بقلم: الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
25/ 7 / 2009
في 29 يونيو 2009 انتهى العام الذي كان البابا بنديكت الـ 16 قد خصّه، لأول مرة في التاريخ، احتفالا بمرور ألفي عام على ميلاد بولس الرسول، وفقا لما حدده المؤرخون بأنه قد وُلد فيما بين عام 7 و10م. وكان البابا قد أعلن أنه رغم تحديد مكان مقبرة بولس خارج الأسوار وحيّ النافورات الثلاث في روما للاحتفال بهذا العيد الذي امتد لمدة عام، فإنه قد أوضح أن كل الكنائس ستشترك فيه، ابتداء من طرسوس حيث وُلد بولس، والأماكن الأخرى التي تمثل أولى رحلاته للتبشير في تركيا، وكذلك في الأراضي المقدسة ومالطة حيث بشّر، موضحا: "في الواقع إن الاحتفال ببولس لا يمكن إلا أن يكون احتفالا عالميا؛ لأن بولس قد ذهب أبعد من غيره من الرسل في عمليات التبشير، خاصة أن عالم اليوم لا يزال به العديد من البشر الذين لم ينضموا بعد إلى ربنا يسوع، وهذا الاحتفال يدعو كافة المسيحيين للتبشير بالإنجيل. وإضافة إلى عملية التبشير هذه لا بد أن نربط معها فكرة توحيد الكنائس؛ لأن بولس وبطرس -تلك "الصخرة" التي أقام عليها يسوع كنيسته- يكمّل أحدهما الآخر لتكوين شعب الله الوحيد، والمسيحيون لا يمكنهم التعبير عن المسيح ما لم يكونوا متحدين". وهو ما يفسر وجود برطلوميوس الأول بطريرك القسطنطينية الأرثوذكسي برفقته في هذه الاحتفالية، كتمهيد لعملية توحيد الكنائس التي يسعى إليها البابا جاهدا. ولا غرابة في فكرة توحيد الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما التي يتمسك بتنفيذها، فذلك هو ما كان مجمع الفاتيكان الثاني قد أعلنه عام 1965 من ضمن ما قرر وأعلن، خاصة فكرة ضرورة تنصير العالم التي يشير إليها البابا بوضوح قائلا: "إن عالم اليوم لا يزال به العديد من البشر الذين لم ينضموا بعد إلى ربنا يسوع"! لذلك يجدد دعوته لكافة المسيحيين للتبشير بالإنجيل.
ومنذ أولى خطوات هذه الاحتفالية، نلحظ أنها انتقائية المغزى والهدف في كل خطواتها، فاستخدام عبارة "الصخرة" لوصف بطرس الذي تقول الأناجيل أن يسوع قد اختاره ليبني عليه كنيسته، هي آية تتناقض تماما مع وصف يسوع نفسه له، فقد كان يعتبر بطرس "قليل الإيمان وشكّاكاً" (متّى 14-31)، ومن الغريب أن تأتي بعدها آية على لسان يسوع أيضا تقول: "فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي؛ لأنك لا تهتم بما لله ولكن بما للناس" (متّى 16-23)، ومن الغريب أيضا أن يكررها يسوع قائلا: "فانتهر بطرس قائلا، اذهب عني يا شيطان؛ لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" (مرقس: 8-33). أي أن اتهام بطرس بالشيطنة وعدم اهتمامه بما لله ورد في إنجيلين مختلفين، متى ومرقس، وعبارة "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" وردت مرة واحدة، وثابت أنها آية مقحمة؛ لأن يسوع لم يبشر مطلقا بكنيسة، وإنما كل تبشيره كان بملكوت الله، وما على من لا يستوعب هذه الحقائق إلا أن يقرأ الأناجيل ليرى ما بها من تناقضات في هذه النقطة وغيرها!!
كما كان بنديكت الـ 16 يرى أن تلك الاحتفالية ستأتي بمزيد من التقارب مع اليهود موضحا: "فقد كان بولس يهوديا، حاخاماً، شديد التمسك بدينه، ثم انبهر بضوء المسيح عندما سقط على الأرض وهو في طريقه إلى دمشق. فاعتناقه عقيدة يسوع المبعوث لم تمثل بالنسبة له انفصالا عن عقيدته الأصلية أبداً، ولا مع وعد الله لإبراهيم أو العهد الذي أقامه في سيناء، فهما جزء لا يتجزأ من العهد الجديد الذي ختمه يسوع بدمه".. ولا نفهم كيف يمكن لشخص أن يؤمن بدين وبنقيضه في آن واحد!
