الفقرات التي تضم سلاسل النسب ليست دائما موضع تفضيل لدى قراء الكتاب المقدس. يبدي تلامذتي في كثير من الأحيان تذمرهم حينما أجبرهم على قراءة سلسلتي نسب يسوع في إنجيلي متى ولوقا. فإذا رأيت أنهم يعتبرون أمري لهم بالقيام بهذا شيئا سيئا، أسدي لهم نصيحة بأن يقرأوا سفر أخبار الأيام الأول. فمساحة هذا السفر تغطي تسعة إصحاحات كاملة، إصحاحا وراء آخر. فعند المقارنة، تبدو سلسلتا نسب يسوع في إنجيلي لوقا ومتى أقصر طولا وألطف وقعا. لكن المشكلة هي فيما بينهما من اختلافات.
مرة أخرى أكرر أن متى ولوقا هما إنجيلانا الوحيدان اللذان يمنحاننا نسب عائلة يسوع. هذا في حد ذاته يخلق مشكلة محيرة. فكما رأينا يصر متى ولوقا كلاهما عن قصد على أن أم يسوع كانت عذراء: لقد وجدت حبلى من الروح القدس، ويوسف ليس أبا ليسوع. لكن هذا يخلق مشكلة بديهية. إذا لم تكن ثمة علاقة دم تربط يسوع بيوسف ، فلماذا يتعقب متى ولوقا نسب يسوع عبر يوسف بهذا القدر من العناية؟ هذا سؤال لا يجيب عليه أي من المؤلفين: فالروايتان كلتاهما يعطياننا نسبا لا يمكن أن يكون ليسوع، حيث إن نسبه الحقيقي وعلاقة الدم الوحيدة التي له لا تمر إلا عبر مريم التي لا يذكر أي منهما أي معلومات عن نسبها.
بعيدا عن هذه المشكلة التي تتسم بعموميتها، هناك اختلافات عديدة وبديهية في وضوحها بين النسبين الواردين في الإصحاح الأول من متَّى والثالث من لوقا. بعضها لا يمثل تناقضا بحد ذاته؛ بل مجرد اختلافات عادية. فمتَّى، على سبيل المثال، يعطينا سلسلة النسب في مستهل إنجيله، أعني في أعداد إنجيله الأولى؛ أما لوقا فيعطينا سلسلته بعد معمودية يسوع في الإصحاح الثالث( الذي هو موضع شاذ لأن تذكر فيه سلسلة نسب، فالعهد بسلاسل النسب أن تكون ذات علاقة بيوم ميلادك، وليس بيوم معموديتك وأنت في سن الثلاثين. لكن ربما كان للوقا أسبابه في أن يضعها في هذا المكان الذي وضعها فيه). فأما النسب كما يورده متَّى فيتعقب نسب يوسف عبر الملك داوود جد المسيح وصولا إلى إبراهيم أب اليهود. وأما النسب اللوقاوي فيعود لما هو أبعد من ذلك متعقبا السلسلة حتى آدم أبي الجنس البشري.
لي عمة متخصصة في علم الأنساب تتفاخر بأنها تعقبت نسب عائلتنا ليصل بها النسب إلى أحد المسافرين على متن السفينة«مايفلاور». مع ذلك فما لدينا هنا هو نسب يعود إلى أيام آدم، آدم وحواء أبا البشرية. يا له من نسب مثير للدهشة!
ربما يتساءل المرء عما قد يدفع المؤلفين لوضع نهايتين مختلفتين لسلسلتي النسب في إنجيليهما. عادة ما يظن البعض أن متَّى، ذلك الإنجيل الذي يعنيه كثيرا إظهار انتماء يسوع لليهودية، يريد أن يشدد على علاقةيسوع بملك اليهود الأعظم داوود، وبأبي اليهود إبراهيم. أما لوقا، في الجهة الأخرى، فهو معنيٌّ على نحو أكبر بإظهار يسوع كصاحب رسالة خلاص لكل البشرية، اليهودي منهم والأممي، وهو ما نراه في سفر أعمالالرسل الذي يمثل الجزء الثاني من إنجيل لوقا والذي نرى فيه الأمم وقد قُبِلُوا كأعضاء في الكنيسة. ولذلك يظهر لوقا يسوع كقريب لنا جميعا من جهة آدم.
