السلام عليكم
كل عام وأنتم بخير تمر علينا ذكرى غزوة بدر .... لتذكرنا بقوة الإسلام عند الإستضعاف .... كل عام وأنتم بخير
=============
غزوة بدر ودروسها الخمسة
إيمانيات :النور :الجمعة 22 رمضان 1425هـ - 5 نوفمبر 2004 م
لعل أعظم انتصار أحرزه المسلمون، كان في رمضان، فيوم الفرقان, وهو في غزوة بدر, كان في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية، وفتح مكة، وهو الفتح الأعظم، كان صبيحة يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان في السنة الثامنة.
أما في بدر، فقد خرج المسلمون من المدينة في رمضان، ليعترضوا قافلة قريش وهي عائدة من الشام، مثقلة بالأحمال والكساء والغذاء؛ وندبهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: 'هذه غير قريش، فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها'. أي يجعلها لكم عطية.
كان الخروج للقافلة، الغنية، التي قدرت حمولتها بخمسين ألف دينار من الذهب، ساهمت قريش كلها فيها. وقدر المسلمون أن يكون لهم من ورائها بعض الذي فقدوه من أموالهم بسبب الهجرة.
ما كان يدور في خلد منهم قتال، ولا مواجهة لقريش، بل مصادرة القافلة.
كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، معهم سبعون بعيرًا تحمل الزاد، وفرسان أو أربعة أفراس فقط.
لكن الأخبار تسربت إلى القافلة بخروج المسلمين إليها، فكسر قائدها أبو سفيان طريقه، فسلك جانب البحر، وأرسل إلى قريش لتخف دفاعًا عن أموالها .. فهبت بصناديدها، وجهزت جيشًا قوامة تسعمائة وخمسون رجلاً، منهم سبعمائة بعير ومائة فرس؛ تغنيهم القينات بهجاء المسلمين، وتمنيهم بالنصر.
وأشار القرآن الكريم إلى ذلك، بقوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:48] وحذر المسلمون من هذا المسلك البطر فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:47].
وعلم المسلمون بأن عير قريش وقافلتها فرت ونجت من أيديهم، وإن قريشًا سارت للدفاع عن القافلة، وستصل بدرًا بعد يومين.
وهنا كانت المفاجأة، أراد المسلمون أموال القافلة، ففوجئوا بقريش تواجههم بحرب لم يستعدوا لها:
والحرب بالنسبة إلى المسلمين، وهم ليسوا بمهيئين لها، تعني ـ في نظر بعضهم ـ أنهم يساقون إلى مجزرة تستأصلهم. والعودة إلى المدينة تسجيل عار الخزي والهزيمة عليهم.
لكن الرسول الرحيم الحكيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يشأ أن يفرض على المسلمين الحرب ـ كما يفرضها بعض الحكام على الشعوب المستضعفة ـ بل أراد أن يشركهم في هذا التحول؛ فقال: أشيروا علي أيها الناس!
فتكلم كبار الصحابة من المهاجرين، ومن الأنصار.
كان من كلمة المقداد من المهاجرين: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون .. وكان من كلمة سعد بن معاذ سيد الأوس من الأنصار .. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا أحد .. إنا لصبرٌ في الحق، صدق في اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
استبشر النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع صحابته على المواجهة ولو كانت مفاجئة، فقال: 'سيروا وأبشروا: والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم، إن الله وعدني في إحدى الطائفتين'. يشير إلى قوله تعالى الذي نزل في هذه المناسبة: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن [العير أو النفير] أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:7ـ8].
ولما نجت القافلة بتغيير طريقها، أرسل قائدها أبو سفيان إلى قريش قائلاً: إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجت فارجعوا.
لكن أبا جهل، أبى واستنكر، وقال: لا نرجع حتى نرد بدرًا، ونقيم فيها ثلاثًا، ننحر الجزور 'الجمال' ونشرب الخمور، ونطعم الطعام، ويسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا. وأجمع المشركون على رأيه، فساروا حتى قربوا من بدر، ونزلوا في أرض سبخة 'متربة' وسار المسلمون فنزلوا في أرض مرسلة.