واللافت للنظر أن بنديكت الـ 16 في هذه الجزئية يقع في أكثر من مأخذ؛ فحادثة سقوط بولس توردها الأناجيل بتناقضات واضحة، أما العلماء فيفسرونها بأنه كان مصابا بالصرع. ولم يكن بولس حاخاماً وإنما كان صانع خيام، على حد قوله، ويعمل مخبراً لدى السلطة الرومانية الحاكمة، ليَشي بالمسيحيين، ووارد بالأناجيل أنه قد تسبب في رجم إسطفانوس حتى الموت. ثم كيف يقول هذا البابا وهو أعلى سلطة كنسية في العالم إن اعتناق بولس المسيحية لم يمثل انفصالا عن عقيدته اليهودية وبولس هو الذي بتر المسيحية تماما عن أصلها اليهودي؟! وهو الذي غرس العداء ضد السامية، وكلها حقائق ثابتة في النصوص؟!
وفي الكلمة التي ألقاها عشية بدء الاحتفالية قال البابا: "إن بولس معلّم الوثنيين، وهذه العبارة تنفتح على المستقبل تجاه كل الشعوب وكل الأجيال.. بالنسبة لنا بولس ليس مجرد وجه من الماضي نحتفل به بكل تبجيل، ولكنه أيضا معلّمنا، الرسول المنادى بيسوع المسيح".. ثم يستشهد بآية لبولس قائلا: "فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية: 2-20). ويزايد البابا في ليّ النص قائلا: "إن الإدراك بأن يسوع قد جابه الموت لا من أجل أي شيء وإنما من أجل بولس، وأنه (أي يسوع) يسمو بصفته مبعوثا أنه لا يزال يحبه وضحى بنفسه من أجله"!! والغريب أن المسيح لم ير بولس، وبولس لم يره في حياته، وفقا للنصوص الإنجيلية، فكيف نفهم أن يسوع أحب بولس إلى درجة أنه ضحى بنفسه ومات من أجله؟! ويا لها من فريات يبتلعها الأتباع في صمت! أما اعتبار بولس معلماً في التبشير فهو ما يكشف الهدف الحقيقي من هذه الاحتفالية التي امتدت عاما بأكمله تضاعفت خلاله عمليات التبشير بصورة ممجوجة، لكنها على عكس ما توقع البابا، لم تأت بأي تقارب مع اليهود، فحينما ذهب لزيارة الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين والتقى بالغزاة، لم يحصل على أي رد حول الاستثناءات المالية التي كان يأمل الحصول عليها لكنائسه هناك، بل لقد أرغموه هو ورفاقه على إخفاء صلبانهم يوم 13 مايو 2009، عند زيارة حائط البراق الذي جعلوه "حائط المبكى" المزعوم.. ويا لها من مهانة أن يُجبر البابا على إخفاء صليبه وكأن شيئا لم يحدث!!
وحينما افتتح البابا بنديكت الـ 16 ذلك العام الاحتفالي، ركّز على قول بولس لتيموثاوس موضحا: "الحق أقول في المسيح ولا أكذب، معلما للأمم في الإيمان والحق" (2: 7)، وما يدعو إلى العجب أن نفس بولس هذا الذي يقول إنه يبشر بالمسيح و "لا يكذب" مكررا ذلك في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس قائلا: "الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي هو مبارك إلى الأبد يعلم أنى لستُ أكذب" (11-31)، نراه بعد ذلك يؤكد أنه كان يكذب لزيادة مجد الله، إذ يقول: "إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده، فلماذا أدان أنا بعدُ كخاطئ " (إلى أهل رومية: 3-7)، فأي رسول ذلك الذي ينفي أنه يكذب ثم يؤكد أنه كان يكذب لإضفاء مصداقية على قول الله ويكذب لمجده؟!
وما يكشف أن تلك المؤسسة الكنسية لا تزال تعيش في القرون الوسطى بغياهبها، إعلان بنديكت الـ 16 يوم 8 أكتوبر 2008 أنه سيمنح العفو والغفران التام لكل من يذهب لزيارة قبر القديس بولس، وكأنه يواصل إصدار صكوك الغفران السابقة!
