوانات، فهو خير له من أن يكون من أبناء القتلة . . ! ولنذكر عبارات المؤلف الفيلسوف بنصها - قبل التعليق على أوهامه التي يحسبها علما يقول: في العصور الوسطى نظرت الكنيسة إلى الله على أنه أشبه ما يكون بسيد يرى الخدم الذين يعملون في أرضه، وهو حر في أن يطلب منهم مغادرة الأرض ساعة يشاء، وأن يطلب منهم (الحساب) كذلك. الله خلق الإنسان وميزه عن باقي المخلوقات، وسخر له جميع ما في الكون، وهو الذي يحدد نهايته عندما يريد. إلا إن هذا الموقف تعرض لصعوبات، بسبب بعض الاكتشافات العلمية.
أ - إن اكتشاف كروية الأرض، ودورانها حول الشمس مع كواكب أخرى من طرف (غاليلو) ومن قبله (كوبرنيك ) أضعف من موقف الكنيسة، التي كانت ترى أن الأرض ثابتة، وهي مركز الكون، وأن الإنسان كائن ممتاز، سخرت له - جميع الكائنات الأخرى، عندما قال (غاليلو) بدوران الأرض، اعتبرت الكنيسة هذا الموقف منافيا للدين، بل خطرا عليه، لأنه يفقد الإنسان الامتياز الذي منحه الله إياه، ولم تتردد الكنيسة في الحكم على (غاليلو) بالموت.
ب - الصعوبة الثانية التي تعرض لها الموقف الديني، كانت على يد (دارون) الذي جاء بنظرية التطور. ولقد وصلت نظرية التطور إلى النتيجة الآتية : لا فرق بين الإنسان والحيوان، إلا من حيث الدرجة، لا من حيث النوع: ويجب أن نقبل أن يكون أجدادنا قردة! بل إن (دارون ) يدعو إلى الافتخار بهؤلاء الأجداد ، لأن الانتساب للحيوان - كما يقول (دارون) - أفضل من الانتساب إلى الإنسان الذي يقتل أخاه الإنسان بدون مسوغ. إذن لم يعد الإنسان في نظر (دارون ) كائنا ممتازا، بل أصبح مجرد كائن يحتل رتبة متقدمة في سلم التطور. وهذا يتنافى بوضوح مع الدين الذي يرى أن الله ميز- منذ بدء الخليقة -بين الإنسان وبين الكائنات الأخرى.
ج- إن علم الاجتماع، وهو أحدث العلوم التي استقلت عن الفلسفة، يؤكد لنا حقيقة موضوعية، وهو أن الإنسان وليد البيئة، وأن جميع ما يأخذ به من أفكار ومعتقدات، ليست نهائية ومطلقة. لأنها تختلف من مجتمع لاخر، ومن عصر لآخر، فما قد تعتقده جماعة، قد ترفضه جماعة أخرى.