وظهرت تباشير الرحمة الإلهية بالمسلمين، فأنزل الله المطر، الذي كان بلاءً على المشركين، فغاصت أقدامهم في الطين، وغابت قوائم الخيل في الوحل، وساءت حالهم. كما كان رحمة بالمسلمين، فشربوا وسقوا حيوانهم، وملؤوا أوعيتهم، وتلبدت الأرض تحت أقدامهم. وفي هذا يقول الله تعالى: {... وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].
كما ظهرت الرحمة وتباشير النصر، بتقوية الروح المعنوية في قلوب المؤمنين عند اللقاء وفي قلب النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، كما قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} [الأنفال:43ـ44].
وسوى النبي صلى الله عليه وسلم صفوف جيشه بقضيب في يده، وقال لسواد بن غزية، وهو خارج عن الصف، استقم يا سواد، وضربه بالقضيب في بطنه، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله! وقد بعثت بالحق والعدل، فأقدني من نفسك، فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد يا سواد. فاعتنقه سواد، وقبل بطنه؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ذلك يا سواد؟ قال: يا رسول الله: حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد أن يمس جلدي جلدك، فدعا له بخير.
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم عريشه، يدعو ربه، بحرارة وصدق، ويناشد ربه النصر، ويقول: 'اللهم هذه قريش، قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني به، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم، لا تعبد'.
وأبو بكر يشهد الدعاء، ويسمع التضرع، ويقول: يا نبي الله! بعض مناشدتك ربك، إن الله منجز لك ما وعدك.
وفي هذا نزل قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:9ـ10].
وأخذت النبي صلى الله عليه وسلم سنة من النوم، وهو في العريش، ثم صحا يقول للصديق؛ أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل، آخذ بعنان فرسه، يقوده، على ثناياه النقع..
ثم خرج من العريش، يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [لقمر:45] ويحرض المؤمنين على القتال والمصابرة، قائلاً: 'والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة'. ثم أخذ حفنة من الحصباء، فقذف بها قريشًا وقال: شاهت الوجوه، ثم قال لأصحابه: شدوا .. واشتد القتال وحمى الوطيس، وتهاوت السيوف وترامت النبال، وقاتلت الملائكة مع المسلمين، وما هي إلا ساعة، حتى هزم المشركون، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون .. ففي هذا يقول الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12].
قتل من المشركين في هذه الموقعة سبعون، فيهم رؤوس الكفر، وأكباش الشرك: أمثال: عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وحنظلة بن أبي سفيان، وأبي جهل، وآخرين .. كما كان عدد الأسرى سبعين؛ وقتل من المسلمين أربعة عشر صحابيًا.
كان ذلك في اليوم السابع عشر من رمضان، بعد أربعة عشر عامًا من بدء نزول القرآن.
كان من هدي الرسول الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم في حروبه، أنه إذا مر بجيفة إنسان أمر بها فدفنت، لا يسأل عنه مؤمنًا كان أو كافرًا، فأمر بجثث القتلى، فنقلت، وألقيت في القليب أي البئر.
ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم على شفة القليب، الذي رمي فيه المشركون فجعل يناديهم بأسمائهم .. يا فلان ابن فلان يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة، يا أبا جهل .. أيسركم أنكم كنتم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فقال عمر: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال: 'والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني'.
وقفل راجعًا بالمؤمنين، مكللين بالنصر المبين، إلى المدينة التي تلقتهم بالدفوف وهذا النشيد:
طلع البدر علينا
وجب الشكر علينا
أيها المبعوث فيها
من ثنيات الوداع
ما دعا لله داع
جئت بالأمر المطاع
تجلت في هذه الغزوة دروس ومبادئ مهمة، كان من أبرزها:
الدرس الأول: تطبيق مبدأ الشورى عمليًا فيها أكثر من مرة:
1ـ طبقه النبي صلى الله عليه وسلم أولاً في أصل فكرة قتال المشركين، حينما قال: 'أشيروا علي أيها الناس'. لكيلا يحرجهم بفرض القتال عليهم، وهو غير محبب إليهم، مع خفاء عاقبته، وما يتطلبه من تضحيات بالأنفس والمال.