ويُعد بولس الرسول من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في تاريخ المسيحية حتى الآن. فهو "القديس" الوحيد الذي أدى إلى قتل قديس آخر، وهو مخترع المسيحية الحالية، وكل سيرته قائمة على أكاذيب يصعب إثباتها تاريخيا، فادعائه أنه مواطن روماني ويهودي في الوقت نفسه لا تستقيم أساساً، وحينما تم القبض عليه، أحاطه الرومان بفريق مكون من "470 جندياً"، وهو ما لا يحدث لحماية أي فرد أياً كان، كما قام بحمايته ثلاثة من الحكام الرومان، ولا يقال شيئا عن سر عدائه للحواريين لدرجة أنه يسبهم بأحط الألفاظ، ومن الغريب أن يصر بولس على أنه رأى يسوع رؤية العين، وهو في الواقع لم يسمع إلا صوته وفقا لوصفه في حالة الهذيان التي انتابته، إلا إن كان قد تم حذف أجزاء بأسرها من أعمال الرسل والرسائل، وهو ما يؤيد رأى الذين يقولون إنه كان من ضمن الذين وشوا بيسوع. وكلها علامات استفهام تبحث عمن يجيب عليها. كما يجمع الباحثون على أنه لا يمكن الاستناد إلى أعمال الرسل أو الرسائل على أنها وثائق تاريخية؛ نظرا لكل ما بها من تضارب في الأحداث والأقوال، بل وفجوات يصعب ملء فراغاتها، كما ثبت قطعا أنه لم يكتب أغلبها! وكلها حقائق تم المرور عليها مر الكرام في كل وثائق الاحتفالية المغرضة.
لذلك يؤكد العلماء أن التعريف ببولس من خلال أعمال الرسل والرسائل يكشف عن تفاوت واضح بين المجموعتين، ففي أعمال الرسل نرى فكره شديد البعد عما في رسائله، خاصة فيما يتعلق بباقي الحواريين، وأن أعمال الرسل تتجاهل الصراعات المحتدمة بين بولس ويعقوب شقيق يسوع، وكذلك بين بولس وبطرس الذي يقول البابا "إنه مكمّل لرسالة بولس"، فالخلاف الرئيسي حول الختان معتّم عليه، لذلك يقول الباحثون إن بولس هو مؤلف المسيحية الحالية ومشرّعها، فهو الذي رتب انسلاخ الجماعة المسيحية عن اليهودية والتوراة، وهو الذي حوّل الصليب من أداة تعذيب وقتل إلى رمز للتجديد، وهو الذي غرس في المسيحية العداء للمرأة، كما أنه هو الذي رسّخ فكرة "بعث يسوع" الواردة 190 مرة في رسائله وأنها وشيكة الحدوث، لكنه لم يأت للآن.. بعد حوالي ألفي عام!!
إن أعمال الرسل والرسائل مليئة بالمتناقضات التي لا يمكن حصرها في مثل هذا الحيّز، وأولها حصول بولس على الجنسية الرومانية، وهو ما لا يتفق مع كونه يهوديا، فلا يمكن أن يتحدى آلهة الإمبراطورية ويظل رومانياً.. أو على حد قول فولتير في قاموسه الفلسفي: "إن كان من طرسوس كما يزعم فطرسوس لم تصبح مستعمرة رومانية إلا بعد مائة عام من بعده، وإن كان من جيسكالا كما يقول القديس جيروم، فجيسكالا كانت في الجليل، ومن المؤكد أن سكان الجليل لم يكونوا مواطنين روماناً".. كما تتناقض خاصة فيما يتعلق برؤية بولس لضوء يسوع وهو في طريقه إلى دمشق، فتحول من معادٍ للمسيحية وواشيا بالمسيحيين إلى المؤسس الفعلي للمسيحية الحالية! وليس من المنطقي أن يؤكد عدم يهوديته حين يُعلن: "جعلت نفسي يهوديا مع اليهود" الخ، أو: "لقد عشت بدون توراة"، وهو ما لا يمكن سماعه من شخص يهودي فعلا.
أما عبارة بولس أن "يسوع أخبره بكل شيء حول تعاليمه"، فمن الصعب تصديق مثل هذا القول، فلا يمكن أن يتم ذلك في الثواني الخاطفة التي دامها الانبهار بضوء يسوع، إن كان قد حدث؛ لذلك يبقى السؤال عالقاً بلا جواب في تلك النصوص: أين حصل بولس على تعاليمه؟ فهو لم يتحول إلى المسيحية إلا بعد أن وشى بإسطفانوس وتم قتله رجماً. ومن المؤكد أنه لم يحصل على هذه التعاليم من الأناجيل الحالية، فلم تكن قد كُتبت بعد.. كما أنه لم يلتق لوقا إلا بعد دخوله المسيحية بحوالي خمسة عشر عاما. بينما يؤكد بولس أن ما يعرفه من تعاليم لم يحصل عليها من أحد، فهل يعنى ذلك أن بولس قد اكتفى بالتأليف والأكاذيب المتراكمة، أم أنه كان يوحى إليه وبعكس ما أتى به يسوع؟!