اختلاف آخر بين سلسلتي النسب يتمثل في أن متى في بداية إنجيله يبتدئ بإبراهيم ثم ينزل بالنسب جيلا وراء آخر وصولا إلى يوسف؛ أما لوقا فيتجه اتجاها مغايرا فيبدأ بيوسف ويصعد به جيلا بعد آخر حتى يعودإلى آدم.
هذه إذن ببساطة هي بعض الاختلافات بين الروايتين. المشكلة الحقيقية التي تطرحها هذه الاختلافات، مع ذلك، هو أن النسبين في الواقع متباينين. وأيسر السبل لتبيُّنِ هذه الفروق هو أن نوجه السؤال البسيط التالي: من أبو يوسف في كل نسب على حدى، ومن جدُّه من جهة أبيه ومن أبو جده؟ في متى يبتدئ النسب بيوسف فيعقوب فمتَّان فأليعازر فأليود ويستمر هكذا موغلا فيما مضى من زمان. أما في لوقا فيسير النسب منيوسف إلى هالي ومنه لمتثات ثم إلى لاوي فملاخي. ثم يصيرا متشابهين في النهاية حينما يصلان إلى الملك داوود(مع أن هناك مشكلات أخرى كما سنرى)، لكنهما يعودا فيضطربان من داوود وحتى يوسف.
كيف يحل المرء هذه المعضلة؟ ثمة افتراض نمطي يتمثل في القول بأن النسب الذي أورده متى هو نسب يوسف حيث يركز فيه متى على يوسف في روايات الميلاد تركيزا أكبر، وفي القول إن النسب الذي للوقا هونسب مريم التي يركز عليها لوقا أكثر من تركيزه على يوسف في روايته عن الميلاد. وهو حل جذاب إلا أنه يتضمن عيبا قاتلا. فلوقا يشير بوضوح إلى أن نسب الأسرة هو ذاك الذي ليوسف، وليس لمريم(لوقا 1 : 23 ؛ وكذلك متَّى 1 : 16 )[1]
وهناك مشكلات أخرى. تعد سلسلة النسب التي ذكرها متى هي، من بعض النواحي، الأكثر لفتا للنظر لأنه يشدد فيها على الأهمية العددية لنسب يسوع. فمن إبراهيم وصولا لداوود، ملك إسرائيل الأعظم، هناك أربعةعشر جيلا؛ ومن داوود وإلى دمار مملكة يهوذا على يد البابليين، أو أعظم كارثة في تاريخ شعب إسرائيل، هناك أربعة عشر جيلا مثلها؛ ومن الكارثة البابلية حتى ميلاد يسوع هناك أربعة عشر جيلا(1 : 17 ). أربعةعشر وأربعة عشر وأربعة عشر ثالثة: وكأن الله في الغالب هو من خطط أن يسير الأمر على هذا المنوال. وفي الحقيقة هذا ما يعنيه متى بالفعل. فبعد كل أربعة عشر جيلا يقع حادث ذو شأن. وهذا يعني بالضرورة أنيسوع، أو الجيل الرابع عشر، هو شخص له عند الله منزلة عظيمة.
المشكلة هي أن الرسم البياني المكون من «ثلاثة أربعة عشر» ليس دقيقا. فلو أنك قرأت ما بين الأسماء بعناية، سترى أن المجموعة الثالثة منها لا تحتوي في الحقيقة سوى على ثلاثة عشر اسما فحسب. أضف إلى ذلك أنه من اليسير نسبيا أن تخضع النسب الوارد في متى للمقارنة مع المصدر الذي استقى منه متى نسبه والذي هو الكتاب المقدس العبري نفسه الذي كان مصدرا استقى منه متّى الأسماء الواردة في سلسلة نسبه. فإذافعلنا هذا، يتضح لنا أن متى قد حذف بعض الأسماء من الأجيال الأربعة عشر من داوود وحتى الكارثة البابلية. ففي العدد 1 : 8 يشير متى إلى يورام باعتباره أبا لعُزِّيا. لكننا نعرف من سفر أخبار الأيام الأول الإصحاحالثالث والأعداد 10 – 12 أن يورام لم يكن أباه، بل جد جده.(8) أي أن متَّى، بطريقة أخرى، أسقط ثلاثة أجيال من سلسلة نسبه. ولماذا فعل ذلك؟ لابد أن جواب هذا السؤال بديهي, فلو أن متى ذكر الأجيال جميعها، فلنيكون بوسعه أن يزعم أن شيئا ذا بال وقع على رأس كل أربعة عشر جيلا.
