المرابط ولد محمد لخديم
رئيس الجمعية الوطنية للتأليف والنشر
حين يولد الإنسان يجد في بيئته الثقافية من المقولات الشعبية والأعراف والتقاليد، كما يجد نظاما رمزيا كاملا، وانتماء دنيويا وعرفيا ولغويا، ويجد إلى جانب كل ذلك أسلوبا مميزا للعيش والتفاهم، وإدارة الأزمات، وخبرات وعلوما متناقلة… وذلك كله منحدر من الماضي البعيد والقريب. والبيئة الثقافية لكل ما تحويه، تسوق طريقته في التفكير، وتحدد أطر مشاعره واتجاهات عواطفه، وآفاق طموحاته وآماله، كما تحدد المحكمات والأعراف التربوية التي تتم تنشئة الصغار بها وعليها.
إن كل بني البشر يملكون درجة من العقلانية، وتلك الدرجة متوقفة على نحو جوهري على مدى حيوية الثقافة وغناها وانفتاحها، وقبل ذلك الإطار العام الذي تشكلت فيه.
إن مما أضر بفهمنا لمسألة نسبية الصواب والخطأ في الأفكار أننا كثيرا ما ننزع الرأي من إطاره البنيوي وبيئته الثقافية والاجتماعية فيبدوا وكأنه يستمد صوابه من ذاته وقدرته على الإقناع، واقتناع الناس به.وهذا حرمنا من فهم المرتكزات العميقة له، ومن فهم البرمجة الثقافية التي وفرها المجتمع لصاحبه. وجعله أسيرا لها
وعلى هذا فنحن – فاعتبار ما – شيء من الماضي، ومظهر من مظاهر تحققه وظهوره.
فمهما حاول الواحد منا أن يبدو مخالفا لمواصفات ذلك الماضي، ومهما حاول الانقطاع عنه، فإنه لن يستطيع التخلص منه إلا على نحو جزئي، وهل يستطيع المرء أن يخرج من جلده أو أن ينسلخ عن نسبه؟!!.
غير أن المتأمل في أحوال المجتمعات الإنسانية، يجد أن السواد الأعظم من الناس يحملون الأفكار والمعتقدات الموجودة في مجتمعاتهم دون تفريق بين الصالح منها والطالح، حتى انك تجد المخترع والعبقري والعامل المتمكن الذي ينصرف على نحو خرافي إذا هو خرج عن مجاله أو تخصصه، وما ذاك إلا بسبب سطوة الموروثات الثقافية، وبسبب قدرة العقل البشري أن يجمع بين أعلى درجات المنهجية، وأعلى درجات الخرافة في إطار ثقافي واحد، لتتجلى جميعا في سلوك صاحبها وعلاقاته.(1)
وهذا ما يظهر من خلال أكثرية الكتابات التي يكتبها بعضهم عن قصد, ويسكت عنها البعض عن قصور..وهي النظريات والمفاهيم الفكرية التي أنتجها إنسان العصر متخذا العلوم سبيلا إلى ذالك وهذا ماجعله يمتلك كثيرا من القوة المادية, محققا بذالك تيسيرات حضارية كثيرة للبشر على ظهر الأرض, ينطوي بعضها على خير ظاهري ومنافع للناس. وبهذا يفتتن إنسان اليوم بالقوة المادية الغير مسبوقة كما افتتن بها قديما مع الفارق الكبير بين الأمس واليوم, فقديما كان يستند إلى لون من ألوان القوة المادية يسند بها جبروته ويفرضه على ضمائر الناس. بحيث يأخذون ما يقوله قضايا مسلمة لا تناقش ـ رهبة ورغبة!! ـ ويتقبلون سلطانه بلا معارضة أو تفكير في المعارضة.. على الرغم من ذالك فقد كانت تلك القوى المادية القديمة أقل رهبة وفتكا وتنظيما مما هي اليوم. فهي اليوم ليست أموالا جبارة فحسب, وليست أسلحة فتاكة فحسب..بل إلى جانبها من وسائل الإعلام على نطاق واسع ما لم تعرفه البشرية في تاريخها كله في عصر المعلومات وانفجار المعرفة والاتصالات. واختراق المعلومة لكافة الحدود والسدود والحواجز والقيود، وغزارتها بما يشبه طوفان نوح، تنهمر بها الفضائيات من السماء، وتنبجس بها الشبكات العنكبوتية عيونا من الأرض، وسهولة تخزينها وتصنيفها واسترجاعها ستظل تلح على أذهان الناس وضمائرهم , في هذه الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة حتى يخيل إليهم أن الباطل هو الحق, وأن الحق خيال طائر ليس له وجود!
إذا رجعنا قليلا إلى الحضارات القديمة التي شكلت العقل الغربي الحالي فإننا نجد أن سبب مبالغة أوربا في تضخيم التراث اليوناني عائد لتعصبها لأوروبيتها حتى خيل للناس أنه ـ في جميع أحواله ـ القمة التي ليس بعدها قمة.. بل القمة التي يقاس إليها الوحي الإلهي ذاته فيصدق أو يكذب وهو غالبا يكذب! ـ لأنه المحك الصادق الذي لا يوجد أصدق منه في الوجود!! وهذا التراث هو الذي رسخ فكرة الصراع بين البشر وبين الله أو بين «الآلهة» ولا أدل على هذا من أسطورة بروميثيوس, سارق النار المقدسة.
« فيروميثيوس» كائن أسطوري كان الإله «زيوس» يستخدمه في خلق الناس من الماء والطين. وقد أحس بالعطف نحو البشر, فسرق لهم النار المقدسة من السماء وأعطاها لهم. فعاقبه « زيوس» على ذالك بأن قيده بالسلاسل في جبال القوقاز حيث وكل به نسر يرعى كبده طوال النهار وتتجدد الكبد في أثناء الليل, ليتجدد عذابه في النهار. ولكي ينتقم
« زيوس» من وجود النار بين البشر أرسل إليهم « باندورا »ـ أول كائن أنثى على وجه الأرض ـ ومعها صندوق يشتمل على كافة أنواع الشرور ليدمر الجنس البشرى !! فما تزوجها « ابيميثيوس» ـ أخو« بروميثيوس» ـ وتقبل منها هدية «الإله!» فتح الصندوق فانتثرت الشرور وملأت وجه الأرض!!
تلك طبيعة العلاقة كما يقرأ محمد قطب في التراث اليوناني بين البشر والله النار المقدسة , نار «المعرفة» قد استولى عليها البشر سرقة واغتصابا من الآلهة, ليعرفوا أسرار الكون والحياة ويصبحوا آلهة! والآلهة تنتقم منهم في وحشة وعنف, لتنفرد وحدها بالقوة, وتنفرد دونهم بالسلطان, ويرى قي كنابه جاهلية القرن العشرين أن هذا الانحراف يكاد ينفرد به التراث اليوناني وهو صراع تنافر بين البشر والآلهة, من أجل إثبات فاعلية الإنسان وايجابيته! فكتبت اللعنة بذالك على الإنسان: أنه لا يثبت ذاته إلا على حساب عقيدته. وأن ضميره لا يصطلح مع لله, فلا يقوم الوئام في داخل رغبته الفطرية في إثبات ذاته, ورغبته الفطرية في الإيمان بالله!
ولعل هذا ما يفسر الكم الهائل من الكتابات ولأفلام والمسلسلات عن الأساطير اليونانية المختلفة, في الفكر الغربي وعن هذه الأسطورة بالذات..حيث قالوا أنه صراع الإنسان لإثبات ذاته! إثبات وجوده! إثبات فاعليته في الحياة! إثبات ايجابيته! وان العصيان ـ عصيان الله ـ هو برهان الايجابية والفاعلية واثبات الذات!
واليونان هم الذين قدسوا العقل على حساب الروح وهذا ما يظهر أيضا في نفس الفكر الغربي السابق زاعما أن هذا هو الذي يبرز كيان الإنسان, وقداسته, وايجابيته, وعلو قدره, ورفعة جوهره, وارتفاع قيمته في الحياة, وأهملوا أرفع جوانبه وأعظمها ـ جانب الروح. والعقل طاقة بشرية ضخمة تؤدى دورها الكامل في إثبات وجود الإنسان وفاعليته وايجابيته في هذا الكون ما في ذالك شك . ولكن الإيمان به وحده .. أو الإيمان به على حساب الروح .. هو انحراف ينقص من قيمته حين يجعله حيوانا عاقلا فحسب, كما عرفته الفلسفة اليونانية! وهو في حقيقته «إنسان»..كائن آخر غير الحيوان! إنسان رفيع بكيانه كله, لا بعقله وحده.. ورفيع بشموله وتكامله وترابطه بصورة فريدة لا تتحقق إلا في الإنسان . ومن جراء هذا التقديس على حساب الروح. حدثت جملة انحرافات عند اليونان..فما لا يستطيع إدراكه يصبح شيئا ساقطا من الحساب.
كذالك حدثت التجريديات الذهنية التي ملأت الفلسفة اليونانية ـ وهي نتيجة طبيعية للمبالغة في الاهتمام بالعقل ـ والتي ظلت تستنفد طاقة أوروبا في العصور الوسطى حتى نبذتها في عصرها الأخير بتأثير المذهب التجريبي الذي أخذته عن المسلمين. وما لبث أن” انتشر منهج العرب التجريبي في عصر بيكون وتعلمه الناس في أوروبا, يحدوهم إلى هذا رغبة ملحة" يقول الأستاذ بريفولت مستطردا: ” وقد كان هذا المنهج وسيلة للخلاص من عقم المنطق الصوري " (2)
وكذالك صارت الأخلاق قضايا ذهنية أكثر مما هي واقع عملي حي. وحقيقة أن الديمقراطية اليونانية كانت تربى أفرادها على فضائل اجتماعية معينة, ولكنها ـ بعقلهاـ لم تهتد مثلا إلى الحاسة الخلقية في أمر الفوضى الجنسية..فتركتها بلا ضابط..
ثم تأتي الحضارة الرومانية بعد اليونان لتمجد المادة على حساب الروح ..
فالوجود هو الوجود المادي . الوجود الذي تدركه الحواس. أما الذي لا تدركه الحواس فهو شيء لا وجود له, ومن ثم كان أشد الجوانب ضحالة في حياة الرومان جانب العقيدة ومن أعظم انحرافات هذه الحضارة التضخيم الشديد لعالم الحس.. واللذائذ الحسية.. ومن ثم غرق الرومان في متاع فاجر لا يقف عند حد..متاع تجاوز لذائذ الجنس ـ البالغة حد الابتذال ـ إلى لذة الاستمتاع الوحشي بإراقة الدم والقتل والتعذيب والتمثيل.(3).
ثم بعد الرومان تأتى العصور الوسطى(عصر الظلام) بما تحمله هذه الفترة من تحكم مطلق للكنيسة وفي أثناء سطوة الكنيسة هذه سيطرت الكنيسة وحدها على التعليم, وأقامت فلسفة على توجيه الناس نحو الحياة الباطنية, وصار هدفها هو إماتة الشهوات, وإهمال الجسم حتى تتنقى الروح وتنجوا من عذاب جهنم, ورفض آباء الكنيسة تعاليم الألعاب الرياضية والموسيقى والبلاغة والفلسفة المدنية, لأنها لا تتماشى مع العقائد المسيحية, وفرض رجال الدين المسيحي حاجزا بين عقل الإنسان والعالم الخارجي المحيط به, فلم يعد مسموحا لهذا العقل أن يرى إلا ما يرونه هم له.
ومن تمرد على هذا العلم ورأى غيره, تعرض لأقسى أنواع التعذيب حتى لقد لقي بض رؤساء الجامعات مصيرهم حرقا وهم أحياء. ولعنا نعرف ما لاقاه كوبرنيكس حين قال تلك الحقيقة التي صارت معروفة تماما, وهي أن الشمس هي مركز النظام الشمسي. وما لاقاه جاليلو بعده حين قال إن الأرض تدور حول الشمس, وقصة محاكم التفتيش معروفة في أوروبا فقد أباحت كل من رأت الكنيسة إباحة دمه, وكان نصيب العلماء والفلاسفة من هذه المحاكم بلغ 300.000 أحرق منهم32000 أحياء, كان منهم العالم الطبيعي برونو, نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم,وحكمت عليه بالقتل واقترحت أن لا تراق قطرة من دمه, وكان ذالك يعنى أن يحرق حيا وكذالك كان(4).
وعلى الرغم من النفوذ الضخم الذي زاولته الكنيسة فلم تكن الشريعة الإلهية مطبقة في غير قانون «الأحول الشخصية»..أما واقع الحياة الأكبر فلا تحكمه شريعة الله, وإنما يحكمه القانون الروماني..
وهذا الفصل بين الدين والحياة الواقعية ـ على الرغم من نفوذ الدين الغالب على مشاعر الناس وتصوراتهم ـ كان سمة خطرة في العصور الوسطى.
يقول الكاتبدريبر الأمريكي الجنسية, المسيحي المعتقد, في كتابه « النزاع بين الدين والعلم»: ” دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين, الذين تقلدوا وظائف خطيرة ومناصب عالية في الدولة الرومية, بتظاهرهم بالنصرانية ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين, ولم يخلصوا له يوما من الأيام.. وكذالك كان قسطنطين. فقد قضى عمره في الظلم والفجور, ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلا في آخر عمره (سنة 337 م).
” إن الجماعة النصرانية, وان كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك, ولكنها لم تتمكن من قطع دابر لوثنية وتقتلع جرثومتها. وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها, ونشأ من ذالك دين جديد, تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء.. هنا يختلف الإسلام عن النصرانية, إذ قضى على منافسه (الوثنية)قضاء باتا, ونشر عقائده خالصةبغير غش..
” وان هذا الإمبراطور الذي كان عبدا للدنيا, والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئا, رأى لمصلحته الشخصية, ولمصلحة الحزبين المتنافسين ـ النصراني والوثني ـ أن يوحدهما ويؤلف بينهما: حتى إن النصارى الراسخين أيضا لم ينكروا عليه هذه الخطة.
ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة! وأن الدين النصراني سيخلص في عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها!” (5)
كانت المسيحية ـ ككل دين منزل من عند الله ـ عقيدة وشريعة. وان كانت لم تأت بتفصيلات تشريعية فذالك لأن شريعتها الأساسية كانت التوراة, مع التعديلات غير الكثيرة التي نزلت على عيسى عليه السلام في الإنجيل .﴿.﴾[سورةآل عمران , الآية: 50[.
فكان المفهوم الطبيعي للمسيحية أن تحكم بشريعة الله المنزلة في التوراة مع مراعاة التعديلات الواردة في الإنجيل حسب تفسير محمد قطب..
ولكن الذي حدث بالفعل كما مر بنا لم يكن كذالك. وزيادة على محاربة الكنيسة للعلم كما رأينا, فقد كانت أيضا تحارب الحرية, لأن الحرية عنصر خطر على السلطان الغاشم. ويوم يحس الناس طعم الحرية ويتذوقونه, فلن يصبروا على العبودية, ولو كانت تفرض عليهم باسم الدين وسلطانه!
وكانت الكنيسة تفجُر وتعبث داخل أديرتها وهياكلها, وهي تفرض على الناس الزهادة والتقوى, وتطالبهم بمكارم الأخلاق!
وذالك فوق الإتاوات و العشور..وفوق مساندة الإقطاع ضد الفلاحين الذين يسحق كيانهم الفقر والحرمان.
فإذا قامت «النهضة» في أي لحظة, فستقوم ولاشك على مبعدة من«هذا» الدين.. إن لم تقم على عداء معه وبغضاء..
