من بديهيات الإسلام أن معجزة القرآن الكبرى هى في لغته وبلاغته، وأن القرآن قد تحدى العرب أن يأتوا بسورة مثل القرآن في بلاغته..
ولكن بشيء من التعمق والربط بين المسائل، يتبين أن التحدي لم يكن في اللغة بل كان في الهدي، وأن فكرة "إعجاز القرآن اللغوي" لم تكن معروفة في قرن الإسلام الأول.
، يقول المستشرق نولدكه في كتابه "تاريخ القرآن" ص50، 51:
ولكن بشيء من التعمق والربط بين المسائل، يتبين أن التحدي لم يكن في اللغة بل كان في الهدي، وأن فكرة "إعجاز القرآن اللغوي" لم تكن معروفة في قرن الإسلام الأول.
، يقول المستشرق نولدكه في كتابه "تاريخ القرآن" ص50، 51:
((ومن المعروف أن المسلمين حتى اليوم يرون في هذه الحادثة برهاناً لا يُدحض على أن القرآن كتاب إلهي، تقصر كل مهارة بشرية عن مجاراته. فقد كانت بلاد العرب حينئذ تعج بالخطباء، ولم يستطع أحد منهم أن يجيب على تحدي محمد. ويُعرض هذا الرأي الذي ترتبط به بعض المسائل التي يُثار فيها الجدل، في كتب كثيرة في إعجاز القرآن. لكننا إذا تفحصنا تحدي محمد عن كثب اكتشفنا أنه لم يتحد خصومه أن يأتوا بما يضاهي القرآن من ناحية شعرية أو خطابية، بل بما يضاهيه من حيث الجوهر. وهذا ما لم يكن في وسع أعدائه بطبيعة الحال. فكيف لهم أن يدافعوا عن الإيمان القديم بالآلهة، وكانوا على اقتناع شديد به، بالطريقة نفسها التي دافع فيها ذاك عن وحدة الله وما يتعلق بها من عقائد؟ هل كان بإمكانهم أن يجعلوا الآلهة تتكلم؟ لم يكن هذا ليكون إلا سخرية أو سخافة. أو هل كان لهم أن يتحمسوا لوحدة الله ويناضلوا ضد نبوءة محمد؟ في هذه الحال لن يكون في وسعهم إلا نسخ القرآن الذي أرادوا أصلاً أن يأتوا بما يضاهيه؛ والمثال يُقارن بالأصل. إن إيمان محمد كان إيماناً أصيلاً تجاه قومه، وخلق لنفسه تعبيراً أصيلاً عنه، ولم يكن بإمكانهم تقليده. وزادت حيرة أسلوبه في صعوبة ذلك بقدر غير يسير.))
إذاً فقد تنبه نولدكه إلى أن التحدي لم يكن في اللغة، ولكنه عرض رأيه دون أن يدعمه بالدلائل..
لذلك أقوم في هذا الموضوع بعرض الدلائل التي لا تترك مجالاً للشك في أن التحدي لم يكن في اللغة وأن الإعجاز اللغوي لم يكن معروفاً عند النبي وأصحابه..
الدلائل هى:
1- الأحرف السبعة والقراءة بالمعنى.
أجاز النبي للناس من خلال رخصة الأحرف السبعة أن يستبدلوا مفردات القرآن بما يوافقها في المعنى بل وحتى إن اختلف المعنى ولكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى التناقض، وضرب مثالاً على ذلك بتبديل خواتم الآي حين قال: " لَيْسَ مِنْهَا إِلاَّ شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ ". (سنن أبي داود حديث رقم 1479 وصححه الألباني)
نزول القرآن على سبعة أحرف هو خبر متواتر ورد عن 21 صحابياً (انظر الإتقان للسيوطي 1/129)، إلا أن العلماء قد اختلفوا في المراد من الأحرف السبعة حتى وصلت أقوالهم إلى أربعين قولاً ينقض بعضها بعضاً ويرد بعضها على بعض حتى لم يسلم قول واحد من النقد القوي. (راجع مناهل العرفان للزرقاني ص123 وما بعدها، والمدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة ص174-200)
إن الذي أوقع العلماء في هذا التخبط الكبير هو رفضهم للمفهوم الأبسط والأوضح لروايات الأحرف السبعة وذلك بسبب اعتقادهم المسبق بإعجاز القرآن اللغوي وبالقدسية الحرفية الكبيرة التي جعلوها لشكل النص القرآني.