مع ذلك فلماذا يشدد متى على العدد أربعة عشر تحديدًا؟ لماذا ليس سبعة عشر أو أحد عشر؟ ذكر العلماء عددا من التفسيرات عبر السنين. فبعضهم أشار إلى أن العدد سبعة في الكتاب المقدس هو الرقم المثالي. فإنصح هذا، فما علاقة هذا بالرقم أربعة عشر؟ علاقته به إنه يمثل ضعف الرقم سبعة. ومن هنا فهذا يحعل نسب المسيح نسبا «مثاليا على نحو مضاعف». نظرية أخرى، وربما تبدو أكثر إقناعا، هو أن النسب قد صيغتحديدا لكي يشدد على أن يسوع هو المسيا. فالمسيا لابد أن يكون «ابنا لداوود»، أي منحدرا من نسل أعظم ملوك بني إسرائيل. من المهم أن نعرف في هذا المقام أن الحروف الأبجدية في اللغات القديمة كانت لهاوظيفة أخرى وهي أنها حروف وفي الوقت نفسه أرقام، ولذلك فالحرف «أَلِف» العبري هو نفسه الرقم واحد كذلك، وأما الحرف الثاني، «بيت»، فيساوي الرقم اثنين، والثالث، «جيمل»، يساوي الرقم 3 وهلم جرًّا. وهناك أمر آخر فيما يتعلق بالعبرية القديمة وهو أنها لم تكن تستعمل حروف العلة. ولهذا فالاسم داوود كان يجري كتابته كالتالي: «د.ڤ.د». فأما الحرف «د»(واسمه «داليت») فيساوي الرقم 4، وأما الحرف«ڤ»(وينطق « ڤاڤ») فيساوي العدد 6 . فإذا جمعت الحروف المكونة لاسم داوود، ستجدها مساوية للعدد 14 . ولعل هذا هو السبب الذي أراد متى من أجله أن يكون ثمَّة في نسب يسوع المسيح ابن داوود ثلاث مجموعات كل مجموعة منها تتضمن أربعة عشر جيلا.
لسوء الحظ، كان عليه، لكي يجعل الأرقام تؤتي أكلها وتحقق الغرض المرجو منها، أن يحذف بعض الأسماء. ربما سأشير كذلك إلى أن متى لو كان محقا في رسمه البياني المشتمل على ثلاثة «أربعة عشر» اسما، كناسنجد 42 اسما بين إبراهيم ويسوع. أما النسب عند لوقا، مع ذلك، فيمنحنا 57 اسما. فهذان إذن نسبان مختلفان.
وما هو السبب في هذا التناقض؟ السبب أن كل مؤلف من هذين الاثنين كان له غرضه من إقحام سلسلة النسب في إنجيله- أو كان عندهما بالأحرى العديد من الأغراض: أعني إبراز ما بين يسوع وأبي اليهود إبراهيم(وأخص متى في هذا المقام بالذكر) وداوود أعظم ملوك إسرائيل(عند متَّى كذلك) ، والجنس البشري ككل (عند لوقا)من نسب وصلة. من المحتمل جدا أن المؤلفين كانا ينقلان عن غيرهما سلسلتي النسب هاتين، أو ربما اختلقاهما اختلاقا. وكلاهما بطبيعة الحال لم يكن ليدور بمخيلته أن ما يكتبه سيعين كجزء من «العهد الجديد» أو أن نقاد المنهج التاريخي الذين سيولدون بعد ذلك بألفي عام سيعقدون مقارنة دقيقة بين وبين غيره. ويقينا لم يستشر أحد الرجلين صاحبه في سبيل الخروج بنص متناغم ومتوافق لما ذكراه من حقائق. فكل واحد منهما ذكر روايته بأمثل الطرق التي استطاعها، لكن روايتيهما انتهى بهما الحال إلى أن صارا منضاربين.
[1]
اترك تعليق: