بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الرايعة عشر
القول في الذات كالقول في الصفات والقول في الصفات كالقول في بعض.
(شمولية منهج التوحيد للذات وجميع الصفات)
(شمولية منهج التوحيد للذات وجميع الصفات)
0عناصر.
· القاعدة الرابعة: الإيمان بما جاء في الوحي كله سواء في الأسماء والصفات أو في سائر الموضوعات الأخري .
· الأصل الأول: القول في الصفات كالقول في الذات.
· الأصل الثاني: القول في الصفات كالقول في بعض
· بدعة المعتزلة في إثبات الأسماء ونفي الصفات
· بدعة الأشعرية في إثبات بعض الصفات ورد البعض.
· أسلم الضوابط الشمولية التي وضعت لتوضيح اعتقاد السلف .
بسم الله الرحمن الرحيم
· القاعدة الرابعة:هي الإيمان بما جاء في الوحي كله سواء في الأسماء والصفات أو في سائر الموضوعات الأخري .
القاعدة الرابعة التي قام عليها اعتقاد السلف الصالح الإيمان بما جاء في الوحي كله سواء في الأسماء والصفات أو سائر الموضوعات الأخرى، فالوحي وحدة واحدة لا بد من أن نذعن له كله، ونسلم بكل ما جاء فيه على وجه المحبة والتعظيم، لعلمنا أن الله U يريد لنا الخير، وهو أعلم بما ينفعنا من أنفسنا، وهذا معنى الإيمان في حديث سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الله الثَّقَفِيِّ t حيث قَالَ: (قُلْتُ يَا رَسُولَ الله: قُلْ لِي فِي الإِسْلامِ قَوْلا لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِالله فَاسْتَقِمْ) ([1]). فإذا أخبر الله بشيء صدقناه في كل ما أخبر، وإذا أمر بشيء نفذناه في كل ما أمر ونستقيم على ذلك مدى الحياة، فهذا مقتضى الإيمان الحق .
أما الإيمان ببعض الكتاب ورد البعض الآخر وتعطيله عن مدلوله الحقيقي أو لي أعناق النصوص بالتحريف أو التأويل المتعسف لتسير الأدلة في غير اتجاهها، كمطية يركبها صاحب الأهواء ويوجهها حيث يشاء، فهذا عمل اليهود لعنهم الله حيث قال تعالى في وصفهم: (الذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(الحجر:91) .
قال ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا: (هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ) ([2]) .
وقال تعالى في شأنهم: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَي أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة:85)،
وقال عن تبديلهم كلام الله بالتأويل الباطل: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَيَقُولُونَ على الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(آل عمران:78) .
وقال سبحانه: (مِنْ الذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ الله بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا)(النساء:46) .
وقد فعل أغلب أهل الكلام فعل اليهود لما قال الله لهم: (ادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)، أي حط عنا خطايانا واغفر لنا، فبدلوا كلام الله وزادوا نونا وقالوا: (حنطة) أي نريد القمح والشعير، فقال تعالى: (فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا على الذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)(البقرة:59)، وقال الله لأهل الكلام من الخلف : (الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ اسْتَوَي)(طه:5)، فزادوا لاما وقالوا: استولى عليه وقهر، فما أشبه نون اليهود بلام أهل الكلام .
وقد وضع علماء الكلام من الأشعرية وغيرهم لأنفسهم قانونا عقليا يحكمون به على ما ورد في الكتاب والسنة وخصوصا في مسائل الصفات، فما وافقهم أخذوا به وأيدوه وما خالفهم أنكروه وأولوه .
قال ابن تيمية: (وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء، أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد، وإما في المتن، وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، لكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص، أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية والفلاسة فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء، وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء وأنه صحيح عندهم) ([3]) .
وقد عبر ابن تيمية رحمه الله عن وحدة المنهج السلفي وعمومه في معرفة أوصاف الله بأصلين شريفين يوضحان تلك القاعدة:
1- الأصل الأول: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان لذات الله وجود حقيقي لا يماثل سائر الذوات من المخلوقات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات، فإذا قال السائل: كيف استوي على العرش ؟ وما كيفية أوصافه ؟ قيل له: كيف هو ؟ فإن قال: أنا لا أعلم كيفية ذاته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية أوصافه، ولا كيفية استوائه، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته ؟ وإذا كنت تقر بأن له ذات حقيقية لا يماثله شيء فيها فكذلك وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوق وبصره وكلامه ونزوله واستوائه وسائر أوصافه ([4]) .
