الأسرة في الإسلام (1)
إسلام عبدالتواب
(1) مظاهر الانهيار الأسري في مجتمعات ما قبل الإسلام
عمَّ الفساد والانهيار حياةَ الممالك التي وُجِدَت قبل الإسلام والتشريع، حتى تحوَّل البشر إلى بهائِمَ من حيثُ الأخلاقُ المنحطَّة، ممَّا جعل مَجيء الرَّسول الإسلامي ضرورةً لإنقاذ البشريَّة.
ولم تكُن مظاهر الانْهِيار الحضاري الذي ضرب حضاراتِ ما قبل الإسلام لتقتصِر على جانب دون آخر؛ ومن ثَمَّ فقد شملت جميع الجوانب، وقد أصاب الأسرة منها جانبٌ كبير، ومن هذه المظاهر الخطيرة التي دمَّرت بنيان الأسرة في تلك المجتمعات:
1- ظلم المرأة وإهانتها:
لا شكَّ أنَّ مكانة المرأة في الأسرة مكانةٌ عظيمة، ولكنَّ الجاهليَّات القديمة سلبتْها حقوقها، وأهانتْ كرامتَها التي كرَّمها الله بها؛ فكانت المرأة تُستَخدم في أحطِّ الأعمال – كالدعارة – حتَّى إنه كان هناك أشكالٌ من الدعارة يعدُّونها من الزَّواج؛ فقد قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها -: "إنَّ النكاح في الجاهليَّة كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجُل إلى الرجل وليَّته أو بنتَه فيصدقها ثم ينكحها، والنكاح الآخَر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه، ويعتزلُها زوجُها ولا يمسُّها أبدًا حتَّى يتبيَّن حملُها من ذلك الرجُل الذي تستبضع منه، فإذا تبيَّن حملها أصابَها زوجُها إذا أحبَّ، وإنَّما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد، فكان هذا النِّكاح نكاح الاستِبْضاع، ونكاح آخر يَجتمع الرَّهْطُ ما دون العشَرة فيدخلون على المرأة، كلُّهم يُصيبُها، فإذا حملت ووضعتْ ومَرَّ عليها ليالٍ بعد أن تضع حملَها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجلٌ منهم أن يمتنِع، حتَّى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمرِكم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمِّي مَن أحبَّت باسمه، فيلحق به ولدُها، ولا يستطيع أن يَمتنع منه الرجل، ونكاح رابع: يَجتمع النَّاس كثيرًا فيدخلون على المرأة لا تَمتنع ممَّن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابِهنَّ رايات تكون علمًا، فمَن أرادهنَّ دخل عليهنَّ، فإذا حملت إحداهنَّ ووضعت حملَها، جمعوا لها ودعوا لها القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي لا يرون، فالتاطه ودُعِيَ ابنه لا يمتنع من ذلك".
ولم يكن العرب وحدَهم يحتقِرون المرأة ويغبنونَها ويهضِمون حقَّها؛ بل كان العالم كلُّه من حولِهم يستضْعِفُها، وبنظرةٍ إلى أوضاع المرأة في العالم القديم عند غير العرب نرى ذلك جليًّا؛ فمن ذلك:
مركز المرأة في المجتمع الهندي: وقد نزلت النساء في هذا المجتمع منزلة الإماء، وكان الرجل قد يخسر امرأتَه في القمار، وكان في بعض الأحيان للمرأة عدَّة أزواج، فإذا مات زوجُها صارت كالموءودة لا تتزوَّج، وتصير هدفَ الإهانات والتجريح، وكانت أَمَةَ بيت زوجها المتوفى وخادمَ الأحْماء، وقد تحرق نفسها على إثْر وفاة زوجِها؛ تفاديًا من عذاب الحياة وشقاء الدنيا.
وعند اليونان: كان اليونانيُّون ينظرون إلى المرأة على أنَّها شيطان، وأنَّها بعيدةٌ عن رحمة الله؛ لأنَّها هي التي تحمل ذنبَ حوَّاء، وهي محرومةٌ عندهم من حقِّ الإرْث من أقاربِها، وكذلك محرومةٌ من كافَّة حقوقِها المدنيَّة؛ بسبب اعتبارِهم لها شيطانًا.
