هل تفسر الأديان ما عجز عنه الانسان؟!

تقليص

عن الكاتب

تقليص

لخديم مسلم اكتشف المزيد حول لخديم
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • لخديم
    1- عضو جديد

    • 22 أغس, 2009
    • 30
    • مؤلف باحث/ المدير الناشر لآفاق فكرية
    • مسلم

    هل تفسر الأديان ما عجز عنه الانسان؟!

    المرابط ولد محمد لخديم
    رئيس الجمعية الوطنية للتأليف والنشر

    خلصنا في الجزء الأول من هذا البحث إلى أن إنسان العصر أصبح فعلا في خسر!..بدليل ما مر بنا من حقائق تكشف عن ضياعه..فقد فقدت المرأة المعاصرة كل القيم التي يقدسها المجتمع في شخصها, قيم الحياء, والأنوثة الواعية, والجسد غير المتعرض لذباب الأعين, وقيم التماسك, ولالتزام في تربيتها, وقيم الجيل الناشئ على يديها فهي أساس بناء المجتمع.. وربما هذا ما قصده الفيلسوف الأمريكي(ول ديورانت) في شهادته السابقة..
    والإنسان الذي شيد الأهرامات بمضاعفة القوة الفردية, واكتشف الرافعة والطنبور,والعجلة, والنار. وجعل حيوانات الحمل مستأنسة, وأضاف إليها عجلته ليطيل من ساقيه, ويقوى من ظهره, وتغلب على سقوط الماء, وتحكم في البخار والغاز, والكهرباء, وحول العمل اليدوي إلى مجرد السيطرة على الأجهزة الميكانيكية التي هي من مستحدثات عقله. وهو في انتقاله من مكان إلى مكان, قد فاق الطبي في سرعته وحين ركب أجنحة لعربته, قد سبق الطيور في طيرانها..)(22) هذا الإنسان الذي اخترق الآفاق, وقاس أبعاد النجوم, وتغلغل في أسرار المادة, حتى حطمها واستخرج منها طاقات لا حدود لها. نراه اليوم يفشل في الإجابة على الكثير من التساؤلات التي مازالت تؤرقه و يقف عاجزا أمامها.. ومن ذالك المادة نفسها معبوده الأكبر ناهيك عن عالم ما وراء الحواس…
    وقبل أن ندخل في الجزء الثاني من هذا البحث يجدر بنا أن نلم في هذه اللمحة السريعة بالخصائص المميزة للعقل الغربي ككل ومقارنتها بالعقل الإسلامي بعد أن درسناها في الجزء الأول وحدها. لتكتمل في أذهاننا صورته العامة..
    وهذا ما يحاول الطيب بوعزة(23) في مقاله المتميز الوصول إليه حيث يحاول أن يبني دلالة الإنسان في النسق الحضاري الغربي مع استحضار أصوله الفلسفية القديمة ومقارنته بالنسق الحضاري الإسلامي وفي سياق المقارنة بين النسقين الحضاريين الغربي والإسلامي يتناول الكاتب بالتحليل والمقارنة نموذجين سردين هامين هما قصتي (روبنسون كروزو) لدانيال ديفوا وحي ابن يقظان (لابن الطفيل).
    مستنتجا التمايز بين العقلين الغربي والشرقي، عقل يغوص في المادة ويغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤاله الكينونة، وعقل يتشوق إلى ما وراء وينزع نحو تأمله.
    هذا ولأهمية هذا المقال سنحاول أن نتناوله بشيء من التفصيل:
    كثيرة هي الدراسات التي تناولت موضوع النسق الحضاري الغربي سواء بقصد نقده واستهجانه أوبقصد تبجيله والإعلاء من شأنه لكننا نريد في هذه الكتاب أن نتناول النسق الحضاري الغربي في صيغة مقارنة للنسق الحضاري الإسلامي من خلال مقاربة مفاهيمية تروم تحديد طبيعة النظرة إلى الكائن الإنساني في كلا النسقين؛
    الحداثة وقلب معنى الإنسان
    قام العقل الغربي الحداثي بقلب دلالي لمعنى ماهية الإنسان من الماهية العاقلة إلى الماهية المالكة، بالمدلول الاقتصادي المادي للتملك.
    إذ تعد مقولة الإنسان كائن اقتصادي (Homo Economicus) مرتكز نظريا أساسيا للنمط الثقافي الحداثي بدءا من لحظة استوائه في نمط الاجتماع الرأسمالي.
    فهذه المقولة ليست مجرد محدد نظري لمفهوم الإنسان من حيث بعده الاقتصادي المادي، ولا هي مجرد مبدأ لتأسيس النظرية الاقتصادية الرأسمالية، بل إن تلك المقولة هي نقطة الانطلاق لبناء رؤية فلسفية عامة تتعلق بنوع النظرة إلى ماهية الكينونة الإنسانية ككل، وهي تعبير عن قلب دلالي جذري للمقولة القديمة المحددة للإنسان بوصفه كائنا عاقلا تتحدد ماهيته في التفكير (Homo Sapiens).
    كما أنها في أبعادها الغائية تنتهي إلى توكيد نمط الرؤية المادية للإنسان، رؤية أصبحت في النسق الثقافي الحداثي ومنظومته المجتمعية تعبيرا عن أسلوب في العيش وأسلوب في التفكير على حد السواء. بل يحفز أن نقول: إنها ما تجسدت كنمط عيش إلا لأنها نمط تفكير ابتداء. كما أن هذه الرؤية تتحكم في المنظور الثقافي الغربي، رغم تعدد واختلاف توجهاته الفلسفية، حيث استحالت إلى أنموذج نظري شارط لعملية إدراك الوجود الإنساني وتحديدا احتياجاته، ولذلك فهي تتمظهر في مختلف نتاجات الوعي الأوربي فَنّاً كان هذا النتاج أو فلسفة أو معمارا بنائيا، هذا فضلا عن التمظهر في القيم الناظمة للسلوك الاقتصادي ويرى الكاتب أن لهذا المنظور الاقتصادي المادي في تحديد الإنسان جذورا في الخلفية الثقافية الغربية، وليس مرتبطا فقط بظهور نمط المجتمع الصناعي وما رافقه وأطر له من رؤى فلسفية ليبرالية.
    مستدلا على ذلك أنه رغم التناقض الظاهري بين المشروع الليبرالي الرأسمالي والمشروع الاشتراكي الماركسي، فإن أساسها مشترك ومتماثل، وهو هذا النمط المحدد للنظرة إلى الكائن الإنساني بوصفه "حيوانا اقتصاديا" !
    وهذا ما جعله يعد أحد مكونات الشبكة الإدراكية المحددة لرؤية الوعي الغربي إلى ذاته وإلى الوجود من حوله، لأنه يراها شبكة ماثلة في مختلف نظمه وأنساقه الثقافية على اختلافها.
    وحاول الكاتب في جانب من فكره ودراسته أن يذكر الكتاب القيم لعبد الوهاب المسيرى الموسوم: ب: (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان) لإيضاح التفكير المادي الغربي لكينونة الإنسان. ومتحدثا كذلك عن القراءة النقدية التي اتخذتها مدرسة فرانكفورت لـ "العقل الأدائي" الباحثة عن جذوره في الخلفية الأسطورية والفلسفة الهلينية موضحا أن هذه القراءة ما هي إلا توكيدا لما سبق، وإشارة إلى أمر أعمق مما وقفت عنده هذه المدرسة السوسيولوجية ذاتها. فنمط العقل الأدائي هو مظهر للرؤية إلى الكائن الإنساني بوصفه كائنا ماديا.
    مستخلصا أنه و بناءا على هذه الرؤية ينطلق العقل الغربي إلى قراءة مادية للذات والوجود، قراءة لا تنظر إلى الغايات بل تحول كل كينونة ـ حتى كينونة الإنسان ذاتها ـ إلى أشياء أدوات استعمالية.
    وتأسيسا على هذا الكلام فإن نمط تفكير الحضارة الغربية نمط ذو نزوع كمي متمحور حول الأشياء، ولذا فأسلوب مقارنته للوجود هو انتهاج للتحليل الكمي الأدائي المفارق لفلسفة الغايات المجاوزة لسياجات الحس المادي.
    وفي هذا الإطار يأتي الطيب بوعزة، بالمقارنة الذكية التي أنجزها مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" بين قصتي روبنسون كروزو، و حي ابن يقظان والتي هي عبارة عن نموذجين روائيين يمثلان مدخلا نمطي لرؤيتين الغربية والشرفية. معللا ذلك أن قصة روبنسون كروزو للروائي الانجليزي دانيال ديفو (1660 ـ 1731) تدور كلها حول عالم الحس، ولا تلتفت إطلاقا إلى ما وراء.
    حيث أن كروزو لم يشغل نفسه في عزلته إلا بصناعة طاولة خشب والأكل والنوم، أي انحصرت أشواقه وهواجسه في الاهتمام بعالم المادة فقط.