التفسير الصحيح للأحرف السبعة هو: تغيير النص إلى أوجه مختلفة من المعاني أقصاها سبعة، بشرط ألا يحدث تناقض.
ومن قبل أن يظهر حديث الأحرف السبعة كان النبي لا يهمه شكل النص بل يهمه المضمون، ولدينا حادثتان تجلى فيهما ذلك بوضوح، وذلك مع كاتبين من كتبة القرآن ارتدا عن الإسلام، جاء في مسند أحمد:
12236 - ... عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ كَانَ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِينَا - يَعْنِى عَظُمَ - فَكَانَ النَّبِىُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يُمْلِى عَلَيْهِ غَفُوراً رَحِيماً فَيَكْتُبُ عَلِيماً حَكِيماً فَيَقُولُ لَهُ النَّبِىُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ « اكْتُبْ كَذَا وَكَذَا اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ ». وَيُمْلِى عَلَيْهِ عَلِيماً حَكِيماً فَيَقُولُ اكْتُبْ سَمِيعاً بَصِيراً فَيَقُولُ اكْتُبِ اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ. فَارْتَدَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ وَقَالَ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِمُحَمَّدٍ إِنْ كُنْتُ لأَكْتُبُ مَا شِئْتُ فَمَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الأَرْضَ لَمْ تَقْبَلْهُ ».
تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين اهـ
وجاء في صحيح مسلم:
4086 - ... عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ... وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ الَّذِى كَانَ عَلَى مِصْرَ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. اهـ
ولكن لماذا ارتد ابن أبي سرح؟ تخبرنا روايات أخرى بذلك، منها ما أورده الطبري في مقدمة تفسيره 1/54:
((حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيّب: أن الذي ذكر الله تعالى ذكره [أنه قال] { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [سورة النحل:103] إنما افتُتِن أنه كان يكتب الوحيَ، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: سميعٌ عليمٌ، أو عزيزٌ حكيمٌ، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو عَلى الوحي، فيستفهمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أعزيز حكيمٌ، أو سميعٌ عليم أو عزيز عليم؟ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ ذلك كتبت فهو كذلك. ففتنه ذلك، فقال: إن محمدًا وكَلَ ذلك إليّ، فأكتبُ ما شئتُ. وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة .))اهـ
هاتان الحادثتان تكتسبان أهميتهما الخاصة في أنهما لا مكان للرخصة والتيسير فيهما كما هو الحال مع الأحرف السبعة، بل على العكس تماماً النبي هنا يدون القرآن أي الصيغة النهائية والرسمية له، ومع ذلك لا يمانع أن يبدل الكاتب بين خواتم الآي، ما يدل دلالة قاطعة على أن النبي كان لا يهمه شكل النص بل روحه ومضمونه، وكل هذا قبل ظهور الأحرف السبعة.
تمكن الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (تاريخ القرآن) ص80-81 من تحديد الوقت الذي قيل فيه حديث الأحرف السبعة لأول مرة وذلك في السنة التاسعة للهجرة، وهى السنة التي شهدت اندفاع العرب من كل أنحاء شبه الجزيرة نحو المدينة، يعلنون إسلامهم.
وهذا يوضح لك حقيقة الأمور: فمنذ البدء كان النبي لا يهتم بشكل النص، ولكن لم يكن بعد قد جعل من ذلك قانوناً يجهر به ، فلم يمارسه إلا على نطاق ضيق، ومن ضمن هذا النطاق ما حصل مع الصحابيين المرتدين،
وبعد غزو مكة وهزيمة ثقيف، توالت الوفود على النبي، وحصلت طفرة في أعداد الداخلين في الإسلام، وحين رأى النبي الطفرة في أعداد الداخلين وتنوع مناطقهم وألسنتهم المختلفة عن اللسان القرشي، اجتمع ذلك مع أمية عموم العرب وتعويلهم على الذاكرة وصعوبة الالتزام بحرفية نص طويل وواجب التلاوة على كل مسلم, وأن العديدين يفدون على المدينة ثم يعودون لمدنهم ولا يملكون إلا صدورهم حافظاً للقرآن، بسبب كل ذلك رأى النبي أنه قد حان الوقت لتحويل ما في نفسه إلى تشريع يجهر به ويبلّغ كل الناس أن العبرة بالروح ولا بأس أن يغير المرء في ألفاظ القرآن طالما لم يمس التغيير روح النص، فقال محمد بأن القرآن أُنزل على ((سبعة أحرف ليس منها الا شاف كاف ان قلت غفورا رحيما أو قلت سميعا عليما أو عليما سميعا فالله كذلك ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب)) (مسند أحمد رقم 21187 ، تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين)
وقد أشارت رواية إلى دور أمية العرب في إقرار الأحرف السبعة كما جاء في أحد أحاديثها على لسان النبي وهو يطلب التيسير على أمته: « يَا جِبْرِيلُ إِنِّى بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِى لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ » (الترمذي 3196)
