جزاك الله خيرًا أخي فارس ..

وحتى لو جاز موضوع "السياسة" هذه فالتأويل باطل أيضـًا ! .. لأن المقصود هو إخفاء وقت الساعة ، وكان يكفي في بلوغ هذا المقصود أن يصرح المسيح بأنه لن يخبر بهذا ، لا يحتاج إلى كذب ولا تورية ولا سياسة .. وهو إذا صرح بأنه لن يخبرهم بالساعة فالتلاميذ لن يكرهوه على هذا ، ولن يقتلوه ولن يضربوه .. وما أكرهوه على شيء قط ولا قتلوه ولا ضربوه ..

فإن قال النصارى : ما خشى المسيح أن يضربوه لكن خشي أن يكفروا ..
قلنا : ومتى كان المؤمن يكفر إذا لم يعرف ميعاد القيامة ؟! .. أي إيمان هذا أصلاً ؟!

وقد أخبر محمد صلى الله عليه وسلم أمته بأن ميعاد القيامة لا يمكن معرفته وأنها لا تأتي إلا بغتة ، ومع هذا ما كفر أحد من أجل هذا التصريح ولا اهتز إيمانه.
لماذا لم يكن المسيح على نفس الدرجة من الشجاعة ؟!
هل كان يرى حوارييه والتلاميذ أضعف إيمانـًا من أمة الإسلام ؟!

وما زال أتباع الأديان يعرفون أنه لا سبيل إلى معرفة الساعة ، ومع هذا لم نسمع عن واحد - واحد فقط - خرج من دينه لأجل هذا.

مع استحضار أن المسيح قد فعل أمورًا وقال أقوالاً أدت إلى تشكك الكثيرين بل إلى ردتهم عن اتباعه ، وما عبأ إلا قول الحق وفعله.

والمقصود أنه حتى لو جوزنا عذر "السياسة" بإطلاقه، فهو غير وارد هنا البتة ولا يصلح لتفسير قول المسيح بأنه لا يعلم الساعة.

كان هذا هو التأويل الرابع .. والتأويلان الثاني والثالث تهافتهما ظاهر لا يحتاج إلى بيان .. ولذلك لم يتمسك بها أحد من النصارى أصلاً حتى من العوام .. وإنما الدائر بينهم - علماء وعوام - هما التأويلان الأول والرابع ..

وأما التأويل الأول : فقد بيّن الشيخ رحمت الله هندي فساده في كتابه الماحق "إظهار الحق" وما تعرض له المتعقبون بكلمة ! .. وقد تنبأ هو - رحمه الله - بهذا .. تنبأ في مقدمة كتابه بأن النصارى الرادين عليه يتركون أغلب كلامه بلا رد ، وما يزعمون الرد عليه لا ينقلونه بلفظه في سياقه .. وكان كما تنبأ رحمه الله .. بالرغم من تعدد اللجان التي شكلها النصارى على مر السنين لمحاولة رد كلام الشيخ .

وبيان فساد هذا التأويل : أنه يلزم عنه وجود "عِلمين" للمسيح .. أحدهما علمه الناسوتي والآخر علمه اللاهوتي .. والكائن الواحد ليس له علمان منفصلان وإنما له علم واحد ، كما أن له قدرة واحدة وله مشيئة واحدة ..
فالزعم بوجود "علمين" هنا يلزم عنه وجود "كائنين" لكل منهما علمه المستقل الذي سينبني عليه إرادته المستقلة وتنفذه قدرته المستقلة ..
هذه ضربة في صميم العقيدة الأرثوذكسية كما ترى ! .. وابن العسال من أكابر علماء الأرثوذكس !

من أجل هذه المشكلة وغيرها من المشاكل اختار الكاثوليك القول بالمشيئتين وقلدهم البروتستانت في هذا على الجملة ..

لكن اللجوء إلى القول بالمشيئتين له مشاكله الخاصة هو الآخر .. لعل أهمها هو نفي "الاتحاد" كما اعترض الأرثوذكس بهذا ومعهم الحق هنا .. إذ لا مجال للكلام عن "واحد" مع تقرير الطبيعتين والعلمين والمشيئتين والقدرتين .. الكلام هنا واضح أنه عن اثنين لا واحد .. وإذا كان الكلام عن اثنين فمن قام منهما بالفداء ؟!
إن قلت اللاهوت ، فهذا خطأ لأنه لم يصلب ولم يمت .. دعك من أن الفادي يجب أن يكون من البشر ..
وإن قلت الناسوت ، فهذا خطأ عندهم لأن الناسوت ناقص العلم ومحدود القدرة وقد اشترطوا في "الفادي" أن يكون غير محدود لانهائي ..
وإن قلت اللاهوت فدى باعتبار وحدته مع الناسوت المصلوب ، فأي وحدة تتحدث عنها ونحن نتكلم عن اثنين مستقلين كما تقدم ؟!

من أجل هذا لجأ باقي النصارى إلى القول بالحلول لا الاتحاد ، لأنهم علموا أن الاتحاد لا يمكن حصوله مع ما تحكيه الأناجيل من بشرية المسيح ، فاختاروا القول بحلول اللاهوت في الناسوت كما يحل الجني بالإنسي ..

لكن المشكلة باقية : ما زال عندنا كائنان لكل منهما علمه وقدرته ومشيئته وطبيعته فأيهما الفادي وكلاهما لا يصلح بمفرده .. فهذا القول "النسطوري" لم يحل المشكلة ..

ولذلك كان الكاثوليك عند الأرثوذكس : نساطرة ! .. لأن قول الكاثوليك بالاتحاد حقيقته هو الحلول الذي قال به النساطرة ..
وهذا كما أن الأرثوذكس عند الكاثوليك : أوطاخيين مهرطقة ! .. لأن قول الأرثوذكس بالوحدة التامة والطبيعة الواحدة حقيقته هو قول الأوطاخيين بالاتحاد التام ..

والكل يتخبط ويتلبط .. والسبب أنهم يحاولون وضع حل لأمر فاسد أصلاً .. فالتجسد الذي اتفقوا عليه أمر باطل في نفسه ، فمهما شرقوا وغربوا ليفسروا هذا التجسد لن ينجحوا ، وكل فرقة تبين فساد قول أختها بسهولة ، لأن الكل الفاسد ، إذ الأصل المبني عليه فاسد أصلاً ..

وبعض النصارى يعتذر عن هذا التخبط بأن التجسد واقع لكن الاختلاف في تفسيره .. وهذا ظاهر البطلان ، لأن الأمر إذا كانت كل تفسيراته فاسدة دل هذا على فساده في نفسه ..
ثم إن التجسد ليس واقعـًا كما زعموا ، ولم يأخذوه عن تقريرات الأنبياء ولا حتى في كتبهم التي يقدسونها .. فليس في كلام المسيح عليه السلام - حتى في أناجيلهم - أي كلام عن هذا التجسد الذي زعموا ..

هي عقيدة باطلة ابتدعوها ، عبروا عنها بلفظ لهم ، ثم اختلفوا حول تفسير هذا اللفظ ومعناه وكيفية حدوثه .. فمهما حاولوا البحث عن تفسير صحيح أو كيفية معقولة فشلت مساعيهم ؛ إذ ما بُني على باطل فهو باطل . والحمد لله وحده.