د - وهناك صعوبة أخرى واجهها الموقف الديني بعد اكتشاف التحليل النفسي. إن التحليل النفسي يؤكد لنا أن أفكارنا ومعتقداتنا ليست مطلقة. بل هي نتيجة لعوامل خفية، أو لا شعورية. فإذا لجأ البعض إلى التدين، فما ذلك إلا ليعبروا عن رغبات مكبوتة، وكان يمكن لهم أن يلجؤوا إلى وسيلة أخرى للتعبير عن هذه الرغبات، فالتمسك بالدين ليس إلا مظهرا خاضعا لعوامل لا شعورية، ويرى (فرويد) أن هذه العوامل تكون في الغالب عوامل جنسية. هذه أقوال متناثرة جمعت على استكراه، لتخلق صوبات عقلية أمام الإيمان باليوم الاخر، أو اللقاء المحتوم مع الإنه الذي خلقنا أول مرة. وقد حاولت عبثا أن أفهم منها ما يريد المؤلف فعجزت، خذ مثلا كلامه، عن علم النفس : إن (فرويد) يرى الغريزة الجنسية الأساس الفذ للسلوك البشري أجمع ! وقد رأت باحثة أخرى أن غريزة الكل أولى بهذه الصفة ، فهي التي تستهلك أعمار البشر! وترهق أعصابهم بمطالبها، ورأى باحث ثالث أن غريزة الشعور الإيجابي بالذات من وراء الكفاح الرهيب على ظهر الأرض . . ثم تخطى علم النفس نظرية الغرائز (لمكدوجل ) ، وتحدث عن دعائم أخرى للسلوك الإنساني، لا نشرحها هنا . . والذي ألحظه أن الناس متفاوتو الطباع، وأن هناك من يهيم بالنساء، ومن يهيم بحب المال وطلب الثراء، ومن يضحي بكل شيء طلبا للظهور والرياء! ! وقد عرض على (الأفغاني ) الزواج فأبى، وعاش (ابن تيمية) أعزب، وكذلك كان (أبو مسلم الخراساني )، وكل من هؤلاء كان له شان يغنيه ! وقد تكون الغريزة الجنسية شديدة الوطأة، لكن عرامها أو هزالها لا علاقة له بعقيدة (المصير) أو البعث والجزاء، كما يزعم هذا المؤلف .. وننتقل إلى علم الاجتماع والباحثين فيه ، ومنهم التائه والراشد ، والبصير والضرير! ! هل إذا قال أحد هؤلاء : إن الدين ظاهرة اجتماعية، فإن كلمته تصبع حكما فصلا ليس بالهزل ؟ إن الدين حقيقة عقلية، وخلقية، وعلاقة قائمة بين - الناس ورب الناس. عن أي دين يتحدث هذا المؤلف، أو ينقل عن المتحدثين ؟ عن عبادة الأحجار، أو عبادة الأبقار، أو عن تصور الألوهية وفق شائعات غامضة، وأقوال متناقضة، كبعض الأديان السماوية التي حرفها بعض من يدينون بها؟ إن التحقيق العلمي لا يعني المؤلف ، إن ما يشد انتباهه ، هو وصف المتدينين بأنه ينفسون عن رغبات جنسية! سبحان الله، هل الذين أجهزوا على الاستعمار الروماني والفارسي قديما كانوا صرعى كبت جنسي ؟ ما أحوج العالم اليوم إلى هذا الكبت !
نخلص إلى قضية التطور كما يشرحها (دارون)! يرى الشيخ (نديم الجسر) في كتابه الجليل : (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقران ) أن (دارون) مؤمن بالله، وأن نشاطه الفكري يدور حول : هل صدر العالم عن الله بصورته المعاصرة؟ أم أنه صدر عنه في صورة أدنى، ثم صعد في سلم الارتقاء إلى ما نراه الان ؟؟ ولم يقدم (دارون ) إجابة حاسمة في الموضوع الذي عالجه، لأن هناك حلقات مفقودة تجعل نظرية النشوء والارتقاء محاولة مبتورة، زد على ذلك أن تلامذته الأقربين نقضوا الكثير من مقدماته، مما جعل الفكر الدارويني ينحسر ويتراجع! فباي منطق علمي يسوق المؤلف لشباب الثانوية العامة فكر دارون على أنه حقيقة علمية مؤكدة ، وأنه يفهم من هذا الفكر أن الإنسان تراب فقط، والتراب ينتهي ويتلاشى، فلا بعث ولا جزاء . في أي معمل كيماوي، أو مرصد فلكي ثبت أن الروح خرافة، وأن النفس الإنسانية بخصائصها العالية عرض عابر، أو وهم لا بقاء له . . ؟ لا ريب أن الإنسان خلق من تربة هذه الأرض كما قال تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى" ونحن نشهد نبات الأرض يتحول في جسومنا إلى لحم ودم، فمن يحوله كذلك ؟ من يحوله إلى خلايا ذات وظائف مذهلة؟ كيف يتصور أن الروح هي الأخرى حفنة تراب ، وأن الشعور والفكر والعاطفة والذاكرة والخيال بعض الطين المنتشرفي أرضنا؟