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من تأويل الأحرف السبعة ما ورد عن أكابر علماء القرون الأولى في سياق الخلاف حول جواز رواية الحديث النبوي بالمعنى، حيث تشدد في ذلك قوم ومنعوا رواية الحديث إلا بتمام ألفاظه دون تغييرها، بينما ذهب الأكثرية إلى جواز ذلك، ووما استدلوا به على ذلك أن القراءة بالمعنى تجوز في القرآن فكيف هو الحال مع الحديث؟
جاء في "قواعد التحديث" للقاسمي ص221 في حديثه عن رواية الحديث بالمعنى:
((وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه فقال له يحيى يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد)) اهـ
وجاء فيه:
((وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه ابن منده في ((معرفة الصحابة)) والطبراني في ((الكبيرة)) من حديث عبد الله بن سليمان بن أكثم الليثي قال قلت يا رسول الله إني إذا سمعت منك الحديث لا أستطيع أن أرويه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفاً فقال ((إذا لم تحلوا حراماً ولم يحرموا حلالاً وأصبتم المعنى فلا بأس)) فذكرت ذلك للحسن فقال ((لولا هذا ما حدثنا)) وقد استدل الشافعي لذلك بحديث ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) اهـ
ومن أوضح ما جاء في هذا الباب شهادة مهمة من التابعي الكبير ابن شهاب الزهري القرشي الذي وُلد عام 58هـ والذي هو أول من جمع الحديث، ورأى عشرة من الصحابة، وله عدد كبير من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، جاء في صحيح مسلم:
1939 -... عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَقْرَأَنِى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ فَيَزِيدُنِى حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ بَلَغَنِى أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الأَحْرُفَ إِنَّمَا هِىَ فِى الأَمْرِ الَّذِى يَكُونُ وَاحِدًا لاَ يَخْتَلِفُ فِى حَلاَلٍ وَلاَ حَرَامٍ. اهـ
ويوضح الزهري ذلك جيداً فيما نقله عنه القاسمي في سياق حديثه عن رواية الحديث بالمعنى ص222: ((وأسند عن أويس قال ((سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث وإذا أصيب معنى الحديث فلم يحل به حراما ولم يحرم حلالا فلا بأس)) . اهـ
وقد اعترف أبو بكر الباقلاني في (الانتصار للقرآن) 1/370-372 بأن السماح للقارئ بأن يقرأ بالمعنى كان موجوداً في حياة النبي، إلا أنه نُسخ ومُنع بعد ذلك كما يقول.
تجدر الإشارة هنا إلى أن أخبار إباحة تبديل خواتم الآي هى أخبار متواترة وردت عن سبعة من الصحابة.
وقد مارس النبي القراءة بالمعنى في مواضع عديدة، منها على سبيل المثال قول النبي:
((إذا أتاكم من ترضون خلقه و دينه فانكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد عريض)) (المستدرك على الصحيحن للحاكم)
فالجزء الأخير من قول النبي هو مأخوذ من هذه الآية: الأنفال/73 (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ).
لاحظ كيف أبدل النبي آخر كلمة من الآية بكلمة أخرى توافقها في المعنى حيث قال (وفساد عريض).
وطبعاً لم يقتصر الأمر على النبي فقط، فقد جاء مثل ذلك عن الصحابة، ومن أهم هذه الأمثلة:
جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم:
3684 - ... عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قرأ رجل عنده { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم } فقال أبو الدرداء : قل طعام الأثيم فقال الرجل : طعام اليثيم فقال أبو الدرداء : قل طعام فاجر.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه
تعليق الذهبي قي التلخيص : على شرط البخاري ومسلم. اهـ
وكذلك ((أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية : ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا ) ، فقال له رجل : إنما نقرؤها ( وأقوم قيلا (1) ) ، فقال : « إن أقوم ، وأصوب ، وأهيأ ، وأشباه هذا واحد » اهـ (مسند أبي يعلى رقم 3913)
ولقوة الروايتين الأخيرتين، أقر الإمام في النحو ابن جني والإمام في التفسير واللغة الزمخشري أقرا بأن الصحابة قد قرأوا بالمعنى، قال ابن جني بعد أن أورد الرواية عن أنس بن مالك:
((قال أبو الفتح: هذا يؤنس بأن القوم كانوا يعتبرون المعاني، ويخلدون إليها، فإذا حصلوها وحصنوها سامحوا أنفسهم في العبارات عنها.)) المحتسب 2/336
وقال الزمخشري بعد أن أورد الخبر السابق عن ابن مسعود ((وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها)) (تفسير الكشاف، الرحمن/44)
وفي كثير من القراءات التي وردت عن الصحابة نجد أثر القراءة بالمعنى جلياً فيها، جاء في كتاب المصاحف لابن أبي داود ص284 وصححه المحقق:
... عن الأسود، عن عمر، أنه كا يقول: (مالك يوم الدين) ، وكان يقرأ: (صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين).