وفى أعمال الرسل يبدو بولس وكأنه حُمّل رسالة من المجلس بقيادة يعقوب، شقيق يسوع، بأن يُبشر الأمم، ومن الملاحظ أن لوقا -كاتب أعمال الرسل فرضا- يحاول إخفاء الصراعات المريرة الدائرة بين بولس والحواريين، بينما يحكى بولس هذه الخلافات ويتهم مجلس القدس بأنهم حائكو مؤامرات ولئام ومسيحيون غاية في السوء؛ لأنهم كانوا يريدون الحفاظ على المسيحية داخل إطار اليهودية، وأنه هو الذي حررها بإلغاء الختان، الذي أراده الله عهدا أبدياً، كما قام بإلغاء الشرع اليهودي.. علما بأن يسوع هو القائل بأنه لم يأت لإلغاء الشرع وإنما أتى ليكمّل! (راجع 2 كورنثوس: 11-13 وغيرها).
ويؤكد لويجي كاتشيولي في كتابه عن بولس أن تعاليم بولس والعداء الذي غرسه ضد اليهود، والذي كانت الكنائس تكرره في صلوات كل أحد بالدعاء عليهم، هو الذي تواصل عبر القرون وأدى إلى مقتلهم في إسبانيا في القرن الرابع عشر، وإلى الخطاب البابوي عام 1411 الذي حرّم على اليهود دراسة التلمود، وإلى تنصير مائة وخمسين ألف يهودي بالإكراه في إسبانيا عام 1492 وطرد الباقين.. وظلت هذه الكراهية التي غرسها بولس حتى عام 1992، حين قام الملك خوان كارلوس بإلغاء مرسوم طرد اليهود من إسبانيا! ولن نشر هنا إلا إلى نتيجة العداء للسامية الذي غرسه بولس وعواقبه في إسبانيا، فلا يسع المجال لتناول ردود أفعال هذا العداء في كافة بلدان أوروبا، خاصة الخاضع منها للفاتيكان.. ومن الغريب أن ينقلب حال المؤسسة الكنسية بعد ألفي عام لتلغي تعاليم بولس بجرة قلم وتقوم بتبرئة اليهود من دم المسيح، رغم عشرات المرات التي راح بولس يتهمهم بأنهم قتلة الرب.. فكيف يمكن إلغاء تعاليم بولس بهذه البساطة والإصرار على الاحتفال به بل واعتباره الدعامة الأساسية للمسيحية؟!
والزعم بأن كل ما تقوم به المؤسسة الفاتيكانية لتمجيد دور بولس في تبشير الوثنيين تم بوحي من الروح القدس، لا يستقيم في الواقع ولا مع أي منطق أياً كان، فكيف يمكن للروح القدس أن يوحي في اتجاهين مختلفين في آن واحد: يوحي لبطرس ولمجلس القدس بالحفاظ على المسيحية في قلب التوراة، ويوحي لبولس في نفس ذلك الوقت بأن يُخلّص المسيحية من ارتباطها باليهودية وشرعها؟! وهو ما قام به فعلا..
لذلك يجمع المؤرخون -خاصة منذ عصر التنوير- أنه من الصعب كتابة تاريخ منطقي لحياة بولس ورحلاته بناء على أعمال الرسل والرسائل، وأنه من الصعب إغفال أن بولس قد حاد بالمسيحية بعيدا عن رسالة يسوع إلى درجة النقيض ليأتي بالمسيحية الحالية.
ونشير في نهاية هذا العرض المقتضب لاحتفالية "بولس الرسول" إلى نموذج واحد يكشف عن مصداقية هذه النصوص: يقال إن بولس قد تم القبض عليه بعد حريق روما وتم إعدامه بقطع رقبته، وهو ما يتناقض مع قول يسوع حين حدثه قائلا: "قم وقف على رجليك لأني لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادما وشاهدا بما رأيت وبما سأظهر لك به، منقذاً إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم" (أع: 26: 16-17).. ومن الواضح أن يسوع لم يتمكن من إنقاذ بولس لا من الشعب، ولا من الأمم، ولا من أن تقطع رقبته بحد السيف الذي نشر به مسيحيته!..
أستاذة الحضارة الفرنسية
25/ 7 / 2009
في 29 يونيو 2009 انتهى العام الذي كان البابا بنديكت الـ 16 قد خصّه، لأول مرة في التاريخ، احتفالا بمرور ألفي عام على ميلاد بولس الرسول، وفقا لما حدده المؤرخون بأنه قد وُلد فيما بين عام 7 و10م. وكان البابا قد أعلن أنه رغم تحديد مكان مقبرة بولس خارج الأسوار وحيّ النافورات الثلاث في روما للاحتفال بهذا العيد الذي امتد لمدة عام، فإنه قد أوضح أن كل الكنائس ستشترك فيه، ابتداء من طرسوس حيث وُلد بولس، والأماكن الأخرى التي تمثل أولى رحلاته للتبشير في تركيا، وكذلك في الأراضي المقدسة ومالطة حيث بشّر، موضحا: "في الواقع إن الاحتفال ببولس لا يمكن إلا أن يكون احتفالا عالميا؛ لأن بولس قد ذهب أبعد من غيره من الرسل في عمليات التبشير، خاصة أن عالم اليوم لا يزال به العديد من البشر الذين لم ينضموا بعد إلى ربنا يسوع، وهذا الاحتفال يدعو كافة المسيحيين للتبشير بالإنجيل. وإضافة إلى عملية التبشير هذه لا بد أن نربط معها فكرة توحيد الكنائس؛ لأن بولس وبطرس -تلك "الصخرة" التي أقام عليها يسوع كنيسته- يكمّل أحدهما الآخر لتكوين شعب الله الوحيد، والمسيحيون لا يمكنهم التعبير عن المسيح ما لم يكونوا متحدين". وهو ما يفسر وجود برطلوميوس الأول بطريرك القسطنطينية الأرثوذكسي برفقته في هذه الاحتفالية، كتمهيد لعملية توحيد الكنائس التي يسعى إليها البابا جاهدا. ولا غرابة في فكرة توحيد الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما التي يتمسك بتنفيذها، فذلك هو ما كان مجمع الفاتيكان الثاني قد أعلنه عام 1965 من ضمن ما قرر وأعلن، خاصة فكرة ضرورة تنصير العالم التي يشير إليها البابا بوضوح قائلا: "إن عالم اليوم لا يزال به العديد من البشر الذين لم ينضموا بعد إلى ربنا يسوع"! لذلك يجدد دعوته لكافة المسيحيين للتبشير بالإنجيل.
ومنذ أولى خطوات هذه الاحتفالية، نلحظ أنها انتقائية المغزى والهدف في كل خطواتها، فاستخدام عبارة "الصخرة" لوصف بطرس الذي تقول الأناجيل أن يسوع قد اختاره ليبني عليه كنيسته، هي آية تتناقض تماما مع وصف يسوع نفسه له، فقد كان يعتبر بطرس "قليل الإيمان وشكّاكاً" (متّى 14-31)، ومن الغريب أن تأتي بعدها آية على لسان يسوع أيضا تقول: "فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي؛ لأنك لا تهتم بما لله ولكن بما للناس" (متّى 16-23)، ومن الغريب أيضا أن يكررها يسوع قائلا: "فانتهر بطرس قائلا، اذهب عني يا شيطان؛ لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" (مرقس: 8-33). أي أن اتهام بطرس بالشيطنة وعدم اهتمامه بما لله ورد في إنجيلين مختلفين، متى ومرقس، وعبارة "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" وردت مرة واحدة، وثابت أنها آية مقحمة؛ لأن يسوع لم يبشر مطلقا بكنيسة، وإنما كل تبشيره كان بملكوت الله، وما على من لا يستوعب هذه الحقائق إلا أن يقرأ الأناجيل ليرى ما بها من تناقضات في هذه النقطة وغيرها!!
كما كان بنديكت الـ 16 يرى أن تلك الاحتفالية ستأتي بمزيد من التقارب مع اليهود موضحا: "فقد كان بولس يهوديا، حاخاماً، شديد التمسك بدينه، ثم انبهر بضوء المسيح عندما سقط على الأرض وهو في طريقه إلى دمشق. فاعتناقه عقيدة يسوع المبعوث لم تمثل بالنسبة له انفصالا عن عقيدته الأصلية أبداً، ولا مع وعد الله لإبراهيم أو العهد الذي أقامه في سيناء، فهما جزء لا يتجزأ من العهد الجديد الذي ختمه يسوع بدمه".. ولا نفهم كيف يمكن لشخص أن يؤمن بدين وبنقيضه في آن واحد!