إن لدى بعض الناس جنونا في إرسال كلمات موغلة في الكذب، قال لي أحدهم: إن العلم بدأ يخلق الأطفال في الأنابيب! قلت : كيف ؟ إن الطبيب يجيء بحيوان منوي -لم يخلقه يقينا- ويضمه إلى بويضة من الأنثى-لم يخلقها يقنيا- ، ويضع ذلك في مخبار لمدة عشر ساعات، أو أكثر قليلا، ثم يغرسه بعد ذلك في الرحم، ليبقى في جسم المرأة تسعة شهور، هي مراحل الحمل المعتاد، حيث يصنع أحسن الخالقين الجنين، وتتم بعدئذ الولادة المعتادة! ما الذي خلقه العلم ؟ إن الكفر كالجنون فنون . . ! وهذه قصة ملحد آخر، دخل المجلس وهو يقول:أنا عائد بعد ما درست للطلاب أن المادة لا تفنى ولا تستحدث ! قلت له : إنني سمعت هذا الكلام وأنا طالب ، وأحسب أنه الآن قد ظهر زيفه ! قال : كلا ، هذا هو العلم! قلت : إذا كنت أنا وأنت قديمين، فاين كنا من مئة عام؟ ما أظننا إلا حادثين بالميلاد! قال: مادتنا قديمة، لعلنا كنا ترابا في مكان ما من الأرض، وقطرات ماء في مكان ما من البحار أو الأنهار، أما ميلادنا فليس إلا تغيرا في صورة الوجود! ثم قلت : وأرواحنا وخصائصنا الفكرية والعاطفية، إنني أحس بأنها محدثة يقينا! قال : الأفكار والمشاعر ليست إلا تفاعلات مادية لا قيمة لها . . . والروح؟، خرافة ! قلت : فلأصدق جدلا أن ما حدث هو تحولات في مادة قديمة، وليس إيجادا تم من عدم ، لكن من المحول ؟ من الذي حول التراب الحقير إلى بصل وجرجير، ثم إلى قردة وحمير، ثم إلى هذا الإنسان الخطير؟ إن هذا التحويل يحتاج إلى مؤهلات رفيعة القدر ! قال : ماذا تعني ؟ قلت : على جانب وجهي أذنان بهما أجهزة استقبال معقدة، وفي الوجه عينان بهما أجهزة تصوير، وتحميض وانعكاس واعتدال، وهذا المخ الغريب! إنه كأي (كمبيوتر) أو حاسب ، يهيمن باسلوب ساحر على شبكة أعصاب، تضبط الجسد، وهذه المضخة الماصة الكابسة في القلب، تدفع الدم وتستقبله بانتظام، ثم ألا ترى هذه الكلى؟ إنها إذا تعطلت ذهبنا إلى جهاز كبير يعالج الفشل الكلوي بعناء! من صنع هذا كله؟ قال : الطبيعة ذكية! قلت : ما أشبهك بشخص وقف أمام قصر منيف، ثم أخذ يقول : هذه نافذة ذكية لأنها اختارت مكانا يستقبل الضوء، وهذه شرفة عبقرية، لأنها اختارت مكانا يستقبل الهواء، وهذا سقف فنان، لأنه اختار ارتفاعا يسمح بدخول السكان . . وهكذا وزع صفات المهندس المنشئ على الخشب والرخام والزجاج . . . إلخ . اسمع أيها الرفيق ، إن حمار الحكيم (توما) أذكى منه، لقد ألقى الحكيم على طلابه درسا مثلك، فرووا أن حماره أنشد هذين البيتين: قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب فإنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب. إن الظن بان الإلحاد فرط معرفة، أو زيادة ذكاء - كما يتوهم المغفلون - لا أساس له ، إن الإلحاد مرض نفسي :" إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم الا كبر ما هم ببالغيه".
محمد الغزالى .