2- الأصل الثاني: القول في الصفات كالقول في بعض فلا يجوز أن نثبت بعض الصفات وننازع في باقي الصفات، أو نردها بالتعطيل والتأويل بغير دليل، لأن منهج السلف واحد في كل الصفات، إما أن تثبت الجميع وتكون مؤمنا، أو ترد الجميع وتكون جاحدا معطلا، أما إثبات البعض ورد البعض تحت أي حجة فهذا عمل اليهود كما سبق، وهو أشد بطلانا لأنه استخفاف بكلام الله ونوع من العبث بكتاب الله وسنة رسوله S ([5]) .
· محذورات القاعدة الرابعة .
يحترز بالقاعدة الرابعة في صفات الله من بدع المعتزلة والأشعرية ومن سلك في الصفات الإلهية، وبيان ذلك فيما يلي:
أولا: بدعة المعتزلة في إثبات الأسماء ونفي الصفات:
ابتدع أهل الاعتزال معنى جديدا للتوحيد غير ما عرف بين الصحابة والتابعين وعلماء السلف، فقالوا إن التوحيد هو إثبات الأسماء ونفي الصفات، فجعلوا القرآن عضين يقبلون منه ما يوافق آراءهم الفاسدة ويعطلون ما يخالفها .
ومعني قولهم بإثبات الأسماء ونفي الصفات أنهم أثبتوا وجود ذات الله فقط دون أي صفة لها، وجعلوا أسماء الله U الدالة عليها أسماء فارغة من الأوصاف، أو أسماء بلا مسمى، فقالوا: هو العليم لكن لا يتصف بصفة العلم، والسميع بلا سمع وهو البصير بلا بصر وهكذا .
ولتبسيط فكرتهم نقول: فلان اسمه سعيد، لكن لو بحثت عن صفة السعادة فيه فربما يكون سعيدا أو شقيا، فإن كانت الأولى قلنا: سعيد اسم على مسمى، وذاته متصفة بصفة السعادة، وإن كانت الثانية قلنا: سعيد اسم فارغ من المسمى وذات بلا صفة لأنه شقي .
ومن ثم فإن أسماء الله عند السلف أسماء على مسمى، فهو الغني الذي يتصف بالغني لا الفقر، وهو القوي الذي يتصف بصفة القوة لا الضعف، وهو السميع يتصف بصفة السمع تعالى الله عن ضدها، وهو البصير الذي يتصف بالبصر وهكذا في سائر الأسماء والصفات، ولهذا كانت أسماؤه حسنى وعظمى، ولا تكون حسنى وعظمى بغير ذلك، قال تعالى: (وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الأعراف:180)، ودعاء الله بها أن يقول الفقير: يا غني أغنني بفضلك عمن سواك، ولولا يقين الداعي الفقير أن الله غني ولا نظير له في غناه ما دعاه، وأن يقول الضعيف: يا قوي قوني، فلولا يقينه أنه سبحانه لا شبيه له في قوته ما دعاه، وهكذا يعلم أصحاب الفطرة السليمة ـ فطرة التوحيد ـ أن الله U يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء بسبب العظمة في أوصافه كما قال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ الله قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ)(النمل:62)، فعلم العقلاء أنه لا يجيب المضطر إذا دعاه وهو عاجز لا صفة له مطلقا، فمن يجيب أهل الاعتزال إذا كان معبودهم بلا صفة عندهم وأسماؤه فارغة بلا مسمى .
وهذا المذهب الخبيث يترتب عليه أن قوله تعالى: (وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا)(الأعراف:180)، لا قيمة له عندهم، وكذلك تعداد الأسماء الحسنى في حديث أبي هريرة t أن النبي S قال: (إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنّةَ) ([6])، لأن تعداد الأسماء الحسني أو الدعاء بها مبني على إثبات الصفات .