وذالك هو الذي حدث بالفعل. فما إن ضعف سلطان رجال الدين بضعف البابوات أمام الأباطرة, حتى بدأ سلطان رجال العلم يقوى, فقد بدأ الملوك يزينون بلاطاتهم برجال العلم, ويغدقون عليهم الأموال , وزاد من دعم سلطان العلم والعلماء تفجر الثورة الصناعية في أوربا في القرن الثامن عشر , واعتماد هذه الثورة على العلماء أساسا سواء في تفجرها, وفى استمرار تطوير الآلات والمصانع بعد تفجرها...وكان أن هاجم العلماء في بحثهم العلمي مسائل تتصل بالدين , من قريب أومن بعيد فآمن الناس بأقوالهم فيها, كما آمنوا بأبحاثهم العلمية الأخرى, فكان لذالك أثره في ضعف موجة الدين في أوربا.
وزاد الأمور إشكالا والناس انحيازا إلى العلم موقف رجال الكنيسة الذين أنكروا على العلماء نظرياتهم أيام كانت السلطة في أيديهم.(6).
هذه أسباب من ضمن أخرى جعلت النهضة العلمية تنشأ على أساس غير ديني secular وارتكزت على محور يبتعد في دورانه رويدا رويدا عن الدين والعقيدة وما حولهما من مشاعر وأحاسيس.
ولكن العملية صارت بطيئة ومتدرجة ..حتى كان القرن التاسع عشر قرن الأحداث الكبرى في التاريخ الأوروبي الداروينية(7)... والانقلاب الصناعي...
الداروينية رجت العقيدة رجٌا عنيفا في عالم النظريات والأفكار, والانقلاب الصناعي.. في عالم التطبيق! وقد وصل بمؤيدي هذه النظرية إلى أبعد من تطبيقاتها لتشمل بعد ذالك جميع فروع العلوم الحديثة. فكل مشكلة تحتاج « إلهَا » في تفسيرها توضع مكانه هذه النظرية بلا تردد.. وعلى الرغم من الأخطاء التي كشف عنها علم الوراثة الحديث فى تفرد الإنسان في كيانه لبيولوجي البحت,فضلا عن كيانه النفسي والعقلي والروحي.. والاكتشافات العلمية الأخرى في ما بات يعرف بالداروينية الحديثة NO Darwinisme التي تؤمن بمبدأ داروين حول حيوانية الإنسان, فان هذا لم يحد من نفوذ هده النظرية! فما هو سر هذا الانتشار؟
نرصد من هذه الأسباب الآتي:
1-الحرب العنيفة بين الكنيسة وداروين. حيث كانت تتهمه بالإلحاد وهو يتهمها بالجهالة والتخريف.. ووقوف الجماهير أخيرا في صفه للانتقام من الكنيسة
2- الانقلاب الصناعي حيث قلب صورة المجتمع رأسا على عقب ليقيم بناءه الجديد..
3- دور الرأسمالية بما توفره من ترف وزينة..لينشغل الإنسان بالقضايا المادية وما تمثله من مجون وقمار ومضاربة وبغاء..البغاء المتاح قي جميع صوره وألوانه كم بيوت للدعارة رسمية وغير رسمية ومسارح وملاه تصطاد الزبائن وتقدم لهم البضاعة فيما بات يعرف بتجارة الجنس..والتوجه الفكري بأن الحياة خلقت للاستمتاع.بلا ضابط..إلا الاكتفاء وأنها فرصة واحدة إن لم يستغلها الإنسان في حينها فستمضى إلى غير رجعة..
4–التعصب لفكر أو معتقد معين..
كتب سيرآرثركيت أحد اكبر أنصار داروين:” إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا, ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان, ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر, وهو مالا يمكن حتى التفكير فيه” (8)
وعرف احد المعاجم العلمية نظرية داروين بأنها ” نظريةقائمة على تفسير بلا برهان” (9).وفال كثير من العلماء ( أنهم لا يؤمنون بهذه النظرية إلا أنه لا يوجد أي يديل لها سوى الإيمان بالله مباشرة).كان ذالك عن التعصب لفكر معين ...
أما عن التعصب للمعتقد, فيقول كتاب بروتوكولات حكماء صهيون:( إن داروين ليس يهوديا, ولكننا عرفنا كيف ننشر آراءه على نطاق واسع,ونستغلها في تحطيم الدين).
ويقول الكتاب في نفس الصدد:
(لقد رتبنا نجاح داروين وماركس,ونيتشه, بالترويج لآرائهم وان الأثر الهدام للأخلاق الذي تنشئه علومهم في الفكر غير اليهودي, واضح لنا بكل تأكيد).
دوركايم يقول إن الدين ليس فطرة ! وأن الجريمة ظاهرة سوية! والزواج ليس من الفطرة! والأخلاق شيء لا يمكن الحديث عنه ككيان ثابت. وإنما كل ذالك من صنع العقل الجمعي, الذي لا يثبت على حال وينتقض من النقيض إلى النقيض.
وماركس يقول إن الدين أفيون الشعوب. ويقول انه مجموعة من الأساطير ابتدعها الإقطاعيون والرأسماليون لتخدير الجماهير الكادحة, وتلهيتها بنعيم الآخرة عن حياة الحرمان في الأرض!! وأن الأخلاق مجرد انعكاس للوضع الاقتصادي المتطور على الدوام وليست قيمة ثابتة.(10)
فرويد يقول الدين ناشئ عن الكبت. من عقدة أوديب . من العشق الجنسي الذي يحسه الولد نحو أمه . من رغبة الابن في قتل أبيه!! وأن الأخلاق تتسم بطابع القسوة حتى في صورتها الطبيعية العادية. وهي كبت ضار بكيان الإنسان!
وأول من وقع ضحية لهذه النظريات العلمية المنحرفة هي المرأة التي حررها ماركس لتعمل. وفرويد يقول لها أنها لابد أن تحقق كيانها تحقيقا جنسيا خالصا من القيود. ودوركايم بقول لها إن الزواج ليس فطرة..!
فلما تحررت واشتغلت حدث في نفسها انقلاب! صار في يدها مال تملكه ملكا حقيقيا, مباشرا, كاملا, تستطيع أن تتصرف فيه كما تشاء. وتعاملت ـ بشخصها مباشرة ـ مع المجتمع. في المصنع والمتجر والطريق..
وتعاملت مع الرجل ـ أو بدأت ـ إن لم يكن على أنها ندُ له, وإنما صارت كائنايحاول أن يصلإلى مستوى الرجل وينازعه السلطان.
والمرأة ـ وهي تحس رويدا رويدا بفرديتهاـ كانت تستقى هذه الفردية على انحراف فهي خارجة من حالة انعدام الكيان..في كل شيء. فلما أحست بذاتيتها أخذت تناضل لتحطيم كل قيد..لازما أو غير لازم.. وأخذت بالذات إلى تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد لأنها استخدمت ضدها في معركة (التحرر) ..استخدمها الرجل ليصدها عن منافسته, بينما كان هو في واقع حياته متحللا من الدين والأخلاق والتقاليد! ثم إنها بعد أن نكل الرجل ـ الجاهلي ـ الحيوان الذي تعمل عنده, لا يتيح لها فرصة العمل إلا أن تتيح له من نفسها ما يطلبه الرجل الحيوان. وفوق ذلك فقد كانت تطالب (بالمساواة) مع الرجل! المساواة في الأجر في أول الأمر.. ثم المساواة في كل شيء.. ومن بين ذالك التحلل والإباحية والانطلاق(11) هذا كان مهربا (وجدانيا) تهرب به المرأة من الكنيسة التي كانت تنظر إليها على أنها مخلوق شيطاني ينبغي الابتعاد عنه وفى ذالك يقول صاحب كتاب:تاريخ الأخلاق في أوروبا. عن الرهبنة
” وكانوا يفرون من ظل النساء, ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن, وكانوا يعتقدون أن مصادقتهن في الطريق والتحدث إليهن ـ ولو كن أمهات أو أزواجا وشقيقات ـ تحبط أعماهم وجهودهم الروحية״
يقول أبو الأعلى المودودى״ من نظرتهم الأولية الأساسية في هذا الشأن, أن المرأة ينبوع المعاصي , وأصل السيئة والفجور, وهى للرجل أبواب من أبواب جهنم, من حيث هي مصدر تحريكه وحمله على الآثام. ومنها انبجست عيون المصائب الإنسانية جمعاء , فبحسبها ندامة وخجلا أنها امرأة! وينبغي لها أن تستحي من حسنها وجمالها, لأنه سلاح إبليس الذي لا يوازيه سلاح من أسلحته المتنوعة. وعليها أن تكفَر ولا تنقطع عن أداء الكفارة أبدا. لأنها هي التي أتت بما أتت من الرزء والشقاء للأرض وأهلها״
مستشهدا بما قاله( تروتوليان Tertulian) أحد أقطاب المسيحية الأول وأئمتها, مبينا نظرية المسيحية في المرأة: إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان, وإنها دافعة بالمرء إلى الشجرة الملعونة, ناقضة لقانون الله. ومشوهة لصورة الله أي الرجل״
و كذالك كرائي سوستام ( Chry Sostem) الذي يعد من كبار أولياء الديانة المسيحية فى شأن المرأة : هي ضر لابد منه, ووسوسة جَبلًية, وآفة مرغوب فيها, وخطر على الأسرة والبيت, ومحبوبة فتاكة, ورزء مطلى مموه!״.
أما عن نظريتهم الثانية في باب النساء فيقول المودودى״ إن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة هي نجس في نفسها يجب أن تتجنب ـ ولو كانت عن طريق نكاح وعقد رسمي مشروع ״
يعقب محمد قطب على هذا الكلام بقوله ( إن هذه النظرة الجاهلية المنحرفةـ التي لم بأمر بها الدين, والتي لم يأمر بها أي نبي ـ حدث رد فعل عنيف في الاتجاه الآخر..حدث في تدرج بطيء.. ولعوامل شتى .
فالفساد المروع الذي حدث داخل الأديرة ذاتها, حاويا لكل أنواع الفساد الجنسي مابين الرهبان والراهبات, وما بين كل فريق بعض وبعضه...كان إحدى الصدمات التي خلخلت القيم الرهبانية من أصولها, وصرفت الناس عن هذا «الترفع» سليما أو غير سليم, فراحوا يبحثون عن الشهوات.
والتفسير الحيواني للإنسان, الذي مده فرويد ووسعه بالتفسير الجنسي للسلوك..ونقل للشبان الأقوياء ـ بلا أسرـ من الريف المتزمت المتحفظ إلى المدينة الفضفاضة الأخلاق, وتوقيع فترة من التعطل الجنسي عليهم بحرمانهم من الأجر المعقول الذي ينشؤن به أسرة في المدينة, وإباحة البغاء لهم وتيسره. وتشغيل المرأة على نطاق واسع, واضطرارها إلى التبذل الخلقي لتضمن لقمة العيش .وانشغال المرأة بقضية المساواة مع الرجل, وطلبها في أثناء ذالك المساواة معه في الفجور,كفرع من فروع المساواة التامة الشاملة كل ذالك كان دفعة عنيفة في سبيل الإفساد).
وهذا ما شحنه(ول ديورانت) في كتابه: منهاج الفلسفة. قائلا:
״ إننا نواجه مرة أخرى تلك المشكلة التي أقلقت بال سقراط. نعنى كيف نهتدي إلى أخلاق علوية تحل محل الزواجر العلوية التي بطل أثرها في سلوك الناس؟ إننا نبدد تراثنا بهذا الفساد الماجن... ״
״ واختراع موانع الحمل وذيوعها هو السبب المباشر في تغير أخلاقنا. فقد كان القانون الاخلاقى قديما يقيد الصلة الجنسية بالزواج, لأن النكاح يؤدى إلى الأبوة بحيث لا يمكث الفصل بينهما, ولم يكن الوالد مسؤلا عن ولده إلا بطريق الزواج, أما اليوم فقد انحلت الرابطة بين الصلة الجنسية وبين التناسل.وخلقت موقفا لم يكن آباؤنا يتوقعونه, لأن جميع العلاقات بين الرجال والنساء آخذة في التغير نتيجة لهذا العامل...״
״ فحياة المدينة تقضى إلى كل مثبط عن الزواج, في الوقت الذي تقدم فيه إلى الناس كل باعث على الصلة الجنسية وكل سبيل يسهل أداءها. ولكن النمو الجنسي يتم منكرا عما كان قبل, كما يتأخر النمو الاقتصادي. فإذا كان قمع الرغبة شيئا عمليا ومعقولا في ظل النظام الاقتصادي الزراعي, فانه الآن يبدو عسيرا أو غير طبيعي في حضارة صناعية أجلت الزواج حتى بالنسبة للرجال, حتى لقد يصل إلى سن الثلاثين. ولا مفر من أن يأخذ الجسم في الثورة, وأن تضعف القوة على ضبط النفس عما كان في الزمن القديم. وتصبح العفة التي كانت فضيلة موضع سخرية, ويتخفى الحياء الذي كان يضفى على الجمال جمالا, ويفاخر الرجال بتعداد خطاياهم, وتطالب النساء بحقها في مقامرات غير محدودة على قدم المساواة مع الرجال.ويصبح الاتصال قبل الزواج أمرا مألوفا. وتختفي البغايا من الشوارع بمنافسة الهاويات لا برقابة البوليس ...״
״ وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعود قبله. وقد نحاول فهم العلل الحيوية ولاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة, وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لا مفر منه في عالم خلقه الإنسان! وهذا هو الرأي الشائع لمعظم المفكرين فى الوقت الحاضر . غير أنه من المخجل أن نرضى في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية وهي تعرض علينا في السارح وفى كتب الأدب المكشوف, تلك التي تحاول كسب المال باستثارة الرغبة الجنسية في الرجال والنساء المحرومين ـ وهم في حمى الفوضى الصناعية ـ من حمى الزواج ورعايته للصحة.
״ ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة. لأن كل رجل حين يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر. ويجد الرجل لإرضاء غرائزه الخاصة في هذه الفترة من التأجيل, نظاما دوليا مجهزا بأحدث التحسينات, ومنظما بأسمى ضروب الإدارة العلمية. ويبدو أن العالم قد أبدع كل طريقة يمكن تصورها لإثارة الرغبات وإشباعها...״
״ واكبر الظن أن هذا التجدد في الإقبال على اللذة قد تعاون أكثر مما نظن مع هجوم دارون على المعتقدات الدينية. وحين اكتشف الشبان والفتيات ـ وقد أكسبهم المال جرأة ـ أن الدين يشهر بملاذهم, التمسوا في العلم ألف سبب وسبب للتشهير بالدين... ״
״ ولما كان زواجهما [ الرجل والمرأة في المجتمع الحديث] ليس زواجا بالمعنى الصحيح ـ لأنه صلة جنسية لا رباط أبوة ـ فانه يفسد لفقدانه الأساس الذي يقوم عليه, ومقومات الحياة. يموت هذا الزواج لانفصاله عن الحياة وعن النوع. وينكمش الزوجان في نفسيهما وحيدين كأنهما قطعتان منفصلتان. وتنتهي الغيرية الموجودة في الحب إلى فردية يبعثها ضغط حياة المساخر. وتعود إلى الرجل رغبته الطبيعية في التنويع,حين تؤدى الألفة إلى الاستخفاف. فليس عند المرأة جديد تبذله أكثر مما بذلته..״
״ لندع غيرنا من الذين يعرفون يخبرونا عن نتائج تجاربنا.أكبر الظن أنها لن تكون شيئا نرغب فيه أو نريده. فنحن غارقون في تيار من التغيير, سيحملنا لا محالة إلى نهايات محتومة لا حيلة لنا في اختيارها. وأي شيء قد يحدث مع هذا الفيضان الجارف من العادات والتقاليد والنظم, فالآن وقد اخذ البيت فى مدننا الكبرى فى الاختفاء, فقد فقد الزواج القاصر[المقصور] على واحدة جاذبيته الهامة. ولا ريب أن زواج المتعة سيظفر بتأييد أكثر فأكثر, حيث لا يكون النسل مقصودا. وسيزداد الزواج الحر, مباحا كان أم غير مباح. ومع أن حريتهما إلى جانب الرجل أميل, فسوف تعتبر المرأة هذا الزواج أقل شرا من عزلة عقيمة تقضيها في أيام لا يغازلها أحد. سينهار (المستوى المزدوج) وستحث المرأة الرجل بعد تقليده في كل شيء على التجربة قبل الزواج. سينمو الطلاق, وتزدحم المدن بضحايا الزيجات المحطمة . ثم ثم يصاغ نظام الزواج بأسره في صور جديدة أكثر سماحة. وعندما يتم تصنيع المرأة يصبح ضبط الحمل سر شائعا في كل طبقة يضحى الحمل أمرا عارضا في حياة المرأة, أو تحل نظم الدولة الخاصة بتربية الأطفال محل عناية البيت…وهذا كل شيء…״(12)
ان شهادة (ول ديورنت) ومابين فيها من التحليل الجنسي لتكفى لما وصل إليه إنسان العصر من تدمير لنفسه ومما يزيد الأمور خطورة أن الكاتب كان قد ألف كتابه منذ80 سنة أي سنة 1920 م . ونحن الآن في القرن الواحد والعشرون عصر المعلومات والتقنيات الرقمية..والقرية الكونية.) تخطينا كل الحدود, فقد نتج عن الثورة المعلوماتية التقنية تغيرات جذرية مست كل الأصعدة والمستويات حيث شهدت مفاهيم: العمل والزمن, والأفكار والمؤسسات والقيم الثقافية تغيرات أساسية..فأصبحنا نشاهد بأم أعيننا عن طريق هذه التقنيات الحديثة ما لم يخطر على بال الكاتب فأصبح الجنس هو المعبود بحق فلم يعد يكفى ما ذكره المؤلف من أفلام ومسارح وقصص جنسية في شهادته السابقة. بل أنهم جسدوا ذالك كله بالصوت والصورة وزادوا عليه حيث أن وسائل الإعلام ـ ولاسيما الفضائيات ـ تحرك غريزة الجنس وتحطم كل الآداب المرعية في هذا المقام، مما جعل سلوك بعض الناس ـ من كبار وصغار- يتجاوز بخطوات السلوك الجنسي لبعض البهائم.ويكفى للحصول على هذه الصور كبسة على زر من أي جهاز وفى أي مكان من العالم. ناهيك عن ملايين المواقع الإباحية في الانترنت.والموبايل والفنادق..الخ
لكننا لا نراه شبع من الجنس رغم إتاحة كل الفرص له للإشباع! بل نراه في قلق دائم, وفى ضغط عصبي متزايد, وجنون ومخدرات وجريمة وانتحار….الخ
ليس هذا ما كان يريده الإنسان التواق إلى الأمن النفسي والاستقرار, الذي ينبغي أن يتوفر لكل نفس « إنسانية » لها مهمة تقضيها على هذه الأرض غير مهمة الحيوان. وهذا ربما أحسه الشباب المسلم بفطرته, الذي ينشد لدى كتابه ومفكريه مستوى من المبادرة والجد والإخلاص, ولونا من الكتابة المباشرة التي تعيش عصرها وأفكاره وتطلعاته, فإذا هم لا يزيدون على مضغ حكايات الأولياء, واجترار بضعة خيالات محلقة في سموات التيه, ومجابهة الواقع الصارخ الملح بما يميعه في وعى الجماهير, ثم يسرح بها بعيدا بعيدا, في أحلام الماضي وتصوراته..لينشغل ببيان الانجازات التي حققها السلف..وهذا ما يجعل هؤلاء الشباب يهربون من التفكير بانغماسهم في ملذاتهم إلى درجة تكييفها مع عقلهم الجمعي. وهو ما يمكن اختزاله في معادلة أحد طرفيها البطن والفرج والطرف الآخر القلب والعقل وتكون المعادلة على الشكل التالي:
وبما أن تحصيل الكمال يحتاج إلى معاناة القراءة الجادة وما تتطلبه من تركيز ووعي، والى مفكرين يعيشون ثقافة العصر بكل تحدياته.فان الثقافة الأوروبية ستبقى بلا منازع في الوقت الراهن, تلك الثقافة الناتجة عن هيمنة أوروبا وضعف وترهل البرامج العربية والإسلامية ومن بينها بلدي موريتانيا, فقد تكونت لدى أبناء هذا المجتمع عقلية مشابهة للعقلية الأوروبية في مفاهيمها وأفكارها ونظرتها إلى الحياة, لأن الباب الوحيد للعلم والتثقيف هو ذالك الذي يفضى إلى هذه الثقافة, التي تلقن في المدارس المنشأة من طرف الحكومات في البلاد العربية ولإسلامية, على نمط المدارس المنشأة في البلاد الأوربية, من ابتدائية وثانوية وعالية. وهذه الثقافة بشكلها الحاضر وجميع ملابساتها أخذت واقتبست من الثقافة الأجنبية, وهى نفسها في الدواوين الحكومية وفى المهن الحرة وفى مجالات الحياة العملية المختلفة.
وارتباط المجتمع بالمناهج التعليمية, والمقررات الدراسية, ومختصراتها قتلت لديهم روح البحث وحرمتهم من المطالعة خارج المنهاج, وكرهت إليهم القراءة والكتابة، إذ حصرت الهدف منهما بالإمتحان والشهادة تنتهي الحاجة إليهما, وتبدأ القطيعة معهما بالنجاح في الامتحان وتحصيل الشهادة. من ثم فان الفئة التي تحصلت على الشهادة ارتبطت هي الأخرى بوسائل الأعلام والمعلومات السريعة، بما تملكه من جاذبية وسائطها المتعددة في الصوت والصورة والحركة، فآثروها على تحصيل العلوم والمعارف، وسلموا أخيلتهم وأوقاتهم لها، وفضلوا التحول إلى متلق يستمع ويشاهد مسترخيا على أريكته، يتجرع ويحتسى كؤوس القهوة أو الشاي مع ما يقدم له من دون كبير تدخل أو اختيار…
أما الفئة الباقية فهم مجموعات تحكم فيها الفكر الجمعي للمجتمع الذي لا يسمح عادة بالخروج عليه لأن ذلك يعتبر إيذانا بتخريب روحه الجماعية التي هي المصدر لتلاحمه الهش، فسيطر على هؤلاء الانشغال ببيان الانجازات.. وبهذا تحكم أوروبا سيطرتها على العالم أجمع بهذه الثقافة وهى (الثقافة التي تمثل الفكر الغربي ككل) سواء في مستعمراتها السابقة أو عولمة يرامحها عن طريق وسائل الإعلام المكتوبة والمقروءة والمسموعة..
يبين عبد القادر عودة في كتابه: الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه, السيطرة الكاملة للثقافة الأوروبية على جميع طوائف المسلمين الذين يقسمهم إلى ثلاث طوائف وهي:
1) طائفة غير لمثقفين: وتشمل الأميين والمثقفين ثقافة بسيطة لا تؤهلهم لأن يستقلوا بفهم ما يعرض عليهم والحكم عليه حكما صحيحا, وهؤلاء يجهلون الشريعة الإسلامية جهلا تاما إلا معلومات سطحية عن العبادات. وأكثرهم يؤدون العبادات تأدية آلية, مقلدين في ذالك آباءهم وإخوانهم ومشايخهم, ويندر أن تجد فيهم من يعتمد في تأدية عباداته على دراسته ومعلوماته الشخصية. ويدخل في هذه الطائفة أغلب المسلمين ولا يقل عدد أفرادها عن ثمانين في المائة من مجموع المسلمين في العالم الإسلامي وتتأثر هذه الطائفة تأثيرا كبيرا بتوجيهات المثقفين, سواء كانت ثقافتهم أوروبية أو إسلامية..
2 ) طائفة المثقفين ثقافة أوروبية: تضم هذه الطائفة معظم المثقفين في البلاد الإسلامية وأكثرهم متوسطي الثقافة. ولكن الكثيرين منهم مثقفون ثقافة عالية.ومن هذه الطائفة القضاة والمحامون. والأطباء. والمهندسون والأدباء ورجال التعليم. والإدارة.والسياسة.
وقد تثقفت هذه الطائفة على الطريقة الأوروبية. ولهذا فهم لا يعرفون عن الشريعة الإسلامية إلا ما يعرفه المسلم العادي بحكم البيئة والوسط. وأغلبهم يعرف عن عبادات اليونان والرومان. وعن القوانين والأنظمة الأوروبية. أكثر مما يعرف عن الإسلام والشريعة الإسلامية. ومن هذه الطائفة أفراد يعدون على الأصابع في كل بلد لهم دراسات خاصة في فرع من فروع الشريعة أو في مسألة من مسائلها. ولكنها دراسة محدودة. ويغلب أن تكون دراسات سطحية. وقل أن تجد في هؤلاء من يفهم روح الشريعة الإسلامية على حقيقتها أو يلم الماما صحيحا باتجاهات الشريعة أو الأسس التي تقوم عليها. وهؤلاء المثقفون ثقافة أوروبية. والذين يجهلون الإسلام والشريعة الإسلامية إلى هذا الحد. هم الذين يسيطرون على الأمة الإسلامية. ويوجهونها من مشارق الأرض ومغاربها. وهم الذين يمثلون الإسلام والأمم الإسلامية في المجامع الدولية.)
وهؤلاء على جهلهم بالإسلام متدينون, ويؤدون عبادتهم بقدر ما يعلمون..
3) طائفة المثقفين ثقافة إسلامية: تضم هذه الطائفة المثقفين ثقافة إسلامية عالية وما دونها وعددهم ليس قليلا. وان كانوا أقلية بالنسبة للمثقفين ثقافة أوروبية. ولهذه الطائفة نفوذها العظيم على الشعوب الإسلامية فيما تُعلم لهذه الشعوب أنه متصل بالإسلام.. وقد انحصر نفوذها بعد دخول القوانين الأوروبية إلى البلاد الإسلامية(13)..
وهكذا يستطر الثقافة الأوروبية ومفاهيمها على البشرية ليس في مجال النظريات والأفكار فقط. بل حتى على مستوى التطبيق؛
يقول (نور ثروب):
«كيف ستؤثر ـ يريد نظرية الكم في مناطق العالم الأخرى ـ هذه الطريقة الجديدة في التفكير التي أنشأها الغرب الحديث ؟!!
لقد عالج (هايزنيرغ) هذه المسألة في بدء حديثه وفي ختامه فالطريقة الجديدة في التفكير ستؤدي كما بقول المؤلف، وسواء شئنا أم أبينا، في تغير أو تدمير جزئي في عاداتنا التقليدية وفي قيمنا الأخلاقية(14).
فكثير من قادة الشعوب في العالم غير الغربي، وكذلك غالبية مستشاريهم الغربيين يرون أن مسألة إدخال الآلات العلمية وطرق التفكير الحديثة إلى آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا لا تعدو منح هذه المناطق استقلالها السياسي، ومن ثم تزويدها بالأموال والآليات اللازمة.
لكن هذا الافتراض السهل يهمل عدة أمور:
ـ أولها أن أجهزة العلم الحديث مستمدة من نظرياته، وتتطلب لإتقان صنعها أو لحسن استعمالها فهما جيدا لتلك النظريات.
ـ وثانيها أن هذه النظريات تعتمد بدورها على عقائد فلسفية إذا فهمت على حقيقتها تولد عقلية شخصية وجماعية وشكوكا تختلف كلها عما ألقته الأسرة والطائفة والقبيلة من عقلية وقيم سائدة لدى شعوب آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، وقد تتعارض معها في بعض الأمور. وبموجز القول: لا يستطيع الإنسان أن يستورد آلات الفيزياء الحديثة دون أن يستورد عاجلا أو آجلا عقليتها الفلسفية وهذه العقلية(15) باستحواذها على تفكير الشباب العلمي تتغلب على الولاء العائلي والقبلي القديم. وإذا لم ينتج عن هذا بالضرورة توتر عاطفي وبأس اجتماعي، فمن المهم أن تتنبه لما يطرأ عليها وهذا يعني أن علينا أن ننظر إلى تجربتها على أساس أنها اجتماع عقليتين فلسفيتين مختلفتين، تلك التي تحمل الثقافة التقليدية، وتلك التي انبتت الفيزياء الحديثة ومن هنا تبرز لكل فرد أهمية فهم فلسفة الفيزياء الجديدة..
لكن المرء قد سأل : ألست الفيزياء مستقلة تماما عن الفلسفة ؟! ألم تعزز الفيزياء الحديثة فعاليتها إلا بهجر الفلسفة ؟!
إن (هايزنبرع) يجيب بكل وضوح عن كلا السؤالين بالنفي … فلماذا ؟
لقد ترك (نيوتن) انطباعا بأن فيزياء خالية من الفرضيات التي لا تستلزمها المعطيات التجريبية. وهذا يتضح من إدعائه بأنه لم يضع أية فرضية وإنما استنبط مفاهيمه الأساسية وقوانينه مما وجده في تجاربه فإذا صح رأيه هذا في العلاقة بين الأرصاد الفيزيائية التجريبية وبين نظريته، فإن نظريته لن تحتاج أبدا إلى تعديل، ولا يمكن أن تنطوي على أية نتائج لا تؤكدها التجربة، أي أن اتفاق الوقائع معها يجعلها نهائية وخارج نطاق الشك»(16).
ومن المعلوم أن الفيزياء الحديثة قد اجتهد روادها من أجل تجاوز تزمت الكنيسة , وعجز الميتافيزيقا فكانت العلوم الحديثة تعبيرا عن حاجة إنسان عصر النهضة إلى نظرة جديدة عن الكون , وأسلوب جديد في البحث وهذا ما يفسر صيحة ديكارت العقلانية قي سماء التقليد, ودعوة فرانسيس بيكون التجريبية في أوساط التأملات العقيمة والوهمية, وتنبه كاليلو إلى الرياضيات باعتبارها مفتاح الطبيعة بدل اللغة الكيفية القاصرة .معلنين بذالك إفلاس ميكانيكا أرسطو , ومبينين خرافة نظام بطليموس الفلكي ومسلطي الضوء على عقم المنطق الصوري..
وبهذا تعود النهضة الأوروبية إلى منابعها الأولى, فيما قبل المسيحية, إلى التراث اليوناني والروماني القديم! واعتبرت ذالك رجوعا إلى النور والسؤال الذي يطرح نفسه من أين جاء هذا النور؟
من المْسلم به حتى عند الغرب انه لم يأتي من اليونان ولا من الرومان ولا من عصور الظلام…فمن أين أتى؟ لم يبقى إلا احتمال واحد وهو الإسلام..
انه النور الذي سطع من العالم الإسلامي على أوروبا المظلمة, فحرر عقولها من الخرافة, وحرر نفوسها من الخضوع المذل لسلطان الكنيسة الجائر, فاستنكفت العبودية للبشر, وسعت إلى الحرية من كل سبيل.
ولكنها لم تأخذ النور على أصوله, ولم تهتد بهديه الصحيح . لم تتجه إلى الله على منهج الإسلام الذي اقتبست منه هذا النور. فما الذي جعلها تنتهج هذا المنهج؟
إذا رجعنا قليلا إلى بداية اتصال الإسلام بالغرب, نجد أن هذه الصلة بدأت منذ حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم, ولم تكن صلة مودة ووئام, ولكنها كانت منذ بدايتها صلة عداوة وحروب. وقد عاصرت بداية الدعوة الإسلامية جزءا من حياة الإمبراطور الروماني « فوكس» , وجزءا أكبر من حكم خلفه الإمبراطور « هرقل», ولم تبد الدولة البيزنطية اهتماما بدعوة الإسلام, وجهاد نبيه أول الأمر, فلما امتدت أطراف الدولة الناشئة إلى تخوم الشام, أخذ الرومان يحرضون سكان هذه البلاد, وخصوصا نصارى ايلات, وفلول اليهود الذين طردوا من يثرب على يد المسلمين.
