بعض الاختلافات الجوهرية بين إنجيل يوحنا والأناجيل الإزائية
وبالرغم من أن الكثير من القراء غير المداومين للعهد الجديد لم يلاحظوا هذا، فإن إنجيل يوحنا قضية مختلفة تمام الاختلاف. فباستثناء روايات اللآلام، غالبية القصص التي أوردها يوحنا في إنجيله لا نجد لها أي أثر في الأناجيل الإزائية، كما أن غالبية القصص الواردة في الأناجيل الإزائية ليس لها وجود في إنجيل يوحنا. وحينما يتناولان منطقة متشابهة بالحديث، تختلف قصص يوحنا اختلافا صادما عن قصص الأناجيل الأخرى. وهذا الأمر بمقدورنا أن نرصده عبر القيام بشكل من المقارنة الشاملة بين يوحنا من جهة وبين الأناجيل الإزائية من جهة أخرى.
خلافات في المضمون
من المدهش أنه ليس هناك واحدة من هذه القصص التي تمثل الهيكل العظمي لروايات الأناجيل المتوازية يمكننا العثور عليها في إنجيل يوحنا. فليس ثمة أي ذكر لميلاد المسيح في بيت لحم ولا لعذرية أمه. ولا يقال بوضوح أنه جرى تعميده وأنه قد مر بتجربة الإغواء من الشيطان في البرية. وفي يوحنا لا يبشر يسوع بملكوت الرب القادم ولا يذكر أي أمثال. كما أنه لا يخرج أي شيطان ولا تذكر أي كلمة عن التجلي.وحتى الهيكل لا يذكر عنه أن يسوع قام بتطهيره عند مجيئه إلى أورشليم( جاء ذكر دخوله أورشليم في يوحنا، الأصحاح الثاني). ولا يضع يسوع في يوحنا حجر الأساس لطقس العشاء الرباني(بل يستبدله بغسل أقدام التلاميذ)، ولا يخضع لأي شكل من المحاكمة أمام السنهدرين اليهودي.
فإذا لم يذكر يوحنا أيًّا من هذه الروايات التي تبدو أساسية في قصة يسوع، فعلاما يحتوي إنجيله؟ يحتوي إنجيل يوحنا قصصا لا تأتي الأناجيل الإزائية على ذكرها. فيوحنا يبدأ بتمهيد يصف على نحو يشوبه الغموض كلمة الله التي كانت مع الله منذ البدء، والتي كانت هي نفسها الله وخلق الله بواسطتها الكون. وقد صارت الكلمة، كما يقال لنا، كائنا بشريا والذي هو يسوع المسيح: كلمة الله الذي صارت جسدًا. وهذا شيء ليس لها شبيه في الأناجيل الإزائية.
ويحكي يسوحنا عن يسوع قيامه بالمعجزات بينما يمارس خدمته التبشيرية، لكنه لا يسميها معجزات(miracles) أبدًا، وهو المصطلح الذي يعني حرفيًّا «أعمال القوة». بل إنه، بدلا من مصطلح المعجزة، يسميها «علامات»(signs). لكن علامات على ماذا؟ هي علامات تدل على حقيقة شخصية يسوع الذي هو ذلك الكائن الذي نزل من السماء ليمنح كل من يؤمن به الحياة. يذكر يوحنا سبع علامات في إنجيله، وغالبيتهم لا نجده بين المعجزات المذكورة في الأناجيل الإزائية(باستثنائين اثنين وهما المشي على الماء وإطعام الجموع). وتشمل العلامات التي رواها يوحنا بعض المعجزات المفضلة لدى قراء الكتاب المقدس عبر السنين: تحويل الماء إلى نبيذ، شفاء الرجل الذي وُلِدَ ضريرا، وإحياء أليعازر من بين الأموات. كما يمتلك يسوع في هذا الإنجيل رسالة تبشيرية، لكنها لا تتحدث عن ملكوت الرب القادم، بل بشارة عن نفسه: كنهه الذاتي، ومن أين أتى، وإلى أين سيمضي، وكيف سيمنح المؤمنين الحياة الأبدية. كما ينفرد يوحنا بالعديد من أقوال المسيح التي تحتوي الجملة البادئة« أنا هو...»، والتي يعرف عبرها يسوع الناس بنفسه وما الذي بمقدوره تقديمه لهم. كل جملة تبدأ ب«أنا هو...» عادة ما يليها صنع علامة كدعامة تظهر أن ما يقوله يسوع عن نفسه صدق لا مراء فيه. وعلى هذا المنوال يقول «أنا هو خبز الحياة» ثم يشفعها بإثبات لقوله عبر تكثير أرغفة الخبز للإطعام الجموع؛ ويقول «أنا نور العالم» ويثبتها بشفاء الرجل الذي ولد ضريرًا؛ ويقول «أنا القيامة والحياة» ويحيي إليعازر من بين الأموات إثباتا لقوله.
وعادة ما يلقي يسوع في إنجيل يوحنا خطبًا مطولة في مقابل المقولات الجديرة بالذكر والتي تشبه الحكم في الأناجيل الثلاثة الأخرى. فهناك خطاب طويل في الأصحاح الثالث مع نيقوديموس، وفي الإصحاح الرابع هناك الحوار مع المرأة السامرية، وهناك الخطبة الأكثر طولا التي يلقيها على مسامع تلاميذه والتي تغطي المساحة بين الإصحاحين الثالث عشر والسادس عشر وذلك قبل أن يبدأ في صلاة تغطي الفصل التالي كله. ليس هناك خطبة من بين هذه الخطب أو مقولة من التي تبدأ بقوله«أنا هو...» يمكننا العثور عليها في الأناجيل الإزائية.
مضامين بينها فروق
الولادة العذرية والتجسد
لم ينبس مرقص في إنجيله ببنت شفة عن أيٍّ من المفهومين. فالقصة عنده تبدأ بيسوع في سن الرشد، ولا يشير مرقص من قريب أو من بعيد إلى الظروف المحيطة بلحظة الميلاد. إذا لم يكن بين يديك سوى إنجيل مرقص، وهو بالفعل حال بعض المسيحيين من العصر المسيحي المبكر، فلن يكون لديك أي فكرة عن أي شئ غير عادي في حدث ميلاد عيسى، أو عن أمه وكونها ولدته وهي عذراء، أو أن لعيسى وجود سابق عن وجوده الأرضي.
