يدندن الكثير من "المسيحيين" بأن هناك لغة مختلفة، كان المصريون يتحدثون بها قبل الفتح الإسلامي لمصر، وقالوا: إنها اللغة القبطية، وإنها كانت سائدة في مصر القديمة.
ويقولون أيضًا: "إن هذه اللغة ما زالت تُستخدم حتى الآن في بعض الكنائس "المسيحية" .
وادَّعوا أن شعب مصر إنما تحول بأكمله في جميع المدن والقرى للتحدث باللغة العربية بدلاً عن القبطية؛ نتيجة للاضطهاد الذي مُورِس بطرق شتى، ما أدَّى لاندثار تلك اللغة القبطية.
وهو أمر في منتهى الغرابة؛ إذ أن "المسيحية" التي دخلت مصر بعد منتصف القرن الأول الميلادي لم تكتب إنجيلاً واحدًا معترفًا به باللغة القبطية.
ومن الجدير بالذكر، أن القديس مرقص، وهو كاتب الإنجيل الثاني، وهو الذي بشَّر بـ "المسيحية" في مصر، وأنشأ بها كنيسة في الإسكندرية ومدرسة للاهوت، لم يكتب إنجيله بالقبطية، وإنما كتبه باليونانية، هذا مع ما يذكر من أنه ألفه في مصر على وجه الاحتمال؛ إما في بابليون وإما في الإسكندرية.
وعلى أي حال، فلا تعرف ترجمة لهذا الإنجيل ولا لغيره من الأناجيل للغة القبطية، بالرغم من انتشار "المسيحية" بمصر على مدار ستة قرون على حد أقوالهم ودعاويهم العريضة.
حتى أن ما تم اكتشافه مؤخرًا من بعض الترجمات باللغة القبطية فيما عُرف بمخطوطات نجع حمادي، إنما هي تصنف لدى "المسيحيين" اليوم ضمن الكتب المحرفة ـ غير معترف بها ـ ويطلقون عليها (الأبوكريفا).
وينسبونها إلي الفرق الغنوصية، وهي فرقة كانت تنكر صلب المسيح وقصة خيانة يهوذا له، فيا ترى أية "مسيحية" كان يؤمن بها الشعب المصري القبطي؟!
بل إن الباحث في أسماء آباء الكنيسة المصرية يجد أغلبيتها أسماء يونانية فمثلاً ( كرنذوس، أوريجينوس، ألكسندروس، ديمتريوس، ......إلخ).
وهذا يدل على أن المؤمنين بـ "المسيحية" لم يكن أغلبهم من المصريين، وإلا فأين الأسماء المصرية التي برعت في الخدمة لما لا نجد لها كبير ذكر؟!!
أو أن المصريين كانوا على مذهب "مسيحي" خلاف المذهب التثليثي لـ"المسيحيين" الرومان، مع إنكارهم للصلب، كما تدل عليه مكتبة نجع حمادي؛ فلذا كانوا خاملي الذكر؛ نتيجة أن الجاليات الرومانية كانت أعلى شأنًا من عامة الشعب المصري، بالرغم من انتساب الفريقين لـ"لمسيحية".
وإما أن أسماء الشعب المصري قد صارت يونانية، وتلك هي قمة الذوبان للهوية وبخاصة الهوية اللغوية.
فأين تلك اللغة التي تم اضطهادها؟ فهل يقصدون اليونانية؟!!
حقيقة اللغة المصرية
اللغة: هي مجموعة النغمات الصوتية التي يتلفظ بها قوم ما للتعبير عن أغراضهم المختلفة، ولا يُعرف بشر قد خلو من لغة ما للتعارف فيما بينهم. وما يدل على تلك النغمات الصوتية من خطوط هي اللغة المكتوبة.
ومن المعروف أن اللغة المصرية القديمة كانت تكتب بطريقة تصورية لا أبجدية.
وكانت تكتب بثلاث صور هي: الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية، أو أن هذه الهيئات هي أدوار ثلاثة لكتابة اللغة في مراحل مختلفة.