فليختلف فلاسفة اليونان وكهنة (الكنائس )، في هذا الأمر ما شاؤوا! ما علاقة ذلك بجعل اليوم الآخر خرافة؟ لكن هذا هو الفكر العلمي عند أهل الإلحاد. ومضى المؤلف يقول : إن قضية الاخرة انهارت بعد ظهور نظرية التطور، وثبوت أن الإنسان من سلالة القرود وهو يرى أنه أشرف للإنسان أن يكون من سلالة الحيوانات، فهو خير له من أن يكون من أبناء القتلة . . ! ولنذكر عبارات المؤلف الفيلسوف بنصها - قبل التعليق على أوهامه التي يحسبها علما يقول: في العصور الوسطى نظرت الكنيسة إلى الله على أنه أشبه ما يكون بسيد يرى الخدم الذين يعملون في أرضه، وهو حر في أن يطلب منهم مغادرة الأرض ساعة يشاء، وأن يطلب منهم (الحساب) كذلك. الله خلق الإنسان وميزه عن باقي المخلوقات، وسخر له جميع ما في الكون، وهو الذي يحدد نهايته عندما يريد. إلا إن هذا الموقف تعرض لصعوبات، بسبب بعض الاكتشافات العلمية.
أ - إن اكتشاف كروية الأرض، ودورانها حول الشمس مع كواكب أخرى من طرف (غاليلو) ومن قبله (كوبرنيك ) أضعف من موقف الكنيسة، التي كانت ترى أن الأرض ثابتة، وهي مركز الكون، وأن الإنسان كائن ممتاز، سخرت له - جميع الكائنات الأخرى، عندما قال (غاليلو) بدوران الأرض، اعتبرت الكنيسة هذا الموقف منافيا للدين، بل خطرا عليه، لأنه يفقد الإنسان الامتياز الذي منحه الله إياه، ولم تتردد الكنيسة في الحكم على (غاليلو) بالموت.
ب - الصعوبة الثانية التي تعرض لها الموقف الديني، كانت على يد (دارون) الذي جاء بنظرية التطور. ولقد وصلت نظرية التطور إلى النتيجة الآتية : لا فرق بين الإنسان والحيوان، إلا من حيث الدرجة، لا من حيث النوع: ويجب أن نقبل أن يكون أجدادنا قردة! بل إن (دارون ) يدعو إلى الافتخار بهؤلاء الأجداد ، لأن الانتساب للحيوان - كما يقول (دارون) - أفضل من الانتساب إلى الإنسان الذي يقتل أخاه الإنسان بدون مسوغ. إذن لم يعد الإنسان في نظر (دارون ) كائنا ممتازا، بل أصبح مجرد كائن يحتل رتبة متقدمة في سلم التطور. وهذا يتنافى بوضوح مع الدين الذي يرى أن الله ميز- منذ بدء الخليقة -بين الإنسان وبين الكائنات الأخرى.
ج- إن علم الاجتماع، وهو أحدث العلوم التي استقلت عن الفلسفة، يؤكد لنا حقيقة موضوعية، وهو أن الإنسان وليد البيئة، وأن جميع ما يأخذ به من أفكار ومعتقدات، ليست نهائية ومطلقة. لأنها تختلف من مجتمع لاخر، ومن عصر لآخر، فما قد تعتقده جماعة، قد ترفضه جماعة أخرى.