إنجيل متى بالغ الوضوح في الإشارة إلى أن أم عيسى كانت عذراء، لكنه كان بالغ التحفظ حيال أي محاولة للتخمين بشأن ما يعنيه هذا الأمر من الناحية اللاهوتية. وقد رأينا كيف كان متى حريصا على نحو خاص على إبراز كيف كان كل شئ يتعلق بميلاد عيسى وحياته وموته تحقيقا لنبوءة ورد ذكرها في الكتاب المقدس اليهودي. لذا، لم ولد عيسى من عذراء؟ كان ذلك بسبب أن إشعياء، ذلك النبي العبراني، كان قد أشار إلى أن «عذراء ستحبل وتلد ولد، وأنهم سيدعونه عمانوئيل»(متى 1 : 23 ، حال اقتباسه العدد 7 : 14 من أشعياء) . في الحقيقة، لم يكن هذا ما قاله إشعياء بدقة. في الكتاب المقدس العبري، ذكر أشعياء أن «فتاة شابة» ستحمل وتلد ولدا، وهي نبوءة، لكنها عن حدث كان مزمع أن يقع في العصر ذاته الذي عاش فيه أشعياء، وليس نبوءة مستقبلية.[1] حينما جرت ترجمة الكتاب المقدس العبري إلى اللغة اليونانية تحولت «الفتاة الشابة»(عَلْمَا بالعبري، وثمة كلمة عبرية أخرى للدلالة على معنى الفتاة العذراء) التي تحدث عنها أشعياء إلى الكلمة اليونانية (παρθενοσ)التي تعني عذراء باليونانية، وهذه الترجمة هي النسخة التي كانت بين يدي متى من الكتاب المقدس. ومن هنا فقد اعتقد أن أشعياء كان يتنبأ عن المسيح الذي يظهر في المستقبل( مع أن مصطلح المسيح لم يرد مطلقا على لسان أشعياء في الأصحاح 7)، وليس عن شيء يقع في عصره الذي عاش فيه. فمتى كتب ما كتب لكونه كان يعتقد أن الكتاب المقدس قد تنبأ بميلاد يسوع من عذراء.
أما لوقا فلديه وجهة نظر مختلفة. نعم، هو الآخر كان يعتقد أن المسيح ولد من عذراء، لكنه لم يسق نبوءة من الكتاب المقدس ليفسر سبب اعتقاده هذا المعتقد.
بل نجده بدلا من ذلك يسوق تفسيرا أكثر صراحة: كان يسوع بان لله بنوة حرفية. وقد جعل الله مريم تحبل حتى يكون ابنها كذلك ابنا لله. فالملاك جبرائيل يقول لمريم ( ينفرد لوقا بإيراد هذه الحكاية):« اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.»(لوقا 1 : 35 ). مريم، التي تحبل، لا بفعل خطيبها أو أي إنسان آخر، بل بقوة الله، تلد كائنا هو من بعض النواحي كائن إلهي.
فلدى متى ولوقا، من هنا، يبدوان وكأن لكلٍّ منهما تفسيره الخاص للأسباب التي من أجلها ولد عيسى من عذراء، لكن، وهو الأمر الأكثر أهميةً، ليس ثمة أي موضع في الإنجيلين يذكر فيه أي تلميح إلى أن هذا الكائن كان له وجود سابق عن لحظة ميلاده الأرضية. في تصور هذين المؤلفين، أصبح لعيسى وجودا للمرة الأولى حينما ولدته أمه. ولا وجود في أي من الإنجيلين لإشارة إلى الوجود الأزلي لعيسى. هذه الفكرة منشؤها هو يوحنا، ويوحنا وحده.
لا يشير يوحنا مطلقا لأم عيسى باعتبارها عذراء، بدلا من ذلك يفسر مجيء عيسى إلى العالم باعتباره تجسد كائن إلهي كان له وجوده الأزلي قبل الزمان. مدخل إنجيل يوحنا(أي الأعداد 1: 1 – 18) هي واحدة من أكثر فقرات الكتاب المقدس كله رفعة وقوة في الأسلوب. وهي كذلك واحدة من أكثر الفقرات التي كانت محورا للجدال والتفنيد وللتفسير بتفسيرات متباينة. يبدأ يوحنا(في الأعداد 1: 1 – 3) برؤية رفيعة عن «كلمة الله» الكائن الذي يتمتع باستقلالية عن الله(فقد كان « عِنْدَ اللَّهِ ») لكنه من بعض الوجوه كان مساويا لله (« كَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ»). هذا الكائن كان موجودًا في البداية مع الله وهو الواسطة التي خلق عبرها الكون كله(«كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. »
تنازع العلماء حول تفاصيل هذه الفقرة لقرون.[2] وجهة نظري الشخصية هي أن المؤلف يعود بنا إلى قصة الخلق في العدد الأول من سفر التكوين، حيث يتكلم الله وتخلق المخلوقات تبعا لكلماته:«وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ.» لم يتكلف الأمر سوى كلمة من الله خلق على إثرها كل ما كان ثمة من مخلوقات. تخيل مؤلف الإنجيل الرابع، كما هو الحال مع البعض من المؤلفين الآخرين للتقليد العبري، أن الكلمة التي قالها الرب هي شكل يشبه الكائن المستقل في ذاته وعنها. لقد كانت الكلمة «عند» الله، لأنه بمجرد أن قيلت، فقد صارت مستقلة عن الله؛ و«كانت» هي الله بمعنى أن ما قاله الله هو جزء من ذاته الإلهية. فبكلامه صار وجودا خارجيا لما كان له بالفعل وجودا داخليا، بين ثنايا عقله. كلمة الله، من ثمَّ، كانت الظهور الخارجي للحقيقة الإلهية الداخلية. كانت الكلمة عند الله وكانت الكلمة الله...أي الأمرين معًا، وكانت الوسيلة التي استعملت في خلق كل الأشياء. في إنجيل يوحنا، هذه الكلمة الإلهية التي كان لها وجودًا سابقا للزمان صارت كائنا بشريًّا :«وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً». (1 : 14 ) لا عجب إذن أن قيل إن هذا الكائن البشري هو المسيح يسوع. فيسوع هنا ليس مجرد نبي يهودي ظهر فجأة على مسرح الأحداث، كما هو حاله بحسب إنجيل مرقص؛ وليس هو الكائن النصف بشري والنصف إلهي الذي ظهر للوجود لحظة أن حملت أمه به(أو لحظة إنجابها له في لحظة ميلاده) بفعل القوة الإلهية. بل هو كلمة الله عينها، كان عند الله منذ البدء، وجاء مؤقتا للسكنى على الأرض، جاعلا الحياة السرمدية أمرًا ممكنًا.
يوحنا لم يقل كيف كان مجيء هذه الكلمة إلى العالم. وليس له روايته الشخصية عن قصة الميلاد وهو لا يذكر أي شئ عن يوسف ومريم ولا عن بيت لحم، أو عن الحمل العذري. وهو يختلف عن لوقا في هذه النقطة المحورية: فبينا يرسم لوقا لعيسى صورة القادم إلى الوجود في نقطة تاريخية ما( الحمل أو الميلاد)، يرسمه يوحنا كظهور بشري لكائن إلهي يسمو فوق التاريخ.