وأما اتجاه الكتابة فكان من اليمين للشمال، وإن سلمنا لنظرية شمبليون فإنها كانت تكتب من اليمين للشمال والعكس من الشمال لليمين ومن أعلى لأسفل.
حقيقة اللغة القبطية
أما ما يسمى باللغة القبطية فتكتب بالأبجدية اليونانية، وتكتب من الشمال لليمين فقط.
وهي في حقيقة الأمر كانت محاولة من الرومان لكتابة اللهجة المصرية ـ النغمات الصوتية المصرية ـ بأبجديتهم اليونانية؛ لزيادة التقريب بينهم وبين المصريين.
ولما كانت الأبجدية اليونانية لا تملك التعبير عن جميع النغمات الصوتية المصرية استعاروا بعض الحروف من اللغة المصرية.
وبالرغم من ذلك، فقد ظلت بعض النغمات المصرية لا يوجد ما يعبر عنها في اللغة الجديدة، كالنغمات التي تخرج من وسط الحلق؛ فكلمة مثل "محب" وهو لفظ مصري قديم، مازال الكثير من "المسيحيين" يسمون به أبنائهم، لو كتب بالقبطية ثم تم النطق به لصارت صوت الحاء فيه هاء، وقِسْ على ذلك كلمات (حابي، حورس، واح وتعني واحة ،.....إلخ). فالقبطية لم تكن في بداية نشأتها لغة، ولكنها خط أو كتابة استخدمت للتعبير عن النغمات الصوتية المصرية.
يذكر الدكتور بولس عياد، الأستاذ في قسم دراسة المجتمعات البشرية بجامعة كلورادو: أن اللغة القبطية كانت نَسْخًا مختزلاً للهجتين رئيستين من لهجات الشعب المصري القديم مكتوبًا بالأبجدية اليونانية.
وكان أشد ما في الأمر، أن الوليد الجديد لم يعجز عن التعبير عن اللغة المصرية وحسب، بل فرض فيها كلماته اليونانية واصطلاحاتها.
يقول أنطوان ذكري، في كتابه مفتـاح اللغـة المصريـة القديمـة (ص124) : "اندمج كثير من الكلمات اليونانية في اللغة القبطية؛ لأن أغلب الكتب القبطية ترجمت من اليونانية، فكان من السهل عليهم نقل الكلمـات اليونانية إلى لغتهم، كما سهل عليهم في بدء الأمر نقل الأبجدية اليونانية، ولم يجد الأقباط في لغتهم الأصلية كثيرًا من الاصطلاحات للتعبير بها عن الأفكار الجديدة التي أدخلتها "المسيحية" في عقائدهم. وكانت اللغة اليونانية منتشرة انتشارًا كبيرًا في أرض مصر في بداية ظهور الديانة "المسيحية" . ويعبر الأقباط للآن في بعض طقوسهم الدينية باللغة اليونانية".
وبذلك أضحت اللغة القبطية خليط من اللغة اليونانية المتداولة بين الجالية اليونانية في مصر وبعض المصريين المختلطين بهم.
ويقول المؤرخ الأثري، جونسون في كتابه (النظام المنطوق للغة الديموطيقية): "لم تكن اللغة القبطية نقلاً أو نَسخًا للكتابات الديموطيقية بأبجدية يونانية، ولكنها كانت نسخًا مختزلاً لبعض ما ينطقه المصريون من لهجات مختلفة تأثرت كثيرًا بلهجات ولغات أجنبية، انتقلت إليهم عبر التاريخ الاستعماري الطويل ونتيجة لاختلاطهم المتكرر بموجات الهجرة السامية المختلفة".
