د. يوسف زيدان يكتب: أسرار الخلاف وأهوال الاختلاف (٣/٧)
٣٠/ ٩/ ٢٠٠٩
أقباط مصر.. أقباط المهجر.. الكنيسة القبطية.. المرحلة القبطية.. الزمن القبطى السابق على الفتح العربى لمصر.. مؤتمر القبطيات.. منظمة أقباط الولايات المتحدة..
موقع الأقباط المتحدون.. صوم القبط.. أعياد الأقباط.. قبط! هذه التعبيرات، وغيرها الكثير، هى تسميات مشهورة ومفاهيم عامة وعناوين اشتهرت مؤخراً على الألسنة وتداولتها الأقلام. حتى إنه لم يعد من الممكن الشك، مجرد الشك، فى مسألة (القبطية) ومشتقاتها الكثيرة، باعتبار أن لها معنىً محدداً ودلالة واضحة تشير إلى جماعة معينة، وصنفٍ مخصوص من المصريين يتميز بالدين (المسيحى) عن أصحاب الدين الإسلامى، فكأن أولئك وهؤلاء منفصلون..
غير أننا سنرى فيما يلى، أن (القبطية) هى مفهوم معاصر يرتبط -بالضرورة- بالثقافة العربية الإسلامية، ولا يمكن له أن يوجد خارج هذه الثقافة. والأمر يقتضى منا الرجوع فى الزمن إلى الوراء قليلاً، ثم نتقدم منه إلى زمننا الحالى، خطوةً خطوة، فنفهم (السر) الكامن وراء هذا الخلاف الموهوم بين المصريين، عبر تصنيفهم (السخيف) إلى مسلم وقبطى، بناءً على اختلاف ديانة كل منهما، وكأن الديانات صارت أوطاناً لها هويات.
انتشرت المسيحيةُ فى القرنين الثانى والثالث الميلاديين، انتشاراً رتيباً هادئاً، كان لابد من حدوثه!
فالإمبراطورية الرومانية كانت قد سارت آنذاك فى سُبل الاضمحلال التدريجى، بعدما كانت قد بسطت جناحيها على الشرق والغرب، وأدخلت (مصر) إلى حدود الإمبراطورية التى عاشت زمناً مجيداً، ثم بدأ اندثارها مع انتشار مظاهر البذخ والخلاعة، وانغماس سكان روما والمدن الكبرى (التى تؤدى إليها كل الطرق، وتؤدى هى إلى روما باعتبارها عاصمة العالم آنذاك) فى اللهو والمجون والمتع الحسية، على نحوٍ فاق كل الحدود وتجاوز حدود المعقول إلى آفاق اللامعقول.
وحسبما يقول ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة (مقدمة كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر) فإن الترف يؤدى بالضرورة إلى انحلال السلطة السياسية! وهو ما حدث فعلاً مع الإمبراطورية الرومانية التى أخذت أوصالها تتفكك وقلبها يهترئ، حتى سقطت أسوارها سنة ٤١٠ ميلادية أمام جحافل القوط (الألمان) ولم تعد من يومها إلى سابق عهدها المجيد، قطُّ، مما أفسح مجال المنافسة على زعامة العالم، أمام مدن أخرى مثل أنطاكية والإسكندرية..
ودخلت حلبة المنافسة مدينة المقر الإمبراطورى: بيزنطة (القسطنطينية، إسطنبول) التى بناها الإمبراطور قسطنطين الكبير الذى تبنى المسيحية وتسامح معها باعتبارها إحدى الديانات الكثيرة المعترف بها آنذاك، فضمن بذلك ولاء المسيحيين الذين كان عددهم قد ازداد تدريجياً فصاروا فى زمانه (بداية القرن الرابع الميلادى) يمثلون عشرة بالمائة من مجموع السكان.
ومن منتصف القرن الرابع الميلادى، وحتى امتلاك المسلمين لأنحاء الإمبراطورية الرومانية فى طورها الثانى: البيزنطى (دولة الروم، لا الرومان) وهو ما حدث فى النصف الأول من القرن السابع الميلادى، مضت سنوات طوال تنافست فيها المدن الكبرى على زعامة العالم عوضاً عن روما.. ومع الانتشار الواسع للديانة المسيحية، كان لابد أن يكون التنافس دينياً، فاتخذت الإسكندرية مذهباً، وأنطاكية مذهباً آخر، وروما مذهباً ثالثاً وبيزنطة مذهباً رابعاً..
