مما يثبت صدق الرسالة المحمدية هو صحة العقيدة في توحيد الإله سبحانه و تعالى، و تكامل الشريعة و القوانين في الرسالة الإسلامية، و موافقتها و قدرة هذه العقيدة و الشريعة على إصلاح أمور المؤمنين بها، و لنا في التاريخ خير شاهد على ذلك.
دور العقيدة الإسلامية في بناء الحضارة
د. علي محيي الدين القرة داغي
أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول ـ قطر
لذلك تمتاز العقيدة الإسلامية بهذه المميزات التالية:
1ـ وضوح الرؤية لكل ما يحتاج إليه الإنسان.
2ـ الطمأنينة والسكينة والقناعة من خلال الإيمان بالقضاء والقدر.
3ـ فهم الأشياء على حقيقتها.
4ـ الصبر والجرأة والشجاعة في مواجهة الشدائد وعدم الانهيار أمام المصائب مهما كانت كبيرة وعدم الطغيان والتجبر والتكبر مهما أقبلت الدنيا على الإنسان كما قال تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ) (الحديد 23)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء فشكر فكان خيرا، وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيرا له، وليس ذلك لغير المؤمن).
5ـ الإيمان بالمساواة بين البشر وتحقيق العدل والتكافل الاجتماعي، لأن ربهم واحد فهو خلقهم، من أصل واحد، وأوجب عليهم ما يحقق العدل والخير للجميع.
التصور الشامل للكون
الكون مخلوق لله تعالى وبين القرآن بعض تفاصيل هذا الخلق حيث كان دخانا، ثم ماء، ثم كان شيئا واحداً ففتقه، فقال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ) (فصلت 11) ، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوآ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ) (الأنبياء 30).
هذه المخلوقات خلقت لغاية وهدف دون عبث (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار) (آل عمران 191)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) (الأنبياء 16) ، وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ) (ص 27) ، وقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون 115).
وقد خلق الكون على تمام الإتقان والنظام ودقة التقدير وشدة الإحكام واهتداء كل شيء قال تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل 88)، وقال تعالى: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطارق 5)، وقال: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان 2)، وقال: (وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى 3)، وقوله: (أَعْطَى كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه 50).
وأن المخلوقات خلقت لنفع الإنسان قال تعالى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا) (النحل 30) فهذا التصور الشامل يساعد الإنسان على التعمير والإبداع والإنتاج، لأن العلم والمعرفة هما الأساس للإبداع، ومن جانب آخر فإن الإنسان المسلم لا يحتاج إلى أن يشغل عقله وتفكيره في عالم الغيب، لأن المعلومات حوله كافية، لذلك يسخر كل عقله وطاقاته للتعمير المادي في حين لو انشغل عقله بعالم الغيب لما استطاع أن يبدع في عالم المادة.
قانون السببية في الخلق واحترام السنن:
يقوم الخلق كله على قانون السببية فقال تعالى: (أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور 35)، (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) (الكهف 85)، وقد أقر الإسلام هذا القانون في إطار متوازن مع الإيمان بقدرة الله تعالى وإرادته دون تعارض ولا تصادم، ولذلك فرق بين التوكل والمطلوب الذي يعني الاعتماد على الله والإيمان بقدرته، ثم الأخذ بجميع الأسباب المتاحة، وبين التواكل المنبوذ الذي يعني التكاسل وإهمال الاخذ بالأسباب وبالتالي الفشل والخسران.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع تصرفاته وحركاته وفتوحاته يعتمد على جميع الأسباب المتاحة بعد التوكل على الله تعالى حيث لم يهمل أي سبب متاح، ففي هجرته خرج بشكل اعتمد فيه على كل وسائل الإخفاء عن قريش بما لا يدع أي مجال للشك في أن الأخذ بالأسباب مطلوب حتى للأنبياء، وكذلك في غزوة بدر حتى استفاد من الشمس حيث جعلها خلفه حتى تطلع متجهة نحو عيون المشركين، وقد لبس في غزوة أحد درعين وتعويدا للاخذ بالأسباب، حيث كانت سيرته العطرة تجسيدًا لهذا التوازن الرائع بين الإيمان بالله والتوكل عليه وبين الأخذ بالأسباب المشروعة المتاحة.