ماذا يحدث حينما يحدث التزاوج بين وجهتي نظر لوقا ويوحنا؟ تتلاشى الخطوط المميزة لكليهما. وتبتلع العقيدة الأرثوذكسية عن التجسد عبر مريم العذراء الرسالة التي حرص كل مؤلف منهما على حدى أن يوصلها. إن قارئ الكتاب المقدس الذي يمزج الرؤيتين معا يكون قد اختلق روايته الخاصة به للقصة، رواية تتحاشى تعاليم لوقا ويوحنا كليهما وتعرض تعليما لا نعثر عليه عند أي منهما.
اختلافات حول تعاليم يسوع
تعاليم يسوع بحسب إنجيل مرقس
آمن الرؤَوِيُّون أن الله كان قد كشف لهم الأسرار التي تجعل لكل ما سلف معنى. فثمة قوى كونية في العالم مصطفة لمحاربة الرب وشعبه، قوى مثل الشيطان وجنده من الأرواح الشريرة. هذه القوى تسيطر على العالم وعلى السلطات السياسية التي تدير هذا العالم. وقد سمح الله لهذه القوى، لأسباب ما غامضة، أن تزدهر في هذا الزمان الحاضر الذي يخيم عليه الشر. ولكن عصرًا جديدًا آت سيطيح الرب بهذه القوى الشريرة وسيقيم مملكة الخير، أو مملكة الرب، تلك المملكة التي لن يكون فيها وجود لمزيد من الآلام والمعاناة. فالرب سيحكم من عليائه، وأما الشيطان وأرواحه الشريرة، ومعهما كل القوى الأخرى الشريرة التي تسببت في هذه المعاناة( الأعاصير، والزلازل والنساء، والأمراض، والحروب) فسيقضي الرب عليهم.
تعاليم المسيح في مرقس، من هنا، هي تعاليم رؤوية:فعبارة «قد كمل الزمان» تتضمن معاني مثل أن العصر الحالي الذي يخيم عليه الفساد، الذي نراه على خط الزمان، قد شارف تقريبا على نهايته. فالنهاية تلوح في الأفق. أما عبارة «واقترب ملكوت الله» فتعني أن الرب سيتدخل قريبا في هذا الزمان وسيطيح بالقوى الشريرة والممالك التي يدعمونها مثل روما، وسوف يقيم مملكته الخاصة، مملكة الحق والسلام والعدل. وتعني« فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» أن الشعب بحاجة لتغيير أنماط حياته عبر إيمانه بتعاليم يسوع لأنها قريبا ستتحقق، وذلك إذا أرادوا أن يستعدوا للملكة الآتية.
هذه المملكة، من وجهة نظر يسوع بحسب إنجيل مرقس، قد دنى وقت ظهورها. فكما يخبر يسوع تلامذته في موقف من المواقف:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ»(مرقس 9 : 1)؛ ثم يخبرهم في لحظة تالية، بعد أن يصف لهم الانقلابات الكونية التي ستقع في نهاية الزمان:« اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ.»(13 : 30 ).
كيف ستظهر هذه المملكة؟ ستظهر، بحسب مرقس، على يد «ابن الإنسان»، الذي هو قاض عالمي، الأرض هي هي مقر محكمته وسيحاكم الناس وفقا لمبدأ هو هل قبلوا تعاليم يسوع أم لا:«لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هَذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ»( مر 8 : 38 ). ومن هو ابن الإنسان هذا؟ إنه يسوع ذاته، بحسب مرقس، والذي ينبغي أن يرفضه الشعب ويرفضه قادة الشعب، وأن يقتل ويقوم من بين الأموات ومن ثمَّ سيعود للدينونة جالبا مملكة الرب معه.
ولكن لأن يسوع هو ذلك الشخص الذي سيأتي بمملكة الرب في ركابه، فمملكة الرب، من وجهة نظر مرقس، هي تلك التي تتجسد في حياة يسوع الأرضية وخدمته التبشيرية على نحو نبوءيّ. في ظل هذه المملكة لن يكون ثمة شياطين، ولذا فيسوع يخرج الشياطين؛ وفي مملكة الرب لن ستختفي الأمراض، ولذا يشفي يسوع المرضى؛ وفي مملكة الرب لن يكون ثمة موت بعدُ، ولهذا السبب يحيي يسوع الموتى. لقد كان بوسع المرء أن يرى مملكة الله متجسدة في خدمة يسوع التبشيرية وكذا تلاميذه( مر 6 : 7 – 13 ). ولقد كانت هذه هي الفكرة المحورية للكثير من الأمثال التي ضربها يسوع في إنجيل مرقس: لقد كان للملكة الرب ظهور محدود، بل وخفي أحيانا، في أعمال يسوع، لكنها في نهاية الأمر ستبدو بالغة الوضوح. إنها مثل حبة الخردل التي متى بذرت في الأرض تصير أكبر شجرة(4 : 30 – 32 ). غالبية من استمعوا إلى يسوع رفضوا رسالته، لكن يوم الدينونة قادم لا محالة، ومملكة الرب ستأتي بقوة وعندئذ هذا العالم سيعاد تشكُّله (مرقس 13 ).
لم يتحدث يسوع كثيرًا عن نفسه في إنجيل مرقس. فقد تحدث بشكل رئيسي عن الرب ومملكته الآتية وكيف أن الشعب بحاجة إلى أن يعد نفسه لمجيئها. وحينما يشير إلى نفسه ملقبا إياها بلقب «ابن الإنسان»، يكون هذا دوما بصورة غير مباشرة: فهو لا يقول صراحة «أنا ابن الإنسان». وهو لا يصرح أنه المسِّيا، أي حاكم الملكة المستقبلية الممسوح بالزيت، حتى وقت قصير من النهاية حينما يضعه الكاهن الأكبر تحت القسم(مر 14 : 61 – 62 ).
ومع أن البعض في هذا الإنجيل يعترف بأن يسوع هو ابن الله(أنظر 1 : 11 ؛ 9 : 7 ؛ 15 : 39 )، فإن هذا اللقب لم يكن هو شخصيا يفضله لنفسه، وإنما اقتصر على الاعتراف به على مضض ( 14 : 62 ). من المهم أن نعرف أن لقب « ابن الله» في ثقافة اليهود القدماء يمكن أن يشير إلى الأمة الإسرائيلية(عزيا 11 : 1 )، أو إلى ملك إسرائيل (1 صموئيل 7 : 14 ). في هذه الحالات كان ابن الله شخصا اختاره الله اختيارا مخصوصا لكي يضطلع بتنفيذ مهمة إلهية وكوسيط يبلغ مشيئته إلى الناس على الأرض. وبالنسبة لمرقس، كان يسوع هو كل ما سبق – فقد كان الإنسان الذي نفذ الإرادة المطلقة للرب حينما قبل طوعا الموت على الصليب. مع ذلك، فمن المدهش أن يسوع، في إنجيل مرقس، لا يشير مطلقا لنفسه باعتباره كائنا إلهيا كان له وجود قبل الوجود، وككائن مساوٍ لله من أي وجه. لم يكن يسوع إلها ولم يدع ذلك في إنجيل مرقس.