... عن الأسود وعلقمة أنهما صلَّيا خلف عمر فقرأ بهذا. اهـ
و مع أبي حنيفة، تصل القراءة بالمعنى إلى أوجها حين يرى جواز أن يقرأ الفارسي القرآن في صلاته باللغة الفارسية! المبسوط للسرخسي1/98 (من موقع الإسلام ترقيم غير موافق للمطبوع).
2- نسخ التلاوة.
تواترت الأخبار في حصول نسخ لتلاوة العديد من الآيات، وقد كان شائعاً عند الصحابة أن الآية التي يُنسخ حكمها لا تُكتب بعد ذلك، ولذلك استغرب عبد الله بن الزبير أثناء كتابة المصحف العثماني استغرب من إدخال آية منسوخة الحكم إلى المصحف مطالباً عثمان بحذفها.
جاء في صحيح البخاري:
4536 - ... قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِى فِى الْبَقَرَةِ ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ) إِلَى قَوْلِهِ ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى ، فَلِمَ تَكْتُبُهَا أو تَدَعُهَا. قال يَا ابْنَ أَخِى لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ .
لو كان النبي وأصحابه يعتبرون كل آية من القرآن معجزة بنظمها لما وُجد على الإطلاق شيء اسمه "نسخ تلاوة" حتى للآيات المنسوخة الحكم، فهى وإن انتهى العمل بها، إلا أن الإعجاز ما يزال سارياً عليها، وحذف مثل هذه هو إنقاص من معجزة القرآن، فكيف إذا علمنا بأن نسخ التلاوة قد طال آيات غير منسوخة الحكم مثل ما نزل في قتلى بئر معونة؟، بل وما بالك إذا علمت بأن نسخ التلاوة قد طال مقداراً كبيراً من القرآن بحيث أن سورة الأحزاب كانت بحجم سورة البقرة؟ - هذا على فرض صحة التفسير الإسلامي التقليدي لهذه الروايات بأنها تشير إلى نسخ التلاوة - .
3- غياب أي أثر لهذا التحدي.
لو كان مثل هذا التحدي قد حصل، لكانت فضيحة كبرى لقريش بكل المقاييس، ولكان له تأثير كبير على مستويات كثيرة، ولجاءتنا روايات عن ذلك، ولذكرها الشعراء في شعرهم كحسان بن ثابت وغيره ممن أكثروا في هجاء المشركين دون أن يذكروا شيئاً عن فضيحة عجزهم عن إجابة التحدي على الرغم من كونهم من أرباب الفصاحة. ولكن يمضي القرن الإسلامي الأول دون أي إشارة على حصول هذا التحدي أو أي من تبعاته. ونجد السيرة تنقل لنا نصوص الكثير من جدالات النبي مع قومه في مكة واحتجاجه عليهم دون أن يذكر شيئاً عن أنه تحداهم وعجزوا عن إجابة التحدي، (انظر لأحد هذه الحوارات الطويلة في سيرة ابن هشام 2/132-136)، لم يذكر لهم التحدي لأن التحدي لم يكن في اللغة، ولأن التحدي كان ذا طبيعية تعجيزية كما بيّن نولدكه في الاقتباس السابق. أقصى ما لدينا هو روايات عن إعجاب بعض المشركين ببلاغة القرآن مثل القول الشهير من الوليد بن المغيرة "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة".. إلا أن هذه هذه الروايات غاية ما تثبته هو أنهم وجدوا القرآن بليغاً.. وكون القرآن نص بليغ فهذا شيء لا ينكره أحد، ولكن أين ذلك من إثبات أن التحدي وقع في البلاغة وأن القرآن لا يقدر أحد من البشر على الإتيان بمثله؟.