    بينما قصة "حي ابن يقظان" يشغلها هاجس البحث عن الحقيقة فانطلاقا من تأمل فكرة الموت يبدأ السؤال الوجودي عند بطل القصة حي، فينشغل بمعنى الروح، ويخلص بعد سلسلة من التأملات إلى وجود الله الخالق.
    ويستنتج كما هو واضح من سياق المقارنة بين القصتين التمايز بين العقلين الغربي والشرقي، عقل يغوص في المادة ويغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤال الكينونة، وعقل يتشوف إلى ما وراء وينزع نحو تأمله.
    لكن الكاتب ينفرد برؤيته الخاصة تعميقا لدلالة هذا التمايز حيث يقول " أن ديفوا هذا الرجل الذي جاء إلى فن السرد من دكان لتجارة الأقمشة والخردوات لا نراه كتب قصته باستقلال عن حي ابن يقظان بل كما أكد غوتييه سبق لديفو أن قرأ قصة ابن الطفيل، حيث ترجمت إلى الانجليزية سنة 1708 أي قبل كتابة ديفو لقصته بإحدى عشرة سنة.
    لكن عندما أذكر هذا فليس من أجل اتهام ديفو بالسرقة الأدبية بل قصدي أهم من ذلك، كما لا أريد أن أسلك مسلك غوثيه للتوكيد على اطلاع صاحب قصة كروزو على (حي ابن يقظان) وذلك بإبراز ما بينهما من تشابه في الكثير من الأحداث، بل الذي يلفت انتباهي هو المختلف بينهما أكثر من المتشابه، حيث أن ما يهمني هنا هو ما حذفه ديفو لا مستبقاه أو سرقه أو استعاره بفعل التناص من بني طفيل لأنني أرى أن ما حذفه هو بالضبط ما ينقص نمط التفكير الغربي، وما أضافه هو بالضبط ما يميز هذا النمط! فماذا أخذ ديفو وماذا ترك من فصه حي بن يقظان) ؟!.
    لقد استبقى ديفو أحداثا كثيرة، لكنها كلها تتميز بكونها أحداثا كمية شيئية. فإذا استثنينا تعلم اللغة كما علم (أسال) حي ابن يقظان نجد عند ديفو تعليم فرايدي لكروزو، فإن ما يبقى كله يتمحور حول الكينونة المادية مثل: تدجين بعض الحيوانات وبناء البيت وصنع الملابس والسلاح واكتشاف النار.
    أما الذي حذفه ديفو فهو كل تلك الصيرورة التأملية الفلسفية الثرية التي ستخلص بحي ابن يقظان إلى الاعتقاد بالله الخالق، أي أن ما حذفه هو سؤال الحقيقة والنزوع إلى ما وراء! ".
    ويصل الكاتب خلال التحليل السابق في سياق المقارنة إلى تقرير اختلاف جوهري في الرؤية إلى الكائن الإنساني ووظيفته في الوجود، حيث تنزع الرؤية الفلسفية للحضارة الإسلامية نحو نظرة كلية كيفية، وتنزع الرؤية الغربية نحو نظرة تحليلية كمية.
    وتتجسد هذه النظرة بوضوح في الاختزال المادي لكينونة الإنسان، حيث تؤول به إلى مجرد حيوان اقتصادي!.
    مستدلا على هذا بكلام مالك بن نبي في سياق تحليل هذا الأخير لقصة ديفو حيث يقول في هذا الصدد: «إذ يعتزل الإنسان وحيدا، ينتابه شعور بالفراغ الكوني. لكن طريقته في ملء هذا الفراغ، هي التي تحدد طراز ثقافيته وحضارته، أي سائر الخصائص الداخلية والخارجية لوظيفته التاريخية، وهناك أساسا طريقتان لملئ الفراغ، إما أن ينظر المرء حول قدميه أي نحو الأرض، وإما أن يرفع بصره نحو السماء».
    ولم يكتف الطيب بوعرة بقراءة المفكر الجزائري مالك بن نبي لنموذج كروزو السابقة وتأويله لها فقط، بل إنه استند أيضا إلى قراءة السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير «الأخلاق البروتستانتية» التي يؤول فيه شخصية روبنسون كروزو رائيا فيها تجسيدا لنموذج الإنسان الاقتصادي ومحددا لنمط الحضارة الرأسمالية.
    وبعد مقارنته لقراءة مالك بن نبي وماكسفير لنموذج كروزو، يجزم بوعزة أن هذا النموذج ليس ملمحا من ملاح النمط المجتمعي الصناعي فقط، بل هو محدد من محددات نمط التفكير الغربي ككل بدليل: أن الرؤية الكمية إلى العالم لا تبدو فقط في هذا النتاج السردي الروائي ولا في النمط الثقافي والحضاري الغربي الراهن، بل حتى في الخلفية الثقافية الهلينية.
    وقد وقفت مدرسة فرانكفورت مليا عند أسطورة أوديسيوس في ملحمة «الأوديسة» كاشفة عن مركزية هذه الرؤية المادية التي سيصطلح عليها هوركايمر، وأدورنو بـ "الأدائية". كما أن هذا النمط في تمثل الذات والوجود نراه يتمظهر في علم الفيزياء مع جاليليو في رؤيته التحليلية الرياضية للكون، وفلسفيا مع ديكارت في تمييزه بين الفكر والامتداد، وتأسيسه للعقل بوصفه قوة للسيطرة على الطبيعة واستغلالها.
    كما سيتمظهر مجتمعيا في النمط الليبرالي، كنمط يتقصد تأسيس واقع يعامل الذات الإنسانية بوصفها جسدا بالإضافة طبعا إلى الخطاب الحداثي الرأسمالي حيث يلاحظ أن المنظرين للفكرة الرأسمالية سيحرصون على اختزال الدوافع والأشواق والغايات الإنسانية –حتى تلك التي تخرج عن نطاق العلاقة الاقتصادية– إلى رغبات وأشواق جسدية لتؤول إلى محض رغبة اقتصادية! ).
    وهذا ما رصده (ادخارمور) بدقة حينما ذهب إلى أن التحولات الكمية ارتفاع القدرة الشرائية، استبدال الطاقة البشرية تطور العمل التقني، تطور أنشطة الوقت الحر أنتجت تحولا نوعيا بطيئا تمثل في بروز مشاكل متعلقة بالحياة الخاصة، مشاكل حول الحياة الشخصية المستقلة مست بالأساس الطبقة المتوسطة والعمالية، ويتعلق الأمر بتطوير ظاهرة جديدة داخل الحياة الشخصية، إنها فردنة الوجود الإنساني.
    ويمكن تلخيص ما ذهب إليه (إدخارمور) إلى أن الثقافة الجماهيرية أو السوق الثقافية الكونية هي إيديولوجيا تقوم على إضفاء الطابع الكوني على قيم وأنماط عيش وأساليب إنتاج ونماذج سلوكية وتصورات عن العالم والأشياء ذات طابع محلى منغرسة في بيئات تاريخية واجتماعية خاصة، وتحويلها إلى كيانات لا تاريخية.
    (لكن العقل الفلسفي الغربي عندما يستشعر أحيانا اختلال هذه الأولوية المطلقة التي يعطيها في المنظور الاقتصادي في فهم الإنسان وتحديد حاجاته؛ لأنه يحس أن ثمة دوافع وأشواق وقيما إنسانية تنفلت من إطار رؤيته المادية القاصرة، دوافع وأشواق تعلو القيمة المادية وتجاوز نطاقها الكسيح المحكوم بمعايير الحساب النفعي، نجده يحاول أن يغض الطرف عنها أو يتحايل كتجاوزها بمنطق التبرير والتسويق حينا أو بمنطق الاختزال بل والتحريف حينا أخرى. ليس الإنسان مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود، بل حتى على مستوى وجوده الفردي يحرص على أن يجعل له معنى ودلالة ولا يكتفي بمجرد عيشه.
    ويختم الكاتب الطيب بوعزة المغربي الجنسية مقاله المتميز بالقول: إن إنتاج معنى للوجود حاجة محايثة لكينونة الإنسان ولا يمكن تجاهلها. وهذا ما أدركه بعض ناقدي العقلانية الغربية واستشعروا الحاجة إلى اعتباره عند تحليلهم للوضعية الإنسانية.
    معتقدا أن استثمار النيوليبرالي المعاصر روبير نوزيك للفلسفة الكانطية، ووقوفه في كتابه "الفوضى، الدولة واليوتوبيا" (Anarchy, State and Utopia)، عند وظيفة المعنى في حياة الكائن الإنساني، هو في تقديره ذو دلالة كبيرة إذ هو دليل حسب اعتقاده على اضطرار المقاربة الأدائية المادية إلى توسيع رؤيتها إلى خارج السياج المادي، وان كان ذلك لم يثمر عندها أي تبديل لنمط رؤيتها لماهية الإنسان بسبب عدم انتباهها إلى منطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية).