وهكذا، وكانت هناك تقلبات فى هذه المذاهب التى تشكلت وتحددت مواقفها العقائدية فى المؤتمرات الكنسية الدولية التى سميت اصطلاحاً بالمجامع المسكونية.. خاصةً مجامع: نيقية ٣٢٥ ميلادية (حيث استعلنت الإسكندرية على الجميع) وإفسوس سنة ٤٣١ ميلادية (حيث انتصرت الإسكندرية بصعوبة على بيزنطة) وخلقيدونية سنة ٤٥١ (حيث أُهينت الإسكندرية وخرجت من الساحة العالمية إلى غير رجعة).
وفى مجمع خلقيدونية هجم الأساقفةُ الممثلون لكبريات الكنائس العالمية (المسكونية) على أسقف (بابا) الإسكندرية المسكين «ديوسقوروس» ونتفوا شعر لحيته وضربوه، وياللعار، بالنعال!
فكان من الطبيعى أن يغضب أتباعه فى مصر والشام، وهو ما حدث فعلاً.
خاصةً بعدما تبنى القسيس (القَسّ) السورى «يعقوب البرادعى» وجهة نظر الإسكندرانيين فى العقيدة المسيحية، وهى العقيدة التى أدت إلى اختلاف الكنائس الكبرى الأرثوذكسية (أى الإيمان القويم) بسبب الجدل حول طبيعة السيد المسيح: هل (الابن) و(الآب) من طبيعة واحدة، أم عن طبيعة واحدة!
وما بين «من» و«عن» حدث خلاف عظيم كان السر فيه هو السعى إلى زعامة العالم المسيحى، وهو ما أدى إلى اختلاف مروِّع تسبب فى جريان أنهار الدم بين أولئك وهؤلاء، لأن الإسكندرانيين لم يرضوا بالأساقفة الذين كانت بيزنطة (العاصمة الإمبراطورية) ترسلهم، فكانوا يختارون من بينهم هم أساقفة آخرين (بابوات) ويقتلون المرسَلين من بيزنطة وروما..
وقد حدثت بين الفريقين، فى الإسكندرية، وقائع مروِّعة، وجرى فى شوارع المدينة دم كثير، لأن الإسكندرانيين الذين لم يوافقوا على مجمع خلقيدونية (اللاخلقيدونيين) كانوا يهجمون على الأساقفة الخلقيدونيين فيفتكون بهم فتكا شديداً، فيفتك بهم الآخرون..
ولا أريد هنا أن أُفزع القراء بذكر هذه الوقائع المروِّعة، ويكفى أن نذكر أن الأسقف «البابا» الذى اختاره الإسكندرانيون، وهو الأمبا تيموثيوس الملقب بالقط (أو ابن عرس) قتل الأسقف «البابا» بروتيروس المرسَل من بيزنطة، فى قلب كنيسة الإسكندرية، بل وفى مكان المعمودية المقدس..
بينما قتل الأسقفُ الشنيع كيرس الملقب بالمقوقس (لأن أصله من القوقاس) عشرين ألفاً فى ميدان محطة الرمل بالإسكندرية، فى يوم واحد، لأنهم لم يوافقوا على المقترَح العقائدى الذى طرحه عليهم لحل مشكلة طبيعة المسيح!
ولم تكن كنيسة الإسكندرية آنذاك تسمى (القبطية) ولا كان أتباعها يعرفون بالأقباط.
كان يقال لهم «اليعاقبة» نسبة إلى يعقوب البرادعى، وكان يقال لهم «مونوفيست» نسبة إلى الكلمة اليونانية التى تعنى الطبيعة الواحدة، وكان يقال لهم «الإسكندرانيون» نسبة إلى العاصمة المصرية التى تهيمن على أديرة وادى النطرون الذى كان اسمه آنذاك وادى هبيب.
ولم يعترف هؤلاء بهذه التسميات، واختاروا لأنفسهم فيما بعد اسم (المرقسيون) نسبة إلى مرقس الرسول الذى بشَّر (كرَّز) فى الإسكندرية وقُتل فيها (استشهد) على أيدى الرومان سنة ١٩٦٨ ميلادية، وهى تسمية لم توافق عليها بقية الكنائس الكبرى فى العالم، لأن الكنائس لو حملت أسماء الرسل (الحواريين) لكان هناك الكنيسة اليوحناوية والكنيسة البطرسية والكنيسة المتاوية.. إلخ، وهذا غير معمول به.