وحدث في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم غزوتان ذوات أهمية كبرى وهما: غزوتا مؤتة, وتبوك, فقد تلتهما موقعة اليرموك, وعلى أثرها غادر هذه البلاد العزيزة عليه, وهي من أخصب ما كانت تملك الدولة الرومانية في الشرق, غادرها وعيناه تسكبان الدموع, وهو يقول:” عليك يا سوريا السلام ونعم البلد للأعداء” (17)
ثم بعد هذه الاتصال العدائي تأتي فترة الاستشراق في القرن الحادي عشر.
وقد امتازت هذه الحقبة بالتعصب والجهل جميعا, أما التعصب فمرده إلى حال العداء الذي رأينا طرفا منه, أما الجهل فمرجعه شح المعلومات عن الإسلام.
وكانت دراسة الإسلام والحديث عنه أشبه بالدعايات الحربية التي تبحث عن سوءات الخصوم, فان لم تجد اختلقت هي سوءات خيالية..
ومنذ القرن التاسع عشر, وبعد الحركة الاستعمارية التي اطلعت الغرب مباشرة على عقائد الشرق وتقاليده, تخلى البحث الاستشراقى عن كثير من خرافات القرن الوسيط, ومع ذالك بقيت أفكار كثيرة جدا يعيش عليها المستشرقون المحدثون.
ومن أهم هذه الأفكار « أن القرآن الكريم من صنع محمد, وأنه صلى الله عليه وسلم كان تلميذا لليهود والنصارى, وأن القوانين الإسلامية تحرير وامتداد للقوانين الرومانية.
ويأتي تبعا لذالك ما ابتكره هؤلاء من أن التراث الفكري للمسلمين إنما هو صدى وامتداد للفكر اليوناني الفلسفي والفكر الروماني الأدبي. ثم وصفوا الإسلام بأنه دين تواكل وخمول, واليه يرجع ما يرزح تحته المسلمون من جهل وفقر ومرض وتأخر اجتماعي عام. وهذه الأوهام بدأت بدورها تتقلص قليلا قليلا. ولكن التسليم بأن محمد صلى الله عليه سلم كان نبيا تلقى وحيا من الله, وأن القرآن الكريم كلام الله المعجز, مما يصعب عليهم أن يسلموا به, وأجمل ما نجد في كتابات المستشرقين أن كل واحد منهم يعجبه جانب من الإسلام ويلصق بجانب آخر تهمة. فيأتي آخر فينفى تهمة صاحبه ويبين جانبا آخر مشرقا من جوانب الإسلام, ولكن ليس بينهم من يعترف بالإسلام دينا» (18)
وهذا ما جعلنا نجد الكثير من المغالطات سواء من كتاب الغرب أو من المسلمين أنفسهم لأنهم هم المسئولون عن عدم التعريف بدينهم وتجلية غوامضه, مما ألصق به من زلات الأبناء قبل الأعداء..حيث يبقى الأمل الوحيد أمام هذا الإنسان المعاصر الذي دمر كيانه عن طريق فلسفة الجنس. ليس في الأخلاق بل وفى كل ما يتصل بالنفس والمجتمع ..حتى أصبح هذا العصر أشد العصور انشغالا بالجنس ..
ولعل ما يستحق الذكر هنا تلك الملاحظة الذكية التي ذكرها الدكتور محمد عايد الجابري في مقال له(19) بعنوان:(حوار الحضارات أية مصداقية؟)،بأن هذا لموضوع يرد تارة تحت عنوان (حوار الحضارات)، وأخرى باستعمال كلمة (ثقافة) بدل كلمة (حضارة) مشيرا أنه وبغض النظر عن الفرق الذي يمكن أن يقام بين الكلمتين، وهو فرق يختلق من لغة إلى أخرى، فإن للافت للانتباه حقا هو التركيز، في العالم الغربي كما في العالم الإسلامي، على موضوع معين، تحت عنوان (الإسلام وحوار الحضارات)، حتى غدا هذا الموضوع وكأنه وحده هو المقصود بهذا الحوار). مضيفا أنه من المفروض أن يكون مجرد واحد من الموضوعات التي يجب أن يشملها الحوار، متسائلا: لما الإسلام بالضبط؟ وما المقصود هنا (بالإسلام) ولماذا لم نسمع عن ندوة أو ندوات حول (المسيحية وحوار الحضارات) أو (اليهودية وحوار الحضارات). أو البوذية،أو الهندوسية أو غير هذه من الديانات ؟ مبينا أن هذا التخصيص الذي يصرف عبارة (حوار الحضارات) إلى دين واحد، يحمل على الشك في مدى الموضوعية.والتجرد اللذين تطرح بهما هذه المسألة ويريد الكاتب أن يقول: أن الكتاب الغربيين الذين يروجون لمقولة (صراع الحضارات) يضعون كمقابل («الغرب» (وحضارة الغرب). ليس (حضارة الإسلام) أو الحضارة الإسلامية)، بل الإسلام بدون تخصيص وهذا ما جعل هذا الطرح يضع (الغرب) وهو مصطلح جغرافي ومفهوم ثقافي حضاري في مقابل (الإسلام) الذي هو الدين.)
والآن لنضع هذا الكلام جانبا ولنعرض لبعض الحقائق التاريخية لنعرف مدى مصداقية كل من القولين؛
يعترف الغرب بأن الحضارة اليونانية قد انتقلت إليهم عن طريق الحضارة العربية الإسلامية وأن معرفتهم بالحضارة الفارسية والهندية تدين بالكثير للعرب والمسلمين فكيف حصل هذا الانتقال ؟ وكيف صمدت الحضارة الإسلامية أمام تلك المنافسة الشرسة بين الثقافة الفارسية والرومانية ؟ رغم أنها كانت تدور داخلها، وما مدى مصداقية تجريد الغرب الآن للدين الإسلامي من حضارته؟!!
إن من يقرأ تاريخ الحضارات كثيرا ما يصادفه مصطلح الشعوبية وما هي إلا( نتاج تلاقح بين الحضارة الفارسية والعربية الإسلامية وقد شجع جو الحوار الثقافي الحضاري، الذي ساد فيها، المتخصصين الذين كانوا ذوي ميول يونانية إلى إبراز مآثر الحضارة اليونانية، فدخلوا في حوار تنافسي مع المتخصصين ذوي الميول الفارسية. وهكذا جرى داخل الحضارة العربية الإسلامية حوار تنافسي بين ثقافتين الفارسية واليونانية الشيء الذي حفز ذوي الثقافة العربية الإسلامية إلى الالتحاق بميدان المنافسة، فأبرزوا مآثر العرب ومناقب الإسلام مع الاعتراف للحضارات الأخرى بفضلها، الشيء الذي كرس النسبية في التفكير الحضاري في الفكر العربي الإسلامي، وخفف إلى حد كبير من التمركز حول الذات في هذا الفكر(20).
ولما كان أساس الحضارة الإسلامية فكريا، لذلك كانت حضارته مستقلة كاملة ذات دستور شامل مجرد، يختلف اختلافا جذريا عن مكونات الحضارة الغربية، مثلما اختلف جذريا مع الحضارات القديمة اليونانية والرومانية والهندية.
وإذا كان أساس الحضارة الإسلامية هو الفكر فإن الإسلام لا يعادي العلم الذي هو طريق الحضارة. ولا يعادي القوة السياسية والعسكرية لأنها أداة ومظهر من مظاهر الحضارة. والإسلام بهذا الشمول يضع المنهج الملائم والسليم، والمقومات الأساسية لقيام حضارة إسلامية قائمة على الفكر الذي هو جماع كل مظاهر الحضارات، حتى يكون أساسها قويا متينا لذلك فإن حضارة الإسلام باقية متجددة، لا يصيبها الشلل أو تعتريها الشيخوخة(21).
ولأن الفكر أساس حضارة الإسلام لذا فإن الثقافة الإسلامية هي إحدى مستلزمات هذا الفكر وعليه يكون الحق مع ملاحظة الدكتور الجابري ويصبح الطرح الجديد على الشكل التالي : (الحضارة الغربية) مقابل (الحضارة الإسلامية). ولعل أكثر الأخطاء التي وردت في بحوث من كتب ويكتب عن هذه المواضيع هو عدم انتباههم للمنطلق الخاطئ الذي لم يتقيد بالملاحظة السالفة الذكر..
ثم يأتي بعد هذه الملاحظة, التصويب المهم, الذي ذكره وحيد الدين خان في كتابه: الإسلام يتحدى وهو أنهم يتناولون الدين على انه (مشكلة موضوعية) « Objective problème فهم يجمعون في سلة واحدة كل ما أطلق عليه اسم "دين" في أي مرحلة من التاريخ ثم يتأملون في ضوء هذا المحصول حقيقة الدين!!.
إن موقفهم ينحرف من أول مرحلة(22)، فيبدوا لهم الدين جراء هذا الموقف الفاسد ـ عملا اجتماعيا، لا كشفا لحقيقة، ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى. أما الأمور التي تأتي بها أعمال اجتماعية فليس لها مثلا أعلى، وبقاؤها رهن بحاجة المجتمع إليها.
والدين يختلف عن ذلك كل الاختلاف، فليس من الممكن البحث عن حقائقه، كما يبحث عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات، لان الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها أو يقبلها في شكل ناقصويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها، وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق الدين بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة باسم (الدين). وهذا رد في نفس الوقت على أولئك الذين يستدلون بالتاريخ وعلم الاجتماع لطعن في الدين..
وتعتبر جميع الدراسات التي لم تتقيد بهذه الملاحظات ناقصة أو مشبوهة لذا سنحاول في دراستنا المقبلة بحول الله التقيد بهذه الملاحظات, حتى تفسر لنا الأديان ما عجز عنه الإنسان..!!
(1) -تجديد الوعي: أ.د عبد الكريم بكار، الطبعة الأولى، دار القلم، دمشق، 1421هـ ـ 2000 م، ص: 39.
(2) - معرفة الله: دلائل الحقائق القرآنية والكونية: المرابط ولد محمد لخديم, تصدير: الأستاذ الجليل حمدا ولد التاه, تقديم: الدكتور حسين عمر حمادة، رئيس قسم الدراسات والبحوث العلمية باتحاد الكتاب العرب دمشق. الطبعة الأولى، دار الوثائق للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 2001 م، الطبعة الثانية، دار وحي القلم بيروت- لبنان سنة 2002 م. وهو الكتاب الفائز بجائزة شنقيط للدراسات الإسلامية 2003 م، ص: 22
(3)- جاهلية القرن العشرين: محمد قطب, دار الشروق1403 ها-1983 م, ص:26-28
(4)- معرفة الله, م.س, ص: 26 .من المقدمة.
(5)- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: أبى الحسن الندوى, نقلا عن جاهلية لقرن العشرين, م.س, ص:29 .
(6)- معرفة الله, م.س, ص: 27 . من المقدمة.
(7)- أنظر تفاصيل أكتر عن هذه النظرية, في المرجع نفسه الصفحات: 112 -120 .
(8)islamic thought .dec. 1961
(9) revolt against reason ; p :11
(*)- نقلا عن الإسلام يتحدى: وحيد الدين خان، ترجمة، ظفر الإسلام خان، (مدخل علمي إلى الإيمان)، مراجعة وتقديم، الدكتور عبد الصبور شاهين، الطبعة الثانية، المختار الإسلامي 1964 م. ص:42
(10)- جاهلية القرن العشرين, م.س, ص:40 .
(11)- المرحع نفسه, ص:134 -136 (بتصرف بسيط).,
(12)- مناهج الفلسفة: (ول ديورانت), نقلا عن المرجع نفسه, ص:174 -177 .
(13)- الإسلام: بين جهل أبنائه وعجز علمائه: عبد القادر عودة, طبع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد, السعودية,ص:48 وما بعدها بتصرف.
(14)- لعل ما يقصده الكاتب هو تلك العقلية المشابهة للعقلية الأوروبية في مفاهيمها وأفكارها ونظرتها إلى الحياة, لأن الباب الوحيد للعلم والتثقيف هو ذالك الذي يفضى إلى هذه الثقافة, كما بينا سابقا..
(15)- ووسيلتها في التطبيق هي هذه الوسائل التي بين أيدينا والتي تحمل نفس فلسفة أصحابها أي الثقافة الأوربية الغربية وهي نفسها في الدواوين الحكومية وفى المهن الحرة وفى مجالات الحياة العملية المختلفة.ونتيجة لتحكم هذه العقلية فان إنسان العصر يعيش مشتت الذهن بين ما نشأ عليه من عادات وتقاليد وبين ماهو مفروض عليه فرضا..
ينسحب هدا على الجميع , ولنأخذ على سبيل المثال محيطي الذي أعيش فيه والظاهر لغير العميان التأثير المباشر وغير المباشر, حيث يمكننا رصد عقليتين مختلفتين تلك العقلية المحظرية ذات الثقافة التقليدية العالية وعقلية المدارس النظامية الأولى تطرح الأسئلة القديمة المتجددة : ما هذا الكون؟ من أنا؟ والى أين المصير؟ وكانت المحظرة قد أجابت عليها انطلاقا من علومها المنطق وعلم الكلام..والثانية تطرح أسئلة تختلف جملة وتفصيلا عن الأولى : الصدفة ؟ القوانين العشوائية؟ احتمال أزلية المادة ؟ نظرية التطور؟ اكتشاف عوالم جديدة في عالمنا أو في السماوات الأخرى….الخ وهى الفلسفة التي تجسدها هذه الوسائل و الآلات..من هنا لن نتفاجئ بالإرهاصات التي تدور من حولنا ابتداء من ترويض السيارات والإفراط في استخدام الموبايل والتحصيل الجنوني للأموال وكلها وسائل تقرب من قريب أو بعيد الجنس حتى إذا لم يشبع أو تشبع من الجنس رجعت الأسئلة من جديد…وهكذا يبقى الإنسان في خسران.. إلا من رحم ربك..
(16)- دين الفطرة: استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة إنسانية, المرابط ولد محمد لخديم, تقديم: الأستاذ الدكتور محمد المختار ولد أباه, الدكتور الداه ولد ممون أستاذ الفيزياء بكلية العلوم والتقنيات جامعة أنواكشوط, ص: 31 من المقدمة.
(17)- كتاب الأصالة: محاضرات ملتقى الفكر الإسلامي التاسع عشر لجزء الأول الجزائر, 1405 ها ـ 1985 م. ص:183 .
(18)- المرجع نفسه, ص:184 .
(19)- الإسلام اليوم: مجلة دورية تصدر عن المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم(ايسسكو)، العدد:19، السنة 1423هـ ـ 2002 م. من مقال للدكتور محمد عايد الجابري ص: 50 (بتصرف بسيط).
(20)- دين الفطرة , م.س ص: 8 -9 , من المقدمة.
(21)- الميزان في مقارنة الأديان: حقائق ووثائق، المستشار محمد عزت الطهطاوي، دار القلم، الطبعة الثانية 1423 هـ _2002 م.
(22)- الإسلام يتحدى: م س، ص: 37.
رئيس الجمعية الوطنية للتأليف والنشر
حين يولد الإنسان يجد في بيئته الثقافية من المقولات الشعبية والأعراف والتقاليد، كما يجد نظاما رمزيا كاملا، وانتماء دنيويا وعرفيا ولغويا، ويجد إلى جانب كل ذلك أسلوبا مميزا للعيش والتفاهم، وإدارة الأزمات، وخبرات وعلوما متناقلة… وذلك كله منحدر من الماضي البعيد والقريب. والبيئة الثقافية لكل ما تحويه، تسوق طريقته في التفكير، وتحدد أطر مشاعره واتجاهات عواطفه، وآفاق طموحاته وآماله، كما تحدد المحكمات والأعراف التربوية التي تتم تنشئة الصغار بها وعليها.