    إذا اعتمدنا رؤية روبير نوزيك هذه فإن المقارنة الأدائية المادية ترى أنه في الوقت الذي تشعر فيه بضرورة توسيع رؤيتها إلى خارج السياج المادي، فإنها مازالت مقيدة بمنطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية. فما هو هذا المنطلق الخاطئ؟!
    إن جميع المحاولات( التي قام بها بنو البشر في القديم والحديث لمحاولة إدراك واقع العقل قد باءت بالفشل وسبب إخفاقهم وعدم اهتدائهم حتى الآن، إلى واقع التفكير، وإلى طريقة التفكير، هو البحث في التفكير قبل البحث في واقع العقل ولا يمكن الاهتداء إلى واقع التفكير إلا بعد معرفة واقع العقل معرفة يقينية، لأن التفكير هو ثمرة العقل، والعلوم والفنون والأدب والفلسفة، والفقه واللغة وسائر صنوف الثقافة، إنما هي ثمرة التفكير. لذلك فإنه لابد من معرفة واقع العقل أولا معرفة يقينية بشكل جازم ثم بعد ذلك يمكن معرفة واقع التفكير ويمكن معرفة الطريقة المستقيمة للتفكير، فجميع المحاولات التي قام بها الأقدمون والمحدثون لا يوجد فيها ما يستحق الذكر ولا ما يرتفع إلى مستوى النظر سوى محاولة علماء الشيوعية، فإن تعريفهم وحده هو الذي يستحق الذكر ويمكن أن يرتفع إلى مستوى النظر لأنها كانت محاولة جدية لم يفسدها عليهم إلا إصرارهم الخاطئ على إنكار أن لهذا الوجود خالقا، ولولا هذا الإصرار لتوصلوا إلى إدراك واقع العقل إدراكا حقيقيا. فهم بدئوا البحث في الواقع والفكر فقالوا هل الفكر وجد قبل الواقع؟ أم الواقع قبل الفكر؟ واستقر رأيهم النهائي على أن الواقع وجد قبل الفكر. وهذا فهم صحيح ومعناه أن العقل والتفكير أو الإدراك هو نقل الإحساس بالواقع بواسطة الحواس ـ إلى الدماغ، ووجود معلومات سابقة تفسر بواسطتها هذا الواقع بمعنى أنه لابد من وجود أربعة أشياء حتى تتم العملية العقلية ـ أي حتى يوجد العقل أو الفكر. إذ لابد من وجود واقع وحس ودماغ صالح ومعلومات سابقة، والعقل موجود عند الإنسان فقط، بينما توجد الغرائز والحاجات العضوية عند الإنسان وعند الحيوان، وإن إحساساتها موجودة عند الإنسان وعند الحيوان، وكذلك استرجاع هذه الإحساسات، ولكن ذلك كله إنما هو تمييز غريزي للأشياء، ولا تعتبر عقلا ولا إدراكا ولا فكرا ولا تفكيرا، فالعقل يحتاج إلى وجود خاصية ربط المعلومات.
    وهذه ليست موجودة إلا عند الإنسان، وخاصية الربط هذه إنما تربط المعلومات السابقة لدى الإنسان بما يقع عليه حسه من واقع، ومن هنا كان لابد من وجود المعلومات السابقة عن الواقع عند الإنسان الأول.
    هذه الطريقة العقلية التي أقرها العلم الحديث لم يستفد منها نتيجة لمنطلقه الخاطئ الذي ينكر أن لهذا العالم خالقا خلقه من عدم.
    وانطلاقا من هذا المنطلق الكمي الذي لا يؤمن بخالق هذا الوجود المفطور فإننا نجدهم حين حاولوا ربط الواقع بالدماغ للوصول إلى الفكر أي الإيجاد التفكير ضلوا الطريق، فجعلوا الربط بينهما هو انعكاس هذا الواقع على الدماغ فخرجوا بالنتيجة الخطأ في معرفة العقل، ولذلك عرفوا العقل تعريفا خاطئا. وسبب ذلك هو إصرارهم على إنكار أن للوجود خالقا خلقه من عدم. لأنهم لو قالوا إن المعرفة تسبق الفكر فإنهم يقفون أمام حقيقة واقعة، وهي أنه من أين جاء الفكر قبل وجود الواقع؟ فلا بد أن يكون قد جاء من غير الواقع. وبالتالي من أين جاء الفكر للإنسان الأول ؟ لابد أنه جاءه من غيره ومن غير الواقع فيكون الإنسان الأول والواقع، قد أوجدهما من أعطى الإنسان الأول المعرفة، وهذا خلاف ما لديهم من معرفة جازمة بأن العالم أزلي، ولذلك قالوا إن انعكاس الواقع على الدماغ هو العقل، فهو الذي أوجد الفكر، وهو الذي وجد به التفكير ولكن يبقى عنصر ضروري وهو المعرفة(24).
    لقد تهربوا من ضرورة إيجاد المعرفة بإيجاد فروض، من أن الإنسان الأول قد جرب الواقع فوصل إلى المعرفة ثم كانت هذه التجارب للواقع تساعده على تجارب أخرى للواقع، وأعطوا لذالك أمثلة:
    بأن الإنسان الأول قد اصطدم بالأشياء فانعكست عليه فصار بالحس يعرف أن هذه الثمرة تؤكل وهذه لا تؤكل، وصار يعرف أن هذا الحيوان يؤذيه فيتجنبه وهذا لا يؤذيه فيستخدمه ويركبه، و صار يعرف من الحس والتجربة أن الخشب يطفو على الماء فصار يستعمله لقطع البحار والأنهار وصار يعرف أن النوم في الكهف يقيه المطر والبرد والوحوش المفترسة فاتخذ المأوى…
    وهكذا توصل الإنسان الأول بالحس إلى إصدار حكمه على الأشياء والتصرف تجاهها حسب هذا الحكم أي حسب هذا الفكر، وهذا يدل على أن الفكر هو نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحس دون الحاجة إلى وجود معلومات سابقة.
    والجواب على هذا القول هو أن ما كان عليه الإنسان الأول فمجهول وغائب وما نريده هو الفكر والتفكير الذي يحصل عند الإنسان الحالي، فلا يقاس المعلوم على المجهول ولا الحاضر على الغائب وإنما العكس هو الصحيح فيقاس المجهول على المعلوم والغائب على الحاضر، فلا يصح أن نقيس الإنسان المعلوم الذي أمامنا، على الإنسان الأول الغائب والمجهول، لنعرف من ذلك معنى الفكر عند الإنسان الحالي، وإنما نقيس الإنسان الأول على الإنسان الحالي فنعرف، من معرفة الفكر والإدراك عند الإنسان الحالي، الفكر والإدراك عند الإنسان الأول، ولهذا كان من الخطأ إراد هذا القول ثم إن ما يرويه التاريخ عن الإنسان الأول أو كما يقولون الإنسان في العصر الحجري هو أنه كان يبحث عن طعامه فيستعمل الأدوات الحجرية لقطف الثمار في الغابات وصيد الأسماك ودفع أذى الوحوش المفترسة وهذا إذا صح فإنه شيء يتعلق بإشباع الغرائز ولا يتعلق بالفكر أي يتعلق بالإدراك الشعوري، أي التميز الغريزي ولا يتعلق بالإدراك الفعلي(25).
    والقائلون بالتفكير المادي يستدلون على ذلك بأنه قد يحصل أن يعطي شخص آلة معقدة وليست لديه معلومات سابقة عنها ويطلب منه حلها وتركيبها فيأخذها الشخص ويحاول إجراء تجارب متعددة عليها فيصل من هذه التجارب إلى حلها ثم إلى تركيبها.
    فهو وصل إلى فكر دون حاجة إلى معلومات سابقة والجواب على ذلك هو: أن هذا الشخص لديه معلومات متعددة. فأخذ بتجاربه المتعددة يربط المعلومات التي لديه بالواقع الذي بين يديه وبالمعلومات مع بعضها حتى توصل على إيجاد معلومات يفسر بواسطتها حل الآلة وتركيبها، وبهذه المعلومات التي توصل إليها توصل إلى الفكر. فهذا لا يؤتي به مثالا. وإنما المثال الذي يؤتي به هو الطفل الذي لا توجد لديه معلومات إطلاقا، أو الرجل الذي ليس لديه معلومات يمكن أن يستعين بها على إيجاد معلومات يفسر بها الواقع، كأن تأتي بإعرابي وتدخله مخيرا وتتركه يجرب، فهذا ليس لديه معلومات ولذلك لا يصل إلى فكر…
    وعليه فالدماغ ليس محل الفكر، والحاصل أن الحواس تنقل صورة عن الواقع المادي إلى الدماغ، وهذه الصورة تنبع الحاسة التي نقلت الواقع، فإن كانت بصرا نقلت صورة الجسم، وإن كانت سمعا نقلت صورة صوته، وإن كانت شما نقلت صورة رائحته، وهكذا فيرتسم الواقع كما نقل في الدماغ، أي حسب الصورة التي نقلت، وبذلك يتم الإحساس بالواقع فقط، ولا ينشأ عن ذلك التفكير بل تميز غريزي فقط، من حيث كونه يشبع أو لا يشبع، يؤلم أو لا يؤلم، يفرح أو لا يفرح، يلذ، أولا يلذ ولا يحصل أكثر من ذلك، فإن كانت هناك معلومات سابقة ربطتها قوة الربط الدماغية بالواقع المحسوس الذي ارتسم في الدماغ، وعندئذ تتم العملية الفكرية، وينتج إدراك الشيء، ومعرفة ما هو، وإلا بقي عند حد الإحساس أو عند حد التميز الغريزي فقط.. إذن لابد من وجود الواقع المحسوس، والمعلومات السابقة، كما لابد من وجود الدماغ والحواس(26).
    وعليه فالفكر أو الإدراك أو العقل هو نقل الواقع عن طريق الحواس إلى الدماغ، مقترنا بمعلومات سابقة تعين على تفسير هذا الواقع.
    وبهذا يكون علماء الشيوعية قد أخطئوا لأنهم لم يفرقوا بين الإحساس والانعكاس، وان عمليه التفكير لم تأت من انعكاس الواقع محل الدماغ، ولا من انطباع الواقع على الدماغ، وإنما جاءت من الإحساس، والإحساس مركزه الدماغ، ولولا الحس بالواقع لما حصل أي فكر ولما وجد أي تفكير بدليل أنه لا يوجد انعكاس بين المادة والدماغ فلا المادة تنعكس على الدماغ ولا الدماغ ينعكس على المادة لأن الانعكاس يحتاج إلى وجود قابلية الانعكاس في الشيء الذي يعكس الأشياء كالمرآة، وكآلة التصوير، فإنها تحتاج إلى قابلية الانعكاس عليها، وهذا غير موجود لا في الدماغ، ولا في الواقع المادي، فالمادة لا تنعكس على الدماغ ولا تنتقل إليه بل الذي ينتقل هو الإحساس بالمادة إلى الدماغ بواسطة الحواس، ولا فرق في ذلك بين العين وغيرها من الحواس، فيحصل من السمع واللمس والذوق والشم. فالإنسان إذا يحس بالأشياء بواسطة حواسه الخمس، ولا تعكس على دماغه الأشياء وبهذا يكون علماء الشيوعية وهم وحدهم الذين حاولوا معرفة واقع العقل قد أخطئوا حيث أنهم لم يفرقوا بين الإحساس والانعكاس والخطأ لم يكن ناجما عن عدم التفريق بين الإحساس والانعكاس فقط، وإلا لكانوا اهتدوا إلى أن المسألة هي إحساس وليست انعكاسا، بل أساس الخطأ، وأساس الانحراف ناتج عن إنكارهم أن لهذا الوجود خالقا فلم يدركوا أن وجود معلومات سابقة عن هذا الواقع شرط ضروري لوجود الفكر أي شرط ضروري لوجود العقل(27).
    ولكن الغرب قد اوجد في أوروبا بالانقلاب الصناعي ونجح في العلوم التجريبية نجاحا منقطع النظير، وامتد سلطانه منذ القرن التاسع عشر، حتى شمل نفوذه جميع العالم فسمى أسلوب البحث في العلوم التجريبية طريقة علمية في التفكير، وصار ينادي بها أن تكون طريقة التفكير, وان تجعل أساسا لتفكير. وقد أخذها علماء الشيوعية، وساروا عليها في غير العلوم التجريبية كما ساروا عليها في العلوم التجريبية وسار على نهجهم علماء أمريكا، وقلدهم فيها سائر أبناء العالم من جراء سيطرة ونفوذ الغرب ثم نفوذ الاتحاد السوفيتي، فطغت على الناس بشكل عام هذه الطريقة، فكان من جراء ذلك أن وجدت في مجتمع العالم الإسلامي كله قداسة للأفكار العلمية والطريقة العلمية.
    وتسميتها طريقة ليست خطأ لأنها منهج معين دائم في البحث، والطريقة هي الكيفية التي لا تتغير. ولكن الخطأ هو جعلها أساسا للتفكير. لان جعلها أساسا لا يتأتى، إذ هي ليست أصلا يبنى عليها، وإنما هي فرع بني على أصل.
    ولأن جعلها أساس يخرج أكثر المعارف والحقائق عن البحث، ويؤدي إلى الحكم على عدم وجود كثير من المعارف التي تدرس والتي تتضمن حقائق، مع أنها موجودة بالفعل وملموسة بالحس والواقع فالطريقة العلمية طريقة صحيحة.
    ولكنها ليست أساسا في التفكير، بل هي أسلوب دائم من أساليب التفكير، وهي لا تطبق على كل أمر وإنما تطبق في أمر واحد هو المادة المحسوسة لمعرفة حقيقتها عن طريق إجراء تجارب عليها، ولا تكون إلا في بحث المواد المحسوسة، فهي خاصة بالعلوم التجريبية ولا يجوز أن تستعمل في غيرها. أما كونها ليست أساسا فظاهر من وجهين:
    الأول: انه لا يمكن السير بها إلا بوجود معلومات سابقة ولو معلومات أولية، لأنه لا يمكن التفكير إلا بوجود معلومات سابقة، فعالم الفيزياء وعالم الكيمياء والعالم في المختبر، لا يمكن أن يسير في الطريقة العلمية لحظة واحدة إلا أن تكون لديه معلومات سابقة.
    وأما قولهم أن الطريقة العلمية تفرض التخلي عن المعلومات السابقة فإنما يريدون به التخلي عن الآراء السابقة لا عن المعلومات السابقة، أي أن الطريقة العلمية تقتضي من الباحث إذا أراد البحث أن يمحو من نفسه كل رأي وكل إيمان سابق له في البحث، وان يبدأ بالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية. فهي وان كانت عبارة عن ملاحظة وتجربة واستنباط، ولكن لا بد فيها من وجود معلومات وهذه المعلومات تكون قد جاءت عن غير الملاحظة والتجربة, أي عن طريق نقل الواقع بواسطة الحواس. لان المعلومات الأولية لأول بحث علمي لا يمكن أن تكون معلومات تجريبية لان ذلك لم يحصل بعد، فلا بد أن تكون عن طريق نقل الواقع بواسطة الحس إلى الدماغ، أي لا بد أن تكون المعلومات قد جاءت عن طريق الطريقة العقلية ، ولذلك لا تكون الطريقة العلمية أساسا بل تكون الطريقة العقلية هي الأساس، والطريقة العلمية مبنية على هذا الأساس، فتكون فرعا من فروعه لا أصل له، ولهذا فإن من الخطأ جعل الطريقة العلمية أساسا للتفكير.
    الوجه الثاني: أن الطريقة العلمية تقضي بان كل ما لا يلمس ماديا لا وجود له في نظر الطريقة العلمية، وإذن لا وجود للمنطق، ولا التاريخ، ولا للفقه، ولا للسياسة، ولا لغير ذلك من المعارف لأنها لا تلمس باليد، ولا تخضع للتجربة، ولا وجود لغير ذلك من الموجودات، لان ذلك لم يثبت علميا.
    أي لم يثبت عن طريق ملاحظة المادة وتجربتها والاستنتاج المادي للأشياء، وهذا هو الخطأ الفاحش، لان العلوم الطبيعية فرع من فروع المعرفة، وفكر من الأفكار، وباقي معارف الحياة كثيرة، وهي لم تثبت بالطريقة العلمية، بل تثبت بطريقة العقلية وفضلا عن ذلك فان قابلية الخطأ في الطريقة العلمية أساس من الأسس التي يجب أن تلاحظ فيها حسب ما هو مقرر في البحث العلمي، وقد حصل الخطأ في نتائجها بالفعل وظهر ذلك في كثير من المعارف العلمية التي تبين فسادها بعد أن كان يطلق عليها حقائق علمية. فمثلا الذرة، كان يقال عنها أنها أصغر جزء من المادة وأنها لا تنقسم.
    فظهر خطأ ذلك وتبين بالطريقة العلمية نفسها أنها تنقسم. وكذلك كان يقال إن المادة لا تفنى، فظهر خطأ ذلك وتبين بالطريقة العلمية نفسها أنها تفنى. وهكذا كثير مما كان يسمى بالحقائق العلمية والقانون العلمي، قد ظهر بالطريقة العلمية خطا ذلك، وتبين بالطريقة العلمية نفسها أنها ليست حقائق علمية وليست قانونا علميا.).