يؤكد ذلك ما ذكره المؤرخ سليم حسن في موسوعة مصر القديمة (1/126) أن: الأب النصراني اليسوعي "كرشر" عندما ظن في أواسط القرن السابع عشر أن اللغة القبطية التي تستعمل في ممارسة طقوس كنيسة مصر الأرثوذكسية، هي لغة تحفظ في ثناياها اللغة المصرية القديمة ولكنها تُكتب بحروف يونانية، وأخذ يقوم ـ بناءً على هذا الظن ـ ببحوث علمية في هذه اللغة، محاولاً أن يرجع بها إلى اللغة المصرية القديمة فلم يفلح قط! بل وتساءل عن اللغة المصرية القديمة: هل هي حروف أو أصوات أو معان؟ وكيف يمكن قراءتها؟
النشأة والأسباب
نستطع أن نجزم بأن الخط اليوناني المستخدم في كتابة اللغة المصرية والمسمى باللغة القبطية، لم يكن له وجود حتى عام 196 قبل الميلاد يدل على ذلك أن حجر رشيد، الذي كتب في ذلك الزمن نقشت عليه النصوص بالخط الهيروغليفي والديموطيقي واليوناني.
فلو كانت تلك اللغة موجودة لظهرت في ذلك الحجر، بل لما كانت هناك حاجة للكتابة بالخط الهيروغليفي والديموطيقي.
ويذهب أنطوان ذكري في كتابه (مفتـاح اللغـة المصريـة القديمـة) إلى أن ظهور القبطية كان في عام 389 م، لما حرَّم الإمبراطور ثيودوس الديانة المصرية الوثنية وأمر بغلق الهياكل.
إلا أننا نرى أن نشأة ذلك الخط كان مبكرًا عن ذلك بكثير، وربما كان في بدايات القرن الأول الميلادي، يرشد إلى ذلك أن مخطوطات نجع حمادي التي تسخر من قصة الصلب، كتبت بما اصطلح عليه بالخط القبطي ويرجح أنها دونت في وقت أقرب إلى وقت المسيح من الكتابات الأخرى.
وإن كانت أقوال "المسيحيين" تُشير إلى أن نشأة الخط القبطي بدأت في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث. فيقولون: "إن بنتينوس ـ وهو من أوائل من أداروا مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وقد تولاها عام 181م ـ عندما شعر بحاجة عامة للأقباط والكنيسة إلى ترجمة الكتاب المقدس من اللغة العبرية واليونانية إلى لغة المصريين، حتى يتداوله الأقباط في الكنائس والمنازل، وجد أنها لا تصلح لترجمة الكتاب المقدس؛ لأنها كانت خليط من الهيروغليفية والديموطيقية.
فأدخل بنتينوس الأبجدية القبطية، مستخدمًا الحروف اليونانية، مضيفًا إليها سبعة حروف من اللهجة الديموطيقية القديمة، وبهذا أمكن ترجمة الكتاب المقدس إلى القبطية تحت إشرافه".
(راجع آباء مدرسة الإسكندرية الأولون للقمص تادرس يعقوب ملطي: ص 47 وما بعدها)
فهذه إذن، وجهة نظر بنتينوس الصقلي أن لغة المصريين الذين صنعوا الحضارة وهم أصلها ومنشأها ليست أهلاً لحمل الكتاب المقدس.
وإضافة إلى ذلك، فإن بنتينوس وآباء الإسكندرية الذين كانوا في عصره كـ(أكليمنضس)؛ إما لم يكن لديهم علم بإنجيل المصريين وغيره من الكتب المدونة بالقبطية، والتي وُجدت في مكتبة نجع حمادي، وإمَّا أنهم أرادوا التبشير بين المصريين بمذهب "مسيحي" يثبت الصلب والتثليث، خلافًا لما كان عليه عامة "المسيحيين" المصريين من إنكارهما، كما تدل عليه تلك المكتبة، وكما يدل عليه ما عرف من حال المصريين في القرن الرابع الميلادي، ووقوفهم بجانب أريوس في مواجهة أثناسيوس بعد أن رفع عنهم نير الاضطهاد.
وعلى أي حال، كان الأمر فهو يكشف عن مدى الانفصام الذي كان بين الشعب المصري وآباء الإسكندرية اليونان.
وعمومًا.. فما سبق يدل على أن اللغة القبطية ـ أو بالأصح الخط القبطي ـ ظهر بين الشعب المصري كلغة دينية طائفية، لم يكن يهتم بها أحد من المصريين إلا معتنقي "المسيحية"، بغض النظر عن مذهبهم، ولم تكن لغة قومية شعبية.
