في الرد على القرآنيين (1)
خالد عبد المنعم الرفاعي
تحت راية السنة
قال الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} وقال تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
منذ أن بعث الله محمدًا صلي الله عليه وسلم قبل أكثر من أربعة عشر قرناً ،والحقد اليهودي والصليبي لم يَكُف عن حرب هذا الدين وعن محاولة إلهاء أهله بالدعوات الإلحادية ،التي يتولاها عنهم في غالب الأمر وكلاء من جلدتنا ويتسمون بأسمائنا ؛يتخفون تحت دعاوى وأسماء مزخرفة ومنمقة وقد يتباكون – أحيانا - على الإسلام وأهله.
فتارة يَدَّعُون الدِّفاع عن آل البيت ،وحينًا عن القرآن ،وحينًا آخر عن الحرية ،والدعوة إلى التجديد إلى آخر تلك الدعاوى.
ولكن من عجيب ما يُرى ويُسمع من المتناقضات أن يَتَسمى المرء بنقيض ما يعتقد ويعمل؛وهو وإن كان من أقبح القبح إلا أنه يزداد قبحًا؛ إذا عُلِمَ أن صاحبه قد سرق هذا الفكر الشائن ممن سبقه من المستشرقين أمثال: جولد زيهر وشبرنجر ، ودوزي ، ماكدونالد....وغيرهم من أئمة الكفر من الرافضة والملاحدة؛فهم مع ضلالهم أقلّ وأحقر من أن يكونوا أصحاب فكر وإن كان باطلاً.
والسبب في شَنِّ المنافقين حربًا بالوكالة عن أعداء الأمة ضد الإسلام ، هو تجارب الأعداء المريرة مع المسلمين ،والتي تفيد أنه لا طاقة لهم بالمسلمين ، ما ظلوا متمسكين بكتابهم وسنة نبيهم الأكرم.
فدفعتهم تلك الخبرة ؛ لاتخاذ سلاح التشكيك والضرب في الثوابت ،وقد دققوا في اختيار الوكلاء ؛ليقوموا بالمهمة من غير أن يثيروا الناس عليهم؛ حتى راجت بضاعتهم الماكرة الخبيثة عند ضعاف العقول ؛ فكانت ثمرتها المرة تلك الأوضاع التي يحياها المسلمون.
ومن هؤلاء الوكلاء من يتسمون كذبا وزورا بالقرآنيين ،الذين قصدوا إلى الطعن في القرآن والدين كله بالطعن في السنة المشرفة على صاحبها الصلاة والسلام.
إن هذه الطائفة الضالة المسماة "القرآنيين" يتزعمها المدعو: أحمد صبحي منصور ذو التوجهات المشبوهة ،والذي يعيش في الولايات المتحدة! ويلقي محاضرات في بعض الجامعات وينشر مقالاته على شبكة الإنترنت ،وهو أحد أقطاب مركز "ابن خلدون" المشبوه أيضًا، والذي أسسه المصري- الأميركي سعد الدين إبراهيم! وكان منصور مدرسًا في جامعة الأزهر ،وفصل منها في ثمانينيات القرن الماضي ؛بسبب توجهاته وإنكاره للسنة النبوية.
والحق أن حُجيّة السنة ضرورة عقلية شرعية،لا ينكرها إلا من به آفة في عقله وقلبه وأدلة حجيتها من الشرع الحنيف أكثر من أن تحصر في تلك العجالة، وكتب أهل العلم في القديم والحديث المتناولة لتلك المسألة والمفندة لدعاوى المبطلين كثيرة،وما قصدناه هو إظهار بعض تلك الأدلة لتكون للمؤمنين وللمتحيرين ؛كالمصل الواقي من وباء تلك الطائفة وصدق القائل:
نَزَعوا بِسهمِ قطيعةٍ يهفو به رِيشُ العقوقِ فَكَانَ غيَر سَديدِ
وَإِذَا أَرَادَ الهُي نشرَ فَضِيلَةٍ طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
لَولا اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاورت مَا كَان يُعْرَفُ طِيبُ عُرْفِ العُودِ
قال العلامة السعدي في تفسيره عند قوله تعالى:{وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}: إن من جملة إحقاقه تعالى الحق، أن يُقَيِّضَ له الباطل ليقاومه، فإذا قاومه، صال عليه الحقّ ببراهينه وبيناته، فظهر من نوره وهداه ما به يضمحل الباطل وينقمع، ويتبين بطلانه لكل أحد، ويظهر الحق كل الظهور لكل أحد".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين وبيان حقيقة أنباء المرسلين ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين
كما قال تعالى: { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } سورة الأنعام الآيات (112 - 115 )
ذلك أن الحقَّ إذا جُحِدَ وعُورِضَ بالشبهات أقام الله تعالى له مما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات البينات ؛بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة .
والدين الباطل إذا جادل عنه المجادل ورام أن يقيم عوده المائل أقام الله تبارك وتعالى من يقدف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وتبين أن صاحبه الأحمق كاذب مارق وظهر فيه من القبح والفساد والحلول والاتحاد والتناقض والإلحاد والكفر والضلال والجهل والمحال ما يظهر به لعموم الرجال أن أهله من أضل الضلال حتى يظهر فيه من الفساد ما لم يكن يعرفه أكثر العباد ويتنبه بذلك من سنة الرقاد من كان لا يميز الغي من الرشاد ويحيى بالعلم والإيمان من كان ميت القلب لا يعرف معروف الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين". اهـ. باختصار
أما الأدلة القرآنية القاضية بطاعة الرسول واتباع سنته فمنها:
- قوله الله تعالى :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [النساء:80] فجعل الله تعالى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من طاعته، ثم قرن طاعته بطاعة رسوله ، قال تعالى : ( يـا أيّها الّذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول ) .
- ومنها قوله تعالى : ( فليحذر الّذين يُخالفون عن أمرِهِ أَنْ تصيبهم فتنة أو يصيبُهم عـذاب ألـيم) فقد حذر الله عز وجل من مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتوعد من عصاه بالخلود في النار.
- ومنها قوله تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتّى يحكمُّوك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مـمّا قضيت ويسلموا تسليماً ) . جعل الله تعالى تحكيم الكتاب والسنة من شروط الإيمان وأن مخالفته كفر بالله تعالى.
- ومنها قوله تعالى : ( يا أيّـُها الّذين أمنوا استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يُحييكم ..) . أمر سبحانه وتعالى عباده بالاستجابة لله والرسول ولا يكون ذلك إلا باتباع سنته.
- ومنها قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوُه إلى الله والرّسول ) والرد إلى الرسول في حياته وبعد مماته لا يكون إلا بالرجوع لسنته.
- قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }[لنجم:3-4] وهي من أوضح الأدلة القرآنية على أن السنة من جملة ما أوحي به إلى النبي_صلى الله عليه وسلم.
وقد تمسك من يُسمُّون أنفسهم بالقرآنيين ببعض الشبهات ظنًا منهم صلاحها للاستدلال على باطلهم المبني على الاستغناء بالقرآن عن السنة؛ فاحتجوا ببعض الشبهات:
الشبهة الأولى: استدلوا بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]
والجواب: أنه ليس المراد بالكتاب في هذه الآية الكريمة القرآن ،وإنما المقصود بها اللوح المحفوظ؛ بدليل قوله تعالى في نفس الآية: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، ما فرطنا في الكتاب من شيء، ثم إلى ربهم يحشرون) ]الأنعام:8 ] فلا يقول عاقل أن القرآن قد أُنزل لتنظيم حياة الطير كما نظمها للبشر!! ، وإنما الذي حوى كل شيء للطير والبشر ، هو اللوح المحفوظ المدون فيه ما كان وما سيكون من علم الله تعالى،
ولو سلمنا أن المقصود بالكتاب في الآية الكريمة القرآن، فإن الله تعالى قد جعله تبيانًا لكل شيء، ولم يفرط فيه من شيء، ومن بين ما لم يفرط في بيانه حجية السنة ، ووجوب اتباعها والعمل بها والرجوع لها والتحاكم إليها قال الله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }، وقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [النجم: 3-4] وقد وبخ الله تعالى قوماً يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؛ فقال جل وعلا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].. وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الأخذ بالقرآن دون السنة، فقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن بإسناد صحيح عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم):( أوتيت الكتاب ومثله ألا يوشك شبعان على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. (وفي رواية: (ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله تعالى).