    يقول راسل: " إن العلم يقرر أحكاما على سبيل التقريب لا على سبيل اليقين". والعلم في تعريف أساطين العلماء (هو مجموعة فروض، تحولت بالتجربة إلى قوانين قابلة للتغيير الدائم فليس في العلم شيء ثابت بشكل جازم يقيني) ولذلك فان الطريقة العلمية طريقة ظنية وليست قطعية وهي توجد نتيجة ظنية عن وجود الشيء وعن صفته، وعن حقيقته، ولذلك لا يجوز أن تتخذ الطريقة العلمية أساسا في التفكير(28)
    يقول الدكتور (الكسس كيرل):
    " إن الكون الرياضي شبكة عجيبة من القياسات والفروض، لا تشمل على شيء غير
    « معادلة الرموز»، الرموز التي تحتوي على مجردات لا سبيل إلى تفسيرها(29).
    ويقول البروفسور ماندير:
    " القول بأننا عرفنا الحقيقة يعني: أننا عرفنا معناها، وبعبارة أخرى: أننا بحثنا عن وجود شيء، وعن أحواله، ففسرناه، وأكثر عقائدنا تدخل في هذا النطاق، فهي في الحقيقة: تفسير للملاحظات، ويستطرد فيتكلم عن (الحقائق الملحوظة عندما نذكر (ملاحظة) فإننا نقصد شيئا أكثر من المشاهدة الحسية المحضة، فمعناها: «الملاحظة الحسية» و(التعرف) بما يشمل جانب التفيسر(30).
    ويقول سير آرثراد نجتن في هذا الصدد:
    " إن عالمنا في العصر الحاضر يعمل على منضدتين في وقت واحد:
    إحداهما المنضدة العامة التي يستعملها الرجل العادي، التي يمكن لمسها ورؤيتها، وأما الأخرى فهي (المنضدة العلمية وأكثرها في الفضاء وتجري فيها الكترونات لا حصر لها ولا تشاهد).
    وهكذا نجد لكل شيء صورة ذات وجهين، احدهما: (ملحوظ) والآخر: (صورة فكرية)، لا سبيل إلى مشاهدتها بأي ميكروسكوب أو تلسكوب(31).
    كما أن الطريقة العلمية وان كان يمكن أن يستنبط بها أفكار ولكنها لا ينشأ بها وحدها فكر، فهي لا تستطيع أن تنشئ إنشاء جديدا أي فكر، كما هي الحال في الطريقة العقلية، وإنما هي تستنبط استنباط أفكارا جديدة، ولكنها أفكار مستنبطة، لا أفكار منشأة إنشاء جديدا. يقول البروفسور أي ما ندير:
    " إن الحقائق التي نعرفها مباشرة تسمى بالحقائق المحسوسة بيد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنجح في الحقائق المحسوسة ".
    فهناك حقائق أخرى كثيرة لم تتعرف عليها مباشرة، ولكننا عثرنا عليها على كل حال، ووسيلتنا في هذه السبيل هي الاستنباط فهذا الأنواع من الحقائق هو ما نسميه « بالحقائق المستنبطة» والأهم هنا أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين، وإنما الفرق هو في التسمية، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة, وعلى الثانية بالواسطة, والحقيقة دائما هي الحقيقة, سواء عرفناها بالملاحظة أو الاستنباط ". ويضيف " إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل، فكيف يمكن أن نعرف شيئا عن الكثير الآخر؟…هناك وسيلة هي الاستنباط والتعليل وكلاهما طريق فكري تبتدئ به بواسطة حقائق معلومة، حتى ننتهي بنظرية: (أن الشيء الفلاني يوجد هنا ولم نشاهده مطلقا(32).
    من هنا نجد أن الأفكار المنشأة جديدا هي الأفكار التي أخذها العقل رأسا، كمعرفة وجود الله مثلا: ومعرفة أن التفكير بالقوم أعلى من التفكير الشخصي بذات الشخص، وان الخشب يحترق، وان الزيت يطفو على وجه الماء، كل ذلك أفكار أخذها العقل مباشرة وهذا بخلاف الأفكار غير المنشأ إنشاء جديدا، وهي الأفكار المستنتجة على الطريقة العلمية فإنها لم يأخذها العقل رأسا. وإنما أخذها من عدة أفكار أخذها العقل سابقا إلى جانب التجارب.
    كمعرفة أن الماء مكون من أوكسجين وإيدروجين، ومعرفة أن الذرة تنقسم، ومعرفة أن المادة تفنى، هذه الأفكار لم يأخذها العقل رأسا ولم تنشا إنشاء جديدا، وإنما أخذت من أفكار سبق للعقل أن أخذها، ثم أجريت التجارب إلى جانب هذه الأفكار، ثم جرى استنتاج الفكر، فهو ليس إنشاء جديدا بل هو مستنتج من أفكار موجودة وتجربة، لذلك لا تعتبر إنشاء جديدا، بل تعتبر أفكار مأخوذة من أفكار وتجربة. فالطريقة العلمية تستنبط فكرا كما أسلفنا ولكنها لا تستطيع إنشاء فكر.
    ولذلك كان من الطبيعي، ومن المحتم، أن لا تكون أساسا للتفكير، (إلا أن أوروبا وأمريكا، وروسيا، قد بلغت عندهم الثقة بالطريقة العلمية إلى حد التقديس أو ما يقرب من التقديس لاسيما في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى حد أنهم أصبحوا منحرفي التفكير ضالين عن الصراط المستقيم بجعلهم طريقة التفكير الطريقة العلمية وجعلها وحدها أساسا للتفكير، والحكم بها وحدها في جميع الأشياء.
    فلو سلك علماء الغرب الطريقة العقلية لنقل الإحساس بالإنسان وأفعاله، وفسروا هذا الواقع أو هذا الإحساس بالواقع بالمعلومات السابقة لاهتدوا إلى حقيقة هذا الواقع.
    ولكن سلوكهم الطريقة العلمية، واعتبارهم أن الإنسان كالمادة، وظنهم أن ملاحظة أفعال الإنسان هي كملاحظة المادة، ضللهم ذلك عن الحقيقة وخرجوا بهذه النتائج الخاطئة في الغرائز، وفي غيرها من أبحاث علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلوم التربية، فإنها كلها ليست من العلوم، وهي في جملتها خطأ في خطأ، فهذه الأخطاء التي حصلت في أوروبا وأمريكا وروسيا، أي لدى علماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء التربية، هي نتيجة إتباعهم الطريقة العلمية وتطبيقها على جميع الأبحاث(33).
    وهذا هو الذي أوقعهم في الخطأ والضلال. وهذا ما سوقوه للعالم العربي والإسلامي بما يسمى بالمخطط (الإصلاحي)، الذي يشترط على العرب والمسلمين لقيام أي نهضة علمية، تطور الطريقة التي يتم بها فهم الدين والعقيدة الإسلامية بشكل يتفق مع الفكر العلمي المقبول، وهو حسب رأي الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (34) يعني ضرورة تخليص الفكر الديني من كل حقيقة غيبية غير مفهومة أو داخلة في قوالب العلم الحديث ولقد اعتمد أصحاب هذا المنهج على نقطة الضعف التي كانت الأمة العربية والإسلامية تستشعرها إذ ذاك حيال النهضة العلمية في أوروبا، والاكتشافات والاختراعات المختلفة التي قامت في أنحائها بفضل الانطلاقة العلمية التي لم تكن من قبل. ولا بأس أن نعرض لبعض أقوال هؤلاء فمثلا: يقول فرح أنطوان منشئ مجلة (الجامعة المصرية، ومناظر الشيخ محمد عبده شيخ الأزهر ” إن العلم يجب أن يوضع في دائرة العقل لان قواعده مبينة على المشاهدة والتجربة والامتحان، وأما الدين فيجب أن يوضع في دائرة القلب، لأن قواعده مبينة على التسليم بما ورد في الكتب المقدسة من غير فحص في أصولها) ويضيف:
    "" إن وصول البشر إلى محجة الكمال لا يكون إلا بوضع الدين جانبا(35) ويقول فريد وجدي في عدة مقالات بعنوان (السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة) ما نصه:
    وقد لاحظ قراؤنا أننا نحرص فيما نكتب في هذه السيرة على أن لا نسرف في كل ناحية إلا ناحية الإعجاز، ما دام يمكن تعليلها بالأسباب العادية حتى ولو بشيء من التكلف" (36)
    ويقول حسين هيكل في كتابه حياة محمد (37) إنني لا آخذ بما سجلته كتب السيرة والحديث لأنني فضلت أن أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية (38).