وعند الرومان: لم تكُن القسوة مع العبيد والفُقراء فقط؛ بل وصلت - وبقوة - إلى المرأة الرومانيَّة ذاتِها، ففي روميَّة اجتمع مجمع كبير بَحَث في شؤون المرأة، فقرَّر بعد عدَّة اجتماعات أنَّ المرأة كائنٌ لا نفس له، وأنَّها لِهذا لن ترِث الحياة الأخرويَّة، وأنها رجس، ويجب ألا تأكُل اللَّحم وألا تضحك، ومنعوها من الكلام حتَّى وضعوا على فمِها قُفلاً من الحديد، فكانت المرأة من أعلى الأُسر وأدْناها تروح وتغدو في الطَّريق أو في دارِها وعلى فمِها قُفلٌ.
وفي قانون حمورابي: تُعتبر المرأة كالحيوان من حيثُ مكانتُها الاجتماعيَّة، لا تختلف عنه في شيء، وفي ذلك القانون أنَّ مَن قتل امرأة يُلْزَم بتقديم امرأةٍ عوضًا عنها إلى وليِّها، أو يدفع قيمتَها.
وعند اليهود: يُنظَر إلى المرأة في الدِّيانة اليهوديَّة على أنَّها شرٌّ ولعنة يَجب الابتِعاد عنها، ولا تؤتَمن على سر، وهي أشدُّ من الموت، وقد وُصفت المرأةُ في التوراة المحرَّفة على هذا النحو: "درتُ أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمةً وعقلاً، ولأعرف الشرَّ أنَّه جهالة، والحماقة أنَّها جنون، فوجدتُ أَمَرَّ من الموت المرأة التي هي شِباكٌ، وقلبها شِراك، ويداها قيود".
وعند النصارى: لا يختلِف حال المرأةِ في النَّصرانيَّة عن حالِها في الأُمم السابقة، وقد وردت بعضُ النصوص التي تحذِّر منها، ومن أهمِّها:
- قول القديس تونوليان: "إنَّها مدخل الشَّيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله".
- وقول القديس سوستام: "إنَّها شرٌّ لابدَّ منه، وآفةٌ مرغوبٌ فيها، وخطرٌ على الأسرة والبيت، ومُصيبة مطليَّة مموَّهة".
2- الانحلال الجنسي ونكاح المحارم:
وقد عمَّ ذلك البلاء العالم القديم، إلاَّ أنَّه كان في فارس أشدَّ، فقد كان أساس الأخلاق متزعزعًا مضطربًا، فقد ظهرت دعوة مزدك الذي ولد 487م، ودعا إلى الإباحيَّة والشيوعيَّة الجنسيَّة؛ قال الشهرستاني: "أحلَّ النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شركةً فيها كاشتِراكهم في الماء والنَّار والكلأ".
وحظيتْ هذه الدعوة بموافقة الشبَّان والأغنِياء والمتْرفين، وصادفت من قلوبِهم هوى، وسعِدت كذلك بِحماية البلاط، فأخذ قباذ يناصرها، ونشط في نشْرِها وتأييدها، حتَّى انغمستْ الإمبراطوريَّة الفارسيَّة بتأثيرِها في الفوضى الخُلقيَّة وطغيان الشهوات؛ قال الطبري: "افترص السَّفلة ذلك واغتنموا، وكاتفوا مزدك وأصحابَه وشايعوهم، فابتلي النَّاس بهم وقوِي أمرُهم، حتَّى كانوا يدخلون على الرجُل في داره، فيغلِبونه على منزله ونِسائه وأمواله، لا يستطيع الامتِناع منهم، وحملوا قباذ على تزْيين ذلك وتوعَّدوه بخلْعِه، فلَم يلبثوا إلا قليلاً حتَّى صاروا لا يعرف الرجُل ولدَه، ولا المولودُ أباه، ولا يملك شيئًا ممَّا يتَّسع به... إلى أن قال: ولم يزل قباذ من خيار ملوكِهم حتَّى حمله مزدك على ما حملَه عليه، فانتشرت الأطراف وفسدت الثُّغور.