كانت هناك، إذن، مشكلة فى تسمية هؤلاء (اللاخلقيدونيين، اليعاقبة، المونوفيست، المرقسيين، الإسكندرانيين) ولم يكن من المعتاد أن يشار إليهم بالمصريين أو الكنيسة المصرية، لأن مصر آنذاك كان بها كنائس أخرى، مثلما هو الحال اليوم، وكانت أهمها وأكثرها أتباعاً كنيسة الخلقيدونيين (الملكانيين، أتباع الملك، الروم الأرثوذكس).
وكان العرب يشيرون إلى سكان مصر باستعمال وصفين، الوصف الأول هو (المصريون) وهم أهل القبائل العربية التى كانت تعيش فى مصر من قبل الفتح بقرون طوال (كان ستون بالمائة من أهل عاصمة الصعيد «قوص» يتكلمون العربية منذ القرن الخامس الميلادى) أو هؤلاء الذين جاءوا لاحقاً مع عمرو بن العاص واستقروا بمصر.
هؤلاء جميعاً يسميهم العرب «المصريين» ولذلك نجد فى كتب التاريخ الإسلامى، أن الخليفة عثمان بن عفان «قتَله المصريون» والمراد بهم هنا، العرب المسلمون الذين كانوا يعيشون بمصر..
والصنف الآخر من أهل مصر، بحسب التسمية العربية التى كانت مستعملة آنذاك، هى (القبط) وهم أهل مصر من المسيحيين، بصرف النظر عن مذهبهم العقائدى.
وقد استعمل العرب كلمة «قبط» استناداً إلى الكلمة اليونانية «إ جبتوس» بأن نزعوا كعادتهم اللاحقة الأخيرة (الواو والسين) فاستبقوا «إجبت» ونطقوها القبط، تمييزاً للمسيحى فى مصر عن مسيحيى الشام والعراق الذين كانوا يسمونهم: النصارى..
وهى بالمناسبة تسمية غير دقيقة، ولكنها مأخوذة من التعبير القرآنى الذى يشير إلى أن الحواريين (تلاميذ المسيح) هم الأنصار، حسبما ورد فى الآية القرآنية )..
كَمَا قَالَ عيسى ابن مريم للحواريينَ منْ أنصارى إلى الله قال الحواريون نحنُ أنصار اللهِ..).
كان العرب إذن، من قبل الإسلام ومن بعده، يسمون المسيحيين فى مصر (القبط) بصرف النظر عن مذهبهم العقائدى، ولذلك نجد الرسالة المشهورة من النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى مصر، مرسَلة إلى «المقوقس عظيم القبط» مع أن المقوقس كان الأسقف الملكانى (الخلقيدونى) بينما كان للآخرين الذين نعرفهم اليوم باسم الأقباط، أسقف آخر هو بنيامين.. وكان بنيامين هارباً من وجه المقوقس البشع، الذى يجب أن يسمى عصره، بحق: عصر الاستشهاد!
لأن الذين قتلهم المقوقس ببشاعة مروِّعة، يزيدون بعشرات المرات عن جميع الذين قتلهم الرومان فى مصر خلال زمن الاضطهاد الذى امتد قرابة قرنين من الزمان، بسبب إيمانهم بالمسيحية وهروبهم من الزراعة إلى الصحراء، وهو ما سوف يعرف اصطلاحاً بحركة الرهبنة.
وأظن، وقد أكون مخطئاً، أن الكنيسة (القبطية) المعاصرة، يجب عليها أن تتخلى عن التقويم الخاص الذى تعمل به حالياً، أعنى التقويم المسمى «تقويم عصر الشهداء» أو «التقويم القبطى» وهو الذى يبدأ من سنة ٢٨٤ ميلادية، باعتبارها السنة التى تولى فيها دقلديانوس الحكم..
ومن الممكن أن يجعلوا، إن أرادوا، سنة مجىء المقوقس إلى مصر هى بداية هذا التقويم الخاص بهم– إن كان هناك ضرورة أصلاً لأن يكون هناك تقويم خاص، فى مقابل التقويم الهجرى الذى يحبه الإسلاميون ولا يعرفه اليوم معظم المسلمين، حتى إنك إذا سألت أحدهم عن السنة الهجرية الحالية، فلن يعرف!
وأننى أقترح ذلك! لأنه، فى حقيقة الأمر ووفقاً للتاريخ الفعلى، فإن دقلديانوس لم يقتل من (الشهداء) إلا أقل القليل بالقياس إلى المقوقس الذى استشهد على يديه عشرات الآلاف مدفوعين بحب الاستشهاد.. وسوف أعود للكلام على الجهاد وحب الاستشهاد فى مقالة قادمة من هذه السلسلة.