وأي نقص في حق الله أعظم من ألا يكون له صفة عند المعتزلة ــ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ــ إن الواحد منا لا يقبل هذا على نفسه، فلو قال لك قائل: أنت لا صفة لك عندي ربما خاصمته دهرا، لأن الفطرة مجبولة على إثبات الأوصاف الحميدة ونفي الأوصاف البغيضة، فمن العجب أن يثبتوا لأنفسهم أجود الأوصاف وينفون عن الله U الذي ليس كمثله شيء سائر أوصاف الكمال، ومن ثم لا بد من الإيمان بصفات الله جميعها، كالإيمان بوجود ذاته، فالقول في الذات كالقول في الصفات سواء بسواء ([7]) .
ثانيا: بدعة الأشعرية في إثبات بعض الصفات ورد البعض .
يجب على المسلم أيضا أن يحترز بالقاعة الرابعة من بدع الأشعرية، حيث ابتدعوا تقسيما عجيبا في صفات الله على أهوائهم، فقالوا: الوجود صفة نفسية، والقدم والبقاء والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والوحدانية صفات سلبية، والقدرة والإرادة والعلم والحياة والكلام والسمع والبصر صفات معاني أو معنوية، وبقية الصفات الواردة في القرآن والسنة خبرية تدل على التشبيه، وظاهرها غير مراد لأنه باطل قبيح لا يثبته العقل ولا يدل عليه حتى قال قائلهم كما سبق:
وكل نص أوهم التشبيه: أوِّله أو فوِّض ورم تنزيها .
قالوا لأن الصفات التي أثبتناها لا تدل على التشبيه، أما الصفات التي نفيناها تدل على التشبيه، فيقال لهم: إن العقلاء لا يقرون هذا، فالقول في الصفات كالقول في بعض، فإما أن تقولوا بالتمثيل الباطل في الذات وجميع الصفات كما فعل الممثل، وقال إرادة الله مثل إرادة المخلوق، ومحبته ورضاه وغضبه واستواءه وعلوه وسائر الصفات الخبرية مثل أوصاف المخلوق، ومعلوم أن هذا كذب على الله وقياس باطل محرم .
وإما أن تقولوا كما قال أهل التوحيد إرادة الله تليق به وإرادة المخلوق تليق به والله ليس كمثله شيء في إرادته ومحبته ورضاه وغضبه واستواءه وعلوه وسائر الصفات الثابتة في الكتاب والسنة كما هو اعتقاد أهل الحق .
أما أن يأتي صاحب المذهب الأشعري بحجج عقلية سقيمة ينفي بها ما يشاء ويثبت من صفات الله فالعقل لن يسأم من مقارعة الحجة بالحجة، فإن قال نفيت الغضب لأنه غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا لا يجوز على الخالق سبحانه وتعالى، قيل له والإرادة التي أثبتها ميل القلب إلي جلب منفعة أو دفع مضرة، وهذا لا يجوز على الخالق سبحانه وتعالى، فإن قال تلك إرادة المخلوق، أما إرادة الخالق فليست كذلك، قيل له وهذا الغضب الذي وصفته غضب المخلوق، أما غضب الخالق فليس كذلك، وهذا لازم في كل صفة أثبتها أو نفاها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام .. فلو قدر أن هذا هو حقيقة غضبنا، لم يلزم أن يكون غضب الله تعالى مثل غضبنا، كما أن حقيقة ذات الله ليست مثل ذاتنا، فليس هو مماثلا لنا، لا لذاتنا ولا لأرواحنا، وصفاته كذاته) ([8]) .
وقال أيضا: (فإن قالوا: الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام والوجه هو ذو الأنف والشفتين واللسان والخد أو نحو ذلك، قيل لهم: إن كنتم تريدون غضب العبد ووجه العبد فوزانه أن يقال لكم: ولا يعقل بصر إلا ما كان بشحمة ولا سمع إلا ما كان بصماخ، ولا كلاما إلا ما كان بشفتين ولسان، ولا إرادة إلا ما كان لاجتلاب منفعة أو استدفاع مضرة، وأنتم تثبتون للرب السمع والبصر والكلام والإرادة على خلاف صفات العبد، فان كان ما تثبتونه مماثلا لصفات العبد لزمكم التمثيل في الجميع، وإن كنتم تثبتونه على الوجه اللائق بجلال الله تعالى من غير مماثلة بصفات المخلوقات فاثبتوا الجميع على هذا الوجه المحدود، ولا فرق بين صفة وصفة فان ما نفيتموه من الصفات يلزمكم فيه نظير ما أثبتموه، فإما أن تعطلوا الجميع وهو ممتنع، وإما أن تمثلوه بالمخلوقات وهو ممتنع، وإما أن تثبتوا الجميع على وجه يختص به لا يماثله فيه غيره، وحينئذ فلا فرق بين صفة وصفة، فالفرق بينهما بإثبات أحدهما ونفى الآخر فرارا من التشبيه والتجسيم، قول باطل يتضمن الفرق بين المتماثلين والتناقض في المقالتين) ([9]) .