واللافت للنظر أن بنديكت الـ 16 في هذه الجزئية يقع في أكثر من مأخذ؛ فحادثة سقوط بولس توردها الأناجيل بتناقضات واضحة، أما العلماء فيفسرونها بأنه كان مصابا بالصرع. ولم يكن بولس حاخاماً وإنما كان صانع خيام، على حد قوله، ويعمل مخبراً لدى السلطة الرومانية الحاكمة، ليَشي بالمسيحيين، ووارد بالأناجيل أنه قد تسبب في رجم إسطفانوس حتى الموت. ثم كيف يقول هذا البابا وهو أعلى سلطة كنسية في العالم إن اعتناق بولس المسيحية لم يمثل انفصالا عن عقيدته اليهودية وبولس هو الذي بتر المسيحية تماما عن أصلها اليهودي؟! وهو الذي غرس العداء ضد السامية، وكلها حقائق ثابتة في النصوص؟!
وفي الكلمة التي ألقاها عشية بدء الاحتفالية قال البابا: "إن بولس معلّم الوثنيين، وهذه العبارة تنفتح على المستقبل تجاه كل الشعوب وكل الأجيال.. بالنسبة لنا بولس ليس مجرد وجه من الماضي نحتفل به بكل تبجيل، ولكنه أيضا معلّمنا، الرسول المنادى بيسوع المسيح".. ثم يستشهد بآية لبولس قائلا: "فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية: 2-20). ويزايد البابا في ليّ النص قائلا: "إن الإدراك بأن يسوع قد جابه الموت لا من أجل أي شيء وإنما من أجل بولس، وأنه (أي يسوع) يسمو بصفته مبعوثا أنه لا يزال يحبه وضحى بنفسه من أجله"!! والغريب أن المسيح لم ير بولس، وبولس لم يره في حياته، وفقا للنصوص الإنجيلية، فكيف نفهم أن يسوع أحب بولس إلى درجة أنه ضحى بنفسه ومات من أجله؟! ويا لها من فريات يبتلعها الأتباع في صمت! أما اعتبار بولس معلماً في التبشير فهو ما يكشف الهدف الحقيقي من هذه الاحتفالية التي امتدت عاما بأكمله تضاعفت خلاله عمليات التبشير بصورة ممجوجة، لكنها على عكس ما توقع البابا، لم تأت بأي تقارب مع اليهود، فحينما ذهب لزيارة الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين والتقى بالغزاة، لم يحصل على أي رد حول الاستثناءات المالية التي كان يأمل الحصول عليها لكنائسه هناك، بل لقد أرغموه هو ورفاقه على إخفاء صلبانهم يوم 13 مايو 2009، عند زيارة حائط البراق الذي جعلوه "حائط المبكى" المزعوم.. ويا لها من مهانة أن يُجبر البابا على إخفاء صليبه وكأن شيئا لم يحدث!!
وحينما افتتح البابا بنديكت الـ 16 ذلك العام الاحتفالي، ركّز على قول بولس لتيموثاوس موضحا: "الحق أقول في المسيح ولا أكذب، معلما للأمم في الإيمان والحق" (2: 7)، وما يدعو إلى العجب أن نفس بولس هذا الذي يقول إنه يبشر بالمسيح و "لا يكذب" مكررا ذلك في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس قائلا: "الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي هو مبارك إلى الأبد يعلم أنى لستُ أكذب" (11-31)، نراه بعد ذلك يؤكد أنه كان يكذب لزيادة مجد الله، إذ يقول: "إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده، فلماذا أدان أنا بعدُ كخاطئ " (إلى أهل رومية: 3-7)، فأي رسول ذلك الذي ينفي أنه يكذب ثم يؤكد أنه كان يكذب لإضفاء مصداقية على قول الله ويكذب لمجده؟!
وما يكشف أن تلك المؤسسة الكنسية لا تزال تعيش في القرون الوسطى بغياهبها، إعلان بنديكت الـ 16 يوم 8 أكتوبر 2008 أنه سيمنح العفو والغفران التام لكل من يذهب لزيارة قبر القديس بولس، وكأنه يواصل إصدار صكوك الغفران السابقة!