    ونختم هذه الفقرة بالموقف التالي لجماعة من علماء المسلمين أعلنت قبولها لنظرية النشوء والارتقاء لأن علماء الغرب أعلنوا اقتناعهم الكامل بصدقها، بعد دراستهم ومشاهدتهم..وكيف أنهم اضطروا بعد هذا الموقف إلى تفسير جديد للإسلام في ضوء النظرية الجديدة، وحين احتاجوا إلى لباس جديد، قاموا بتفصيل ثوب الإسلام مرة أخرى، ولكنه ثوب مشوه المعالم، لا اثر فيه من روح الإسلام، التي ضاعت مع الأجزاء المقطعة في عملية التلفيق الجديدة. (39)
    إذن نستنتج انه من الخطأ الفادح والغلط الكبير أن تطبق الطريقة العلمية في بحث وجهة النظر في الحياة، أي ما يسمى ـ (بالإيديولوجية)، ومن الحمق وقصر النظر أن تطبق على الإنسان أو على المجتمع أو ما شاكل ذلك من الأبحاث، وعلى هذا لو تعارضت نتيجة عقلية مع نتيجة علمية عن وجود الشيء تؤخذ الطريقة العقيلة حتما وتترك النتيجة العلمية لأن القطعي هو الذي يؤخذ لا الظني.
    إلا أن الطريقة العلمية أهم ما فيها أنها تقتضيك إذا أردت بحثا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل إيمان لك في هذا البحث الذي تبحثه. وان هذا هو الذي يجعل البحث سائرا في الطريقة العلمية، وعلى هذا الأساس يقولون: إن هذا البحث بحث علمي وهذا البحث يسير حسب الطريقة العلمية. والجواب على هذا هو أن هذا الرأي صحيح، لكنه ليس علميا، ولا هو يسير في الطريقة العلمية. بل هو عقلي ويسير في الطريقة العقلية. وذلك أن الموضوع ليس متعلقا بالرأي بل متعلق بالبحث.
    فالبحث العقلي يكون بنقل الواقع بواسطة الإحساس إلى الدماغ، وهذا ما سيأتي تفصيله بحول الله في سياق هذا المقال..
    والبحث العلمي يكون بواسطة التجربة والملاحظة. هذا هو الذي يميز الطريقة العقلية عن الطريقة العلمية فكون الخشية تحترق، يكفي في الطريقة العقلية أن يحس باحتراقها، ولكن في الطريقة العلمية لا بد أن تخضع للتجربة والملاحظة حتى يحكم بأنها تحترق. فأهم ما في الطريقة العلمية هو التجربة والملاحظة وليس الرأي أو المعلومات.
    وخطأ إنسان العصر لم يكن على مستوى البحوث الفكرية والعلمية فقط بل تعداه إلى مجال السياسة والديمقراطية آخر انجازات البشرية..
    إذا استنطقنا هذه الديمقراطية بلغة رياضية وتأسيسا على نظرية العالم Condorcet التي حاول فيها تطبيق الحساب في الميدان السياسي لأول مرة في تاريخ العلوم;
    " نجده يقترح أكثر من خيارين على أفراد تجمع مستنتجا أنه في النهاية ستكون عدة نتائج ممكنة" بمعنى أن الديمقراطية بصدق شيء يصعب الوصول إليه!.
    إذ لا يوجد نظام انتخابي أفضل من جميع النظم الأخرى وأكثر ديمقراطية منها !!
    لقد ظهرت هذه المفارقة لأول مرة مع Condorcet 1785م وتم اكتشافها ثانية من قبل Lewis carrall وقد أهلت الرياضي Kenneth Arrow للحصول على جائزة نوبل في الاقتصاد 1972م، وتتجلى هذه المفارقة بوضوح من خلال الانتخابات المثلثية حيث يمكن انتخاب مترشح باستبعاد الآخرين عن طريق الأغلبية.
    وللخروج ديمقراطيا من هذه المفارقة، أنشأ المشرعون التصويت بالأغلبية في دورين بحيث يشارك مترشحان فقط في الدور الثاني كما هو الحال في الكثير من الدول غير أن الحالة السائدة هي أن يطلب من الناخبين عن ترتيب المترشحين حسب الأفضلية وفي هذه الحالة يمكن دائما الحصول على وضعية تسمح بانتخاب مرشح الاختبار والمثال التالي يوضح ذلك :
    ثلاثة مترشحين : A.B.C. تقدموا للانتخابات وأعطت نتائج التصويت حسب الأفضلية النتائج التالية :
    45% أعطت A، B ثم C
    07% أعطت B، A ثم C
    48% أعطت C، B ثم A
    0% للترتيبات الممكنة الأخرى.
    من ترغب عزيزي القارئ أن تراه منتخبا
    المرشح A :
    يمكن اختيار نظام الأغلبية ذي الدورين مع اعتبار 8% على الأقل عتبة إقصاء الاستبعاد.
    المترشح B من الدور الثاني :
    إن هؤلاء الناخبين يفضلون A على C ويمنحون أصواتهم واستنطاق ذلك رياضيا أن A حصل على 52% من الأصوات في الدور الثاني.أي (7+45).
    المرشح C
    هذا الأمر بسيط وأكثر وضوحا، إذ يكفي اختيار نظام الأغلبية البسيطة ذي الدور الواحد عندئذ C هو المنتخب مباشرة.
    المترشح B :
    وضعه صعب وصعب مع 7% ومع ذلك لديه هو الآخر عكس كل التوقعات أمل في نظام انتخابي ملائم هو النظام المعتمد على المبدأ من هو الأفضل عن من:
    A مفضل على B ب 45%.
    A مفضل على C ب 52% أي (7+45).
    B مفضل على A ب 55% (7+48).
    B مفضل على C ب 52% (7+45).
    C ليس مفضلا على A أو B إلا ب 48% وبالتالي يكون الدور قد تم لعبه.
    A مفضل على C ولكن B هو المفضل على A وبالتالي عن C إذن B هو المفضل.
    وتزداد الوضعية مفارقة مع النتائج التالية :
    لنتخيل أن:
    ثلث الناخبين فضل A عن B و B عن C.
    والثلث الثاني فضل B عن C و C عن A
    والثلث الأخير فضل C عن A و A عن B
    من هو الفائز إذا ؟ لا أحد !!
    في الحقيقة :
    ثلثا الناخبين يفضلون A عن B
    ثلثا الناخبين يفضلون B عن C
    ثلثا الناخبين يفضلون C عن A
    الحلقة مغلقة!!
    A يفوز على B
    B يفوز على C
    C يفوزعلى A !!
    هنا يبدو واضحا أن هذا المثال يصطدم بالتوجه السليم للمنطق إذ ليست العلاقة متعدية.
    وهذه هي المفارقة غير المتعدية التي وضعها Condorcet(40)
    والديمقراطية كلمة يونانية الأصل وتعنى السيادة للشعب، وقد عرفت تعريفا عاما هو حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه أي لمصلحة نفسه، فا الشعب هو مصدر السلطات جميعا، فمنه تأخذ الدساتير والقوانين شرعيتها، وهو الذي يختار السلطة التنفيذية والحاكم ويكون مراقبا لهم.ولكي يستطيع أفراد الشعب أداء هذه الوظيفة لابد أن يعطوا حرياتهم وهى:
    1 – حرية الاعتقاد
    2 –حرية الرأي والتعبير
    3 –حرية التملك
    4 – الحريات الشخصية
    هذا وقد حاول مفكرون وباحثون غربيون تعريف الديمقراطية تعريفا أكثر تفصيلا وتحديدا من التعريف العام السابق،وحاول بعضهم إعطاء المذهب بعدا فلسفيا. فلديناعدة اتجاهات أهمها اتجاه جان لوك وروسو القائل بأن حكم الشعب يبنى على قاعدتين:
    الأولى هي(الإرادة العامة) وتعنى: أن الأمة هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات، ويعرف رأيها من رأى الأغلبية في التصويت، ومن خلال نواب من الشعب يتم اختيارهم أيضا با الأكثرية.
    والثانية هي الخير العام ونعنى: أن الأمة ستسير إلى تحقيق الخير العام والسلام الاجتماعي والعالمي.
    وقد اعترض على هذا التعريف بأنه لا يوجد خير عام متفق عليه بين أفراد المجتمع خصوصا بعد تحييد الدين وعزله عن الحياة كما تقول الديمقراطية.
    كما أن القول بأن أكثرية الأفراد في المجتمع عقلانيون ويدركون أبعاد سلوكهم ويوجهون دفة السفينة نحو الخير العام عندما يصوتون هو قول فيه نظر، وغير واقعي.
    ويعرفها البعض اعتمادا على ممارستها المنظورة في الواقع، فقالوا: الديمقراطية هي النظام الذي يتم فيه اختيار القادة عن طريق انتخابات دورية يؤخذ فيها برأي الأكثرية، وحيث يمكن تغيير الحكام بطريقة دستورية، ويكون هنالك تعددية سياسية وأحزاب تتنافس سليما، ويمكن أن تتساوم وتتجمع وتتفرق، وتتنقل السلطة بين تجمعاتها تبعا لنتائج الانتخابات الدورية، وحيث يكون هنالك احترام للحريات السياسية وللحريات بوجه عام فتلك هي الديمقراطية.