د - وهناك صعوبة أخرى واجهها الموقف الديني بعد اكتشاف التحليل النفسي. إن التحليل النفسي يؤكد لنا أن أفكارنا ومعتقداتنا ليست مطلقة. بل هي نتيجة لعوامل خفية، أو لا شعورية. فإذا لجأ البعض إلى التدين، فما ذلك إلا ليعبروا عن رغبات مكبوتة، وكان يمكن لهم أن يلجؤوا إلى وسيلة أخرى للتعبير عن هذه الرغبات، فالتمسك بالدين ليس إلا مظهرا خاضعا لعوامل لا شعورية، ويرى (فرويد) أن هذه العوامل تكون في الغالب عوامل جنسية. هذه أقوال متناثرة جمعت على استكراه، لتخلق صوبات عقلية أمام الإيمان باليوم الاخر، أو اللقاء المحتوم مع الإنه الذي خلقنا أول مرة. وقد حاولت عبثا أن أفهم منها ما يريد المؤلف فعجزت، خذ مثلا كلامه، عن علم النفس : إن (فرويد) يرى الغريزة الجنسية الأساس الفذ للسلوك البشري أجمع ! وقد رأت باحثة أخرى أن غريزة الكل أولى بهذه الصفة ، فهي التي تستهلك أعمار البشر! وترهق أعصابهم بمطالبها، ورأى باحث ثالث أن غريزة الشعور الإيجابي بالذات من وراء الكفاح الرهيب على ظهر الأرض . . ثم تخطى علم النفس نظرية الغرائز (لمكدوجل ) ، وتحدث عن دعائم أخرى للسلوك الإنساني، لا نشرحها هنا . . والذي ألحظه أن الناس متفاوتو الطباع، وأن هناك من يهيم بالنساء، ومن يهيم بحب المال وطلب الثراء، ومن يضحي بكل شيء طلبا للظهور والرياء! ! وقد عرض على (الأفغاني ) الزواج فأبى، وعاش (ابن تيمية) أعزب، وكذلك كان (أبو مسلم الخراساني )، وكل من هؤلاء كان له شان يغنيه ! وقد تكون الغريزة الجنسية شديدة الوطأة، لكن عرامها أو هزالها لا علاقة له بعقيدة (المصير) أو البعث والجزاء، كما يزعم هذا المؤلف .. وننتقل إلى علم الاجتماع والباحثين فيه ، ومنهم التائه والراشد ، والبصير والضرير! ! هل إذا قال أحد هؤلاء : إن الدين ظاهرة اجتماعية، فإن كلمته تصبع حكما فصلا ليس بالهزل ؟ إن الدين حقيقة عقلية، وخلقية، وعلاقة قائمة بين - الناس ورب الناس. عن أي دين يتحدث هذا المؤلف، أو ينقل عن المتحدثين ؟ عن عبادة الأحجار، أو عبادة الأبقار، أو عن تصور الألوهية وفق شائعات غامضة، وأقوال متناقضة، كبعض الأديان السماوية التي حرفها بعض من يدينون بها؟ إن التحقيق العلمي لا يعني المؤلف ، إن ما يشد انتباهه ، هو وصف المتدينين بأنه ينفسون عن رغبات جنسية! سبحان الله، هل الذين أجهزوا على الاستعمار الروماني والفارسي قديما كانوا صرعى كبت جنسي ؟ ما أحوج العالم اليوم إلى هذا الكبت !
نخلص إلى قضية التطور كما يشرحها (دارون)! يرى الشيخ (نديم الجسر) في كتابه الجليل : (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقران ) أن (دارون) مؤمن بالله، وأن نشاطه الفكري يدور حول : هل صدر العالم عن الله بصورته المعاصرة؟ أم أنه صدر عنه في صورة أدنى، ثم صعد في سلم الارتقاء إلى ما نراه الان ؟؟ ولم يقدم (دارون ) إجابة حاسمة في الموضوع الذي عالجه، لأن هناك حلقات مفقودة تجعل نظرية النشوء والارتقاء محاولة مبتورة، زد على ذلك أن تلامذته الأقربين نقضوا الكثير من مقدماته، مما جعل الفكر الدارويني ينحسر ويتراجع! فباي منطق علمي يسوق المؤلف لشباب الثانوية العامة فكر دارون على أنه حقيقة علمية مؤكدة ، وأنه يفهم من هذا الفكر أن الإنسان تراب فقط، والتراب ينتهي ويتلاشى، فلا بعث ولا جزاء . في أي معمل كيماوي، أو مرصد فلكي ثبت أن الروح خرافة، وأن النفس الإنسانية بخصائصها العالية عرض عابر، أو وهم لا بقاء له . . ؟ لا ريب أن الإنسان خلق من تربة هذه الأرض كما قال تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى" ونحن نشهد نبات الأرض يتحول في جسومنا إلى لحم ودم، فمن يحوله كذلك ؟ من يحوله إلى خلايا ذات وظائف مذهلة؟ كيف يتصور أن الروح هي الأخرى حفنة تراب ، وأن الشعور والفكر والعاطفة والذاكرة والخيال بعض الطين المنتشرفي أرضنا؟