تعاليم يسوع في إنجيل يوحنا
لم يتحدث يسوع في مواعظه في إنجيل يوحنا عن مملكة الرب المستقبلية. فالتركيز الشديد هو على هويته الشخصية كما رأينا في الفقرات التي تبدأ بقوله «أنا هو...». فهو ذلك الكائن القادر على أن يمنح المادة الواهبة للحياة(«أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ.» (يو 6 : 35 )؛ وهو القادر على أن يمنحن النور(«أَنَا نُورُ الْعَالَمِ»( يو 9 : 5 )؛ وهو الطريق الوحيد المؤدي إلى الرب(«أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14 : 6 ). والإيمان به هو السبيل لنيل الخلاص الأبدي:« اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ»(يو 3 : 36 ) بل إنه في حقيقة الأمر مساو لله:« أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ»(يو 10 : 30 ). ولقد علم مستمعوه اليهود تمام العلم المعنى الذي يرمي إليه بقوله هذا: فلقد سارعوا إلى التقاط الحجارة لكي يقتلوه لما يقوله من تجديف بحق الله.
زفي موضع واحد فحسب في إنجيل يوحنا يدعي يسوع لنفسه الاسم المقدس قائلا لمحاوريه من اليهود:« قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ»(يو 8 : 58 ). فإبراهيم، الذي عاش قبله بألف وثمانمائة عام، وكان أبا لليهود، يزعم يسوع أنه كان قد عاش قبله. بل إنه يزعم ما أهو أكثر من ذلك. فها هو ذا يشير إلى فقرة في الكتاب المقدس اليهودي يبدو فيه الرب لموسى في الشجرة المضطرمة ويكلفه بمهمة الذهاب إلى فرعون والسعي وراء إطلاق شعبه من الأسر. يسأل موسى ربه عن اسمه، لكي يخبر أتباعه من الشعب الإسرائيلي من هو الإله الذي أرسله. فيجيبه الرب:« اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ». وَقَالَ: «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي اسْرَائِيلَ: اهْيَهْ ارْسَلَنِي الَيْكُمْ»(خروج 3 : 14 ). ولذا فحينما يقول يسوع في إنجيل يوحنا 8 : 58 :«أنا هو..»، فهو يخلع على نفسه الاسم المقدس. وهنا مرة أخرى لم يجد مستمعوه من اليهود أي عقبة في فهم مراميه. ومرة أخرى ترفع بوجهه الحجارة.
لا يقتصر الفرق بين مرقس ويوحنا على أن يسوع يتحدث عن نفسه في يوحنا ويعين هويته باعتباره إلهًا، بل يتعدى الأمر ذلك إلى أن يسوع لا يبشر بما يبشر به في مرقس عن مملكة الرب الآتية. ففكرة أنه ستكون ثمة مملكة في المستقبل على الأرض سيحكم الرب من خلالها وأن كل قوى الشر ستتزعزع ليس لها محل من الإعراب في ادعاءات يسوع في إنجيل يوحنا. وهو ينشر بدلا من ذلك حديثه عن حاجة الناس إلى أن ينالوا الحياة الأبدية فوق في السماء من خلال تحقيقهم للميلاد السماوي( يوحنا 3 : 3 – 5). وهذا ما يعنيه «ملكوت الله» في يوحنا في المرات القليلة للغاية التي ذكر فيها هذا المصطلح: فهو يعني الحياة في السماء، فوق، مع الله ( وليس في سماء جديدة وأرض جديدة هنا على بالأسفل). الإيمان بيسوع هو ما يمنحنا الحياة الأبدية. وهؤلاء الذين يؤمنون بيسوع سيعيشون مع الله إلى الأبد؛ ومن لا يؤمن سيعاقبه الله( 3 : 36 ).
يرى كثير من النقاد أنه من المنطقي أن يمتنع يوحنا، الذي كان إنجيله آخر الأناجيل تأليفًا، عن الحديث عن الظهور الوشيك لابن الإنسان على الأرض ليقيم محكمته على الأرض معلنا قيام المملكة المثالية. في مرقس يتنبأ يسوع بأن لحظة النهاية قد أوشكت على المجيء خلال العصر الذي يعيش فيه جيله بينما يكون تلاميذه ما يزالون بين الأحياء (مرقس 9 : 1 ؛ 13 : 30 ). عندما كتب إنجيل يوحنا، ربما بين عامي 90 و 95 م، كان هذا الجيل القديم قد انقرض وغالبية التلاميذ ، إن لم نقل: كلهم، كانوا قد ماتوا بالفعل. وهذا يعني أنهم قد ماتوا قبل مجيء مملكة الرب. ماذا يفعل المرء حيال تعليم يقضي بقيام مملكة أبدية هنا على الأرض لو انقطع أمله في قيامها للأبد؟ على المرء أن يعيد تفسير التعليم. والطريقة التي أعاد بها يوحنا تفسير هذا التعليم هو أنه حرَّف التصور الأساسي.
إن وجهة نظر رؤوية بشأن العالم كهذه الموجودة في إنجيل مرقس تتعلق بنوع من الثنائية التاريخية التي يكون فيها ثمة عصر حاضر يسوده الشر و مملكة قادمة يحكمها الرب. هذا العصر والعصر القادم: يمكن رسمهما غالبا مثل خط زمني يقطع الصفحة أفقيا. فيما يدوِّر إنجيل يوحنا الثنائية الأفقية التي صدرت عن عقلية رؤوية لتتحول إلى ثنائية رأسية. لم يعد الأمر أمر ثنائية تتكون من هذا العصر الذي نحياه على الأرض والعصر الآخر الذي قد دنى بالفعل موعد قدومه والذي سيكون على الأرض أيضًا؛ بدلا من ذلك يتحول الأمر إلى ثنائية من حياة أرضية نعيشها ههنا بالأسفل وحياة أخرى نعيشها بالأعلى. نحن هنا على الأرض و الله في السماء. ويسوع باعتباره كلمة الله ينزل من أعلى لكي يمكننا أن مر تحديدًا بتجربة الميلاد «من فوق»(المعنى الحرفي للعدد يوحنا 3 : 3 ليس أننا لابد «أن نولد ولادة ثانية»، بل أن«ينبغي أن نولد من فوق»[3] حينما نمر بهذا الميلاد الجديد ونعاينه عبر إيماننا بالمسيح، سينال الآتي من فوق، ثم نحن بعده كذلك على الحياة الأبدية( يوحنا 3 : 16 ). وعندما نموت سنصعد من ثم إلى مملكة السماء لنحيا مع الرب (يوحنا 14 : 1 – 6 ). ليس بعدُ مملكة للرب آتية على الأرض. فمملكة الله في السماء ويمكننا الولوج إليها عبر الإيمان بالكائن الذي نزل من هناك ليدلنا على الطريق. وهذه تعاليم مختلفة تماما عما تراه في إنجيل مرقس.