إن كل بني البشر يملكون درجة من العقلانية، وتلك الدرجة متوقفة على نحو جوهري على مدى حيوية الثقافة وغناها وانفتاحها، وقبل ذلك الإطار العام الذي تشكلت فيه.
إن مما أضر بفهمنا لمسألة نسبية الصواب والخطأ في الأفكار أننا كثيرا ما ننزع الرأي من إطاره البنيوي وبيئته الثقافية والاجتماعية فيبدوا وكأنه يستمد صوابه من ذاته وقدرته على الإقناع، واقتناع الناس به.وهذا حرمنا من فهم المرتكزات العميقة له، ومن فهم البرمجة الثقافية التي وفرها المجتمع لصاحبه. وجعله أسيرا لها
وعلى هذا فنحن – فاعتبار ما – شيء من الماضي، ومظهر من مظاهر تحققه وظهوره.
فمهما حاول الواحد منا أن يبدو مخالفا لمواصفات ذلك الماضي، ومهما حاول الانقطاع عنه، فإنه لن يستطيع التخلص منه إلا على نحو جزئي، وهل يستطيع المرء أن يخرج من جلده أو أن ينسلخ عن نسبه؟!!.
غير أن المتأمل في أحوال المجتمعات الإنسانية، يجد أن السواد الأعظم من الناس يحملون الأفكار والمعتقدات الموجودة في مجتمعاتهم دون تفريق بين الصالح منها والطالح، حتى انك تجد المخترع والعبقري والعامل المتمكن الذي ينصرف على نحو خرافي إذا هو خرج عن مجاله أو تخصصه، وما ذاك إلا بسبب سطوة الموروثات الثقافية، وبسبب قدرة العقل البشري أن يجمع بين أعلى درجات المنهجية، وأعلى درجات الخرافة في إطار ثقافي واحد، لتتجلى جميعا في سلوك صاحبها وعلاقاته.(1)
وهذا ما يظهر من خلال أكثرية الكتابات التي يكتبها بعضهم عن قصد, ويسكت عنها البعض عن قصور..وهي النظريات والمفاهيم الفكرية التي أنتجها إنسان العصر متخذا العلوم سبيلا إلى ذالك وهذا ماجعله يمتلك كثيرا من القوة المادية, محققا بذالك تيسيرات حضارية كثيرة للبشر على ظهر الأرض, ينطوي بعضها على خير ظاهري ومنافع للناس. وبهذا يفتتن إنسان اليوم بالقوة المادية الغير مسبوقة كما افتتن بها قديما مع الفارق الكبير بين الأمس واليوم, فقديما كان يستند إلى لون من ألوان القوة المادية يسند بها جبروته ويفرضه على ضمائر الناس. بحيث يأخذون ما يقوله قضايا مسلمة لا تناقش ـ رهبة ورغبة!! ـ ويتقبلون سلطانه بلا معارضة أو تفكير في المعارضة.. على الرغم من ذالك فقد كانت تلك القوى المادية القديمة أقل رهبة وفتكا وتنظيما مما هي اليوم. فهي اليوم ليست أموالا جبارة فحسب, وليست أسلحة فتاكة فحسب..بل إلى جانبها من وسائل الإعلام على نطاق واسع ما لم تعرفه البشرية في تاريخها كله في عصر المعلومات وانفجار المعرفة والاتصالات. واختراق المعلومة لكافة الحدود والسدود والحواجز والقيود، وغزارتها بما يشبه طوفان نوح، تنهمر بها الفضائيات من السماء، وتنبجس بها الشبكات العنكبوتية عيونا من الأرض، وسهولة تخزينها وتصنيفها واسترجاعها ستظل تلح على أذهان الناس وضمائرهم , في هذه الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة حتى يخيل إليهم أن الباطل هو الحق, وأن الحق خيال طائر ليس له وجود!
إذا رجعنا قليلا إلى الحضارات القديمة التي شكلت العقل الغربي الحالي فإننا نجد أن سبب مبالغة أوربا في تضخيم التراث اليوناني عائد لتعصبها لأوروبيتها حتى خيل للناس أنه ـ في جميع أحواله ـ القمة التي ليس بعدها قمة.. بل القمة التي يقاس إليها الوحي الإلهي ذاته فيصدق أو يكذب وهو غالبا يكذب! ـ لأنه المحك الصادق الذي لا يوجد أصدق منه في الوجود!! وهذا التراث هو الذي رسخ فكرة الصراع بين البشر وبين الله أو بين «الآلهة» ولا أدل على هذا من أسطورة بروميثيوس, سارق النار المقدسة.
« فيروميثيوس» كائن أسطوري كان الإله «زيوس» يستخدمه في خلق الناس من الماء والطين. وقد أحس بالعطف نحو البشر, فسرق لهم النار المقدسة من السماء وأعطاها لهم. فعاقبه « زيوس» على ذالك بأن قيده بالسلاسل في جبال القوقاز حيث وكل به نسر يرعى كبده طوال النهار وتتجدد الكبد في أثناء الليل, ليتجدد عذابه في النهار. ولكي ينتقم
« زيوس» من وجود النار بين البشر أرسل إليهم « باندورا »ـ أول كائن أنثى على وجه الأرض ـ ومعها صندوق يشتمل على كافة أنواع الشرور ليدمر الجنس البشرى !! فما تزوجها « ابيميثيوس» ـ أخو« بروميثيوس» ـ وتقبل منها هدية «الإله!» فتح الصندوق فانتثرت الشرور وملأت وجه الأرض!!
تلك طبيعة العلاقة كما يقرأ محمد قطب في التراث اليوناني بين البشر والله النار المقدسة , نار «المعرفة» قد استولى عليها البشر سرقة واغتصابا من الآلهة, ليعرفوا أسرار الكون والحياة ويصبحوا آلهة! والآلهة تنتقم منهم في وحشة وعنف, لتنفرد وحدها بالقوة, وتنفرد دونهم بالسلطان, ويرى قي كنابه جاهلية القرن العشرين أن هذا الانحراف يكاد ينفرد به التراث اليوناني وهو صراع تنافر بين البشر والآلهة, من أجل إثبات فاعلية الإنسان وايجابيته! فكتبت اللعنة بذالك على الإنسان: أنه لا يثبت ذاته إلا على حساب عقيدته. وأن ضميره لا يصطلح مع لله, فلا يقوم الوئام في داخل رغبته الفطرية في إثبات ذاته, ورغبته الفطرية في الإيمان بالله!
ولعل هذا ما يفسر الكم الهائل من الكتابات ولأفلام والمسلسلات عن الأساطير اليونانية المختلفة, في الفكر الغربي وعن هذه الأسطورة بالذات..حيث قالوا أنه صراع الإنسان لإثبات ذاته! إثبات وجوده! إثبات فاعليته في الحياة! إثبات ايجابيته! وان العصيان ـ عصيان الله ـ هو برهان الايجابية والفاعلية واثبات الذات!
واليونان هم الذين قدسوا العقل على حساب الروح وهذا ما يظهر أيضا في نفس الفكر الغربي السابق زاعما أن هذا هو الذي يبرز كيان الإنسان, وقداسته, وايجابيته, وعلو قدره, ورفعة جوهره, وارتفاع قيمته في الحياة, وأهملوا أرفع جوانبه وأعظمها ـ جانب الروح. والعقل طاقة بشرية ضخمة تؤدى دورها الكامل في إثبات وجود الإنسان وفاعليته وايجابيته في هذا الكون ما في ذالك شك . ولكن الإيمان به وحده .. أو الإيمان به على حساب الروح .. هو انحراف ينقص من قيمته حين يجعله حيوانا عاقلا فحسب, كما عرفته الفلسفة اليونانية! وهو في حقيقته «إنسان»..كائن آخر غير الحيوان! إنسان رفيع بكيانه كله, لا بعقله وحده.. ورفيع بشموله وتكامله وترابطه بصورة فريدة لا تتحقق إلا في الإنسان . ومن جراء هذا التقديس على حساب الروح. حدثت جملة انحرافات عند اليونان..فما لا يستطيع إدراكه يصبح شيئا ساقطا من الحساب.
كذالك حدثت التجريديات الذهنية التي ملأت الفلسفة اليونانية ـ وهي نتيجة طبيعية للمبالغة في الاهتمام بالعقل ـ والتي ظلت تستنفد طاقة أوروبا في العصور الوسطى حتى نبذتها في عصرها الأخير بتأثير المذهب التجريبي الذي أخذته عن المسلمين. وما لبث أن” انتشر منهج العرب التجريبي في عصر بيكون وتعلمه الناس في أوروبا, يحدوهم إلى هذا رغبة ملحة" يقول الأستاذ بريفولت مستطردا: ” وقد كان هذا المنهج وسيلة للخلاص من عقم المنطق الصوري " (2)
وكذالك صارت الأخلاق قضايا ذهنية أكثر مما هي واقع عملي حي. وحقيقة أن الديمقراطية اليونانية كانت تربى أفرادها على فضائل اجتماعية معينة, ولكنها ـ بعقلهاـ لم تهتد مثلا إلى الحاسة الخلقية في أمر الفوضى الجنسية..فتركتها بلا ضابط..
ثم تأتي الحضارة الرومانية بعد اليونان لتمجد المادة على حساب الروح ..
فالوجود هو الوجود المادي . الوجود الذي تدركه الحواس. أما الذي لا تدركه الحواس فهو شيء لا وجود له, ومن ثم كان أشد الجوانب ضحالة في حياة الرومان جانب العقيدة ومن أعظم انحرافات هذه الحضارة التضخيم الشديد لعالم الحس.. واللذائذ الحسية.. ومن ثم غرق الرومان في متاع فاجر لا يقف عند حد..متاع تجاوز لذائذ الجنس ـ البالغة حد الابتذال ـ إلى لذة الاستمتاع الوحشي بإراقة الدم والقتل والتعذيب والتمثيل.(3).
ثم بعد الرومان تأتى العصور الوسطى(عصر الظلام) بما تحمله هذه الفترة من تحكم مطلق للكنيسة وفي أثناء سطوة الكنيسة هذه سيطرت الكنيسة وحدها على التعليم, وأقامت فلسفة على توجيه الناس نحو الحياة الباطنية, وصار هدفها هو إماتة الشهوات, وإهمال الجسم حتى تتنقى الروح وتنجوا من عذاب جهنم, ورفض آباء الكنيسة تعاليم الألعاب الرياضية والموسيقى والبلاغة والفلسفة المدنية, لأنها لا تتماشى مع العقائد المسيحية, وفرض رجال الدين المسيحي حاجزا بين عقل الإنسان والعالم الخارجي المحيط به, فلم يعد مسموحا لهذا العقل أن يرى إلا ما يرونه هم له.
ومن تمرد على هذا العلم ورأى غيره, تعرض لأقسى أنواع التعذيب حتى لقد لقي بض رؤساء الجامعات مصيرهم حرقا وهم أحياء. ولعنا نعرف ما لاقاه كوبرنيكس حين قال تلك الحقيقة التي صارت معروفة تماما, وهي أن الشمس هي مركز النظام الشمسي. وما لاقاه جاليلو بعده حين قال إن الأرض تدور حول الشمس, وقصة محاكم التفتيش معروفة في أوروبا فقد أباحت كل من رأت الكنيسة إباحة دمه, وكان نصيب العلماء والفلاسفة من هذه المحاكم بلغ 300.000 أحرق منهم32000 أحياء, كان منهم العالم الطبيعي برونو, نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم,وحكمت عليه بالقتل واقترحت أن لا تراق قطرة من دمه, وكان ذالك يعنى أن يحرق حيا وكذالك كان(4).
وعلى الرغم من النفوذ الضخم الذي زاولته الكنيسة فلم تكن الشريعة الإلهية مطبقة في غير قانون «الأحول الشخصية»..أما واقع الحياة الأكبر فلا تحكمه شريعة الله, وإنما يحكمه القانون الروماني..
وهذا الفصل بين الدين والحياة الواقعية ـ على الرغم من نفوذ الدين الغالب على مشاعر الناس وتصوراتهم ـ كان سمة خطرة في العصور الوسطى.
يقول الكاتبدريبر الأمريكي الجنسية, المسيحي المعتقد, في كتابه « النزاع بين الدين والعلم»: ” دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين, الذين تقلدوا وظائف خطيرة ومناصب عالية في الدولة الرومية, بتظاهرهم بالنصرانية ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين, ولم يخلصوا له يوما من الأيام.. وكذالك كان قسطنطين. فقد قضى عمره في الظلم والفجور, ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلا في آخر عمره (سنة 337 م).
” إن الجماعة النصرانية, وان كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك, ولكنها لم تتمكن من قطع دابر لوثنية وتقتلع جرثومتها. وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها, ونشأ من ذالك دين جديد, تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء.. هنا يختلف الإسلام عن النصرانية, إذ قضى على منافسه (الوثنية)قضاء باتا, ونشر عقائده خالصةبغير غش..
” وان هذا الإمبراطور الذي كان عبدا للدنيا, والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئا, رأى لمصلحته الشخصية, ولمصلحة الحزبين المتنافسين ـ النصراني والوثني ـ أن يوحدهما ويؤلف بينهما: حتى إن النصارى الراسخين أيضا لم ينكروا عليه هذه الخطة.
ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة! وأن الدين النصراني سيخلص في عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها!” (5)
كانت المسيحية ـ ككل دين منزل من عند الله ـ عقيدة وشريعة. وان كانت لم تأت بتفصيلات تشريعية فذالك لأن شريعتها الأساسية كانت التوراة, مع التعديلات غير الكثيرة التي نزلت على عيسى عليه السلام في الإنجيل .﴿.﴾[سورةآل عمران , الآية: 50[.
فكان المفهوم الطبيعي للمسيحية أن تحكم بشريعة الله المنزلة في التوراة مع مراعاة التعديلات الواردة في الإنجيل حسب تفسير محمد قطب..
ولكن الذي حدث بالفعل كما مر بنا لم يكن كذالك. وزيادة على محاربة الكنيسة للعلم كما رأينا, فقد كانت أيضا تحارب الحرية, لأن الحرية عنصر خطر على السلطان الغاشم. ويوم يحس الناس طعم الحرية ويتذوقونه, فلن يصبروا على العبودية, ولو كانت تفرض عليهم باسم الدين وسلطانه!
وكانت الكنيسة تفجُر وتعبث داخل أديرتها وهياكلها, وهي تفرض على الناس الزهادة والتقوى, وتطالبهم بمكارم الأخلاق!
وذالك فوق الإتاوات و العشور..وفوق مساندة الإقطاع ضد الفلاحين الذين يسحق كيانهم الفقر والحرمان.
فإذا قامت «النهضة» في أي لحظة, فستقوم ولاشك على مبعدة من«هذا» الدين.. إن لم تقم على عداء معه وبغضاء..
وذالك هو الذي حدث بالفعل. فما إن ضعف سلطان رجال الدين بضعف البابوات أمام الأباطرة, حتى بدأ سلطان رجال العلم يقوى, فقد بدأ الملوك يزينون بلاطاتهم برجال العلم, ويغدقون عليهم الأموال , وزاد من دعم سلطان العلم والعلماء تفجر الثورة الصناعية في أوربا في القرن الثامن عشر , واعتماد هذه الثورة على العلماء أساسا سواء في تفجرها, وفى استمرار تطوير الآلات والمصانع بعد تفجرها...وكان أن هاجم العلماء في بحثهم العلمي مسائل تتصل بالدين , من قريب أومن بعيد فآمن الناس بأقوالهم فيها, كما آمنوا بأبحاثهم العلمية الأخرى, فكان لذالك أثره في ضعف موجة الدين في أوربا.