2ـ وطبقه ثانيًا في مكان القتال، حينما نزل بالمسلمين بأدنى ماء بدر، فقال الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
فقال الحباب ـ وكان مشهورًا بجودة الرأي ـ يا رسول الله: ليس لك هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فإني أعرف غزارة مائه وكثرته، فننزله ونغور ماعداه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماءً، فنشرب ولا يشربون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي؛ ونفذ مشورته.
3ـ وطبقه ثالثًا فيما يفعله حيال الأسرى، أيقتلهم أم يقبل منهم الفداء، لأنه خير في هذين الحكمين، فأيهما أولى بالاختيار، وأجدر بالتطبيق؟ استشار العلية من أصحابه في ذلك؛ فقال عمر: يا رسول الله: قد كذبوك وقاتلوك وأخرجوك، فأرى أن تمكنني من فلان ـ لقريب له ـ فأضرب عنقه؛ وتمكن حمزة من أخيه العباس، وعليًا من أخيه عقيل، وهكذا حتى يعلم الناس أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين؛ ما أرى أن يكون لك أسرى، فاضرب أعناقهم, فهؤلاء صناديدهم، وأئمتهم وقادتهم، وكان هذا رأي سعد بن معاذ، وابن وراحة.
وقال أبو بكر: يا رسول الله! هؤلاء أهلك وقومك، قد أعطاك الله الظفر والنصر عليهم؛ أرى أن تستبقيهم، وتأخذ الفداء منهم، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله بك فيكونوا لك عضدًا.
فقال النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: إن الله يلين قلوب أقوام، حتى تكون ألين من اللبن؛ وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]. وإن الله ليقوي قلوب أقوام حتى تكون أقوى من الحديد؛ وإن مثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26]. لكنه مع استحسانه كلا الرأيين. لما فيهما من إعزاز الدين، وإذلال المشركين، أخذ برأي الصديق، وقال: 'أنتم اليوم عالة، فلا يفلتن أحد من أسراكم إلا بفداء'.
وتبرز الحكم الآتية في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم صحابته:
1ـ تطييب قلوبهم، ورفع شأنهم.
2ـ تعليمهم ضرورة الشورى في المهام، بحيث لم يستغن عنها أفضل الخلق.
3ـ تصفية القلوب، واستئصال الأضغان، لأن النفوس تتأذى من الاستبداد وفرض الرأي.
4ـ بيان لطف مسلك النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وتألفه وتواضعه لهم، كما نطقت بذلك آية الشورى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
ومع أن ملابسات أسرى بدر، كانت استشارة، وأخذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم برأي الصديق، وقبل الفداء. فقد نزل القرآن بترجيح رأي الفاروق، وعاتب المؤمنين على قبولهم الفداء. وقال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].
فتشبث بعض الذين كتبوا في فقه السيرة، بأن في القصة دليلاً على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام، وإذا صح له أن يجتهد 'صح منه بناءً على ذلك أن يخطئ في الاجتهاد ويصيب'.
وهذا الكلام لا يصح أن يطلق على سيد الخلق، ولا يصح أن يُسوَّى اجتهاده باجتهاد غيره، ولم نقرأ في الكتاب ولا في السنة، ولا في كلام السلف والأئمة، ما يشير إلى نسبة الخطأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قريب أو بعيد.
وليس في القصة اجتهاد، بل الذي فيها استشارة ـ كما ذكرت ـ في تطبيق أحد حكمين معروفين على الأسرى. والثابت من روايات أهل الحديث 'أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر واستشار الناس في الأسرى يوم بدر .. قال عمر: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلت, وأخذ منهم الفداء, فلما كان من الغد، قال عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر، وهما يبكيان، فقلت: ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: 'أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء؛ لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه'.