معجزات يسوع
رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ
لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ
أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ
ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ
... فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ.(لوقا 4 : 18 – 21 )
وفي فقرة أخرى يأتي تابعان من أتباع يوحنا المعمدان إلى يسوع يريدان أن يعرفا هل هو ذلك الآتي في نهاية الزمان، أم هل ينتظرون ظهور آخر. فيأمرهم يسوع:«اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ:اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ»(متى 11 : 2 : 6 ). فيسوع في الأناجيل الإزائية هو ذلك الشخص الذي انتظروه طويلا والذي سيفتح مملكة الله.
وحتى في هذه الأناجيل الثلاثة اللأكثر قدما، يرفض يسوع بوضوح تام أن يصنع معجزات بغرض إثبات حقيقة شخصه لغير المؤمنين من الناس. فها هم أولاء بعض القادة اليهود يسألون يسوع كما ورد في إنجيل متَّى:« يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً»(متى 12 : 38 ). إنهم يطلبون برهانا يثبت أن سلطانه مستمد من الله. وبدلا من أن يجيب يسوع طلبهم، يصرح بقوة:«جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ». ثم يسترسل مفسرًا ما قاله بأنه كما كان يونان بالفعل ميتا لثلاثة أيام وثلاث ليال في بطن الحوت، فهكذا سيكون «ابن الإنسان» في «باطن الأرض» لثلاثة أيام وثلاث ليال.
ما ذكره يسوع هو إحالة إلى سفر يونان من الكتاب المقدس اليهودي وهو السفر الذي يحكي كيف أرسل الله النبي يونان إلى أعتى أعداء شعب إسرائيل وهم الأشوريون في مدينة نَيْنَوَى لكي يدعوهم إلى أن يسلكوا طريق التوبة. يرفض يونان ويبحر إلى اتجاه آخر. ويثير الرب عاصفة تغرق سفينته؛ ويدرك البحارة أن تمرد يونان على أمر الرب هو سبب العاصفة، ويقذفونه خارج السفينة إلى البحر. وتبتلعه سمكة ضخمة لكنه يتقيأه مرة أخرى بعد ثلاثة أيام على الشاطئ. ولئلا يعرض نفسه مرة أخرى لغضب الرب، ذهب يونان إلى نينوى وبشر بمضمون رسالته وحول المدينة إلى الإيمان بالرب.
يقارن يسوع حالته بما جرى مع يونان. فهو، أي يسوع، يدعو شعبا متمردًا إلى الإيمان، لكنه لا يتوب عن غيه. فيرفض يسوع، مع ذلك، أن يصنع معجزة لكي يثبت أوراق اعتماد من قبل السماء. البرهان الوحيد الذي سيمنحه الشعب سيكون «آية يونان» والتي توازي بحسب السياق في إنجيل متَّى آية القيامة. فسيموت يسوع لثلاثة أيام ثم سيظهر مرة أخرى. هذه الآية، وليس شيئا آخر فعله أثناء خدمته التبشيرية العامة، سيحتاجها لكي يقنع الناس بما يزعمه من الحق.
وهذه هي وجهة نظر بطول إنجيله وعرضه، وهي تساعدنا أن نفهم واحدة من أكثر قصصه إثارة للحيرة. فقبل أن يبدأ يسوع خدمته العامة يخرج إلى البرية ويجربه الشيطان ( متَّى 4 : 1 – 11 ). يذكر متَّى ثلاث إغراءات لكن اثنين منهم فحسب يتميزان بوضوح معنيهما. أما الأولى، فبعد أن يصوم يسوع أربعين يومًا عن الطعام، يحثه الشيطان على تحويل الحجارة إلى خبز. فيرفض يسوع: فمعجزاته ليست لنفسه، بل للآخرين. والإغراء الثالث كان أن يعبد يسوع الشيطان ويعطيه الأخير، كجائزة، ممالك الأرض. والإغراء واضح: فمن ذا الذي سيرفض أن يحكم العالم؟ لكن هذه انعطافة خاصة من متى عن منهجه، فهو يعلم أن يسوع سيحكم العالم في نهاية المطاف؟ لكن سيكون على يسوع أولا أن يموت على الصليب. هذا الإغراء ذكره الشيطان لكي يتخلى يسوع عن الصلب. ويرفض يسوع مرة ثانية: فالرب وحده هو المستحق للعبادة.
ولكن ما معنى هذا الإغراء الثاني في الترتيب؟ يأخذ الشيطان يسوع إلى أعلى الهيكل اليهودي ويحثه إلى أن يلقي بنفسه: فلو أنه سيفعل، فستنقض ملائكة الرب و ستحمله قبل أن يصاب له أصبع. ما المقصود من إغراء يلقي فيه المغرى بنفسه من فوق مبنى بارتفاع عشرة طوابق؟ يحتاج المرء أن يتفهم مسألة المكان الذي يقع فيه هذا: فالمكان هو أورشليم، قلب الديانة اليهودية، وفي الهيكل الذي يمثل مركز عبادة الرب. كثير من اليهود يتحركون حول المكان. يحث الشيطان يسوع على أن يلقي بنفسه، على مرأى من الجميع، حتى تظهر الملائكة وتمسك به. بكلمات أخرى أصيغ فكرتي: هذه محاولة لإغراء يسوع أن يقدم برهانا علنيا وإعجازيا للجماهير على أنه بالحق ابن الله. فيرفض يسوع هذه كذلك بحزم باعتبارها إغراء شيطاني قائلا:«لا تجرب الرب إلهك.»
في متى، لن يصنع يسوع آية ليثبت نفسه. ولهذا سميت معجزاته في هذا الإنجيل معجزات وليس آيات. فهي إثباتات للقوة المقصود بها مساعدة من يحتاجها من الناس ولتظهر أن ملكوت الله قد دنى موعد ظهوره.
فماذا عن يوحنا؟ في إنجيل يوحنا تسمى أفعال يسوع المذهلة آيات، وليس معجزات. وهو يصنع هذه الآيات تحديدًا لكي يثبت من هو يسوع، ولكي يقنع الشعب بأن يؤمنوا به. وحيث يزعم أنه «خبز الحياة»، يصنع آية أرغفة الخبز للجماهير (يوحنا 6 )؛ وبزعمه أنه «نور العالم»، يصنع آية شفاء الأعمى منذ مولده(يوحنا 9 )؛ ولزعمه أنه هو «القيامة والحياة»، يصنع معجزة إحياء أليعازر من الموات(يوحنا 11 ).