ويُعد بولس الرسول من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في تاريخ المسيحية حتى الآن. فهو "القديس" الوحيد الذي أدى إلى قتل قديس آخر، وهو مخترع المسيحية الحالية، وكل سيرته قائمة على أكاذيب يصعب إثباتها تاريخيا، فادعائه أنه مواطن روماني ويهودي في الوقت نفسه لا تستقيم أساساً، وحينما تم القبض عليه، أحاطه الرومان بفريق مكون من "470 جندياً"، وهو ما لا يحدث لحماية أي فرد أياً كان، كما قام بحمايته ثلاثة من الحكام الرومان، ولا يقال شيئا عن سر عدائه للحواريين لدرجة أنه يسبهم بأحط الألفاظ، ومن الغريب أن يصر بولس على أنه رأى يسوع رؤية العين، وهو في الواقع لم يسمع إلا صوته وفقا لوصفه في حالة الهذيان التي انتابته، إلا إن كان قد تم حذف أجزاء بأسرها من أعمال الرسل والرسائل، وهو ما يؤيد رأى الذين يقولون إنه كان من ضمن الذين وشوا بيسوع. وكلها علامات استفهام تبحث عمن يجيب عليها. كما يجمع الباحثون على أنه لا يمكن الاستناد إلى أعمال الرسل أو الرسائل على أنها وثائق تاريخية؛ نظرا لكل ما بها من تضارب في الأحداث والأقوال، بل وفجوات يصعب ملء فراغاتها، كما ثبت قطعا أنه لم يكتب أغلبها! وكلها حقائق تم المرور عليها مر الكرام في كل وثائق الاحتفالية المغرضة.
لذلك يؤكد العلماء أن التعريف ببولس من خلال أعمال الرسل والرسائل يكشف عن تفاوت واضح بين المجموعتين، ففي أعمال الرسل نرى فكره شديد البعد عما في رسائله، خاصة فيما يتعلق بباقي الحواريين، وأن أعمال الرسل تتجاهل الصراعات المحتدمة بين بولس ويعقوب شقيق يسوع، وكذلك بين بولس وبطرس الذي يقول البابا "إنه مكمّل لرسالة بولس"، فالخلاف الرئيسي حول الختان معتّم عليه، لذلك يقول الباحثون إن بولس هو مؤلف المسيحية الحالية ومشرّعها، فهو الذي رتب انسلاخ الجماعة المسيحية عن اليهودية والتوراة، وهو الذي حوّل الصليب من أداة تعذيب وقتل إلى رمز للتجديد، وهو الذي غرس في المسيحية العداء للمرأة، كما أنه هو الذي رسّخ فكرة "بعث يسوع" الواردة 190 مرة في رسائله وأنها وشيكة الحدوث، لكنه لم يأت للآن.. بعد حوالي ألفي عام!!
إن أعمال الرسل والرسائل مليئة بالمتناقضات التي لا يمكن حصرها في مثل هذا الحيّز، وأولها حصول بولس على الجنسية الرومانية، وهو ما لا يتفق مع كونه يهوديا، فلا يمكن أن يتحدى آلهة الإمبراطورية ويظل رومانياً.. أو على حد قول فولتير في قاموسه الفلسفي: "إن كان من طرسوس كما يزعم فطرسوس لم تصبح مستعمرة رومانية إلا بعد مائة عام من بعده، وإن كان من جيسكالا كما يقول القديس جيروم، فجيسكالا كانت في الجليل، ومن المؤكد أن سكان الجليل لم يكونوا مواطنين روماناً".. كما تتناقض خاصة فيما يتعلق برؤية بولس لضوء يسوع وهو في طريقه إلى دمشق، فتحول من معادٍ للمسيحية وواشيا بالمسيحيين إلى المؤسس الفعلي للمسيحية الحالية! وليس من المنطقي أن يؤكد عدم يهوديته حين يُعلن: "جعلت نفسي يهوديا مع اليهود" الخ، أو: "لقد عشت بدون توراة"، وهو ما لا يمكن سماعه من شخص يهودي فعلا.
أما عبارة بولس أن "يسوع أخبره بكل شيء حول تعاليمه"، فمن الصعب تصديق مثل هذا القول، فلا يمكن أن يتم ذلك في الثواني الخاطفة التي دامها الانبهار بضوء يسوع، إن كان قد حدث؛ لذلك يبقى السؤال عالقاً بلا جواب في تلك النصوص: أين حصل بولس على تعاليمه؟ فهو لم يتحول إلى المسيحية إلا بعد أن وشى بإسطفانوس وتم قتله رجماً. ومن المؤكد أنه لم يحصل على هذه التعاليم من الأناجيل الحالية، فلم تكن قد كُتبت بعد.. كما أنه لم يلتق لوقا إلا بعد دخوله المسيحية بحوالي خمسة عشر عاما. بينما يؤكد بولس أن ما يعرفه من تعاليم لم يحصل عليها من أحد، فهل يعنى ذلك أن بولس قد اكتفى بالتأليف والأكاذيب المتراكمة، أم أنه كان يوحى إليه وبعكس ما أتى به يسوع؟!