    وقد اعتُرض على هذا التعريف بأنه تعريف سطحي وليس فيه بُعْد أيديولوجي إذ لا يُعرف الديمقراطية بحقيقتها وماهيتها وإنما في مظاهرها وممارستها، وحيثما يفترض أن الممارسات السابقة تحقق العدل والخير والنزاهة فإنه يتجاهل المؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية في الانتخابات، كسلطة رجال المال والأعمال، ويفترض أيضا أكثرية الناس عقلانيون يعرفون مكامن المصلحة عند انتخابهم، وخيُّرون يختارون الأفضل والأحسن لمجتمعهم وللبشرية.
    ويعرفها بعض المفكرين أيديولوجيا محاولين بذلك سد الثغرة في سطحية التعريف الإجرائي السابق وخلوه من القيم وذلك بقولهم: إن الديمقراطية تستمد جذورها من أفكار المدرسة الليبرالية التي أبرز مفكريها جونلوك، وجون سيتوارتمل، ودافيدهيوم، فهؤلاء رغم اختلافاتهم الكثيرة لكنهم ينظرون إلى الإنسان نظرة فردية، ويرون أن الإنسان بكونه إنسانا فهو يمتلك حقوقا طبيعية بمعزل عن الدين والدولة، وعُرف المجتمع، وعندما يصبح هؤلاء الأفراد يتقبل كل منهم الآخر، ولا يريد أن يفرض عليه عقائده الدينية تكون هنالك ديمقراطية، فالعلمانية عند هؤلاء الباحثين شرط أساسي للديمقراطية، ومن حق الدولة أن تفرض العلمانية وتنشرها من أجل نشر الديمقراطية.
    ويعترض على هذا التعريف لأن العنوان العريض الذي رفعوه للديمقراطية وهو قبول الآخر يتعارض مع عدم قبولهم للآخر الذي يتبنى فكرا يرى فيه أن للدين سلطانا على الحياة ويراه تشريعيا.
    بعد هذه الجولة يمكن استخلاص عدة أمور:
    1- ليس هنالك تعريف تفصيلي ومتفق عليه للديمقراطية عند الباحثين الغربيين، والشيء المتفق عليه هو ما يسمى بممارسات الديمقراطية، وأبرزها إعطاء حق التصويت للجميع والأخذ برأي الأكثرية في انتخابات دورية، ووجود تعددية سياسية، ومنافسة سلمية، وإعطاء الشعب الحرية السياسية، وحرية الاعتقاد، والرأي، وحرية التملك، والحرية الشخصية.
    وقد رأينا من خلال الصيغة الرياضية السابقة أن الديمقراطية الحقيقية يصعب الوصول إليها.
    2- إن الديمقراطية تقف من الدين موقفا محايدا وتعزله عن الحياة الاجتماعية والسياسية، فهي تترك الناس أحرار فيما يعتقدون لكن تقول لهم لا دخل لذلك كله في السياسة ولا في القانون، وقد نشأت هذه الفكرة نتيجة الصراع بين الكنيسة والأمراء الذين يدعون لأنفسهم حقا إلهيا في الحكم وبين المحكوم، فتوصل المفكرون إلى حل وسط يترك الناس وما يدينون لكنه يبعد الدين والوحي عن التأثير في الحياة، ولا يعترف به مصدرا ومرتكزا للحقوق والقيم، وإنما يكون الشعب هو مصدر السلطات، وينطق عنه نوابه الذين يختاروهم حسب مبدأ الأكثرية في التصويت.
    3- إن الاعتراف بالحريات بشكل مطلق وغير محدد وخاصة حرية التملك والتصرف بالمال هو الذي فسح المجال أمام قيام المجتمع الرأسمالي الذي لا يحدد حرية التملك والتصرف بالمال ولا يقيدها كما ولا كيفا، ولذلك فإن الديمقراطية تعتبر الأساس الفكري والعقدي للنظام الرأسمالي.(41)
    والرأسماليون اليوم يتغنون بها ويريدون تصديرها إلى المجتمعات الأخرى، وخاصة المجتمعات العربية والإسلامية ويتخذون منها غطاء لغزوهم الفكري والاقتصادي والسياسي والعسكري.
    هذا ويرى الرأسماليون, أن الديمقراطية التي تدعمها الأنظمة اليسارية غير حقيقية لكونها لا تعترف بإطلاق الحريات، وخاصة الحرية الاقتصادية على النحو الذي تقول به. هذا ولم يتوقع هؤلاء أن هذه الحرية ستكون سببا في الانهيار المالي الذي أطلق عليه قناة الجزيرة القطرية (الإعصار المالي) إذ لم تقتصر هزاته الارتدادية على أسواق المال والأعمال فقط بل تعدتها إلى جميع القطاعات الأخرى, ومن المعلوم أن هذه الرأسمالية كانت تتخذ كمطية للديمقراطية الواقعية, أما الآن وقد صار ما سمعه العالم وشاهده حتى أصبح الغرب, يبحث عن بديل ثالث, لا هو رأسمالي ,ولا اشتراكي, فماذا سيكون موقف إنسان العصر الرأسمالي أمام هذا العجز؟؟
    هل بهذا نقطع الطريق أمام الديمقراطية, كلا, فهي تبقى الخيار الوحيد أمام الشعوب لكن (بتصرف) من كل دولة, حسب ما تراه مناسبا لها, وليست ما تراه الرأسمالية المفلسة!
    والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو السر وراء هذا الانهيار المفاجئ للرأسمالية ؟!
    إذا رجعنا قليلا إلى الوراء نجد أن الواقع العالمي الذي تشكل بعد الحرب الباردة لم يعنى فقط سقوط الإتحاد السوفياتي بل أكثر ما يعنى سقوط نظام اجتماعي واقتصادي وفكري، نظام كان يطرح نفسه كمشروع ضروري للمستقبل: مشروع حضاري جديد، هو ما عبر عنه بـ (النظام الاشتراكي العالمي)، وقد كان يبشر بعلاقات إنتاج جديدة، وبنظام سياسي محلي ودولي جديد، وبإيديولوجيا جديدة، بمعنى تاريخ جديد للإنسانية.
    وقد دخل كما هو معروف في صراع مع النظام الرأسمالي، القائم آنذاك. وكان الصراع بين النظامين يشمل الاقتصاد والسياسة، والقيم والفكر والعلاقات الدولية..
    وبما أن هذا الصراع لم يتطور إلى صدام مسلح على غرار الحربين العالميتين، بسبب الرادع النووي لدى الطرفين، فقد اكتسى صيغة صراع حول المناطق الإستراتيجية ومواطن الثروة، وأيضا صيغة صراع إيديولوجي استعمل فيه الدين والعلم والثقافة بصورة عامة.
    إن سقوط أحد طرفي هذا الصراع، كان بدون شك (انتصارا) للطرف الآخر، ولما كان المعسكر الرأسمالي هو المنتصر فإنه لم ينظر إلى هذا الانتصار على أنه انتصار من نوع خاص، فهو لم يكن نتيجة مواجهة يتحمل فيها كل طرف نسبة من الخسارة، ولا نتيجة معاناة تحمل كل طرف على التكيف مع ما جريات المعركة ونتائجها، مما كان لابد أن ينتج عنه تغيير على هذه الدرجة أو تلك في كيانهما ورؤاهما وأساليب عملهما، كلا!
    لقد كان انتصار مجانيا، بدون ثمن. كان في الحقيقة إلغاء للمباراة قبل إجرائها، بسبب إنسحاب غير متوقع لإحدى الفرقين.لقد إنهار الاتحاد السوفياتي. ومعه المعسكر الشيوعي. أما المعسكر الآخر فقد بقي كما هو بكل عدته العسكرية والاقتصادية والإستراتيجية, والعلمية والفكرية، وأيضا بقي في حالة تعبئة وتجنيد، ولكن بدون عدو. وهذه هي القضية التي طرحت نفسها على (صانعي القرار) في الولايات المتحدة الأمريكية، أولئك الذين يعملون في مالا يحصى من مكاتب الدراسات الإستراتيجية، وهي مكاتب أنشأت في ظروف الحرب الباردة، ومهمتها مراقبة الخصم واقتراح خطط ووسائل لمواجهته، والمتخصص في الدراسات الإستراتيجية لا يستطيع التفكير إلا في إطار المواجهة بين الطرفين، فإذا انسحب أحد الطرفين كان عليه أن يضع مكانه ما يقوم مقامه في الحال أو في الإستقبال، وإلا إنقطع به حبل التفكير.(42)
    إن المحلل الاستراتيجي كلاعب الشطرنج، لا يستطيع اللعب وحده!
    وبما أن أمريكا لا تفهم في لعبة الشطرنج فقد استعاضت عنها بلعبة البسبول تلك اللعبة الراسخة على نحو عميق في الروح الأمريكية.