من المثير للدهشة أن قصة متَّى عن رفض يسوع إعطاء القادة اليهود آية، فيما عدا آية يونان، لا يمكننا العثور عليها في إنجيل يوحنا. ولكن ما السبب في هذا؟ فيما يرى يوحنا، يقضي يسوع مدة خدمته التبشيرية صانعا للآيات. ويلا يخبرنا يوحنا كذلك عن قصة الإغراءات الثلاثة في البرية. مرة أخرى كيف أمكنه ذلك؟ بالنسبة له، إثبات يسوع لهويته عبر الآيات الإعجازية ليس إغراءً شيطانيًّا، بل استجابة لنداء طبيعته الإلهية.
والمقصود من هذه الآيات هو تعزيز الإيمان بيسوع. وكما يخبر يسوع بنفسه موظفا ملكيا طلب منه أن يشفي ابنه:« لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»(يوحنا 4 : 48 ). ويشفي يسوع الصبي فيأتي الرجل ليعلن إيمانه( 4 : 53 ). وهكذا كان مؤلف إنجيل يوحنا، كذلك، يعتقد أن الآيات هي التي برهنت على هوية يسوع وقادت الشعب إلى الإيمان:«وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.»( يو 20 : 30 – 31 ). وبينما كانت الدلائل الخارقة للطبيعة على هوية يسوع هي منطقة محظورة في إنجيل متَّى، فإنها في يوحنا كانت السبب الجوهري لما صنعه يسوع من أعمال إعجازية.
بعض الفروق الجوهرية بين بولس ومؤلفي الأناجيل
سبق بولس مؤلفي الأناجيل إلى الكتابة. غالبية رسائله كانت قد ألفت في العقد الخامس من عمر الصر المسيحي وذلك قبل أقدم أناجيلنا، إنجيل مرقس، بعشرة أو بخمسة عشر عاما. كان بولس ومعه مؤلفوا الأناجيل يكتبون في فترة أعقبت وفاة يسوع، فيما لم يكن مؤلفو الأناجيل يسجلون ببساطة الأشياء التي صنعها يسوع «في الحقيقة» قولا وفعلا لمصلحة الأجيال التالية. لقد حكوا روايات تضم أقوال يسوع وأفعاله في ضوء ما مفاهيمهم اللاهوتية التي يؤمنون بها شخصيا كما رأينا هذا مرة بعد أخرى. لكن الكثير من الآراء التي يجدها المرء في رسائل بولس تختلف تماما مع ما يمكن للمرء أن يجده في الأناجيل وفي سفر الأعمال الذي كتبه مؤلف إنجيل لوقا.
بولس ومتَّى... بين الخلاص والشريعة
هذه العقيدة تتناقض إلى حدٍّ ما مع وجهات النظر الأخرى في العهد الجديد بما في ذلك تلك التي يقدمها متَّى في إنجيله. فهل كان أتباع يسوع بحاجة إلى أن يلتزموا بأحكام الشريعة اليهودية إذا رغبوا في نيل الخلاص؟ تعتمد الإجابة على هذا السؤال على أي المؤلفين الاثنين تسأل. وهل يعتمد التبرر أمام الله اعتمادًا تامًّا على الإيمان بيسوع مصلوبًا وقائمًا من بين الأموات؟ تختلف قصة واحدة على الأقل مما يذكره متَّى في إنجيله مع بولس في هذه القضية تحديدًا.
رؤية بولس «للتبرر»
واحدة من الطرق التي يمكن للمرء أن يفهم بها عقيدة بولس اللاهوتية بخصوص التبرر هي أن يحاول التفكير بالمنطق ذاته الذي كان يفكر به. وهذا يتطلب أن نبدأ من البداية حينما لم يكن بولس واحدًا من أتباع يسوع بعدُ، بل كان بالأحرى شخص يرى في الإيمان بيسوع كفرًا يستحق فاعله مقاومة عنيفة. وكونه يكتب مؤلفاته بعد عشرين عاما من أيام اضطهاده للمؤمنين، لا يخبرنا بولس أبدًا ما الذي كان يجده في الأساس مستحقا للتوبيخ لهذه الدرجة في الإيمان المسيحي، وم ذلك فهناك بعض الافتراضات التي نجدها مبعثرة بطول رسائله وعرضها. ربما شعر بالإهانة من الادعاء ذاته بأن يسوع هو المسيا.
وهو، كيهودي ملتزم، وقبل تحوله للإيمان بيسوع، كان لديه بلا شك أفكاره عن شخصية المسيا وما هي صفاته. قبل أن تظهر المسيحية لم يكن ثمة يهودي واحد يؤمن بأن المسيا سيتألم ويموت. بل الأمر على العكس من ذلك تماما، فمهما كان ما يعتقده اليهود حيال هذا الأمر مختلفا من يهودي لآخر، إلا أنهم مجمعون على أن المسيا سيكون شخصية لها مهابتها وسلطانها ستنفذ إرادة الله على الأرض بالقوة المسلحة. لم يكن اليهود يفهمون معنى فقرات الكتاب المقدس التي تتحدث عن معاناة عبد الرب الصالح باعتبارها إشارة إلى المسيا.
لقد كان المسيا مشمولا بعناية خاصة من قبل الله وكان تعبيرا عن الوجود الفعال والقوي للرب على الأرض. فمن يسوع هذا؟ إنه مجرد مبشر مغمور متجول خرج على الشريعة ومات مصلوبا بتهمة التمرد على الدولة. لقد كان خلع لقب المسيا على يسوع في أعين غالبية يهود القرن الأول الميلادي لا يعدو أن يكون مجرد مزحة في أحسن الأحوال أو هرطقة وكفرا في أسوأها. ليس هناك ما هو أكثر جنونا من ذلك وليس هناك من هو أقل حظا في الانتساب إلى المسيانية من مجرم مات مصلوبا(أنظر 1 كورنثوس 1 : 23 ). من الواضح أن بولس كان يفكر على هذا النحو هو الآخر. لكن شئ ما حدث لبولس بعد ذلك. فقد زعم فيما بعد أنه رأى يسوع في رؤيا بعد وفاته( 1 كورينثوس 15 : 8 ). هذه الرؤيا أقنعته بأن يسوع لم يكن ميتا. ولكن أنَّى ليسوع أن يكون كذلك؟
كان بولس، قبل تحوله للإيمان بيسوع، باعتباره يهوديًّا رؤويًّا، يؤمن بفكرة مفادها أنه بنهاية هذا العصر الذي يسيطر فيه الأشرار سيكون ثمة بعث للموتى، وأن الله عندما سيطيح بقوى الشر سيبعث كل الموتى وسيحاسب الجميع على أعمالهم فيمنح الأخيار جزاءهم الأبدي والأشرار عقابهم الأبدي. لو لم يكن يسوع ميتا، كما «علم» بولس ، لأنه قد رآه حيا (فلنقل قبل ذلك بعام أو بعامين)، إذن فهذا لأن الله قد أقامه من بين الأموات. لكن إذا كان الله قد بعثه حيا من بين الأموات، فهذا يعني إذن أنه كان ذلك الذي اجتباه الله بعنايته الخاصة. فهو إذن المسيا، ولكن ليس بالمقاييس التي كان يظنها أي يهودي من قبل، ولكن بمقاييس ما مغايرة.