وفى أعمال الرسل يبدو بولس وكأنه حُمّل رسالة من المجلس بقيادة يعقوب، شقيق يسوع، بأن يُبشر الأمم، ومن الملاحظ أن لوقا -كاتب أعمال الرسل فرضا- يحاول إخفاء الصراعات المريرة الدائرة بين بولس والحواريين، بينما يحكى بولس هذه الخلافات ويتهم مجلس القدس بأنهم حائكو مؤامرات ولئام ومسيحيون غاية في السوء؛ لأنهم كانوا يريدون الحفاظ على المسيحية داخل إطار اليهودية، وأنه هو الذي حررها بإلغاء الختان، الذي أراده الله عهدا أبدياً، كما قام بإلغاء الشرع اليهودي.. علما بأن يسوع هو القائل بأنه لم يأت لإلغاء الشرع وإنما أتى ليكمّل! (راجع 2 كورنثوس: 11-13 وغيرها).
ويؤكد لويجي كاتشيولي في كتابه عن بولس أن تعاليم بولس والعداء الذي غرسه ضد اليهود، والذي كانت الكنائس تكرره في صلوات كل أحد بالدعاء عليهم، هو الذي تواصل عبر القرون وأدى إلى مقتلهم في إسبانيا في القرن الرابع عشر، وإلى الخطاب البابوي عام 1411 الذي حرّم على اليهود دراسة التلمود، وإلى تنصير مائة وخمسين ألف يهودي بالإكراه في إسبانيا عام 1492 وطرد الباقين.. وظلت هذه الكراهية التي غرسها بولس حتى عام 1992، حين قام الملك خوان كارلوس بإلغاء مرسوم طرد اليهود من إسبانيا! ولن نشر هنا إلا إلى نتيجة العداء للسامية الذي غرسه بولس وعواقبه في إسبانيا، فلا يسع المجال لتناول ردود أفعال هذا العداء في كافة بلدان أوروبا، خاصة الخاضع منها للفاتيكان.. ومن الغريب أن ينقلب حال المؤسسة الكنسية بعد ألفي عام لتلغي تعاليم بولس بجرة قلم وتقوم بتبرئة اليهود من دم المسيح، رغم عشرات المرات التي راح بولس يتهمهم بأنهم قتلة الرب.. فكيف يمكن إلغاء تعاليم بولس بهذه البساطة والإصرار على الاحتفال به بل واعتباره الدعامة الأساسية للمسيحية؟!
والزعم بأن كل ما تقوم به المؤسسة الفاتيكانية لتمجيد دور بولس في تبشير الوثنيين تم بوحي من الروح القدس، لا يستقيم في الواقع ولا مع أي منطق أياً كان، فكيف يمكن للروح القدس أن يوحي في اتجاهين مختلفين في آن واحد: يوحي لبطرس ولمجلس القدس بالحفاظ على المسيحية في قلب التوراة، ويوحي لبولس في نفس ذلك الوقت بأن يُخلّص المسيحية من ارتباطها باليهودية وشرعها؟! وهو ما قام به فعلا..
لذلك يجمع المؤرخون -خاصة منذ عصر التنوير- أنه من الصعب كتابة تاريخ منطقي لحياة بولس ورحلاته بناء على أعمال الرسل والرسائل، وأنه من الصعب إغفال أن بولس قد حاد بالمسيحية بعيدا عن رسالة يسوع إلى درجة النقيض ليأتي بالمسيحية الحالية.
ونشير في نهاية هذا العرض المقتضب لاحتفالية "بولس الرسول" إلى نموذج واحد يكشف عن مصداقية هذه النصوص: يقال إن بولس قد تم القبض عليه بعد حريق روما وتم إعدامه بقطع رقبته، وهو ما يتناقض مع قول يسوع حين حدثه قائلا: "قم وقف على رجليك لأني لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادما وشاهدا بما رأيت وبما سأظهر لك به، منقذاً إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم" (أع: 26: 16-17).. ومن الواضح أن يسوع لم يتمكن من إنقاذ بولس لا من الشعب، ولا من الأمم، ولا من أن تقطع رقبته بحد السيف الذي نشر به مسيحيته!..
صورة لتمثال بولس الرسول في الفاتيكان ممسكا بالسيف
(منقول)
تعليق