الزميل العراب وفقه الله ..

أضيف إلى ما ذكره أخي "عبد الله" أمورًا قد تفيد ..

يساعدك على التحقق أمور عديدة بفضل الله .. لكن قبل ذلك أؤكد على أن التواتر القرآني موجود قبل الجمع العثماني ..
أما هذه الأمور العديدة فمنها ما ذكره لك أخونا "عبد الله" من حفظ المسلمين لهذا القرآن مشافهة بالأعداد الكبيرة في كل جيل ، ومن دعامات هذا الحفظ ما ذكره أخونا من أسانيد حفاظنا ، وهي مجرد أمثلة وإلا فالتواتر أعظم من هذا بكثير ..

ومنها ما ذكره أخونا "عبد الله" من وحدة النص القرآني لدى المسلمين ، إذ يلزم عن هذه الوحدة في النتيجة : الوحدة في الأصل .. واعتبر بحال أسفار أهل الكتاب : لما اختلفت أصولهم اختلفت نسخهم الآن.

ومنها : شهادة أعداء الإسلام .. فأعداء الإسلام في قرونه الأولى - من يهود ونصارى وملاحدة - لم يطعنوا في التواتر القرآني قط .. خذ مثلاً "يوحنا الدمشقي" ومؤلفاته في مهاجمة الإسلام وكتابه ونبيه معروفة وقد وصل إلينا منها ما وصل .. ومع هذا لا تجد فيها طعنـًا واحدًا في التواتر القرآني ، وقد كان "يوحنا" في بلاط الأمويين أي في عهد مبكر يمكنه من اكتشاف الكثير مما قد يغيب عن القرون المتأخرة ، ومع هذا لم يطعن قط في التواتر القرآني.
والمستشرقون - على ما فيهم من تعصب ضد الإسلام - جمهورهم لم يسعه إلا الإقرار بأن قرآن المسلمين اليوم هو ما جمعه عثمان بالفعل .


لكننا نمتلك ما يغنينا عن هذه المخطوطة .. نمتلك مخطوطات كثيرة منسوخة عن المخطوطات الأولى ..
والأهم من هذا أننا نمتلك ما هو أقوى من هذه المخطوطات .. نمتلك آلاف الحفاظ في كل زمان ومكان .. على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وعقائدهم وميولهم .. مما يمنع تواطئهم على اختلاق نص موحد كالنص القرآني.
وعلى ما في صدور هؤلاء الحفاظ نضبط المخطوطات .. جرب بنفسك أن تخطئ في القرآن أمام بعض صبياننا ممن يحفظون القرآن ، وستجد أن الصبي يردك إلى الصواب دون الحاجة إلى مراجعة المصحف المخطوط ..
ومن حفاظنا من يحفظون رسم القرآن بحروفه وما دخل عليه من تشكيل ونقط .. الواحد منهم لديه القدرة لكتابة المصحف الشريف كاملاً من ذاكرته ..
باختصار : عندنا نسخ حية من القرآن بالآلاف المؤلفة على مر الزمان وتباعد المكان ..


هكذا اقتضت سنة الله في خلقه .. جميع النسخ المكتوبة من أي كتاب تبلى .. هذا حال جميع الكتب وليس القرآن وحده .. لكن يعلو كعب القرآن بتوافر المخطوطات الكثيرة عن نسخه القديمة كما قلت ، ثم - وهذا هو الأهم - بتوافر آلاف النسخ الحية الشفاهية على مر الزمان والمكان .


لا يؤثر هذا بمجرده على التواتر القرآني .. لأن هذا التنقيط شهده آلاف من حفظة القرآن من مختلف المشارب والمذاهب والميول العقائدية والسياسية والفقهية .. وموافقتهم على هذا التنقيط ضمان صحته لو تأملت .

وأكثر هؤلاء الحفظة كانوا أساطين العربية وأقحاحها .. بل الذين تولوا هذه المهمة هم أنفسهم من أساطين العربية وأقحاحها ..

وكان من هؤلاء الحفظة أيضـًا : الصحابة رضي الله عنهم ، والتابعون لهم بإحسان ، ممن عرفوا بالعصبية والانتصار لهذا الدين وكتابه ولو من آبائهم وأبنائهم ، وبالتضحية في سبيل هذا بكل مرتخص وغال .. فما كانوا ليسمحوا بمخالفة واحدة في هذا التنقيط بافتراض حصولها ..

وكان هذا التنقيط أيضـًا في زمان عز للدولة الإسلامية .. فقد تركها نبيها في عز لا كالنصارى أذلاء مشردين .. فما كان يمنع المسلمين الأوائل شيء من حفظ كتابهم عمدة دينهم وسر تميزهم والذي رفع ذكرهم في العالمين ..

فحصول هذا التنقيط في ذلك الزمان وأمام أولئك الحفظة العلماء الأنصار ، فيه ضمانات عدة لعدم المخالفة .. بل إن اتفاق المسلمين على صحة هذا التنقيط لهو دليل قاطع على وحدة النص الأصلي .. واعتبر هنا بحال أسفار أهل الكتاب ..
ألا ترى أنهم لما لم يملكوا إلا مخطوطات مهترأة لم تضبط على الحفاظ ولم تحفظ أسانيدها .. ألا ترى أنهم حاروا في قراءتها واختلفت نسخهم ؟!


وما الإشكال ؟! .. اعتبر هنا بالنسخ في قدر الله وكونه، ليسهل عليك تقبل النسخ في شرع الله وأحكامه ..
ألا ترى أن الله يقدر المرض لك ، فإذا أخذت الدواء "نسخ" الله مرضك وأبدلك خيرًا منه عافية وصحة ؟! ..

وانظر إلى الكون حواليك تجد النسخ في كل وقت وحين .. لأن الله لا يعجزه شيء في قدره .. فالله أيضـًا لا يعجزه شيء في شرعه .. ولذلك قال تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (البقرة 106)

والله قد يحجب المطر لحكمة .. ثم ينزله لحكمة .. فالحكمة قد تتبدل تبعـًا للأحوال والأزمان .. والله يعلم سلفـًا ما سيكون ..

وأما أن الله يعلق فعلاً أو حكمـًا على شيء يصدر من البشر أو اختلاف أحوالهم ، فهذا ليس فيه إشكال .. ألا ترى أن الله علق تقديره الجنة لك على إيمانك وعملك الصالح ؟!

وهذا المثال - دخول الجنة - هو في القسم الثالث من أفعال الله : الجزائي ..

فالله لا يعجزه شيء .. لا في قدره .. ولا في تشريعه .. ولا في جزائه .. فأين الإشكال في أن ينسخ الله ما يشاء ؟!