ولكن إذا كان هو نفسه مختار الله، أو المسيا، فلماذا مات؟ من هذه النقطة نبدأ في التفكير مع بولس – أو بطريقة معكوسة، كما حدث الأمر بالفعل، مبتدئين من النهاية، ثم التحرك إلى الوراء إلى موت يسوع فوفاته. كان بولس يعتقد أن يسوع ينبغي ألا يموت من أجل باطل اجترحه إذا كان هو المسيا المشمول بعناية خاصة من الله. لا يجوز في حقه أن يموت من أجل آثامه الشخصية. فلماذا إذن؟ لا شك أن الإجابة ستكون: من أجل ذنوب الآخرين. مثل الذبائح المقدمة في هيكل أورشليم، كان يسوع ذبيحة مسفوكة دمائها من أجل الخطايا التي اجترحها الآخرون.
فلماذا سيميت الله يسوع من أجل الآخرين؟ بديهي أن هذا وقع لأنه ليس سبيل لعمل أضحية خالية من العيوب إلا عبر أضحية بشرية. وإذن فنظام الأضحيات اليهودي ليس صالحا للتعامل مع الخطايا. ولكن: هل يعني هذا أن الله قد غير فكره بشأن الطريقة التي على البشر أن يتبعوها لكي يتصالحوا مع الله؟ ألم يدعُ الشعب اليهودي ليكونوا شعبه الخاص وأعطاهم شريعته حتى يتميزوا عن الشعوب الأخرى باعتبارهم شعب الله المختار؟ نعم، يجيب بولس، لقد فعل. فلابد إذن أن الشريعة والأنبياء يشيرون إلى المسيح الذي هو الحل الإلهي النهائي للمشكلة الإنسانية.
لكن ما هي مشكلة الإنسان؟ كل إنسان- يتساوى في ذلك اليهودي والأممي- فيما يبدو قد انتهك شريعة الله ويحتاج للأضحية التي بلا عيب من أجل غفران خطاياه. لكن هذا سيعني أن يقبل كل إنسان، يهودي كان أم أممي، أضحية مسيح الله هذه لكي تغفر خطاياه أو يكفر عنها أمام الله. ولكن ألا يتبرر الناس أمام الله باتباعهم ما أمر الله به في الشريعة؟ مطلقا. فلو كان هذا ممكنا، فلا مبرر لأن يصلب المسيا. لقد سفك يسوع دمه، عبر صلبه، من أجل الآخرين وليصنع أضحية كفارة للخطايا. وهؤلاء الذين سيؤمنون بموته( وقيامته التي أظهرت أن موته كان جزءًا من خطة إلهية) سيتبرر أمام الله أي سيسلك مع الله سبيل الطاعة. ومن لا يفعل، فليس بمتبرر.
كل هذا إنما يعني أن الالتزام بالشريعة اليهودية ليس له محل من الخلاص. بل حتى اليهود الذين يحفظون أحكام الشريعة لأقصى درجة لا يمكن أن يتبرروا أمام الله عبر الشريعة. وماذا عن الأمميين: هل عليهم أن يصيروا يهودًا وأن يحاولوا الالتزام بالشريعة بمجرد أن يتحولوا إلى الإيمان بالمسيح؟ إجابة بولس على هذا السؤال هي النفي البات. إن محاولة الالتزام بأحكام الشريعة ستظهر أن شخصا ما يعتقد أن بمقدوره استحقاق عفو الله – أي أن له حقوق الافتخار، إذا جاز التعبير. فمن يحاول التبرر أمام الله عبر محافظته على أحكام الشريعة ما يزال منغمسا في الخطيئة ومحاولته هكذا ستكون عبثا وبلا طائل.
السبيل الوحيد الذي على المرء أن يسلكه لكي يكون بارًّا فهو أن يؤمن بموت يسوع وقيامته. فها هو ذا بولس في العدد 2 : 16 من الرسالة إلى أهل غلاطية يقول:«إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا.»
وهذه هي تعاليم بولس بطول الرسالة إلى رومية(1- 3 ) والرسالة إلى أهل غلاطية(1 – 3). أتباع يسوع ليس عليهم أن يحاولوا التمسك بأحكام الشريعة إلا إذا كان هذا الاتباع مقصورًا على «أحب الجار كحبك نفسك» كما أن العيش وفق قانون أخلاقي خيِّر ما يزال أمرًا يتوقع الله من شعبه أن يستمسكوا به. لكن اتِّباع وصايا الشريعة ومتطلباتها- مثل الختان وأكل الحلال وتقديس السبت والمناسبات الدينية اليهودية الأخرى- فليس بينه ما هو ضروري لتحقيق الخلاص، وإذا ظننت(وعملت) على نحو مغاير لهذا، فخطر خسارتك للخلاص يحيط بك ويتهددك(غلاطية 5 : 4 ).[4]
آراء بولس ومتى حول الشريعة
كثيرا ما تساءلت عن ما كان سيحدث لو أن بولس ومتى قد أغلق عليهما باب غرفة معا وقيل لهما إنهما لن يخرجا منها ما لم يتوصلا إلى وثيقة يُجْمِعَان فيها على رأي موحد فيما يتعلق بالكيفية التي ينبغي على أتباع يسوع أن يتعاملوا بها مع الشريعة اليهودية. فهل كان سيأتي عليهما يوم يخرجان فيه من هذه الغرفة، أم كانا سيظلان فيها إلى الأبد هيكلين عظميين في قبضة الموت؟
لو كان متَّى، الذي بدأ في الكتابة بعد بولس بخمس وعشرين أو بثلاثين عاما، قد قرأ يوما رسائل بولس، فلا شك أنه لم يكن سيراها ملهِمَة له، فضلا عن أن تكون نتاج إلهام سماوي. كان متى يحمل رؤية مغايرة للرؤية التي كان بولس يعتنقها حيال الشريعة. فمتى يعتقد أن أتباع يسوع ملزمون بالاستمساك بالشريعة. وهم، في الواقع، في حاجة إلى أن يكون التزامهم بها أكثر من استمساك أكثر اليهود تدينا: أعني الكتبة والفريسيين. فلقد نقل إنجيل متى عن يسوع قوله:
«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ.مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ.»