إذن، فالتسمية ذاتها (القبطية) هى تسمية عربية إسلامية، ولم تكن تفرق بين أتباع الكنائس المصرية. ولما استقرت مصر بيد عمرو بن العاص، وبعد فتحه (الثانى) لمدينة الإسكندرية التى غاظته كثيراً بسبب تمردها عليه، حتى إنه أقسم أمام أبوابها، بأن يهدم أسوارها..
قال: والله لئن ملكتها لأجعلنها مثل بيت الزانية (أى بلا أبواب، وغير حصينة) وقد قام بذلك فعلاً، فخرَّب سورها ونزع عنها البوابات، وعرض على أهلها الرحيل بما يملكون، إن أرادوا.
فكان الأغنياء (الملكانيون) يرحلون عنها بممتلكاتهم بحراً إلى بيزنطة وبقية أنحاء أوروبا، بينما يمكث فيها الفقراء (اللاخلقيدونيون، اليعاقبة، المونوفيست، المرقسيون) فرحين برحيل أعدائهم فى المذهب الدينى، مهما أخذوا معهم من أموال وممتلكات.
ومن هنا، فيما أظن، جاء التعبير المصرى الشهير الذى لا يزال يتردد على الألسنة إلى اليوم، كلما رحل عنا شخص أو جماعة غير مأسوف على رحيلهم: المركب اللى تودى!
وهكذا قام المسلمون، بغير قصد، بتفريغ مصر من معظم أتباع المذهب الخلقيدونى، فأسهموا بذلك فى استقرار أعدائهم الذين نسميهم اليوم (الأقباط) استناداً إلى التسمية العربية لهم..
وبالطبع، لم يرحل جميع المسيحيين (الملكانيين) بل ظلت لهم كنائس وبيع وممتلكات يدفعون عنها الجزية فى مقابل الأمن، حسبما ذكرنا فى مقالنا السابق، وكانت هناك كنائس أخرى تعيش بمصر– مثلما هو الحال اليوم- ولكن هذا الوضع الجديد (العربى / الإسلامى) سمح لإخواننا الذين نسميهم اليوم، ويسمون أنفسهم (الأقباط) بالاستقرار والزيادة العددية. خاصةً أن عمرو بن العاص أطلق لرئيسهم الدينى (بنيامين) أماناً عاماً، حيثما كان، يدعوه فيه للخروج من مخبئه والمجىء بسلام لرعاية أتباعه..
وقد استجاب بنيامين (الأسقف، الأمبا، البابا) وجاء إلى عمرو بن العاص الذى التزم بما وعده به، وترك له الحرية التى كان محروماً منها، وسمح له بتجديد الكنائس وتنظيم أمور رعاياه، رغبة من الفاتح (الغازى) العربى المسلم، العظيم: عمرو بن العاص، فى استقرار الأحوال بمصر.
لأنه كان قد أحبَّ هذه البلاد، ونظر إليها باعتبارها (خزانة الإسلام) ولذلك غضب لاحقاً عندما أرهقها «عبد الله بن أبى سرح» بالمكوس وضغط على أهلها لتحصيل الجزية..
ولما سنحت له الفرصة، عاد عمرو بن العاص لحكم مصر، وظل يحكمها حتى وفاته. فلما استقرت بيده، استقر أهلها من (المصريين) ومن (القبط) على اختلاف كنائسهم.
من هنا، أدعو إخوانى «الأقباط» لتصحيح فكرتهم النمطية عن مسألة فتح مصر، وأدعو (المتأسلمين) إلى الكفِّ عن النظر إلى المسيحيين المصريين على أنهم: غرباء فى وطنهم!
وأدعو (المتأقبطين) إلى الكفِّ عن تلك الخرافة التى تقول إن مصر وطن الأقباط (بالمعنى السياسى المعاصر) وإن العرب المسلمين سلبوا البلاد من أيديهم (فهى لم تكن يوماً بأيديهم) كما ذكرت فى مقالتى السابقة، فهى لم يحكمها طيلة تاريخها حاكم واحد (قبطى) بالمعنى المعاصر لهذه الكلمة، وهو المعنى الذى قام واستقام واستقر، باعتباره صناعة عربية إسلامية.. لا غير!