· أسلم الضوابط الشمولية التي وضعت لتوضيح اعتقاد السلف .
إن من أسلم الضوابط الشمولية التي وضعت لتوضيح اعتقاد السلف الصالح في توحيد الصفات هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلي الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق وأفصحهم في البيان والدلالة والارشاد، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله) ([10]) .
فجاءت هذه الكلمات معبرة عما دلت عليه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في هذا الباب بمجموعها، منبها على مواطن الإنحراف وتسلسله من أعلاه إلي أدناه في عبارة بليغة موجزة، ونحن لو تأملنا المحذورات في هذا الشكل المرفق لظهر لنا مدى الدقة في التعبير عن المنهج السلفي، وكيف أخطأ من ضل عن طريقهم من المخالفين حيث توهموا في بعض الصفات أو كثير منها أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين ثم يريدون أن ينفى ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل .
الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله، حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل يبقى وقد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى .
الثالث: أنه ينفى تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم فيكون معطلا لما يستحقه الرب .
الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في كلام الله وفى الله بين التعطيل والتمثيل فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته ([11]) .
فهذا الضابط الذي وضعه شيخ الإسلام من أسلم الضوابط في توحيد الصفات لأنه اشتمل على قواعد مذهب السلف الصالح، وحذر من التمثيل والتكييف والتعطيل والتحريف والتفويض، بحيث تكشف أنواع التدرج في الضلال والانحراف الذي وقع فيه المخالفون من الخلف، أعلاها وأشرها وأقبحها هو التأويل الباطل الذي سماه شيخ الإسلام بالتحريف، ولذلك بدأ به جملة المحذورات لأنه مبني على التعطيل، والتعطيل سببه التكييف، والتكييف مرده إلى التمثيل، ثم نبه بعد ذلك على الحذر من تفويض معاني النصوص، والنظر إليها على أنها كاللغة الأعجمية والألغاز والأحاجي، وأن ذلك مخالف لمذهب السلف، وبين أيضا شمولية هذا المنهج لكل ما ثبت عن رسول الله في باب الأسماء والصفات، فمن أراد النجاة فعليه إتباع من سلف وترك ما أحدثه الخلف .
وصلي اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام 1/65 (38) .
(2) البخاري في فضائل الصحابة، باب إتيان اليهود النبي Sحين قدم المدينة 3/1435 (3729) .
(3) درء تعارض العقل والنقل 1/8 .
(4) الرسالة التدمرية ضمن مجموع الفتاوى 3/25 .
(5) السابق 3/25 .
(6) أخرجه البخاري في الشروط، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا 6/2691 (6957)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها 4/2063 (2677) .
(7) انظر المزيد عن هذا الموضوع في المسألة المصرية في القرآن ضمن مجموع الفتاوى 12/183، وبيان تلبيس الجهمية 1/516، ودرء تعارض العقل والنقل 5/19، 34.
(8) الرسالة الأكملية ضمن مجموع الفتاوى 6/ 119، والرسالة التدمرية 3/17 .
(9) رسالة في مسألة تأويل الصفات ضمن مجموع الفتاوى 6/46 .
(10) الأربلية ضمن مجموع االفتاوي 5/195، والعقيدة الأصفهانية 2/25، والعقيدة الواسطية 3/130 والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/250، والكيلانية 12/446، وقاعدة في الكلام علي المرشدة لابن تيمية 11/480 .
(11) الرسالة التدمرية ضمن مجموع الفتاوى 3/48 .
http://www.alridwany.com/sound/dora/lecture_14.html
تعليق