وزاد الأمور إشكالا والناس انحيازا إلى العلم موقف رجال الكنيسة الذين أنكروا على العلماء نظرياتهم أيام كانت السلطة في أيديهم.(6).
هذه أسباب من ضمن أخرى جعلت النهضة العلمية تنشأ على أساس غير ديني secular وارتكزت على محور يبتعد في دورانه رويدا رويدا عن الدين والعقيدة وما حولهما من مشاعر وأحاسيس.
ولكن العملية صارت بطيئة ومتدرجة ..حتى كان القرن التاسع عشر قرن الأحداث الكبرى في التاريخ الأوروبي الداروينية(7)... والانقلاب الصناعي...
الداروينية رجت العقيدة رجٌا عنيفا في عالم النظريات والأفكار, والانقلاب الصناعي.. في عالم التطبيق! وقد وصل بمؤيدي هذه النظرية إلى أبعد من تطبيقاتها لتشمل بعد ذالك جميع فروع العلوم الحديثة. فكل مشكلة تحتاج « إلهَا » في تفسيرها توضع مكانه هذه النظرية بلا تردد.. وعلى الرغم من الأخطاء التي كشف عنها علم الوراثة الحديث فى تفرد الإنسان في كيانه لبيولوجي البحت,فضلا عن كيانه النفسي والعقلي والروحي.. والاكتشافات العلمية الأخرى في ما بات يعرف بالداروينية الحديثة NO Darwinisme التي تؤمن بمبدأ داروين حول حيوانية الإنسان, فان هذا لم يحد من نفوذ هده النظرية! فما هو سر هذا الانتشار؟
نرصد من هذه الأسباب الآتي:
1-الحرب العنيفة بين الكنيسة وداروين. حيث كانت تتهمه بالإلحاد وهو يتهمها بالجهالة والتخريف.. ووقوف الجماهير أخيرا في صفه للانتقام من الكنيسة
2- الانقلاب الصناعي حيث قلب صورة المجتمع رأسا على عقب ليقيم بناءه الجديد..
3- دور الرأسمالية بما توفره من ترف وزينة..لينشغل الإنسان بالقضايا المادية وما تمثله من مجون وقمار ومضاربة وبغاء..البغاء المتاح قي جميع صوره وألوانه كم بيوت للدعارة رسمية وغير رسمية ومسارح وملاه تصطاد الزبائن وتقدم لهم البضاعة فيما بات يعرف بتجارة الجنس..والتوجه الفكري بأن الحياة خلقت للاستمتاع.بلا ضابط..إلا الاكتفاء وأنها فرصة واحدة إن لم يستغلها الإنسان في حينها فستمضى إلى غير رجعة..
4–التعصب لفكر أو معتقد معين..
كتب سيرآرثركيت أحد اكبر أنصار داروين:” إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا, ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان, ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر, وهو مالا يمكن حتى التفكير فيه” (8)
وعرف احد المعاجم العلمية نظرية داروين بأنها ” نظريةقائمة على تفسير بلا برهان” (9).وفال كثير من العلماء ( أنهم لا يؤمنون بهذه النظرية إلا أنه لا يوجد أي يديل لها سوى الإيمان بالله مباشرة).كان ذالك عن التعصب لفكر معين ...
أما عن التعصب للمعتقد, فيقول كتاب بروتوكولات حكماء صهيون:( إن داروين ليس يهوديا, ولكننا عرفنا كيف ننشر آراءه على نطاق واسع,ونستغلها في تحطيم الدين).
ويقول الكتاب في نفس الصدد:
(لقد رتبنا نجاح داروين وماركس,ونيتشه, بالترويج لآرائهم وان الأثر الهدام للأخلاق الذي تنشئه علومهم في الفكر غير اليهودي, واضح لنا بكل تأكيد).
دوركايم يقول إن الدين ليس فطرة ! وأن الجريمة ظاهرة سوية! والزواج ليس من الفطرة! والأخلاق شيء لا يمكن الحديث عنه ككيان ثابت. وإنما كل ذالك من صنع العقل الجمعي, الذي لا يثبت على حال وينتقض من النقيض إلى النقيض.
وماركس يقول إن الدين أفيون الشعوب. ويقول انه مجموعة من الأساطير ابتدعها الإقطاعيون والرأسماليون لتخدير الجماهير الكادحة, وتلهيتها بنعيم الآخرة عن حياة الحرمان في الأرض!! وأن الأخلاق مجرد انعكاس للوضع الاقتصادي المتطور على الدوام وليست قيمة ثابتة.(10)
فرويد يقول الدين ناشئ عن الكبت. من عقدة أوديب . من العشق الجنسي الذي يحسه الولد نحو أمه . من رغبة الابن في قتل أبيه!! وأن الأخلاق تتسم بطابع القسوة حتى في صورتها الطبيعية العادية. وهي كبت ضار بكيان الإنسان!
وأول من وقع ضحية لهذه النظريات العلمية المنحرفة هي المرأة التي حررها ماركس لتعمل. وفرويد يقول لها أنها لابد أن تحقق كيانها تحقيقا جنسيا خالصا من القيود. ودوركايم بقول لها إن الزواج ليس فطرة..!
فلما تحررت واشتغلت حدث في نفسها انقلاب! صار في يدها مال تملكه ملكا حقيقيا, مباشرا, كاملا, تستطيع أن تتصرف فيه كما تشاء. وتعاملت ـ بشخصها مباشرة ـ مع المجتمع. في المصنع والمتجر والطريق..
وتعاملت مع الرجل ـ أو بدأت ـ إن لم يكن على أنها ندُ له, وإنما صارت كائنايحاول أن يصلإلى مستوى الرجل وينازعه السلطان.
والمرأة ـ وهي تحس رويدا رويدا بفرديتهاـ كانت تستقى هذه الفردية على انحراف فهي خارجة من حالة انعدام الكيان..في كل شيء. فلما أحست بذاتيتها أخذت تناضل لتحطيم كل قيد..لازما أو غير لازم.. وأخذت بالذات إلى تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد لأنها استخدمت ضدها في معركة (التحرر) ..استخدمها الرجل ليصدها عن منافسته, بينما كان هو في واقع حياته متحللا من الدين والأخلاق والتقاليد! ثم إنها بعد أن نكل الرجل ـ الجاهلي ـ الحيوان الذي تعمل عنده, لا يتيح لها فرصة العمل إلا أن تتيح له من نفسها ما يطلبه الرجل الحيوان. وفوق ذلك فقد كانت تطالب (بالمساواة) مع الرجل! المساواة في الأجر في أول الأمر.. ثم المساواة في كل شيء.. ومن بين ذالك التحلل والإباحية والانطلاق(11) هذا كان مهربا (وجدانيا) تهرب به المرأة من الكنيسة التي كانت تنظر إليها على أنها مخلوق شيطاني ينبغي الابتعاد عنه وفى ذالك يقول صاحب كتاب:تاريخ الأخلاق في أوروبا. عن الرهبنة
” وكانوا يفرون من ظل النساء, ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن, وكانوا يعتقدون أن مصادقتهن في الطريق والتحدث إليهن ـ ولو كن أمهات أو أزواجا وشقيقات ـ تحبط أعماهم وجهودهم الروحية״
يقول أبو الأعلى المودودى״ من نظرتهم الأولية الأساسية في هذا الشأن, أن المرأة ينبوع المعاصي , وأصل السيئة والفجور, وهى للرجل أبواب من أبواب جهنم, من حيث هي مصدر تحريكه وحمله على الآثام. ومنها انبجست عيون المصائب الإنسانية جمعاء , فبحسبها ندامة وخجلا أنها امرأة! وينبغي لها أن تستحي من حسنها وجمالها, لأنه سلاح إبليس الذي لا يوازيه سلاح من أسلحته المتنوعة. وعليها أن تكفَر ولا تنقطع عن أداء الكفارة أبدا. لأنها هي التي أتت بما أتت من الرزء والشقاء للأرض وأهلها״
مستشهدا بما قاله( تروتوليان Tertulian) أحد أقطاب المسيحية الأول وأئمتها, مبينا نظرية المسيحية في المرأة: إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان, وإنها دافعة بالمرء إلى الشجرة الملعونة, ناقضة لقانون الله. ومشوهة لصورة الله أي الرجل״
و كذالك كرائي سوستام ( Chry Sostem) الذي يعد من كبار أولياء الديانة المسيحية فى شأن المرأة : هي ضر لابد منه, ووسوسة جَبلًية, وآفة مرغوب فيها, وخطر على الأسرة والبيت, ومحبوبة فتاكة, ورزء مطلى مموه!״.
أما عن نظريتهم الثانية في باب النساء فيقول المودودى״ إن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة هي نجس في نفسها يجب أن تتجنب ـ ولو كانت عن طريق نكاح وعقد رسمي مشروع ״
يعقب محمد قطب على هذا الكلام بقوله ( إن هذه النظرة الجاهلية المنحرفةـ التي لم بأمر بها الدين, والتي لم يأمر بها أي نبي ـ حدث رد فعل عنيف في الاتجاه الآخر..حدث في تدرج بطيء.. ولعوامل شتى .
فالفساد المروع الذي حدث داخل الأديرة ذاتها, حاويا لكل أنواع الفساد الجنسي مابين الرهبان والراهبات, وما بين كل فريق بعض وبعضه...كان إحدى الصدمات التي خلخلت القيم الرهبانية من أصولها, وصرفت الناس عن هذا «الترفع» سليما أو غير سليم, فراحوا يبحثون عن الشهوات.
والتفسير الحيواني للإنسان, الذي مده فرويد ووسعه بالتفسير الجنسي للسلوك..ونقل للشبان الأقوياء ـ بلا أسرـ من الريف المتزمت المتحفظ إلى المدينة الفضفاضة الأخلاق, وتوقيع فترة من التعطل الجنسي عليهم بحرمانهم من الأجر المعقول الذي ينشؤن به أسرة في المدينة, وإباحة البغاء لهم وتيسره. وتشغيل المرأة على نطاق واسع, واضطرارها إلى التبذل الخلقي لتضمن لقمة العيش .وانشغال المرأة بقضية المساواة مع الرجل, وطلبها في أثناء ذالك المساواة معه في الفجور,كفرع من فروع المساواة التامة الشاملة كل ذالك كان دفعة عنيفة في سبيل الإفساد).
وهذا ما شحنه(ول ديورانت) في كتابه: منهاج الفلسفة. قائلا:
״ إننا نواجه مرة أخرى تلك المشكلة التي أقلقت بال سقراط. نعنى كيف نهتدي إلى أخلاق علوية تحل محل الزواجر العلوية التي بطل أثرها في سلوك الناس؟ إننا نبدد تراثنا بهذا الفساد الماجن... ״
״ واختراع موانع الحمل وذيوعها هو السبب المباشر في تغير أخلاقنا. فقد كان القانون الاخلاقى قديما يقيد الصلة الجنسية بالزواج, لأن النكاح يؤدى إلى الأبوة بحيث لا يمكث الفصل بينهما, ولم يكن الوالد مسؤلا عن ولده إلا بطريق الزواج, أما اليوم فقد انحلت الرابطة بين الصلة الجنسية وبين التناسل.وخلقت موقفا لم يكن آباؤنا يتوقعونه, لأن جميع العلاقات بين الرجال والنساء آخذة في التغير نتيجة لهذا العامل...״
״ فحياة المدينة تقضى إلى كل مثبط عن الزواج, في الوقت الذي تقدم فيه إلى الناس كل باعث على الصلة الجنسية وكل سبيل يسهل أداءها. ولكن النمو الجنسي يتم منكرا عما كان قبل, كما يتأخر النمو الاقتصادي. فإذا كان قمع الرغبة شيئا عمليا ومعقولا في ظل النظام الاقتصادي الزراعي, فانه الآن يبدو عسيرا أو غير طبيعي في حضارة صناعية أجلت الزواج حتى بالنسبة للرجال, حتى لقد يصل إلى سن الثلاثين. ولا مفر من أن يأخذ الجسم في الثورة, وأن تضعف القوة على ضبط النفس عما كان في الزمن القديم. وتصبح العفة التي كانت فضيلة موضع سخرية, ويتخفى الحياء الذي كان يضفى على الجمال جمالا, ويفاخر الرجال بتعداد خطاياهم, وتطالب النساء بحقها في مقامرات غير محدودة على قدم المساواة مع الرجال.ويصبح الاتصال قبل الزواج أمرا مألوفا. وتختفي البغايا من الشوارع بمنافسة الهاويات لا برقابة البوليس ...״
״ وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعود قبله. وقد نحاول فهم العلل الحيوية ولاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة, وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لا مفر منه في عالم خلقه الإنسان! وهذا هو الرأي الشائع لمعظم المفكرين فى الوقت الحاضر . غير أنه من المخجل أن نرضى في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية وهي تعرض علينا في السارح وفى كتب الأدب المكشوف, تلك التي تحاول كسب المال باستثارة الرغبة الجنسية في الرجال والنساء المحرومين ـ وهم في حمى الفوضى الصناعية ـ من حمى الزواج ورعايته للصحة.
״ ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة. لأن كل رجل حين يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر. ويجد الرجل لإرضاء غرائزه الخاصة في هذه الفترة من التأجيل, نظاما دوليا مجهزا بأحدث التحسينات, ومنظما بأسمى ضروب الإدارة العلمية. ويبدو أن العالم قد أبدع كل طريقة يمكن تصورها لإثارة الرغبات وإشباعها...״
״ واكبر الظن أن هذا التجدد في الإقبال على اللذة قد تعاون أكثر مما نظن مع هجوم دارون على المعتقدات الدينية. وحين اكتشف الشبان والفتيات ـ وقد أكسبهم المال جرأة ـ أن الدين يشهر بملاذهم, التمسوا في العلم ألف سبب وسبب للتشهير بالدين... ״
״ ولما كان زواجهما [ الرجل والمرأة في المجتمع الحديث] ليس زواجا بالمعنى الصحيح ـ لأنه صلة جنسية لا رباط أبوة ـ فانه يفسد لفقدانه الأساس الذي يقوم عليه, ومقومات الحياة. يموت هذا الزواج لانفصاله عن الحياة وعن النوع. وينكمش الزوجان في نفسيهما وحيدين كأنهما قطعتان منفصلتان. وتنتهي الغيرية الموجودة في الحب إلى فردية يبعثها ضغط حياة المساخر. وتعود إلى الرجل رغبته الطبيعية في التنويع,حين تؤدى الألفة إلى الاستخفاف. فليس عند المرأة جديد تبذله أكثر مما بذلته..״
״ لندع غيرنا من الذين يعرفون يخبرونا عن نتائج تجاربنا.أكبر الظن أنها لن تكون شيئا نرغب فيه أو نريده. فنحن غارقون في تيار من التغيير, سيحملنا لا محالة إلى نهايات محتومة لا حيلة لنا في اختيارها. وأي شيء قد يحدث مع هذا الفيضان الجارف من العادات والتقاليد والنظم, فالآن وقد اخذ البيت فى مدننا الكبرى فى الاختفاء, فقد فقد الزواج القاصر[المقصور] على واحدة جاذبيته الهامة. ولا ريب أن زواج المتعة سيظفر بتأييد أكثر فأكثر, حيث لا يكون النسل مقصودا. وسيزداد الزواج الحر, مباحا كان أم غير مباح. ومع أن حريتهما إلى جانب الرجل أميل, فسوف تعتبر المرأة هذا الزواج أقل شرا من عزلة عقيمة تقضيها في أيام لا يغازلها أحد. سينهار (المستوى المزدوج) وستحث المرأة الرجل بعد تقليده في كل شيء على التجربة قبل الزواج. سينمو الطلاق, وتزدحم المدن بضحايا الزيجات المحطمة . ثم ثم يصاغ نظام الزواج بأسره في صور جديدة أكثر سماحة. وعندما يتم تصنيع المرأة يصبح ضبط الحمل سر شائعا في كل طبقة يضحى الحمل أمرا عارضا في حياة المرأة, أو تحل نظم الدولة الخاصة بتربية الأطفال محل عناية البيت…وهذا كل شيء…״(12)
ان شهادة (ول ديورنت) ومابين فيها من التحليل الجنسي لتكفى لما وصل إليه إنسان العصر من تدمير لنفسه ومما يزيد الأمور خطورة أن الكاتب كان قد ألف كتابه منذ80 سنة أي سنة 1920 م . ونحن الآن في القرن الواحد والعشرون عصر المعلومات والتقنيات الرقمية..والقرية الكونية.) تخطينا كل الحدود, فقد نتج عن الثورة المعلوماتية التقنية تغيرات جذرية مست كل الأصعدة والمستويات حيث شهدت مفاهيم: العمل والزمن, والأفكار والمؤسسات والقيم الثقافية تغيرات أساسية..فأصبحنا نشاهد بأم أعيننا عن طريق هذه التقنيات الحديثة ما لم يخطر على بال الكاتب فأصبح الجنس هو المعبود بحق فلم يعد يكفى ما ذكره المؤلف من أفلام ومسارح وقصص جنسية في شهادته السابقة. بل أنهم جسدوا ذالك كله بالصوت والصورة وزادوا عليه حيث أن وسائل الإعلام ـ ولاسيما الفضائيات ـ تحرك غريزة الجنس وتحطم كل الآداب المرعية في هذا المقام، مما جعل سلوك بعض الناس ـ من كبار وصغار- يتجاوز بخطوات السلوك الجنسي لبعض البهائم.ويكفى للحصول على هذه الصور كبسة على زر من أي جهاز وفى أي مكان من العالم. ناهيك عن ملايين المواقع الإباحية في الانترنت.والموبايل والفنادق..الخ
لكننا لا نراه شبع من الجنس رغم إتاحة كل الفرص له للإشباع! بل نراه في قلق دائم, وفى ضغط عصبي متزايد, وجنون ومخدرات وجريمة وانتحار….الخ
ليس هذا ما كان يريده الإنسان التواق إلى الأمن النفسي والاستقرار, الذي ينبغي أن يتوفر لكل نفس « إنسانية » لها مهمة تقضيها على هذه الأرض غير مهمة الحيوان. وهذا ربما أحسه الشباب المسلم بفطرته, الذي ينشد لدى كتابه ومفكريه مستوى من المبادرة والجد والإخلاص, ولونا من الكتابة المباشرة التي تعيش عصرها وأفكاره وتطلعاته, فإذا هم لا يزيدون على مضغ حكايات الأولياء, واجترار بضعة خيالات محلقة في سموات التيه, ومجابهة الواقع الصارخ الملح بما يميعه في وعى الجماهير, ثم يسرح بها بعيدا بعيدا, في أحلام الماضي وتصوراته..لينشغل ببيان الانجازات التي حققها السلف..وهذا ما يجعل هؤلاء الشباب يهربون من التفكير بانغماسهم في ملذاتهم إلى درجة تكييفها مع عقلهم الجمعي. وهو ما يمكن اختزاله في معادلة أحد طرفيها البطن والفرج والطرف الآخر القلب والعقل وتكون المعادلة على الشكل التالي:
العقل+القلب = البطن+الفرج. وعليه يتحدد تعقلنا للأشياء حسب تفعيل طرفي المعادلة بالنسبة للطرف الآخر. وتفسير ذالك أن الإنسان فيه غرائز دنيا تشده إلى تحت؟
وخصائص كريمة تدفعه إلى فوق؟ فإذا كانت هذه الخصائص أشد قوة ذهبت بالإنسان صعدا إلى آفاق الحق والخير والجمال. وإذا كانت مساوية لغريمتها ذهب السالب في الموجب وبقى المرء موضعه. وإذا كانت أضعف منها أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فلم تراه إلى مبطلا شريرا دميم الروح. والذي أقصده أن تحصيل الكمال تحتاج إلى معاناة علمية وخلقية…فالكريم لن يكون كريما إلا إذا قهر نوازع الشح. والشجاع لا يكون شجاعا، إلا إذا هزم بواعث الخوف… وبما أن تحصيل الكمال يحتاج إلى معاناة القراءة الجادة وما تتطلبه من تركيز ووعي، والى مفكرين يعيشون ثقافة العصر بكل تحدياته.فان الثقافة الأوروبية ستبقى بلا منازع في الوقت الراهن, تلك الثقافة الناتجة عن هيمنة أوروبا وضعف وترهل البرامج العربية والإسلامية ومن بينها بلدي موريتانيا, فقد تكونت لدى أبناء هذا المجتمع عقلية مشابهة للعقلية الأوروبية في مفاهيمها وأفكارها ونظرتها إلى الحياة, لأن الباب الوحيد للعلم والتثقيف هو ذالك الذي يفضى إلى هذه الثقافة, التي تلقن في المدارس المنشأة من طرف الحكومات في البلاد العربية ولإسلامية, على نمط المدارس المنشأة في البلاد الأوربية, من ابتدائية وثانوية وعالية. وهذه الثقافة بشكلها الحاضر وجميع ملابساتها أخذت واقتبست من الثقافة الأجنبية, وهى نفسها في الدواوين الحكومية وفى المهن الحرة وفى مجالات الحياة العملية المختلفة.
وارتباط المجتمع بالمناهج التعليمية, والمقررات الدراسية, ومختصراتها قتلت لديهم روح البحث وحرمتهم من المطالعة خارج المنهاج, وكرهت إليهم القراءة والكتابة، إذ حصرت الهدف منهما بالإمتحان والشهادة تنتهي الحاجة إليهما, وتبدأ القطيعة معهما بالنجاح في الامتحان وتحصيل الشهادة. من ثم فان الفئة التي تحصلت على الشهادة ارتبطت هي الأخرى بوسائل الأعلام والمعلومات السريعة، بما تملكه من جاذبية وسائطها المتعددة في الصوت والصورة والحركة، فآثروها على تحصيل العلوم والمعارف، وسلموا أخيلتهم وأوقاتهم لها، وفضلوا التحول إلى متلق يستمع ويشاهد مسترخيا على أريكته، يتجرع ويحتسى كؤوس القهوة أو الشاي مع ما يقدم له من دون كبير تدخل أو اختيار…
أما الفئة الباقية فهم مجموعات تحكم فيها الفكر الجمعي للمجتمع الذي لا يسمح عادة بالخروج عليه لأن ذلك يعتبر إيذانا بتخريب روحه الجماعية التي هي المصدر لتلاحمه الهش، فسيطر على هؤلاء الانشغال ببيان الانجازات.. وبهذا تحكم أوروبا سيطرتها على العالم أجمع بهذه الثقافة وهى (الثقافة التي تمثل الفكر الغربي ككل) سواء في مستعمراتها السابقة أو عولمة يرامحها عن طريق وسائل الإعلام المكتوبة والمقروءة والمسموعة..
يبين عبد القادر عودة في كتابه: الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه, السيطرة الكاملة للثقافة الأوروبية على جميع طوائف المسلمين الذين يقسمهم إلى ثلاث طوائف وهي:
1) طائفة غير لمثقفين: وتشمل الأميين والمثقفين ثقافة بسيطة لا تؤهلهم لأن يستقلوا بفهم ما يعرض عليهم والحكم عليه حكما صحيحا, وهؤلاء يجهلون الشريعة الإسلامية جهلا تاما إلا معلومات سطحية عن العبادات. وأكثرهم يؤدون العبادات تأدية آلية, مقلدين في ذالك آباءهم وإخوانهم ومشايخهم, ويندر أن تجد فيهم من يعتمد في تأدية عباداته على دراسته ومعلوماته الشخصية. ويدخل في هذه الطائفة أغلب المسلمين ولا يقل عدد أفرادها عن ثمانين في المائة من مجموع المسلمين في العالم الإسلامي وتتأثر هذه الطائفة تأثيرا كبيرا بتوجيهات المثقفين, سواء كانت ثقافتهم أوروبية أو إسلامية..
2 ) طائفة المثقفين ثقافة أوروبية: تضم هذه الطائفة معظم المثقفين في البلاد الإسلامية وأكثرهم متوسطي الثقافة. ولكن الكثيرين منهم مثقفون ثقافة عالية.ومن هذه الطائفة القضاة والمحامون. والأطباء. والمهندسون والأدباء ورجال التعليم. والإدارة.والسياسة.
وقد تثقفت هذه الطائفة على الطريقة الأوروبية. ولهذا فهم لا يعرفون عن الشريعة الإسلامية إلا ما يعرفه المسلم العادي بحكم البيئة والوسط. وأغلبهم يعرف عن عبادات اليونان والرومان. وعن القوانين والأنظمة الأوروبية. أكثر مما يعرف عن الإسلام والشريعة الإسلامية. ومن هذه الطائفة أفراد يعدون على الأصابع في كل بلد لهم دراسات خاصة في فرع من فروع الشريعة أو في مسألة من مسائلها. ولكنها دراسة محدودة. ويغلب أن تكون دراسات سطحية. وقل أن تجد في هؤلاء من يفهم روح الشريعة الإسلامية على حقيقتها أو يلم الماما صحيحا باتجاهات الشريعة أو الأسس التي تقوم عليها. وهؤلاء المثقفون ثقافة أوروبية. والذين يجهلون الإسلام والشريعة الإسلامية إلى هذا الحد. هم الذين يسيطرون على الأمة الإسلامية. ويوجهونها من مشارق الأرض ومغاربها. وهم الذين يمثلون الإسلام والأمم الإسلامية في المجامع الدولية.)
وهؤلاء على جهلهم بالإسلام متدينون, ويؤدون عبادتهم بقدر ما يعلمون..
3) طائفة المثقفين ثقافة إسلامية: تضم هذه الطائفة المثقفين ثقافة إسلامية عالية وما دونها وعددهم ليس قليلا. وان كانوا أقلية بالنسبة للمثقفين ثقافة أوروبية. ولهذه الطائفة نفوذها العظيم على الشعوب الإسلامية فيما تُعلم لهذه الشعوب أنه متصل بالإسلام.. وقد انحصر نفوذها بعد دخول القوانين الأوروبية إلى البلاد الإسلامية(13)..
وهكذا يستطر الثقافة الأوروبية ومفاهيمها على البشرية ليس في مجال النظريات والأفكار فقط. بل حتى على مستوى التطبيق؛
يقول (نور ثروب):
«كيف ستؤثر ـ يريد نظرية الكم في مناطق العالم الأخرى ـ هذه الطريقة الجديدة في التفكير التي أنشأها الغرب الحديث ؟!!
لقد عالج (هايزنيرغ) هذه المسألة في بدء حديثه وفي ختامه فالطريقة الجديدة في التفكير ستؤدي كما بقول المؤلف، وسواء شئنا أم أبينا، في تغير أو تدمير جزئي في عاداتنا التقليدية وفي قيمنا الأخلاقية(14).
فكثير من قادة الشعوب في العالم غير الغربي، وكذلك غالبية مستشاريهم الغربيين يرون أن مسألة إدخال الآلات العلمية وطرق التفكير الحديثة إلى آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا لا تعدو منح هذه المناطق استقلالها السياسي، ومن ثم تزويدها بالأموال والآليات اللازمة.
لكن هذا الافتراض السهل يهمل عدة أمور:
ـ أولها أن أجهزة العلم الحديث مستمدة من نظرياته، وتتطلب لإتقان صنعها أو لحسن استعمالها فهما جيدا لتلك النظريات.
ـ وثانيها أن هذه النظريات تعتمد بدورها على عقائد فلسفية إذا فهمت على حقيقتها تولد عقلية شخصية وجماعية وشكوكا تختلف كلها عما ألقته الأسرة والطائفة والقبيلة من عقلية وقيم سائدة لدى شعوب آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، وقد تتعارض معها في بعض الأمور. وبموجز القول: لا يستطيع الإنسان أن يستورد آلات الفيزياء الحديثة دون أن يستورد عاجلا أو آجلا عقليتها الفلسفية وهذه العقلية(15) باستحواذها على تفكير الشباب العلمي تتغلب على الولاء العائلي والقبلي القديم. وإذا لم ينتج عن هذا بالضرورة توتر عاطفي وبأس اجتماعي، فمن المهم أن تتنبه لما يطرأ عليها وهذا يعني أن علينا أن ننظر إلى تجربتها على أساس أنها اجتماع عقليتين فلسفيتين مختلفتين، تلك التي تحمل الثقافة التقليدية، وتلك التي انبتت الفيزياء الحديثة ومن هنا تبرز لكل فرد أهمية فهم فلسفة الفيزياء الجديدة..
لكن المرء قد سأل : ألست الفيزياء مستقلة تماما عن الفلسفة ؟! ألم تعزز الفيزياء الحديثة فعاليتها إلا بهجر الفلسفة ؟!
إن (هايزنبرع) يجيب بكل وضوح عن كلا السؤالين بالنفي … فلماذا ؟
لقد ترك (نيوتن) انطباعا بأن فيزياء خالية من الفرضيات التي لا تستلزمها المعطيات التجريبية. وهذا يتضح من إدعائه بأنه لم يضع أية فرضية وإنما استنبط مفاهيمه الأساسية وقوانينه مما وجده في تجاربه فإذا صح رأيه هذا في العلاقة بين الأرصاد الفيزيائية التجريبية وبين نظريته، فإن نظريته لن تحتاج أبدا إلى تعديل، ولا يمكن أن تنطوي على أية نتائج لا تؤكدها التجربة، أي أن اتفاق الوقائع معها يجعلها نهائية وخارج نطاق الشك»(16).
ومن المعلوم أن الفيزياء الحديثة قد اجتهد روادها من أجل تجاوز تزمت الكنيسة , وعجز الميتافيزيقا فكانت العلوم الحديثة تعبيرا عن حاجة إنسان عصر النهضة إلى نظرة جديدة عن الكون , وأسلوب جديد في البحث وهذا ما يفسر صيحة ديكارت العقلانية قي سماء التقليد, ودعوة فرانسيس بيكون التجريبية في أوساط التأملات العقيمة والوهمية, وتنبه كاليلو إلى الرياضيات باعتبارها مفتاح الطبيعة بدل اللغة الكيفية القاصرة .معلنين بذالك إفلاس ميكانيكا أرسطو , ومبينين خرافة نظام بطليموس الفلكي ومسلطي الضوء على عقم المنطق الصوري..
وبهذا تعود النهضة الأوروبية إلى منابعها الأولى, فيما قبل المسيحية, إلى التراث اليوناني والروماني القديم! واعتبرت ذالك رجوعا إلى النور والسؤال الذي يطرح نفسه من أين جاء هذا النور؟
من المْسلم به حتى عند الغرب انه لم يأتي من اليونان ولا من الرومان ولا من عصور الظلام…فمن أين أتى؟ لم يبقى إلا احتمال واحد وهو الإسلام..
انه النور الذي سطع من العالم الإسلامي على أوروبا المظلمة, فحرر عقولها من الخرافة, وحرر نفوسها من الخضوع المذل لسلطان الكنيسة الجائر, فاستنكفت العبودية للبشر, وسعت إلى الحرية من كل سبيل.