يقول الدكتور بولس عياد: "إن اللغة القبطية لم تُصنع لتكون لغة واحدة منطوقة للشعب المصري القديم".
وظل الأمر على تلك الصورة حتى تولى الإمبراطور ثيودوس، الذي تعامل بالعنف مع كل شيء، ومنها مصر.
يقول أنطون ذكري، ص 120: "في سنة 389 م حرم الإمبراطور ثيودوس الديانة المصرية الوثنية وغلقت الهياكل تنفيذًا لأمره وأصبحت الديانة الأرثوذكسية هي الديانة الرسمية للحكومة، وبذلك بطلت نهائيًّا الكتابة الهيروغليفية و الديموطيقية، واقتبسوا الحروف الهجائية اليونانية وأضافوا لها سبعة حروف من اللغة المصرية بالخط الديموطيقي؛ لعدم وجود ما يماثلها لفظيًّا في الأبجدية اليونانية".
وهكذا حُوِّلت المعابد المصرية بالقوة إلى أديرة وكنائس "مسيحية"، وتمَّ إبطال الكتابة بالخط المصري القديم، فانتشرت الأمية بين المصريين قراءة وكتابة كالوباء.
فاللغة الرسمية في دواوين الدولة اليونانية نطقًا وكتابة، واللغة الدينية المسموح بها خليط من المصرية واليونانية نطقًا وكتابة، بالأبجدية اليونانية.
وإذا أضفنا لما سبق، ما تم أيضًا من تغيير لأسماء المدن، فمثلاً نجد اسم بانوبوليس بدلاً من أخميم، وهيراكليوبوليس بدلاً من أهناسيا، وهرموبوليس بدلاً من الأشمونين.
يتبن لك مدى ما تعرضت له شخصية مصر من عمليات صهر على مدار ألف عام (الفترة من 331 قبل الميلاد دخول الإسكندر المقدوني مصر وحتى 638 بعد الميلاد الفتح الإسلامي) لتذوب مصر في الهوية الرومانية.
ويتبن لك الحالة التي كانت عليها مصر إبان الفتح الإسلامي، وكيف أن مدنها عادت لتحمل أسمائها القديمة أخميم وأشمون وغيرها في ظل الإسلام، ولم يفكر المسلمون في فرض أسماء خاصة بهم مع القدرة على فعل ذلك.
كما أن المصريين مازالوا حتى يومهم هذا يتسمُّون بأسماء مصرية قديمة كـ( محب ، عزيز ، أمجد ، مينا ،....... )وغيرها.
لماذا نرفض هويتنا؟!
وبالرغم من ذلك أبَى "المسيحيون" إلا الذوبان في اليونان، فقد كانت القبطية الأولى مازالت تحمل بعض سمات اللهجة المصرية القديمة حتى جاء البابا كيرلس الرابع (1854 – 1856 م)، الذي يُسمَّى بـ"أبي الإصلاح" ليشكل لجنة برئاسة عريان باشا مفتاح لإحياء اللغة القبطية وضبط النطق، استرشادًا بالنطق اليوناني الحديث، فتم تغيير نطق الحروف القبطية حتى تتماشى مع النطق اليوناني للحروف؛ ما تسبب في تغيير نطق أغلب الكلمات القبطية وظهور حروف لم تكن موجودة من قبل، مثل حرف الثاء و شبه اختفاء حروف كانت موجودة من قبل، مثل حرف الدال، حرف الدلتا ينطق دال في أسماء الأعلام فقط و هناك كلمات قليلة جدًّا ينطق بها حرف التاء دال، ماعدا ذلك لم يعد يوجد دال في اللغة القبطية، وقد دعيت هذه اللهجة بالبحيري، وهى المستخدمة الآن في الصلوات والألحان والتسابيح الكنسية، بخلاف اللهجات الفيومية والأخميمية.
وأُطلق على طريقة النطق الجديدة اللفظ الحديث، وطريقة النطق الأصلية اللفظ القديم، وتم تدريس اللفظ الحديث في الإكليريكية، ومع مرور الوقت اختفى تقريبًا اللفظ الأصلي (القديم).
تعليق