إن لدى بعض الناس جنونا في إرسال كلمات موغلة في الكذب، قال لي أحدهم: إن العلم بدأ يخلق الأطفال في الأنابيب! قلت : كيف ؟ إن الطبيب يجيء بحيوان منوي -لم يخلقه يقينا- ويضمه إلى بويضة من الأنثى-لم يخلقها يقنيا- ، ويضع ذلك في مخبار لمدة عشر ساعات، أو أكثر قليلا، ثم يغرسه بعد ذلك في الرحم، ليبقى في جسم المرأة تسعة شهور، هي مراحل الحمل المعتاد، حيث يصنع أحسن الخالقين الجنين، وتتم بعدئذ الولادة المعتادة! ما الذي خلقه العلم ؟ إن الكفر كالجنون فنون . . ! وهذه قصة ملحد آخر، دخل المجلس وهو يقول:أنا عائد بعد ما درست للطلاب أن المادة لا تفنى ولا تستحدث ! قلت له : إنني سمعت هذا الكلام وأنا طالب ، وأحسب أنه الآن قد ظهر زيفه ! قال : كلا ، هذا هو العلم! قلت : إذا كنت أنا وأنت قديمين، فاين كنا من مئة عام؟ ما أظننا إلا حادثين بالميلاد! قال: مادتنا قديمة، لعلنا كنا ترابا في مكان ما من الأرض، وقطرات ماء في مكان ما من البحار أو الأنهار، أما ميلادنا فليس إلا تغيرا في صورة الوجود! ثم قلت : وأرواحنا وخصائصنا الفكرية والعاطفية، إنني أحس بأنها محدثة يقينا! قال : الأفكار والمشاعر ليست إلا تفاعلات مادية لا قيمة لها . . . والروح؟، خرافة ! قلت : فلأصدق جدلا أن ما حدث هو تحولات في مادة قديمة، وليس إيجادا تم من عدم ، لكن من المحول ؟ من الذي حول التراب الحقير إلى بصل وجرجير، ثم إلى قردة وحمير، ثم إلى هذا الإنسان الخطير؟ إن هذا التحويل يحتاج إلى مؤهلات رفيعة القدر ! قال : ماذا تعني ؟ قلت : على جانب وجهي أذنان بهما أجهزة استقبال معقدة، وفي الوجه عينان بهما أجهزة تصوير، وتحميض وانعكاس واعتدال، وهذا المخ الغريب! إنه كأي (كمبيوتر) أو حاسب ، يهيمن باسلوب ساحر على شبكة أعصاب، تضبط الجسد، وهذه المضخة الماصة الكابسة في القلب، تدفع الدم وتستقبله بانتظام، ثم ألا ترى هذه الكلى؟ إنها إذا تعطلت ذهبنا إلى جهاز كبير يعالج الفشل الكلوي بعناء! من صنع هذا كله؟ قال : الطبيعة ذكية! قلت : ما أشبهك بشخص وقف أمام قصر منيف، ثم أخذ يقول : هذه نافذة ذكية لأنها اختارت مكانا يستقبل الضوء، وهذه شرفة عبقرية، لأنها اختارت مكانا يستقبل الهواء، وهذا سقف فنان، لأنه اختار ارتفاعا يسمح بدخول السكان . . وهكذا وزع صفات المهندس المنشئ على الخشب والرخام والزجاج . . . إلخ . اسمع أيها الرفيق ، إن حمار الحكيم (توما) أذكى منه، لقد ألقى الحكيم على طلابه درسا مثلك، فرووا أن حماره أنشد هذين البيتين: قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب فإنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب. إن الظن بان الإلحاد فرط معرفة، أو زيادة ذكاء - كما يتوهم المغفلون - لا أساس له ، إن الإلحاد مرض نفسي :" إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم الا كبر ما هم ببالغيه".
محمد الغزالى .