فالقرآن جامع دون تفريط لكل القواعد الكبرى للشريعة التي تنظم للناس شؤون دينهم ودنياهم ، والسنة النبوية هي المبينة لجزئياتها وتفاصيلها ، والمبينة للناس طريق الحياة، والبيان يكون على نوعين :
الأول : بيان اللفظ ونظمه وهو تبليغ القرآن وعدم كتمانه وأداؤه إلى الأمة كما أنزله الله تعالى على قلبه؛ وهو المراد من قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : 67 ] وقوله (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل 44 ].
الثاني : بيان معنى اللفظ أو الجملة أو الآية الذي تحتاج الأمة إلى بيانه، وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المجملة أو العامة أو المطلقة ، فتأتي السنة فتوضح المجمل وتخصص العام وتقيد المطلق ؛فالسنة شارحة ومفصلة للقرآن، فالعمل بما جاءت به السنة عمل بالقرآن انطلاقا من قوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }[ الحشر : 7 ].
والبيان يكون بقوله صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره، فمن زعم الاكتفاء بالقرآن لم يمكنه أداء الصلاة ولا إخراج الزكاة ولا الحج ولا كثير من العبادات ،التي ورد تفصيلها في السنة، فأين يجد المسلم في القرآن أن صلاة الصبح ركعتان، وأن الظهر والعصر والعشاء أربع، والمغرب ثلاث؟ !وهل يجد في القرآن كيفية أداء هذه الصلوات، وبيان مواقيتها؟.
وهل يجد في القرآن أنصبة الذهب والفضة وبهيمة الأنعام والخارج من الأرض، وهل يجد بيان القدر الواجب إخراجه في ذلك؟!
وهل يجد المسلم في القرآن كفارة الجماع في نهار رمضان، أو حكم صدقة الفطر والقدر الواجب فيها؟!
وهل يجد المسلم تفاصيل أحكام الحج من الطواف سبعاً وصفته وصفة السعي، ورمي الجمار والمبيت بمنى؟ إلى غير ذلك من أحكام الحج؟!
وأيضًا قد استقلت السنة بمشروعية بعض العبادات كزكاة الفطر، والختان والوضوء من أكل لحم الإبل، أو الوضوء من النوم، والغسل من التقاء الختانين ولو بغير إنزال، وإسلام الكافر، والتسبيع والتتريب في غسل نجاسة الكلب، إلى غير ذلك مما استقلت السنة بمشروعيته.
وأيضًا استقلالها بتحريم بعض الأمور، ومن ذلك تحريم لبس الرجل للذهب والحرير، ونكاح المتعة،وأكل الحمر الأهلية وأكل كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير، وتحريم بيع المسلم على بيع أخيه ،وخطبته على خطبة أخيه، وتحريم التفاضل في الأصناف الستة، والأمثلة على ذلك كثيرة لمن تتبع أبواب الفقه.
وبهذا يُعْلَم قطعاً أنه لا يمكن لأحد أن يكتفي بالقرآن ؛ثم يظلُّ على زعمه أنه من مسلم!! قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله " ولو أن امرأً قال : لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن ؛لكان كافرًا بإجماع الأمة ،ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر " اهـ . ( الأحكام 2 / 208).