بل إن القرآن الكريم إضافة إلى أمره الأخذ بالأسباب وإعداد القوة ما استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فإنه قد حدد النسبة في البداية بواحد من المسلمين إلى عشرة من المشركين، ثم خفف إلى واحد إلى اثنين فقال تعالى: (الآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئِتَيْنِ) (الأنفال 66) ولم يكلف بأكثر من ذلك، مما يدل على أهمية الكثرة والعدد بجانب القوة المعنوية.
وهذه العقيدة القائمة على الأخذ بالأسباب جعلت المسلمين يبذلون كل جهودهم لتحقيق أسباب القوة والحضارة والتمكين غير معتمدين على الخيال والخرافات، وحتى الكرامات والمعجزات التي إن أتت فهي بفضل الله تعالى، فلم يدخل المسلمون على مر تاريخهم في أية معركة عسكرية أو حضارية معتمدين على المعجزات والكرامات فقط، بل اعتمدوا على الله تعالى ثم على جميع الأسباب الممكنة، ولذلك أراد الله تعالى أن يشهد صحب الرسول صلى الله عليه وسلم هزيمة عسكرية في معركة أحد، حينما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر الذي كان يتعلق أيضًا بالأخذ بالأسباب، حيث أمر الرماة أن لا ينزلوا من فوق جبل عينين، لكنهم نزلوا فحدثت المصيبة، فقال تعالى: (أَوَلَمَّآ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) (آل عمران 165).
ومن هنا استطاع المسلمون أن يحققوا حضارة رائعة خلال أقل من قرنين شهد بتقدمها والابتكارات فيها المنصفون.
قيمة البقاء والفناء
ويعلم المؤمن أنه خالد بروحه وأعماله وإن بليت الأجساد، وأن الدينا مزرعة الآخرة، وأنه يجب عليه أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ولآخرته كأنه يموت غدًا، وبذلك يوازن بين دنياه وآخرته كما أنه يؤمن بأنه لن ينفعه في الآخرة إلا الأعمال الصالحات الباقيات والصدقات الجاريات، ولذلك لن يترك الدنيا إلا وقد ترك أثارًا طبية تبقى بعده من العلم والعمارة لتشهد له في الدنيا والآخرة اقتداء بإبراهيم عليه السلام قدوة الأنبياء حيث دعا ربه فقال: (وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الآخِرِينَ) (الشعراء 84)، أي ذكرا حسناً، وفقني لأن أترك آثاراً نافعة طيبة يراها الناس من بعدي فيذكروني بالخير حيث بنى الكعبة المشرفة، والمسجد الأقصى فيذكره جميع المؤمنين.
نظرة الإسلام إلى الحضارات
ينظر الإسلام إلى أن الحضارات جميعها تراث إنساني فيه عناصر الخير والشر، والبناء الهدم، والنفع والضرر، وفيه الحسنات والسيئات.
وأن الامة الإسلامية ليست مسؤولة عما جرى لهذه الحضارات الماضية: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (البقرة 134) وإنما الأمة الإسلامية مطالبة بأن تأخذ منها ما هو صالح ونافع وتضيف إليه ما تستطيع إضافته ليكون لها دور وريادة وقدرة على البناء والتمكين.
فالمسلمون مطالبون بأن يأخذوا كل ما هو أحسن من القول والفعل والتراث والعلم، والحضارة (فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها).
وكرر القرآن الكريم (الحكمة) عشرين مرة، فجعل تعليم الحكمة من أهم وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة 2)، وقال تعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة 269)، وجعل تعليم الحكمة من أكبر النعم على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء 113).