وبالتالى، فإنه من قادحات الشرر المنذرات بالشرور، الادعاء بأن الإسلام قام باحتلال مصر.. بلادنا.. الطيبة.. الحزينة.. الدافئة.. الحنون.. المرهقة.. الشاحبة.. الحبيبة.. المحيرة!
http://www.almasry-alyoum.com/articl...ticleID=227496
٣٠/ ٩/ ٢٠٠٩
أقباط مصر.. أقباط المهجر.. الكنيسة القبطية.. المرحلة القبطية.. الزمن القبطى السابق على الفتح العربى لمصر.. مؤتمر القبطيات.. منظمة أقباط الولايات المتحدة..
موقع الأقباط المتحدون.. صوم القبط.. أعياد الأقباط.. قبط! هذه التعبيرات، وغيرها الكثير، هى تسميات مشهورة ومفاهيم عامة وعناوين اشتهرت مؤخراً على الألسنة وتداولتها الأقلام. حتى إنه لم يعد من الممكن الشك، مجرد الشك، فى مسألة (القبطية) ومشتقاتها الكثيرة، باعتبار أن لها معنىً محدداً ودلالة واضحة تشير إلى جماعة معينة، وصنفٍ مخصوص من المصريين يتميز بالدين (المسيحى) عن أصحاب الدين الإسلامى، فكأن أولئك وهؤلاء منفصلون..
غير أننا سنرى فيما يلى، أن (القبطية) هى مفهوم معاصر يرتبط -بالضرورة- بالثقافة العربية الإسلامية، ولا يمكن له أن يوجد خارج هذه الثقافة. والأمر يقتضى منا الرجوع فى الزمن إلى الوراء قليلاً، ثم نتقدم منه إلى زمننا الحالى، خطوةً خطوة، فنفهم (السر) الكامن وراء هذا الخلاف الموهوم بين المصريين، عبر تصنيفهم (السخيف) إلى مسلم وقبطى، بناءً على اختلاف ديانة كل منهما، وكأن الديانات صارت أوطاناً لها هويات.
انتشرت المسيحيةُ فى القرنين الثانى والثالث الميلاديين، انتشاراً رتيباً هادئاً، كان لابد من حدوثه!
فالإمبراطورية الرومانية كانت قد سارت آنذاك فى سُبل الاضمحلال التدريجى، بعدما كانت قد بسطت جناحيها على الشرق والغرب، وأدخلت (مصر) إلى حدود الإمبراطورية التى عاشت زمناً مجيداً، ثم بدأ اندثارها مع انتشار مظاهر البذخ والخلاعة، وانغماس سكان روما والمدن الكبرى (التى تؤدى إليها كل الطرق، وتؤدى هى إلى روما باعتبارها عاصمة العالم آنذاك) فى اللهو والمجون والمتع الحسية، على نحوٍ فاق كل الحدود وتجاوز حدود المعقول إلى آفاق اللامعقول.
وحسبما يقول ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة (مقدمة كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر) فإن الترف يؤدى بالضرورة إلى انحلال السلطة السياسية! وهو ما حدث فعلاً مع الإمبراطورية الرومانية التى أخذت أوصالها تتفكك وقلبها يهترئ، حتى سقطت أسوارها سنة ٤١٠ ميلادية أمام جحافل القوط (الألمان) ولم تعد من يومها إلى سابق عهدها المجيد، قطُّ، مما أفسح مجال المنافسة على زعامة العالم، أمام مدن أخرى مثل أنطاكية والإسكندرية..
ودخلت حلبة المنافسة مدينة المقر الإمبراطورى: بيزنطة (القسطنطينية، إسطنبول) التى بناها الإمبراطور قسطنطين الكبير الذى تبنى المسيحية وتسامح معها باعتبارها إحدى الديانات الكثيرة المعترف بها آنذاك، فضمن بذلك ولاء المسيحيين الذين كان عددهم قد ازداد تدريجياً فصاروا فى زمانه (بداية القرن الرابع الميلادى) يمثلون عشرة بالمائة من مجموع السكان.
ومن منتصف القرن الرابع الميلادى، وحتى امتلاك المسلمين لأنحاء الإمبراطورية الرومانية فى طورها الثانى: البيزنطى (دولة الروم، لا الرومان) وهو ما حدث فى النصف الأول من القرن السابع الميلادى، مضت سنوات طوال تنافست فيها المدن الكبرى على زعامة العالم عوضاً عن روما.. ومع الانتشار الواسع للديانة المسيحية، كان لابد أن يكون التنافس دينياً، فاتخذت الإسكندرية مذهباً، وأنطاكية مذهباً آخر، وروما مذهباً ثالثاً وبيزنطة مذهباً رابعاً..