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله : " الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم خارجين عن السنة ، إذ عولوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شيء فاطَّرحوا أحكام السنة ؛ فأداهم ذلك إلى الانخلاع من الجماعة وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله " اهـ . ( الموافقات 3 / 17 ) . وقال الإمام السيوطي رحمه الله : " من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولاً كان أو فعلاً – بشرطه المعروف في الأصول – حجة كفر وخرج من دائرة الإسلام " اهـ ( مفتاح الجنة / 3 ) . وقال العلامة الشيخ عبد الغني عبد الخالق : " وليت شعري كيف يتصور أن يكون نزاع في مسألة بين المسلمين ، وأن يأتي رجل في رأسه عقل ويقول : أنا مسلم ثم ينازع في حجية السنة بجملتها ،مع أن ذلك يترتب عليه عدم اعترافه بالدين الإسلامي كله من أوله إلى آخره ، فإن أساس هذا الدين هو الكتاب ، ولا يمكن القول بأنه كلام الله مع إنكار حجية السنة جملة ، فإن كونه كلام الله لم يثبت إلا بقول الرسول : أن هذا كلام الله وكتابه ، وقول الرسول هذا من السنة التي يزعم أنها ليست بحجة ، فهل هذا إلا إلحاد وزندقة وإنكار للضروري من الدين ، يقصد به تقويض الدين من أساسه " اهـ ( حجية السنة / 249 ، 250 ) . وقال الإمام الشافعي رحمه الله : ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحدا أُخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبل خبره ، وانتهى إليه ، وأثبت ذلك سنة .. وصنع ذلك الذين بعد التابعين ، والذين لقيناهم ، كلهم يثبت الأخبار ويجعلها سنة ، يحمد من تبعها ، ويعاب من خالفها ، فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارقًا سبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم إلى اليوم ، وكان من أهل الجهالة
- الشبهة الثانية:استدلوا بقوله تعالى : [ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ]
وليس معنى الآية كما ظنوا استقلال الكتاب في بيان كل شيء، كما يزعمون وإلا فعليهم أن يبينوا لنا كيف نجد في القرآن تفصيل العبادات التي نقوم بها!! وقد اتفقت أقوال علماء التفسير وغيرهم على نقيض دعواهم، ومن ذلك قول الأوزاعي: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي: بالسنة وقال ابن الجوزي في زاد المسير: " فقال العلماء بالمعاني: لكل شيء من أمور الدين، إما بالنص عليه، أو بالإحالة على ما يوجب العلم مثل بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين ". وقال الجصاص في أحكام القرآن: " يعني به - والله أعلم - تبيان كل شيء من أمور الدين بالنص والدلالة، فما من حادثة جليلة ولا دقيقة إلا ولله فيها حكم قد بينه في الكتاب: نصًا، أو دليلا فما بينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنما صدر عن الكتاب بقوله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)24 وقوله تعالى (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله)، وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)25 فما بينه الرسول فهو عن الله عز وجل، وهو من تبيان الكتاب له لأمر الله إيانا بطاعته، واتباع أمره، وما حصل عليه الإجماع فمصدره أيضا الكتاب ؛ لأن الكتاب دلَّ على صحة حجة الإجماع وإنهم لا يجتمعون على ضلال " وقال الإمام الشوكاني في فتح القدير: " ومعنى كونه تبيانًا لكل شئ أن فيه البيان للكثير من الأحكام، والإحالة فيما بقى منها على السنة، وأمرهم باتباع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأتي به من الأحكام، وطاعته ؛ كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك، وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إني أوتيت القرآن ومثله معه "
- الشبهة الثالثة: أن السنة لو كانت حجة لتكفَّل الله بحفظها ؛كما تكفَّل بحفظ القرآن قال تعالى : [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]
والجواب: أنه قد أجمع المسلمون المتقدمون منهم و المتأخرون على أن السنة حجة في الدين، ودليل من أدلة الأحكام الشرعية التي تثبت بها الأحكام العملية، بل حفظ القرآن الكريم متوقف على حفظ السنة، لأنها الشارحة والمبينة له، وحفظ المُبيَّن يستلزم حفظ البيان للترابط بينهما .
وقد ذكرنا في الجواب على الشبهة السابقة أن في القرآن الكريم أوامر ونواهي مجملة قد بينتها السنة المطهرة، فإذا كان بيانه عليه الصلاة والسلام لذلك المجمل غير محفوظ ، فقد بَطُلَ الانتفاع بنص القرآن، فيؤدي لطرح الشريعة وهو ما يريده أعداء السنة وهيهات هيهات فإن الله سبحانه هو الذي تكفَّل بحفظ الدين الإسلامي الخاتم ،ولم يوكله لأحد من خلقه وهو السر في حفظ السنة المشرفة وفق منهج فريد وسأفرد مقالة مستقلة لبيان عظم هذا المنهج ،وأنه يستحيل أن يكون جهدًا بشريًا؛ وإنما هو من ثمرة حفظ الله لهذا الدين.( )
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الله حفظ السنة كما حفظ القرآن، وأن لفظ: (الذِّكْرَ) في قوله تعالى): (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون) }الحجر:9]. يشمل القرآن والسنة، لأن الله سمى السنة ذكراً في قوله: ( [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:44].
فليحذر هؤلاء أن يكونوا خصماء لمحمد صلى الله عليه وسلم، بردهم لسنته واعتراضهم عليها.
تعليق