وأمر الله تعالى رسوله، والدعاة أن تكون دعوتهم قائمة على الحكمة فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل 125) قد ربط الله تعالى بين الحكمة وبقاء الملك وشد احكامه وقوته وتطويره فقال تعالى في حق داود عليه السلام: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص 20)، بل إن الله تعالى جعل الحكيم من أسمائه وصفاته، وكرر القرآن الكريم هذا الاسم أكثر من مائة مرة.
ومن هذا المنطلق بذل المسلمون جهودًا كبيرة وأموالا طائلة في ترجمة التراث الإغريقي واليوناني والفارسي والهندي إلى اللغة العربية، حتى يحكي أن المأمون كان يوزن المخطوطة بالذهب، فيدفع في سبيلها ووزنها ذهبا، وكان الخلفاء والأمراء يتباهون بكثرة الكتب في مكتباتهم، حتى إن خزانة الكتب بمصر كانت تحوي كتب يزدجرد (ملك الفرس) وأن مكتبة الخليفة عزيز (بمصر عام 386هـ ـ 996م) تحتوي على ستمائة ألف كتاب، وأن الحكم صاحب الأندلس يتكون فهرس مكتبته من أربعة وأربعين جزءا، وأن فهرس كتب الصاحب بن عباد (ت 384 ـ 994م) يقع في عشرة مجلدات ضخام؟، ولم يكن بها إلا أسماء الكتب فقط دون أي تعليق، ويقارن الأستاذ آدم متر هذه الكثرة بقلة الكتب في كنائس الغرب قائلاً: (ولنذكر ما كان في بعض خزائن الكتب في الغرب على سبيل المقارنة: كانت في مكتبة الكانذرائية بمدينة كنستانز في القرن التاسع الميلادي ثلاثمائة وستة وخمسون كتابا، وفي مكتبة دير البندكتيين عام 1032م ما يزيد على المائة بقليل، وفي خزانة كتب الكانذرائية في مدينة بامبرج سنة 1130م ستة وتسعون كتابًا فقط).
وقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يستفيدوا من حضارات الأمم السابقة، وتأريخهم، وما تركوه، وما آلوا إليه من نتائج، ولذلك ذكر الله تعالى في القرآن الكريم قصصا كثيرة للأمم والشعوب، ثم أمر المسلمين بالعبرة ولاتعاظ وأخذ الدروس والفوائد من كل ما فعلوه (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى الأَلْبَابِ) (يوسف111)، بل أمر الله تعالى بالسير في الأرض للنظر في آثار هؤلاء الأقوام فقال تعالى (قُلْ سِيرُواْ فِى الأَرْضِ فَانظُرُواْ..)(النمل 69).
هذا وقد سجل القرآن الكريم كلمات خالدة لأناس حتى ولو لم يكونوا مسلمين، أو مؤمنين بالله تعالى فسجل القرآن الكريم كلمة امرأة عزيز مصر: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى) (يوسف 53). وقول ملكة سبأ (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوآ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل 34).
والإسلام لا يكتفي بمجرد الأخذ وإنما بالاتقان والتطوير بناء على أن التوقف هو عين التأخر تنفيذًا لقوله تعالى: (لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (المدثر 37) ولم يقل (أو يتوقف) لأن التوقف هو عين التأخر.
يضاف إلى ذلك أن الإسلام لا يكتفي بالحسن. بل لابد من الأحسن في كل شيء، الأخذ بأحسن ما يسمع (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر 17، 18)، والجدال بالأحسن (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) (النحل 125)، والعمل الأحسن (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك 2)، والجزاء بالأحسن (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل 97)، والقول الأحسن (وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) (الإسراء 53)، والدفع بالتي هي أحسن (ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) (فصلت 34)، ووجوب اتباع الأحسن (وَاتَّبِعُوآ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) (الزمر 55)، ووجوب الأخذ بالأحسن (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف 145).