وفوق ذلك عرَف الفرس نكاح المحارم، وهو الأمر الذي حرَّمه جميع الأديان السماويَّة، والطباع الإنسانيَّة السويَّة، وقد انتشرت تلك الرَّذيلة لديْهم، حتَّى صارتْ أمرًا مألوفًا لا يُستَغْرَب، حتَّى إنَّ يزدجرد الثاني الذي حكم في أواخر القرْن الخامس الميلادي تزوَّج بنتَه ثمَّ قتلها، وإنَّ بهرام جوبين الذي تملَّك في القرْن السَّادس كان متزوِّجًا بأخته.
يقول البروفسور أرتهر كرستن سين، أستاذ الألسنة الشرقيَّة في جامعة كوبنهاجن بالدنمارك، المتخصِّص في تاريخ إيران في كتابه "إيران في عهد السَّاسانيين": "إنَّ المؤرخين المعاصرين للعهد الساساني مثل جاتهياس وغيره، يصدِّقون بوجود عادة زواج الإيرانيين بالمحرَّمات، ويوجد في تاريخ العهد السَّاساني أمثلة لهذا الزَّواج، فقد تزوَّج بهرام جوبين، وتزوَّج جشتسب قبل أن يتنصَّر بالمحرَّمات، ولم يكن يعدُّ هذا الزَّواج معصية عند الإيرانيِّين؛ بل كان عملاً صالحًا يتقرَّبون به إلى الله، ولعلَّ الرحَّالة الصيني (هوئن سوئنج) أشار إلى هذا الزَّواج بقولِه: إن الإيرانيِّين يتزوَّجون من غير استثناء".
الصراع بين الأقارب على المُلْك:
من المعلوم أنَّ للمُلك سطوةً على النفوس، تدفع صاحبه أحيانًا إلى ارتكاب بعض الآثام والشرور، أمَّا أن يصل الأمر للقتل، فذاك إثم عظيم، ولكنَّ الأوضاع الجاهليَّة التي سبقت الإسلام، ودمَّرت الأسرة، وهدَّت بنيانَها - جعلت الأمر يصِل إلى أقبح من ذلك؛ إذ وصل إلى صراع الأقارب بعضِهم بعضًا، وقَتْل بعضِهم بعضًا، كما حدث من عمرو بن تبان وقتله لأخيه حسَّان ملك اليمن ليحصل على مُلكه؛ كما جاء في "سيرة ابن هشام"، الذي قال: لمَّا ملك حسَّان بن تبان أسعد أبي كرب سار بأهل اليمن يريد أن يطأَ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن المسيرَ معه، وأرادوا الرَّجعة إلى بلادِهم وأهلهم، فكلَّموا أخًا له يُقال له عمرو وكان معه في جيشه، فقالوا له: اقتل أخاك حسَّان ونملِّكُك عليْنا، وترجع بنا إلى بلادنا، فأجابَهم، ففعل ثم قتل عمرو أخاه حسَّان ورجع بمن معه إلى اليمن.
وهكذا استحلَّ الأخ دمَ أخيه، وهانت عليه القرابة والرَّحم!!
وقد بلغ انحلال عُرى الأسرة، وأواصر القرابة أكثر من ذلك؛ إذْ بلغ الأمر قتل الابنِ لأبيه، كما حدث من شيرويه بن كسرى بعد أن أرسل الرَّسول كتابَه إلى أبيه يدعوه إلى الإسلام، وكان السبب الذي تعلَّل به الابنُ لارتكاب جريمتِه هو كما قال: "إني قد قتلتُ كسرى، ولم أقتلْه إلا غضبًا لفارس؛ لما كان استحلَّ من قتْل أشرافِهم وتَجميرهم في ثغورهم".
إذن؛ كانت أواصِر القربى قد هانتْ على أهل الجاهليَّة قبل الإسلام على اختِلاف مِللِهم وأوطانهم وطباعهم، وكان لزامًا أن يأتي الإسلام ليُعيد لتلك الروابط قوَّتَها، ولتلك الأواصر مكانتَها واحترامها.
تعليق