أدخل للتو فى الموضوع وأتناول أول ما أتناول موضوع نجلاء الإمام والآية الخامسة من سورة "التوبة".
ترى ما حكاية تلك الآية؟ وما صلتها بتلك المرأة؟ تعالوا لنرى معا. تقول الآية المذكورة: "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"،
وهى الآية التى شاهدتُ، فى مقطع على المشباك مأخوذ من لقاء بإحدى القنوات التلفازية، نجلاء الإمام المتنصرة فى الآونة الأخيرة ترفعها فى وجه الدكتور سالم عبد الجليل وكيل وزارة الاوقاف لشؤون الدعوة، تتحداه بها على اعتبار أن فيها ما يخجل الإسلام والمسلمين.
فتحداها الشيخ الكريم أن تقرأ الآية قراءة صحيحة من المصحف الذى كان تحمله فى يدها وكانت تلوّح به فى وجهه على سبيل التحدى. وقد أراد الشيخ الجليل، من خلال هذا التحدى المضادّ، أن يقول لها إنك لست صاحبة هذه الشبهة، فأنت لا تفهمين القرآن ولا تقرئينه، ولا تعرفين كيف تنطقين الآية مجرد نطق دون أن تخطئى فيها أخطاء لا تليق.
وهنا وجدت نجلاء الإمام ترتبك ولا تجيب على تحدى الشيخ إلا بالامتناع عن قراءة الآية بعدما كانت تمسك بالمصحف وتلوح به فى وجه الشيخ ووجوه المشاهدين متحدية كالنمرة الشرسة. والعجيب أن اللقطة التى يبثها الموقع النصرانى مدعيا أنها دليل على أن علماء المسلمين يهربون من المواجهة بعدما انتشر التنوير وأصبح المسلم والمسلمة يستطيعان معرفة الحقيقة التى كانت مغيبة عنهما قبل ذلك قرونا، فلم يعودا ينصاعان لكلام المشايخ وصارا قادريْن على الحكم الصحيح على النصرانية والإسلام وتفضيل الأخيرة بطبيعة الحال،
هذه اللقطة ترينا على العكس من ذلك أن نجلاء الإمام هى التى نكصت وتقهقرت. ورغم أن اللقطة القصيرة التى بثها الموقع المذكور لم تقل لنا ماذا كانت نجلاء تريد قوله للشيخ الكريم فإن من السهل تماما معرفة هذا الذى كانت تريد قولها طبقا لما لقنها إياه قبل حضورها إلى الأستوديو القسيس الذى كان بجانبها هو وأمثاله.
تريد نجلاء الإمام أن تقول طبقا لما لقنوها إياه إن الإسلام يقتل مخالفيه من الباب للطاق ، إلا إذ دخلوا فيه واعتنقوه خلافا لما تقتنع به ضمائرهم. ألا يقول القرآن: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد"، اللهم إلا "إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة". وهل هناك دليل أسطع من هذا وأشد برهانا على هذا الذى قالوه لها من أن دين محمد إنما يعتمد فى انتشاره على السيف؟
وهى، لو أنها كانت تفهم ونظرت إلى الآية التى عقب ذلك مباشرة لما قالت ما قالت. لكنه عمى القلب والترديد الببغائى لما يلقى إليها فتقوله كما حفّظوها إياه دون تبصر أو فهم. ونص الآية التالية هو: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)".
وواضح أن كل ما يريده الإسلام ممن يرفضونه هو أن يسمعوا دعوته، ثم فليرتكوا إلى ضمائرهم. ذلك أنهم هم الذين سوف يحاسبون على أعمالهم لا نحن، وليس لنا من ثم أى حق فى اقتحام ضمائرهم عليهم ولا إكراههم على ما لا يريدون اعتناقه حتى لو كانوا يؤمنون بصدقه فيما بينهم وبين أنفسهم ككثير ممن يؤمنون بأنه هو الدين الحق، إلا أن الخوف أو الطمع أو العناد أو العصبية تمنعهم من إعلان ما يؤمنون به. والآية صريحة الدلالة على أن من واجب المسلم إجارة المشرك عندما يأتى إليه ويستجير به، وأنه لا يجوز له اهتبال الفرصة والضغط عليه بأى وجه بغية اعتناقه للإسلام، بل يتركه لما يريد، مع حراسته فى طريق العودة إلى بلده أو على الأقل: إلى المكان الذى يأمن على نفسه فيه. فهل يعقل أن دينا يطلب من أتباعه هذا يمكن أن يفكر مجرد تفكير فى قتل مخالفيه لا لشىء إلا ليكرههم على اعتناقه؟
إذن فماذا نصنع مع الآية التى شهرتها نجلاء الإمام فى وجه الشيخ ووجوه المشاهدين؟
يستلزم الأمر أن نقرأ صدر سورة "التوبة" كله كى تتضح الصورة فى شموليتها وتُفْهَم حق فهمها، وبخاصة إذا ألممنا بالظروف التى نزل فيها ذلك النص، وهو يقول: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)".