ومن المعلوم في اللغة العربية أن (أحسن) صيغة تفضيل أي أفضل أنواعه، وأن هذه الصيغة لا تعني الوقف عند حد معين، فما هو الأحسن اليوم قد لا يكون كذلك غداً، لذلك يجب متابعة الأحسن دائمًا، بأن تكون هذه الأمة على أحسن حال في جميع الأمور وهذا يعني أن هذه الأمة لا ينبغي لها إلا أن تكون في مقدمة الأمم والأقوام في كل مجالات الحياة، والإنتاج والإبداع، والخدمات...
والإسلام يؤمن بسياسة التوريث بأن تقوم هذه الأمة بتوريث كل ما عندها إلى الأجيال اللاحقة، كما أنه يفرض على أتباعه أن يجعلوا العلوم بجميع أنواعها للجميع، وأن لا يمنعوه عن أحد كما ورد بذلك أحاديث كثيرة.
وفي الأخير فإن الإسلام ضد الإفساد، ومع الإصلاح فحرم كل العوامل التي تؤدي إلى هدم الحضارات وأوجب الإصلاح، وهذا شعار الأنبياء (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود 88).
دور الحضارة الإسلامية في الحضارات اللاحقة
لقد أوضح الفيلسوف المعروف جارودي دور الحضارة الإسلامية في الحضارات اللاحقة فذكر أنه عندما رحل الراهب الفرنسي (جربير) للدراسة في جامعة قرطبة قفل راجعًا وقد بلغ من العلم مبلغا صار يتهم بأنه قد فاق الشيطان، ثم أصبح بعدئذ البابا باسم (سلفستر الثاني) وان الحضارة الغربية تدين للعلوم الإسلامية في مجالات الطب والحساب والجبر، والبصريات، والفلسفة، والمنطق، وغيرها، فقد كانت الجامعات الأوروبية في فرنسا وبريطانيا تدرس كتب الرازي، وابن رشد، وابن الهيثم، وغيرهم في القرن السادس عشر في فرنسا، ومنتصف القرن التاسع عشر في انجلترا.
ولم تقف استفادة الغرب من المسلمين عند الجانب النظري بل استفاد من المراصد والخرائط، واكتشاف الأرقام العربية، والصفر والمواد الكيماوية والصيدلة والصناعية ونحوها.
وفي مجال العلوم الإنسانية يتحدث جارودي عن ابن خلدون بأنه مخترع مفهوم علمي عن التأريخ وعن علم الاجتماع، وأن هذه الشخصية لا يمكن أن تظهر من الفراغ، بل تدل على نمو الفكر الإسلامي في عصره في مجال العلوم الاجتماعية.
ويذكر جارودي أن العلوم تجمدت في أوروبا، لأن الكنسية أبدت ريبة تجاه الطبيعة زاعمة أنها تبعد عن الإله، وهكذا استمرت تجارب العلوم عبر تأريخها، بينما انطلق العلم في الإسلام من مبدأ الوحدانية حيث لا مجال للتفريق بين الطبيعة وعلم الكلام والفلسفة والفنون المختلفة، وبين رسالة المسجد والمدرسة، وكانت جامعات القرويين بفاس، والزيتونة بتونس، والأزهر بالقاهرة، وسمرقند، وقرطبة، معالم إشعاع ليست للعالم الإسلامي بل لأوروبا التي تأثرت بها وأسست كليات الطب في سالونيا بايطاليا، ومومباليه بفرنسا على غرار كليات الطب الإسلامية.
وفي مجال الرياضيات كانت مساهمة المسلمين عظيمة في نهضةأورووبا وساعدت على تطوير الحساب والجبر، ولا أدل على ذلك من الأعداد التالية (4444) تكتب على هذا النحو (F I L K S S S M M M M) وكان من الصعوبة بمكان إجراء أية عملية حسابية أو جبرية مع هذه الرموز.
ولم يكن حظ علم الاجتماع أقل شأنا من بقية العلوم، فكان لابن خلدون دور كبير في بلورة الأسس العلمية له، كما تفوق علماء المسلمين على علماء الفلك اليونانيين سواء في مجال الملاحظة أو القياسات. كما عملوا على تطوير الجغرافيا والرياضايات.
تعليق