وهكذا، وكانت هناك تقلبات فى هذه المذاهب التى تشكلت وتحددت مواقفها العقائدية فى المؤتمرات الكنسية الدولية التى سميت اصطلاحاً بالمجامع المسكونية.. خاصةً مجامع: نيقية ٣٢٥ ميلادية (حيث استعلنت الإسكندرية على الجميع) وإفسوس سنة ٤٣١ ميلادية (حيث انتصرت الإسكندرية بصعوبة على بيزنطة) وخلقيدونية سنة ٤٥١ (حيث أُهينت الإسكندرية وخرجت من الساحة العالمية إلى غير رجعة).
وفى مجمع خلقيدونية هجم الأساقفةُ الممثلون لكبريات الكنائس العالمية (المسكونية) على أسقف (بابا) الإسكندرية المسكين «ديوسقوروس» ونتفوا شعر لحيته وضربوه، وياللعار، بالنعال!
فكان من الطبيعى أن يغضب أتباعه فى مصر والشام، وهو ما حدث فعلاً.
خاصةً بعدما تبنى القسيس (القَسّ) السورى «يعقوب البرادعى» وجهة نظر الإسكندرانيين فى العقيدة المسيحية، وهى العقيدة التى أدت إلى اختلاف الكنائس الكبرى الأرثوذكسية (أى الإيمان القويم) بسبب الجدل حول طبيعة السيد المسيح: هل (الابن) و(الآب) من طبيعة واحدة، أم عن طبيعة واحدة!
وما بين «من» و«عن» حدث خلاف عظيم كان السر فيه هو السعى إلى زعامة العالم المسيحى، وهو ما أدى إلى اختلاف مروِّع تسبب فى جريان أنهار الدم بين أولئك وهؤلاء، لأن الإسكندرانيين لم يرضوا بالأساقفة الذين كانت بيزنطة (العاصمة الإمبراطورية) ترسلهم، فكانوا يختارون من بينهم هم أساقفة آخرين (بابوات) ويقتلون المرسَلين من بيزنطة وروما..
وقد حدثت بين الفريقين، فى الإسكندرية، وقائع مروِّعة، وجرى فى شوارع المدينة دم كثير، لأن الإسكندرانيين الذين لم يوافقوا على مجمع خلقيدونية (اللاخلقيدونيين) كانوا يهجمون على الأساقفة الخلقيدونيين فيفتكون بهم فتكا شديداً، فيفتك بهم الآخرون..
ولا أريد هنا أن أُفزع القراء بذكر هذه الوقائع المروِّعة، ويكفى أن نذكر أن الأسقف «البابا» الذى اختاره الإسكندرانيون، وهو الأمبا تيموثيوس الملقب بالقط (أو ابن عرس) قتل الأسقف «البابا» بروتيروس المرسَل من بيزنطة، فى قلب كنيسة الإسكندرية، بل وفى مكان المعمودية المقدس..
بينما قتل الأسقفُ الشنيع كيرس الملقب بالمقوقس (لأن أصله من القوقاس) عشرين ألفاً فى ميدان محطة الرمل بالإسكندرية، فى يوم واحد، لأنهم لم يوافقوا على المقترَح العقائدى الذى طرحه عليهم لحل مشكلة طبيعة المسيح!
ولم تكن كنيسة الإسكندرية آنذاك تسمى (القبطية) ولا كان أتباعها يعرفون بالأقباط.
كان يقال لهم «اليعاقبة» نسبة إلى يعقوب البرادعى، وكان يقال لهم «مونوفيست» نسبة إلى الكلمة اليونانية التى تعنى الطبيعة الواحدة، وكان يقال لهم «الإسكندرانيون» نسبة إلى العاصمة المصرية التى تهيمن على أديرة وادى النطرون الذى كان اسمه آنذاك وادى هبيب.
ولم يعترف هؤلاء بهذه التسميات، واختاروا لأنفسهم فيما بعد اسم (المرقسيون) نسبة إلى مرقس الرسول الذى بشَّر (كرَّز) فى الإسكندرية وقُتل فيها (استشهد) على أيدى الرومان سنة ١٩٦٨ ميلادية، وهى تسمية لم توافق عليها بقية الكنائس الكبرى فى العالم، لأن الكنائس لو حملت أسماء الرسل (الحواريين) لكان هناك الكنيسة اليوحناوية والكنيسة البطرسية والكنيسة المتاوية.. إلخ، وهذا غير معمول به.