ولكنها لم تأخذ النور على أصوله, ولم تهتد بهديه الصحيح . لم تتجه إلى الله على منهج الإسلام الذي اقتبست منه هذا النور. فما الذي جعلها تنتهج هذا المنهج؟
إذا رجعنا قليلا إلى بداية اتصال الإسلام بالغرب, نجد أن هذه الصلة بدأت منذ حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم, ولم تكن صلة مودة ووئام, ولكنها كانت منذ بدايتها صلة عداوة وحروب. وقد عاصرت بداية الدعوة الإسلامية جزءا من حياة الإمبراطور الروماني « فوكس» , وجزءا أكبر من حكم خلفه الإمبراطور « هرقل», ولم تبد الدولة البيزنطية اهتماما بدعوة الإسلام, وجهاد نبيه أول الأمر, فلما امتدت أطراف الدولة الناشئة إلى تخوم الشام, أخذ الرومان يحرضون سكان هذه البلاد, وخصوصا نصارى ايلات, وفلول اليهود الذين طردوا من يثرب على يد المسلمين.
وحدث في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم غزوتان ذوات أهمية كبرى وهما: غزوتا مؤتة, وتبوك, فقد تلتهما موقعة اليرموك, وعلى أثرها غادر هذه البلاد العزيزة عليه, وهي من أخصب ما كانت تملك الدولة الرومانية في الشرق, غادرها وعيناه تسكبان الدموع, وهو يقول:” عليك يا سوريا السلام ونعم البلد للأعداء” (17)
ثم بعد هذه الاتصال العدائي تأتي فترة الاستشراق في القرن الحادي عشر.
وقد امتازت هذه الحقبة بالتعصب والجهل جميعا, أما التعصب فمرده إلى حال العداء الذي رأينا طرفا منه, أما الجهل فمرجعه شح المعلومات عن الإسلام.
وكانت دراسة الإسلام والحديث عنه أشبه بالدعايات الحربية التي تبحث عن سوءات الخصوم, فان لم تجد اختلقت هي سوءات خيالية..
ومنذ القرن التاسع عشر, وبعد الحركة الاستعمارية التي اطلعت الغرب مباشرة على عقائد الشرق وتقاليده, تخلى البحث الاستشراقى عن كثير من خرافات القرن الوسيط, ومع ذالك بقيت أفكار كثيرة جدا يعيش عليها المستشرقون المحدثون.
ومن أهم هذه الأفكار « أن القرآن الكريم من صنع محمد, وأنه صلى الله عليه وسلم كان تلميذا لليهود والنصارى, وأن القوانين الإسلامية تحرير وامتداد للقوانين الرومانية.
ويأتي تبعا لذالك ما ابتكره هؤلاء من أن التراث الفكري للمسلمين إنما هو صدى وامتداد للفكر اليوناني الفلسفي والفكر الروماني الأدبي. ثم وصفوا الإسلام بأنه دين تواكل وخمول, واليه يرجع ما يرزح تحته المسلمون من جهل وفقر ومرض وتأخر اجتماعي عام. وهذه الأوهام بدأت بدورها تتقلص قليلا قليلا. ولكن التسليم بأن محمد صلى الله عليه سلم كان نبيا تلقى وحيا من الله, وأن القرآن الكريم كلام الله المعجز, مما يصعب عليهم أن يسلموا به, وأجمل ما نجد في كتابات المستشرقين أن كل واحد منهم يعجبه جانب من الإسلام ويلصق بجانب آخر تهمة. فيأتي آخر فينفى تهمة صاحبه ويبين جانبا آخر مشرقا من جوانب الإسلام, ولكن ليس بينهم من يعترف بالإسلام دينا» (18)
وهذا ما جعلنا نجد الكثير من المغالطات سواء من كتاب الغرب أو من المسلمين أنفسهم لأنهم هم المسئولون عن عدم التعريف بدينهم وتجلية غوامضه, مما ألصق به من زلات الأبناء قبل الأعداء..حيث يبقى الأمل الوحيد أمام هذا الإنسان المعاصر الذي دمر كيانه عن طريق فلسفة الجنس. ليس في الأخلاق بل وفى كل ما يتصل بالنفس والمجتمع ..حتى أصبح هذا العصر أشد العصور انشغالا بالجنس ..
ولعل ما يستحق الذكر هنا تلك الملاحظة الذكية التي ذكرها الدكتور محمد عايد الجابري في مقال له(19) بعنوان:(حوار الحضارات أية مصداقية؟)،بأن هذا لموضوع يرد تارة تحت عنوان (حوار الحضارات)، وأخرى باستعمال كلمة (ثقافة) بدل كلمة (حضارة) مشيرا أنه وبغض النظر عن الفرق الذي يمكن أن يقام بين الكلمتين، وهو فرق يختلق من لغة إلى أخرى، فإن للافت للانتباه حقا هو التركيز، في العالم الغربي كما في العالم الإسلامي، على موضوع معين، تحت عنوان (الإسلام وحوار الحضارات)، حتى غدا هذا الموضوع وكأنه وحده هو المقصود بهذا الحوار). مضيفا أنه من المفروض أن يكون مجرد واحد من الموضوعات التي يجب أن يشملها الحوار، متسائلا: لما الإسلام بالضبط؟ وما المقصود هنا (بالإسلام) ولماذا لم نسمع عن ندوة أو ندوات حول (المسيحية وحوار الحضارات) أو (اليهودية وحوار الحضارات). أو البوذية،أو الهندوسية أو غير هذه من الديانات ؟ مبينا أن هذا التخصيص الذي يصرف عبارة (حوار الحضارات) إلى دين واحد، يحمل على الشك في مدى الموضوعية.والتجرد اللذين تطرح بهما هذه المسألة ويريد الكاتب أن يقول: أن الكتاب الغربيين الذين يروجون لمقولة (صراع الحضارات) يضعون كمقابل («الغرب» (وحضارة الغرب). ليس (حضارة الإسلام) أو الحضارة الإسلامية)، بل الإسلام بدون تخصيص وهذا ما جعل هذا الطرح يضع (الغرب) وهو مصطلح جغرافي ومفهوم ثقافي حضاري في مقابل (الإسلام) الذي هو الدين.)
والآن لنضع هذا الكلام جانبا ولنعرض لبعض الحقائق التاريخية لنعرف مدى مصداقية كل من القولين؛
يعترف الغرب بأن الحضارة اليونانية قد انتقلت إليهم عن طريق الحضارة العربية الإسلامية وأن معرفتهم بالحضارة الفارسية والهندية تدين بالكثير للعرب والمسلمين فكيف حصل هذا الانتقال ؟ وكيف صمدت الحضارة الإسلامية أمام تلك المنافسة الشرسة بين الثقافة الفارسية والرومانية ؟ رغم أنها كانت تدور داخلها، وما مدى مصداقية تجريد الغرب الآن للدين الإسلامي من حضارته؟!!
إن من يقرأ تاريخ الحضارات كثيرا ما يصادفه مصطلح الشعوبية وما هي إلا( نتاج تلاقح بين الحضارة الفارسية والعربية الإسلامية وقد شجع جو الحوار الثقافي الحضاري، الذي ساد فيها، المتخصصين الذين كانوا ذوي ميول يونانية إلى إبراز مآثر الحضارة اليونانية، فدخلوا في حوار تنافسي مع المتخصصين ذوي الميول الفارسية. وهكذا جرى داخل الحضارة العربية الإسلامية حوار تنافسي بين ثقافتين الفارسية واليونانية الشيء الذي حفز ذوي الثقافة العربية الإسلامية إلى الالتحاق بميدان المنافسة، فأبرزوا مآثر العرب ومناقب الإسلام مع الاعتراف للحضارات الأخرى بفضلها، الشيء الذي كرس النسبية في التفكير الحضاري في الفكر العربي الإسلامي، وخفف إلى حد كبير من التمركز حول الذات في هذا الفكر(20).
ولما كان أساس الحضارة الإسلامية فكريا، لذلك كانت حضارته مستقلة كاملة ذات دستور شامل مجرد، يختلف اختلافا جذريا عن مكونات الحضارة الغربية، مثلما اختلف جذريا مع الحضارات القديمة اليونانية والرومانية والهندية.
وإذا كان أساس الحضارة الإسلامية هو الفكر فإن الإسلام لا يعادي العلم الذي هو طريق الحضارة. ولا يعادي القوة السياسية والعسكرية لأنها أداة ومظهر من مظاهر الحضارة. والإسلام بهذا الشمول يضع المنهج الملائم والسليم، والمقومات الأساسية لقيام حضارة إسلامية قائمة على الفكر الذي هو جماع كل مظاهر الحضارات، حتى يكون أساسها قويا متينا لذلك فإن حضارة الإسلام باقية متجددة، لا يصيبها الشلل أو تعتريها الشيخوخة(21).
ولأن الفكر أساس حضارة الإسلام لذا فإن الثقافة الإسلامية هي إحدى مستلزمات هذا الفكر وعليه يكون الحق مع ملاحظة الدكتور الجابري ويصبح الطرح الجديد على الشكل التالي : (الحضارة الغربية) مقابل (الحضارة الإسلامية). ولعل أكثر الأخطاء التي وردت في بحوث من كتب ويكتب عن هذه المواضيع هو عدم انتباههم للمنطلق الخاطئ الذي لم يتقيد بالملاحظة السالفة الذكر..
ثم يأتي بعد هذه الملاحظة, التصويب المهم, الذي ذكره وحيد الدين خان في كتابه: الإسلام يتحدى وهو أنهم يتناولون الدين على انه (مشكلة موضوعية) « Objective problème فهم يجمعون في سلة واحدة كل ما أطلق عليه اسم "دين" في أي مرحلة من التاريخ ثم يتأملون في ضوء هذا المحصول حقيقة الدين!!.
إن موقفهم ينحرف من أول مرحلة(22)، فيبدوا لهم الدين جراء هذا الموقف الفاسد ـ عملا اجتماعيا، لا كشفا لحقيقة، ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى. أما الأمور التي تأتي بها أعمال اجتماعية فليس لها مثلا أعلى، وبقاؤها رهن بحاجة المجتمع إليها.
والدين يختلف عن ذلك كل الاختلاف، فليس من الممكن البحث عن حقائقه، كما يبحث عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات، لان الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها أو يقبلها في شكل ناقصويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها، وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق الدين بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة باسم (الدين). وهذا رد في نفس الوقت على أولئك الذين يستدلون بالتاريخ وعلم الاجتماع لطعن في الدين..
وتعتبر جميع الدراسات التي لم تتقيد بهذه الملاحظات ناقصة أو مشبوهة لذا سنحاول في دراستنا المقبلة بحول الله التقيد بهذه الملاحظات, حتى تفسر لنا الأديان ما عجز عنه الإنسان..!!
الهوامش
(1) -تجديد الوعي: أ.د عبد الكريم بكار، الطبعة الأولى، دار القلم، دمشق، 1421هـ ـ 2000 م، ص: 39.
(2) - معرفة الله: دلائل الحقائق القرآنية والكونية: المرابط ولد محمد لخديم, تصدير: الأستاذ الجليل حمدا ولد التاه, تقديم: الدكتور حسين عمر حمادة، رئيس قسم الدراسات والبحوث العلمية باتحاد الكتاب العرب دمشق. الطبعة الأولى، دار الوثائق للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 2001 م، الطبعة الثانية، دار وحي القلم بيروت- لبنان سنة 2002 م. وهو الكتاب الفائز بجائزة شنقيط للدراسات الإسلامية 2003 م، ص: 22
(3)- جاهلية القرن العشرين: محمد قطب, دار الشروق1403 ها-1983 م, ص:26-28
(4)- معرفة الله, م.س, ص: 26 .من المقدمة.
(5)- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: أبى الحسن الندوى, نقلا عن جاهلية لقرن العشرين, م.س, ص:29 .
(6)- معرفة الله, م.س, ص: 27 . من المقدمة.
(7)- أنظر تفاصيل أكتر عن هذه النظرية, في المرجع نفسه الصفحات: 112 -120 .
(8)islamic thought .dec. 1961
(9) revolt against reason ; p :11
(*)- نقلا عن الإسلام يتحدى: وحيد الدين خان، ترجمة، ظفر الإسلام خان، (مدخل علمي إلى الإيمان)، مراجعة وتقديم، الدكتور عبد الصبور شاهين، الطبعة الثانية، المختار الإسلامي 1964 م. ص:42
(10)- جاهلية القرن العشرين, م.س, ص:40 .
(11)- المرحع نفسه, ص:134 -136 (بتصرف بسيط).,
(12)- مناهج الفلسفة: (ول ديورانت), نقلا عن المرجع نفسه, ص:174 -177 .
(13)- الإسلام: بين جهل أبنائه وعجز علمائه: عبد القادر عودة, طبع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد, السعودية,ص:48 وما بعدها بتصرف.
(14)- لعل ما يقصده الكاتب هو تلك العقلية المشابهة للعقلية الأوروبية في مفاهيمها وأفكارها ونظرتها إلى الحياة, لأن الباب الوحيد للعلم والتثقيف هو ذالك الذي يفضى إلى هذه الثقافة, كما بينا سابقا..
(15)- ووسيلتها في التطبيق هي هذه الوسائل التي بين أيدينا والتي تحمل نفس فلسفة أصحابها أي الثقافة الأوربية الغربية وهي نفسها في الدواوين الحكومية وفى المهن الحرة وفى مجالات الحياة العملية المختلفة.ونتيجة لتحكم هذه العقلية فان إنسان العصر يعيش مشتت الذهن بين ما نشأ عليه من عادات وتقاليد وبين ماهو مفروض عليه فرضا..
ينسحب هدا على الجميع , ولنأخذ على سبيل المثال محيطي الذي أعيش فيه والظاهر لغير العميان التأثير المباشر وغير المباشر, حيث يمكننا رصد عقليتين مختلفتين تلك العقلية المحظرية ذات الثقافة التقليدية العالية وعقلية المدارس النظامية الأولى تطرح الأسئلة القديمة المتجددة : ما هذا الكون؟ من أنا؟ والى أين المصير؟ وكانت المحظرة قد أجابت عليها انطلاقا من علومها المنطق وعلم الكلام..والثانية تطرح أسئلة تختلف جملة وتفصيلا عن الأولى : الصدفة ؟ القوانين العشوائية؟ احتمال أزلية المادة ؟ نظرية التطور؟ اكتشاف عوالم جديدة في عالمنا أو في السماوات الأخرى….الخ وهى الفلسفة التي تجسدها هذه الوسائل و الآلات..من هنا لن نتفاجئ بالإرهاصات التي تدور من حولنا ابتداء من ترويض السيارات والإفراط في استخدام الموبايل والتحصيل الجنوني للأموال وكلها وسائل تقرب من قريب أو بعيد الجنس حتى إذا لم يشبع أو تشبع من الجنس رجعت الأسئلة من جديد…وهكذا يبقى الإنسان في خسران.. إلا من رحم ربك..
(16)- دين الفطرة: استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة إنسانية, المرابط ولد محمد لخديم, تقديم: الأستاذ الدكتور محمد المختار ولد أباه, الدكتور الداه ولد ممون أستاذ الفيزياء بكلية العلوم والتقنيات جامعة أنواكشوط, ص: 31 من المقدمة.
(17)- كتاب الأصالة: محاضرات ملتقى الفكر الإسلامي التاسع عشر لجزء الأول الجزائر, 1405 ها ـ 1985 م. ص:183 .
(18)- المرجع نفسه, ص:184 .
(19)- الإسلام اليوم: مجلة دورية تصدر عن المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم(ايسسكو)، العدد:19، السنة 1423هـ ـ 2002 م. من مقال للدكتور محمد عايد الجابري ص: 50 (بتصرف بسيط).
(20)- دين الفطرة , م.س ص: 8 -9 , من المقدمة.
(21)- الميزان في مقارنة الأديان: حقائق ووثائق، المستشار محمد عزت الطهطاوي، دار القلم، الطبعة الثانية 1423 هـ _2002 م.
(22)- الإسلام يتحدى: م س، ص: 37.