فأما بولس فكان يعتقد أن أتباع يسوع الذين سعوا إلى التمسك بالشريعة كان خطر خسارة الخلاص يتهددهم. وأما متى فقد كان يعتقد أن أتباع يسوع الذين لم يتمسكوا بالشريعة منهجا، وحتى أكثر من متديني اليهود، لن يروا خلصا أبدًا. وقد حاول اللاهوتيون والمفسرون عبر السنين أن يوفقوا بين هاتين الرؤيتين واللتان يمكن رصدهما لأنهما معا يمثلان جزءًا من القائمة الرسمية للكتاب المقدس. لكن أي إنسان يقرأ إنجيل متى ثم يعقبه بقراءة الرسالة إلى أهل غلاطية لن يظن أن ثمة سببا أو حتى طريقة ممكنة للتوفيق بين هاتين الإفادتين. فلكي تصبح عظيما في الملكوت، فيما يرى متَّى، فهذا يتطلب منك أن تستمسك بالوصايا جميعا حتى أقلها؛ بل إن دخول الملكوت يتطلب أن تحفظ الوصايا أكثر من حفظ الكتبة والفريسيين لها. بينما يرى بولس أن الدخول إلى مملكة الله ( وهي الطريقة الأخرى للتعبير عن معنى «التبرر») لا يكون ممكنا إلى عبر موت يسوع وقيامته من الأموات؛ وهو يرى أن اتباع الأمميين لوصايا الشريعة اليهودية(الختان على سبيل المثال) هو أمر محرم تحريما صارما.
متى بطبيعة الحال يعرف كل شئ عن موت يسوع وقيامته. فقد أنفق قدرا كبيرا من صفحات الإنجيل في رواية أحداثهما. وهو كذلك يعتقد أنه من غير موت يسوع لا يمكن أن يكون ثمة خلاص. لكن الخلاص يتطلب كذلك الاستمساك بوصايا شريعة الرب. فالله في النهاية هو من أوصى بهذه الوصايا. ويفترض أنه كان يعني ما وصى به ابتداءً وأنه لم يغير رأيه فيه انتهاءً.
هناك في إنجيل متَّى فقرة واحدة تفترض أن الخلاص ليس مجرد مسألة إيمان، بل هو كذلك مسألة عمل، وهي التصور الغريب تماما عن الفكر البولسي. ففي واحدة من أعظم المحاورات التي انخرط فيها يسوع، والتي لا نجدها سوى في إنجيل متَّى، يصف يسوع يوم الدينونة الذي سيأتي في نهاية الزمان. فابن الإنسان سيأتي في مجده محاطا بملائكته وسيجمع الناس من جميع أمم الأرض فيقفون أمامه (متى 25 : 31 – 45 ). وها هو ذا يقسمهم إلى فريقين « كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ .» فالخراف تكون عن يمينه والجداء تكون عن يساره. فيرحب بالخراف الذين عن يمينه في ملكوت أبيه «الْمُعَدَّ لَهُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ». ولماذا أدخل هؤلاء إلى الملكوت يا ترى؟ .
«لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي.عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ »
ومع ذلك ف«القطيع» يظل حائرًا. فهم لا يتذكرون أبدًا لقاءهم بيسوع، أو ابن الإنسان، ناهيك عن صنعهم لكل هذه الأشياء له. لكنه يخبرهم:« بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ.» أي أن اعتناءهم بالجوعى والعطشى والعراة والمرضى والمسجونين، إذا صغناها بطريقة أخرى، هو ما أورثهم ملكوت الله.
أما الجداء، التي على يساره، فيرسلها إلى «النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ». ولماذا؟ خلافا لما فعلته الخراف، هؤلاء لم يعتنوا بابن الإنسان حينما احتاجهم. فإذا هم حيارى هم الآخرون، فهم لا يتذكرون لقاءهم بابن الإنسان مطلقا. لكنهم رأوا الآخرين معوزين فأداروا لهم ظهورهم:«بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا.» ويختم متى روايته بهذا التصريح القوي:« فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.» وهذه هي آخر الكلمات العلنية التي قالها يسوع في إنجيل متَّى.
كيف تتناقض هذه الكلمات مع أفكار بولس؟ ليس إلى حدٍّ بعيد. كان بولس يؤمن بأن الحياة الأبدية ينالها الذين يؤمنون بموت يسوع وقيامته. في رواية متَّى عن الخراف والجداء، ينال الخلاص من لم يسمع مطلقا بيسوع. يناله هؤلاء الذين يعاملون الآخرين معاملة إنسانية وباهتمام في ساعة عوزهم الشديد. وهذه نظرة مختلفة تماما لقضية الخلاص.[5]
وثمة رواية أخرى مثيرة للدهشة في إنجيل متَّى. ففيه يفِدُ غنيٌّ على يسوع ويسأله:« أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» فيخبره يسوع:« إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا.» وحينما يسأله الرجل:«أية الوصايا؟» يعدد له يسوع بعضا من الوصايا العشر كأمثلة. فإذا بالرجل يصر على أنه بالفعل قد التزم بها جميعا ويضيف: فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟ فيجيبه يسوع أنه لابد أن يتنازل عن كل أملاكه «فَيَكُونَ لَهُ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ»(متى 19 : 16 – 22 ). ثم يقول له يسوع:« وَتَعَالَ اتْبَعْنِي»(لاحظ أن اتباع يسوع يأتي بعد أن يرث الرجل الكنوز السمائية في أعقاب تنازله عن كل ما يملك.)
إنني أتساءل: ماذا كان سيحدث لو أن الرجل نفسه كان قد أتى إلى بولس قبل ذلك بعشرين سنة؟ لو أن امرءًا سأل بولس عن السبيل إلى نوال الحياة الأبدية، فهل كان سيقول له:« احْفَظِ الْوَصَايَا»؟ لا بالطبع، ليس بولس. ليس للوصايا علاقة بالخلاص. إنما موت يسوع وقيامته هما اللذان يجلبانه. وهل كان بولس سيقول له إن تنازله عن كل ما يملك يكسبه كنوزًا في السماء؟ مستحيل. فالإيمان وحده القادر على أن يجلب الحياة الأبدية.
ليس بوسع المرء أن يجادل في أن يسوع كان يتحدث عن خلاص يسبق موته، بينما بولس يتحدث عن خلاص يليه، وذلك لأن متَّى كان يكتب في فترة تالية لفترة بولس. فوق ذلك نجد يسوع، في متَّى، متحدثا عن الدينونة الأخيرة والتي من الواضح أنها ستحدث بعد موته وقيامته. وهكذا فالمشكلة تتمثل في التالي: لو أن يسوع، بحسب تصوير متى له، كان على حق في قوله إن التمسك بالشريعة ومحبة المرء للآخرين كمحبته نفسه قادرة على جلب الخلاص، فكيف يكون بولس هو الآخر محقا في اعتقاده بأن فعل هذه الأشياء لا يمت إلى نيل الخلاص بأي صلة؟
[1]
[2]
[3]
[4]
[5]
تعليق