ومن هذه الآيات يتبين لنا أن الإعلان الموجود فى النص خاص بالمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين عهود، وليس كل المشركين. ولهذا دلالته. فلو كان الأمر مبدأ إسلاميا فى قتل المخالفين ما لم يُسْلِموا لما خصص القرآن الكلام بالمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين معاهدات. ورغم هذا أيضا فلم يسارع الإسلام إلى الأمر بقتل أولئك المشركين، بل أعطاهم مهلة أربعة أشهر، وهو ما سُمِّىَ هنا بـ"الأشهر الحرم"، فليست الأشهر الحرم فى الآيات هى تلك الأشهر الأربعة التى كان العرب كلهم يلتزمون خلالها بالتوقف عن القتال، بل أربعة أشهر تبدأ بمجرد إعلان البيان الذى تتضمنه الآيات يستطيع المشركون التحرك فيها بكل حرية قبل أن يؤاخَذوا. ولو كان الأمر أمر مبدإ بإكراه غير المؤمنين بمحمد على الدخول فى دينه أو يقتلوا لما كان هناك معنى لإعطائهم تلك المهلة، إذ ما دام واجبا عليهم، شاؤُوا أم أَبَوْا، أن يعتنقوا الإسلام فخير البر عاجله. وليست هناك أى ضرورة، بل ليس هناك أى معنى، لإمهالهم هذه الشهور الأربعة. أليس كذلك؟
ثم إن الآية السابقة على الآية الخامسة تقول: "إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)".
أى أن الإسلام لا يسوى بين المشركين جميعا عاطلا مع باطل، بل يقول إن من كانت بينهم وبين المسلمين عهود فلم ينقضوها بل وَفَّوْا بها فلا بد من إتمام عهودهم إلى نهاية مدتها. ومعنى هذا بكل وضوح أن المشركين الأولين الذين حكم القرآن بقتلهم هم طائفة أخرى لم تحترم العهود بل نقضتها وخاست فيها.
والواقع أن تلك الطائفة من المشركين قد فجرت فى سلوكها تجاه المسلمين فكانوا يقتلون كل من ساقته الأقدار إلى قبضة أيديهم دون أن يرعوا فيهم إلا ولا ذمة، كما كانوا يمدون أيديهم بالتعاون إلى من ليس بينهم وبين المسلمين عهود فيعينونهم عليهم ويحاربونهم معهم غادرين على هذا النحو الخسيس بالاتفاقيات التى كانت بينهم وبين الرسول وأصحابه. فهل كان على المسلمين أن يسكتوا على هذا الغدر وتلك الخيانة؟ لقد كان الإسلام أنبل من كل ما يتوقعه الإنسان، إذ رغم كل هذه الاستفزازات التى كان يرتكبها أولئك المجرمون فإنه لم يسارع بالمناداة بمعاملتهم نفس المعاملة التى يعاملون بها المسلمين، بل أعطاهم فترة إمهال: أربعة شهور كاملة. فأى نبل هذا؟ لكن على من تتلو مزاميرك يا داود؟ إنك لتتلوها على قوم أغبياء ذوى قلوبٍ وضمائرَ غُلْفٍ.
ولقد تكرر هذا التوضيح أكثر من مرة فى تلك الآيات: "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)"، "كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)"، "لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)"، "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)"، "أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)". فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا؟ ألا إن هذا كرم بالغ لا نظير له فى أية دولة فى العالم؟ ومع هذا كله فلم يحدث أن قتل المسلمون أحدا من المشركين الذين نزلت الآية فى حقهم. بل إنه فى فتح مكة بعد ذلك بقليل عفا الرسول عن مشركيها الذين طالموا أذاقوه الأذى وأنزلوا بالمسلمين العذاب وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم.
يقول سيد قطب رحمه الله تعقيبا على تلك الآيات: "كان قد تبين من الواقع العملي مرحلة بعد مرحلة، وتجربة بعد تجربة، أنه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق البعيد المدى الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور، والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإنساني، وهو الاختلاف الذي لا بد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور، منهجين للحياة أحدهما يقوم على عبودية العباد لله وحده بلا شريك؛ والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر، وللآلهة المدعاة، وللأرباب المتفرقة. ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة؛ لأن كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى، ومتصادمة معها تماما، في مثل هذين المنهجين وفي مثل هذين النظامين. إنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة أن "لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" في مكة ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة.
ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة؛ وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد وهم من أهل الكتاب! وأن يؤلب اليهود وتؤلب قريش قبائل العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد! وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى، وهم من أهل الكتاب كذلك! لهذه الدعوة ولهذه الحركة سواء في اليمن أم في الشام أم فيما وراء اليمن ووراء الشام إلى آخر الزمان! إنها طبائع الأشياء. إنها أولا طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيدا ويستشعرها بالفطرة أصحاب المناهج الأخرى! طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين "الناس كافة" وبين حرية الاختيار الحقيقية. ثم إنها ثانيا طبيعة التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة؛ وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم! فهي حتمية لا اختيار فيها في الحقيقة لهؤلاء ولا هؤلاء!
وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن، وعلى مدى التجارب، وتتجلى في صور شتى تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة، ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى. وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف، وإلى تحركاته المستمرة، يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة. وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة، لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة... وذكر الإمام الطبري بعد استعراضه الأقوال في تفسير مطلع السورة: وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين"...".
وفى "تفسير المنار" نقرأ للشيخ رشيد رضا رضى الله عنه: " من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه، أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ذكرنا كلياتها في تفسير: (2: 3 ص190 ص228 ج 1)، وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة، ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة، كما بيناه في تفسير (2: 256 ص26 ص40 ج 3) فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه (ص) عن تبليغه للناس بالقوة؛ ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب، إلا بتأمين حليف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول (ص) حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علنا في دار الندوة، ورجحوا في آخر الأمر قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة كما تقدم في تفسير (الأنفال/ 30) "وإذ يمكر بك الذين كفروا" (ص650 ج 9). فهاجر (ص)، وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجَرهم بالمدينة المنورة أنصارا لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم.
وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع ومقتضى العرف العام في ذلك العصر. وعاهد (ص) أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون، فخانوا وغدروا، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه. كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة "الأنفال" من هذا الجزء (ص1547 1556). وقد عاهد (ص) المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل، عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة. ودخلت خزاعة في عهده (ص)، كما دخلت بنو بكر في عهد قريش، ثم عدا هؤلاء على أولئك وأعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم. فكان ذلك سبب عودة الحرب العامة معهم وفتحه (ص) لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله. ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا، وثبت بالتجربة لهم في حالي قوتهم وضعفهم أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمَن نقضهم وانتقاضهم، وكما يأتي قريبا في قوله تعالى من هذه السورة/ 7: "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله" إلى قوله في آخر آية 12: "فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أَيْمان لهم لعلهم ينتهون". أي لا عهود لهم يرعونها ويَفُون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية، فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يُدَان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه. كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب؟". هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام عليها. وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى (البقرة/ 190): "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" وقوله (الأنفال/ 61): "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" بقدر الإمكان، وإن قال الجمهور بنسخ هذه الآية بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك ".
ويرى الأستاذ محمد عِزّة دَرْوَزَة صاحب "التفسير الحديث" أن السبب فى نزول هذه الآيات هو نقض بعض المشركين لعهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الذين لم ينقضوا عهودهم، سواء كانت مؤقتة أو مؤبدة، فقد جاءت السورة بالمحافظة عليها، وأنه حتى إذا انقضت عهودهم فإنه يجوز أن تعقد معهم معاهدات جديدة، وأن هذه الآيات هي الأصل الذي يقيد عموم الآيات الأخيرة في هذه السورة. وفي ذلك يقول في شرح قوله تعالى: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين* فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم, إن الله غفور رحيم": "وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله، وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم، ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر. ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف، ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم. وتوجب قتالهم إطلاقا. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوّز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلو ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادين وبرهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأن ينقض ما كان سمى لهم من عهد وميثاق...
والآية، كما هو واضح من فحواها وسياقها، هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب بحيث يسوغ القول إن اعتبارها "آية سيف" وجعلها شاملة لكل مشرك إطلاقا تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى، وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام، مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحث على البر والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم، وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله".
وبالمناسبة فليست آيات سورة"التوبة" هى وحدها التى تناولت موضوع التفرقة بين مشركين يَفُون بما بينهم وبين المسلمين من معاهدات واتفاقيات وبين مشركين آخرين لا يؤمن جانبهم لجران الغدر والخيانة فى عروقهم ودمائهم. قال تعالى فى سورة "النساء": "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلاتَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)". لقد ميزت الآيات بشكل لا يحتمل تأويلاً ولا لَبْسًا بين من يلتزم بشروط العهد الذى بينه وبين المسلمين وبين من يشغب على العهود ويرفع السلاح على المسلمين خيانةً وغدرا يريد قتلهم والقضاء عليهم وعلى دينهم دون أن يكون قد فَرَط منهم أى شىء يمكن التعلل به فى تبرير تلك الخيانة وذلك الغدر.
تعليق