    وقد رأينا من خلال القنوات الفضائية ووسائل الإعلام المقروءة والمكتوبة كيف أن أمريكا لم تفلح في لعبة البسبول هذه, التي حاولت تطبيقها على أراضى لا تعرفها, وهذا ما شاهدناه بالكلمة والصورة كأبشع جريمة ترتكب بحق الإنسانية عبر تاريخها الطويل, في العراق، وأفغانستان، وفلسطين، والصومال، ولبنان….
    في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير،أو الجديد, الذي يسوق تحت شعار التحديث والإصلاح، الديمقراطي والاجتماعي والتربوي واللغوي، للانخراط فيه كرها طبقا لنظريات هنتغون وفوكا ياما في صدام الحضارات ونهاية التاريخ، تحت وطأة الضربات الاستباقية بالمطرقة الثقيلة، كما في تورابورا والفلوجة، وإرهاب فضائح التعذيب في غوانتناموا وأبي غريب..
    وإذا كانت أمريكا لم تفصح للعالم عن هدفها من وراء هذه الحروب, فان الثوب الذي ألبسته لتلك الحروب باسم الحرية والديمقراطية بات معروفا لغير العميان وهو ما تقدم شرحه رياضيا, ولغويا, وسياسيا.. يقول الشاعر:
    ثوب الرياء يشف عما تحته........ فإذا التحفت به فانك عاري
    وهو ما تشرحه وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت في كتابها:(الجبروت والجبار), حيث تتناول في القسم الأول من الكتاب الموقف الأمريكي في العالم والدور الذي يلعبه الدين والأخلاق في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية..
    في ما يتطرق القسم الثاني إلى العلاقات المضطربة بين المجتمعات الإسلامية والغرب..
    ثم تعرض المؤلفة أفكارها في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية والدين, من أجل تحديد نقطة التقاء الاثنين السياسة العملية مع طبيعة الدين.
    وتحت عنون:(أمريكا في عيون الناس) تتساءل المؤلفة أولبرايت كيف يمكن بأحسن الطرق أن ندير الأحداث في عالم يضم العديد من الأديان وتتناقض فيه نظم المعتقدات في نقاط رئيسية تناقضا تاما كيف نتعامل مع التهديد الذي يمثله المتطرفون الذين يحاولون باسم الرب فرض إرادتهم على الآخرين.
    هذه الطبيعة بنظر المؤلفة ترجع إلى الأزمنة الوثنية وليست جديدة, ولكن الجديد هو مقدار الدمار الذي يمكن يلحقه العنف, لأن الحروب الدينية التي كانت تخاض بالسيوف والدروع والمنجنيق شيء, والحروب التي تخاض بالمتفجرات الشديدة شيء آخر.
    وتعتقد المؤلفة أن مؤسسي أمريكا كانوا يدركون أنهم يبينون شيئا جديدا غير عادي, لنظام حكم قائم على حقوق الأفراد وواجباتهم, وذالك هو المفهوم الذي أثر في التفكير السياسي في العالم.
    رأى الأمريكيون أنفسهم وهم يؤسسون مجتمعا متفوقا في التنظيم والأخلاق على الارستقراطيات المضمحلة في أوروبا, وقارنوا أنفسهم بدون تحفظ بالإسرائيليين القدامى كشعب اختارته العناية الإلهية للمشاركة في وضع خطة إلهية.[وهذا ربما يفسر ادعاءات بوش المتكررة أنه يطبق مشيئة الرب...] وخلال عقود التوسع والازدهار الاقتصادي والإخفاقات الصاخبة تكرس اعتقاد أن الله ينير مسار أمريكا ومصيرها, وبقى هذا الاعتقاد منتشرا, وفد اقترن القرن العشرون وتجاوزت قدرة البلد وطموحاته الحدود الأمريكية المستقرة الآن إلى الأماكن البعيدة في المحيط الهدى.
    وما ميل القادة إلى تمويه مصالحهم الضيقة بخطاب عن القيم العامة إلا انعكاس لرغباتهم قي الظهور بمظهر أفضل مما هم عليه..)(43)
    ويبدو أن الكابتن بوش وفريقه( المحافظون الجدد) كلفهم هذا الظهور الكثير حيث أنهم غيروا من مدلولات الكلام نتيجة لما تضفيه سياستهم من ممارسات أصبحت عن طريقها كلمة (محافظ) في ذهن السامع ترمز للقتل والخراب..والفضائح التي يندى لها الجبين, وهي معان جديدة, تختلف عما كانت عليه في الأصل. وهم في ذالك يسيرون على درب سار عليه الاستعمار والنازية..فكلمة(استعمار) مشتقة من (عمًر, يُعمًر) وهي في الأصل تعنى البناء والتعمير…غير أن الممارسات التي ارتبطت بالوجود الأجنبي في البلدان المستعمرة, وما لحق بهذه البلدان من ضعف ومهانة جعلت من كلمة استعمار مرادفة لكلمة خراب, واستغلال وظلم.أي أنها أصبحت توحي لأول وهلة بإحساسات لدى السامع تختلف اختلافا كليا عن معناها الاشتقاقي الذي يعنى البناء والتعمير. ونفس المثال ينطبق على كلمة (نازي) ومعناها القومية والاشتراكية في اللغة الألمانية, غير أن ارتباط هذا اللفظ بالممارسات السياسية للحزب النازي الهتلري الألماني..وما نتج عنها من حرب ودمار وخراب للعالم, غير كلمة (نازي) في الواقع تغييرا كليا حيث أصبحت تعنى العنصرية والطغيان والاستبداد.
    ومع هذا كله نراهم يرحلون عن هذه الملاعب التي ابتدعوها وفى جعبتهم الكثير من الهزائم, إذ أخفقوا ثلاث مرات, ففي العراق حيت كان يريد الحصول على أفضل الضربات, وهى عادة تتحقق حسب قواعد اللعبة حين تطير الكرة بعيدا, في تلك الحالة يسجل ضارب الكرة والعداؤون على القواعد هدفا في الحال. ويسمى هذا "الهدف الأكبر" "أي إكمال الدورة"، والشيء الغير منتظر في هذه اللعبة هو أن ملاعب العراق وأبنائه لعبوا هذه اللعبة بطريقتهم الخاصة, حيث استبدل [rainbow]منتظر[/rainbow] الكرة بحذاء وغير الاتجاه وذالك برميه بسرعة وبطريقة لولبية مما جعل الحذاء ينعطف في الجو بشكل غريب إلى الهدف المقصود (الكابتن بوش), الأمر الذي دفع بالمتفرجين إلى حال من الهيجان للتعبير عن فرحهم. ليس في العراق فقط, بل في جميع أنحاء العالم, حيث أصبحت هذه «الرمية بالحذاء » التي ابتدعها بوش المادة الحية لمئات المواقع والألعاب الالكترونية, وبلغ الاهتمام بهذه الحادثة إلى أن وصل عدد الرميات في وجه الكابتن بوش, ما يزيد على أربعة مليار رمية. في أربعة أيام فقط من وقوع الحادثة. وهذا ما يؤهلها أن تكون سلاح لا يقل أهمية عن سلاح الكلمة, والحجارة , والمظاهرات..
    وبعودة مبرمجة إلى الموضوع وتقييدا بالملاحظات الأنفة الذكر التي نعتبرها شرطا لابد منه لمن يحاول دراسة الأديان.. سنحاول أن نرد على ادعاءات الغرب السابقة القائلة أن التراث الفكري للمسلمين إنما هو صدى وامتداد للفكر اليوناني الفلسفي, والفكر الروماني الأدبي.. مستخدمين في هذا الرد الطرق الفكرية والعلمية التي تعلمناها منهم, مترجمين هذه الطرق إلى براهين جديدة بوسائلنا الخاصة وذلك بعدما توفرت لدينا الوسائل العلمية والشواهد الناطقة ولنرى مدى مصداقيتها على أرضية الواقع، غير أننا لن نعتمد على البراهين التي قدمت من قبل وتقدم الآن، وتناولها الباحثون والعلماء دراسة وتحليلا.
    إننا سنعتمد طرق فكرية جديدة نقدمها لمفكري العالم ممن هم اقدر منا على العطاء حتى نوفي المسألة حقها…. يتواصل..

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
إعادة توجية: مهم
بواسطة Amo2024
ابتدأ بواسطة Amo2024, 23 يون, 2024, 11:00 ص
ابتدأ بواسطة الراجية مغفرة ربها, 21 يول, 2022, 03:03 ص
ردود 3
63 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة د. نيو
بواسطة د. نيو
ابتدأ بواسطة عاشق طيبة, 2 ديس, 2021, 02:04 م
ردود 2
38 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة عاشق طيبة
بواسطة عاشق طيبة
ابتدأ بواسطة أكرمنى ربى بالاسلام, 9 فبر, 2021, 12:58 م
ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 6 ديس, 2020, 09:44 م
رد 1
767 مشاهدات
0 ردود الفعل
آخر مشاركة د.أمير عبدالله
يعمل...