كانت هناك، إذن، مشكلة فى تسمية هؤلاء (اللاخلقيدونيين، اليعاقبة، المونوفيست، المرقسيين، الإسكندرانيين) ولم يكن من المعتاد أن يشار إليهم بالمصريين أو الكنيسة المصرية، لأن مصر آنذاك كان بها كنائس أخرى، مثلما هو الحال اليوم، وكانت أهمها وأكثرها أتباعاً كنيسة الخلقيدونيين (الملكانيين، أتباع الملك، الروم الأرثوذكس).
وكان العرب يشيرون إلى سكان مصر باستعمال وصفين، الوصف الأول هو (المصريون) وهم أهل القبائل العربية التى كانت تعيش فى مصر من قبل الفتح بقرون طوال (كان ستون بالمائة من أهل عاصمة الصعيد «قوص» يتكلمون العربية منذ القرن الخامس الميلادى) أو هؤلاء الذين جاءوا لاحقاً مع عمرو بن العاص واستقروا بمصر.
هؤلاء جميعاً يسميهم العرب «المصريين» ولذلك نجد فى كتب التاريخ الإسلامى، أن الخليفة عثمان بن عفان «قتَله المصريون» والمراد بهم هنا، العرب المسلمون الذين كانوا يعيشون بمصر..
والصنف الآخر من أهل مصر، بحسب التسمية العربية التى كانت مستعملة آنذاك، هى (القبط) وهم أهل مصر من المسيحيين، بصرف النظر عن مذهبهم العقائدى.
وقد استعمل العرب كلمة «قبط» استناداً إلى الكلمة اليونانية «إ جبتوس» بأن نزعوا كعادتهم اللاحقة الأخيرة (الواو والسين) فاستبقوا «إجبت» ونطقوها القبط، تمييزاً للمسيحى فى مصر عن مسيحيى الشام والعراق الذين كانوا يسمونهم: النصارى..
وهى بالمناسبة تسمية غير دقيقة، ولكنها مأخوذة من التعبير القرآنى الذى يشير إلى أن الحواريين (تلاميذ المسيح) هم الأنصار، حسبما ورد فى الآية القرآنية )..
كَمَا قَالَ عيسى ابن مريم للحواريينَ منْ أنصارى إلى الله قال الحواريون نحنُ أنصار اللهِ..).
كان العرب إذن، من قبل الإسلام ومن بعده، يسمون المسيحيين فى مصر (القبط) بصرف النظر عن مذهبهم العقائدى، ولذلك نجد الرسالة المشهورة من النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى مصر، مرسَلة إلى «المقوقس عظيم القبط» مع أن المقوقس كان الأسقف الملكانى (الخلقيدونى) بينما كان للآخرين الذين نعرفهم اليوم باسم الأقباط، أسقف آخر هو بنيامين.. وكان بنيامين هارباً من وجه المقوقس البشع، الذى يجب أن يسمى عصره، بحق: عصر الاستشهاد!
لأن الذين قتلهم المقوقس ببشاعة مروِّعة، يزيدون بعشرات المرات عن جميع الذين قتلهم الرومان فى مصر خلال زمن الاضطهاد الذى امتد قرابة قرنين من الزمان، بسبب إيمانهم بالمسيحية وهروبهم من الزراعة إلى الصحراء، وهو ما سوف يعرف اصطلاحاً بحركة الرهبنة.
وأظن، وقد أكون مخطئاً، أن الكنيسة (القبطية) المعاصرة، يجب عليها أن تتخلى عن التقويم الخاص الذى تعمل به حالياً، أعنى التقويم المسمى «تقويم عصر الشهداء» أو «التقويم القبطى» وهو الذى يبدأ من سنة ٢٨٤ ميلادية، باعتبارها السنة التى تولى فيها دقلديانوس الحكم..
ومن الممكن أن يجعلوا، إن أرادوا، سنة مجىء المقوقس إلى مصر هى بداية هذا التقويم الخاص بهم– إن كان هناك ضرورة أصلاً لأن يكون هناك تقويم خاص، فى مقابل التقويم الهجرى الذى يحبه الإسلاميون ولا يعرفه اليوم معظم المسلمين، حتى إنك إذا سألت أحدهم عن السنة الهجرية الحالية، فلن يعرف!
وأننى أقترح ذلك! لأنه، فى حقيقة الأمر ووفقاً للتاريخ الفعلى، فإن دقلديانوس لم يقتل من (الشهداء) إلا أقل القليل بالقياس إلى المقوقس الذى استشهد على يديه عشرات الآلاف مدفوعين بحب الاستشهاد.. وسوف أعود للكلام على الجهاد وحب الاستشهاد فى مقالة قادمة من هذه السلسلة.