فليس في هذه الرواية اجتهاد مطلقًا، ولا خطأ في الاجتهاد، ولا تدل على عتاب النبي صلى الله عليه وسلم في اجتهاده، بل الذي فيها استشارة في اختيار أي حكمين معروفين قبلاً، للأخذ به في أسرى بدر، وذلك بدليل ما يأتي:
1ـ رواية الإمام أحمد قصة الأسرى كانت بلفظ: 'استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسرى يوم بدر...'. فالموضوع استشارة، وليس اجتهادًا لتعرف حكم جديد غير معروف، والاستشارة لتخير أنسب الحكمين المعروفين، وللإمام التخير فيهما.
2ـ فسر ابن عباس قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] بقوله: لولا ما ثبت في أم الكتاب، من أن المغانم والأسرى حلال لكم، لمسكم فيما أخذتم من الأسرى فداءً عذابٌ عظيمٌ. فكيف يخطئ فيما وافق المكتوب في أم الكتاب.
3ـ صح في الحديث: 'ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين لا اختيار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا'. فكيف يوصف اختياره الأمر المنسجم مع فطرته التي فطره الله عليها، بأنه خطأ.
4ـ قوله تعالى بعد ذلك: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] إقرار قبول الفداء، وهل يكون الإقرار على الخطأ؟ إن قضية الخطأ لازمة أن يؤمر برد الفداء، لا أن يباح له أكله حلالاً طيبًا.
5ـ قبل النبي صلى الله عليه وسلم فدية اثنين أسرا في سرية عبد الله بن جحش، وكانت في رجب من السنة الثانية، أي قبل بدر بشهرين فقط، وهما عثمان بن عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان، وكان فداء كل واحد أربعين أوقية من الذهب، ولم يخطَّأ وقتئذٍ، ولم يعاتَب، فكيف يخطَّأ ويعاتَب هنا؟
6ـ جاء في رواية حديث صحيح عن علي قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال له: 'خير أصحابك في الأسارى: إن شاؤوا القتل، وإن شاؤوا الفداء.
على أن يقتل منهم ـ يعني من الصحابة ـ في العام المقبل مثلهم ـ: يعني مثل الأسرى سبعون رجلاً ـ فقالوا: نختار الفداء، ويقتل منا', وذلك رغبة منهم في الشهادة في سبيل الله.
فقد فعلوا ما أذن لهم فيه؛ وكان العتب موجهًا إليهم. لاختيارهم غير الأولى.
7ـ نصت كتب السيرة على أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار كبار الصحابة، كما استشار عامة الناس الذين قاتلوا وأحرزوا الغنائم، وأصابوا الأسرى، فكان الاتجاه إلى أخذ الفداء، فلم يكن العتاب موجهًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل إلى الذين مالوا إليه، وأشاروا به.
8ـ وفي سياق قصة العتاب، روينا قوله صلى الله عليه وسلم: 'أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة'. وقوله هذا واضح في أن بكاءه لما كان يتهددهم من العذاب القريب. ولهذا جاء الخطاب موجهًا إلى الجماعة: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال:68].
9ـ كيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد عرض الدنيا، وهو الذي أبى أن تكون له جبال تهامة ذهبًا. وقال: 'ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها' وهو الذي 'مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير، أخذها رزقًا لعياله'.
وإذن، فالمخاطب، والمعاتب، والذي خوف بالعذاب القريب، هو ذلك النفر من الصحابة الذين اقترحوا قبول الفداء, وليس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا جاءت صيغة الخطاب بجمع المخاطبين، لا الواحد المخاطب.
الدرس الثاني: تفريغ القلب من المادة
فقد تعلق بعض المسلمين بالغنائم عقب النصر، وكادوا يختلفون فيما بينهم، فأدبهم القرآن، وصرفهم عن التشاغل بالمادة، والتنازع بسببها:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
فلما ثابوا إلى الرشد، وتطلعوا إلى مرضاة الله، نزل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال:41].
لقد كانوا في فاقة، لكن ما ينبغي أن تحملهم فاقتهم على الاختلاف من أجل المادة، فإن طاعة الله ورسوله فوق كل اعتبار. فلما استقاموا على الحق، وآثروا مرضاة الله، رزقهم الله من فضله، وآتاهم أكثر مما كانوا يودون.
'عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً من أصحابه، فلما انتهى إليها قال: 'اللهم إنهم جياع، فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسُهم'.
ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا وقد رجع بحمل أو حملين، واكتسوا وشبعوا'.
والدرس الثالث: أن النصر بيد الله ومن عند الله
فالظواهر ما كانت تشير إلى انتصار المسلمين: قلة في العدد والعدة، جياع حفاة عراة، فوجئوا بالقتال، فأجمعوا أمرهم عليه، وربطوا الإيمان على قلوبهم، وتعلقوا بالله، واستماتوا في القتال طلبًا للشهادة .. وحرضهم النبي صلى الله عليه وسلم وبشرهم، واتخذوا معه جميع ما في طوقهم من الأسباب، فهيأ لهم أسباب النصر في المادة والروح:
1ـ وعدهم إحدى الطائفتين: القافلة أو النصر.
2ـ غشاهم النعاس، لتهدأ أعصابهم، ويستوثقوا من أنفسهم.
3ـ أنزل عليهم الماء من السماء، تثبيتًا لأقوامهم، وتطهيرًا لأجسادهم.
4ـ صور لهم عدد المشركين قليلاً كيلاً يفزعوا منه، وليجترئوا عليه.
5ـ وأرى نبيه العدد قليلاً، ليقوى قلبه، ويشتد عزمه.
6ـ أرسل ملائكته تقاتل مع المسلمين، وتثبت مواقفهم، وتنفث روح الاستشهاد، والثقة بنصر الله.
7ـ ألقى في قلوب المشركين الرعب، وهو نذير الفشل والخسران.
وصدق الله العظيم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
الدرس الرابع: عاقبة الكبر والخيلاء، الخزي والسوء والعار
فهذا أبو جهل، لم يسمع إلى نصيحة أبي سفيان، بأن يعود بعد أن نجت القافلة، بل أصر على الخروج، والفخر بذبح الجمال، وشرب الخمور، وغناء القينات بهجاء المسلمين، وآمال النصر المعسولة.
فكانت عاقبته أنه قتل في المعركة، شر قتلة، وعلم أن آماله تكسرت، وأحلامه تحطمت..
سأل ولدا عفراء عن أبي جهل يوم بدر، فلما عرفاه، شدا عليه مثل الصقور، ورمياه بسهامها حتى سقط عن فرسه. ورآه عبد الله بن مسعود، فطار إليه كالعصفور، وجثم على صدره، وهو يجود بأنفاسه، فقال له أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم. فقال له عبد الله: ها قد أخزاك الله يا عدو الله. فقال أبو جهل: لمن الدائرة اليوم؟ قال عبد الله: لله ورسوله. وأخذ خنجره فاحتز رأسه به، وحمله إلى الرسول وصحابته، فكبر وكبروا وقال: هذا فرعون هذه الأمة.. وكذلك تكون عواقب الفخر الفازع، والتعالي الأثيم على عباد الله المستضعفين.
وكتب ربك الشهادة لولدي عفراء الفتيين الناعمين المؤمنين.
والدرس الخامس: تبدأ الحياة بعد الموت
لا تنتهي الحياة بالموت، إلا وتبدأ حياة البرزخ، ويجب الإيمان بهذه الحياة الخاصة. وأن الأموات بعد دفنهم يسمعون ولا يتكلمون.
وقد صح عذاب القبر ونعيمه.
وقد 'مر النبي عليه الصلاة والسلام بقبرين، فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان من كبير. ثم قال: بلى. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول، ثم دعا بجريدة رطبة، فكسرها كسرتين، ووضع على كل قبر كسرة، وقال: أرجو أن يخفف عنهما ما لم ييبسا'.
كما أخبرنا بأن الحيوانات تسمع تعذيب العصاة في قبورهم.
ولا بد من التسليم بهذه الحقائق الغيبية، وإن كنا لا نملك الحواس التي تنقل إليها حياة أهل القبور، كما تملكها بعض الحيوانات.
والقرآن يشير إلى ذلك بقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
ويخبر عن سعادة الشهداء قائلاً: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:170].
تعليق