إذن، فالتسمية ذاتها (القبطية) هى تسمية عربية إسلامية، ولم تكن تفرق بين أتباع الكنائس المصرية. ولما استقرت مصر بيد عمرو بن العاص، وبعد فتحه (الثانى) لمدينة الإسكندرية التى غاظته كثيراً بسبب تمردها عليه، حتى إنه أقسم أمام أبوابها، بأن يهدم أسوارها..
قال: والله لئن ملكتها لأجعلنها مثل بيت الزانية (أى بلا أبواب، وغير حصينة) وقد قام بذلك فعلاً، فخرَّب سورها ونزع عنها البوابات، وعرض على أهلها الرحيل بما يملكون، إن أرادوا.
فكان الأغنياء (الملكانيون) يرحلون عنها بممتلكاتهم بحراً إلى بيزنطة وبقية أنحاء أوروبا، بينما يمكث فيها الفقراء (اللاخلقيدونيون، اليعاقبة، المونوفيست، المرقسيون) فرحين برحيل أعدائهم فى المذهب الدينى، مهما أخذوا معهم من أموال وممتلكات.
ومن هنا، فيما أظن، جاء التعبير المصرى الشهير الذى لا يزال يتردد على الألسنة إلى اليوم، كلما رحل عنا شخص أو جماعة غير مأسوف على رحيلهم: المركب اللى تودى!
وهكذا قام المسلمون، بغير قصد، بتفريغ مصر من معظم أتباع المذهب الخلقيدونى، فأسهموا بذلك فى استقرار أعدائهم الذين نسميهم اليوم (الأقباط) استناداً إلى التسمية العربية لهم..
وبالطبع، لم يرحل جميع المسيحيين (الملكانيين) بل ظلت لهم كنائس وبيع وممتلكات يدفعون عنها الجزية فى مقابل الأمن، حسبما ذكرنا فى مقالنا السابق، وكانت هناك كنائس أخرى تعيش بمصر– مثلما هو الحال اليوم- ولكن هذا الوضع الجديد (العربى / الإسلامى) سمح لإخواننا الذين نسميهم اليوم، ويسمون أنفسهم (الأقباط) بالاستقرار والزيادة العددية. خاصةً أن عمرو بن العاص أطلق لرئيسهم الدينى (بنيامين) أماناً عاماً، حيثما كان، يدعوه فيه للخروج من مخبئه والمجىء بسلام لرعاية أتباعه..
وقد استجاب بنيامين (الأسقف، الأمبا، البابا) وجاء إلى عمرو بن العاص الذى التزم بما وعده به، وترك له الحرية التى كان محروماً منها، وسمح له بتجديد الكنائس وتنظيم أمور رعاياه، رغبة من الفاتح (الغازى) العربى المسلم، العظيم: عمرو بن العاص، فى استقرار الأحوال بمصر.
لأنه كان قد أحبَّ هذه البلاد، ونظر إليها باعتبارها (خزانة الإسلام) ولذلك غضب لاحقاً عندما أرهقها «عبد الله بن أبى سرح» بالمكوس وضغط على أهلها لتحصيل الجزية..
ولما سنحت له الفرصة، عاد عمرو بن العاص لحكم مصر، وظل يحكمها حتى وفاته. فلما استقرت بيده، استقر أهلها من (المصريين) ومن (القبط) على اختلاف كنائسهم.
من هنا، أدعو إخوانى «الأقباط» لتصحيح فكرتهم النمطية عن مسألة فتح مصر، وأدعو (المتأسلمين) إلى الكفِّ عن النظر إلى المسيحيين المصريين على أنهم: غرباء فى وطنهم!
وأدعو (المتأقبطين) إلى الكفِّ عن تلك الخرافة التى تقول إن مصر وطن الأقباط (بالمعنى السياسى المعاصر) وإن العرب المسلمين سلبوا البلاد من أيديهم (فهى لم تكن يوماً بأيديهم) كما ذكرت فى مقالتى السابقة، فهى لم يحكمها طيلة تاريخها حاكم واحد (قبطى) بالمعنى المعاصر لهذه الكلمة، وهو المعنى الذى قام واستقام واستقر، باعتباره صناعة عربية إسلامية.. لا غير!
وبالتالى، فإنه من قادحات الشرر المنذرات بالشرور، الادعاء بأن الإسلام قام باحتلال مصر.. بلادنا.. الطيبة.. الحزينة.. الدافئة.. الحنون.. المرهقة.. الشاحبة.. الحبيبة.. المحيرة!
http://www.almasry-alyoum.com/articl...ticleID=227496
تعليق