إن كان التحدي لم يكن في اللغة، فكيف نشأ القول بذلك؟
الإجابة بسيطة، القول بذلك نشأ ببساطة لأن طبيعة القرآن نفسه شكلت أرضية خصبة لمثل هذا الإدعاء، فلغة القرآن أصلاً متميزة بشكل فريد فلا هو بالنثر ولا هو بالشعر، وعالي البلاغة. إن تميز القرآن اللغوي العالي هو حقيقة ثابتة، لذلك فلا مانع قوي عند المسلمين من القول بأن لغة القرآن معجزة، وبتالي وقع فيها التحدي. ومنها وجد القول بكون الإعجاز هو في اللغة وجد له حاضناً قوياً، فانتشر هذا القول حتى صار صوته لا يعلو عليه صوت.
فالذين أتوا بهذا الإدعاء نظروا إلى آيات التحدي، وحين أرادوا أن يعرفوا فيم وقع التحدي نظروا إلى أهم ما يميز القرآن وهو لغته وبلاغته فقالوا بأن التحدي قد وقع فيه..
شكراً للجميع.
إذاً فقد تنبه نولدكه إلى أن التحدي لم يكن في اللغة، ولكنه عرض رأيه دون أن يدعمه بالدلائل..
لذلك أقوم في هذا الموضوع بعرض الدلائل التي لا تترك مجالاً للشك في أن التحدي لم يكن في اللغة وأن الإعجاز اللغوي لم يكن معروفاً عند النبي وأصحابه..
الدلائل هى:
1- الأحرف السبعة والقراءة بالمعنى.
أجاز النبي للناس من خلال رخصة الأحرف السبعة أن يستبدلوا مفردات القرآن بما يوافقها في المعنى بل وحتى إن اختلف المعنى ولكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى التناقض، وضرب مثالاً على ذلك بتبديل خواتم الآي حين قال: " لَيْسَ مِنْهَا إِلاَّ شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ ". (سنن أبي داود حديث رقم 1479 وصححه الألباني)
نزول القرآن على سبعة أحرف هو خبر متواتر ورد عن 21 صحابياً (انظر الإتقان للسيوطي 1/129)، إلا أن العلماء قد اختلفوا في المراد من الأحرف السبعة حتى وصلت أقوالهم إلى أربعين قولاً ينقض بعضها بعضاً ويرد بعضها على بعض حتى لم يسلم قول واحد من النقد القوي. (راجع مناهل العرفان للزرقاني ص123 وما بعدها، والمدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة ص174-200)
إن الذي أوقع العلماء في هذا التخبط الكبير هو رفضهم للمفهوم الأبسط والأوضح لروايات الأحرف السبعة وذلك بسبب اعتقادهم المسبق بإعجاز القرآن اللغوي وبالقدسية الحرفية الكبيرة التي جعلوها لشكل النص القرآني.
التفسير الصحيح للأحرف السبعة هو: تغيير النص إلى أوجه مختلفة من المعاني أقصاها سبعة، بشرط ألا يحدث تناقض.
ومن قبل أن يظهر حديث الأحرف السبعة كان النبي لا يهمه شكل النص بل يهمه المضمون، ولدينا حادثتان تجلى فيهما ذلك بوضوح، وذلك مع كاتبين من كتبة القرآن ارتدا عن الإسلام، جاء في مسند أحمد:
12236 - ... عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ كَانَ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِينَا - يَعْنِى عَظُمَ - فَكَانَ النَّبِىُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يُمْلِى عَلَيْهِ غَفُوراً رَحِيماً فَيَكْتُبُ عَلِيماً حَكِيماً فَيَقُولُ لَهُ النَّبِىُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ « اكْتُبْ كَذَا وَكَذَا اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ ». وَيُمْلِى عَلَيْهِ عَلِيماً حَكِيماً فَيَقُولُ اكْتُبْ سَمِيعاً بَصِيراً فَيَقُولُ اكْتُبِ اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ. فَارْتَدَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ وَقَالَ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِمُحَمَّدٍ إِنْ كُنْتُ لأَكْتُبُ مَا شِئْتُ فَمَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الأَرْضَ لَمْ تَقْبَلْهُ ».
تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين اهـ
وجاء في صحيح مسلم:
4086 - ... عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ... وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ الَّذِى كَانَ عَلَى مِصْرَ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. اهـ
ولكن لماذا ارتد ابن أبي سرح؟ تخبرنا روايات أخرى بذلك، منها ما أورده الطبري في مقدمة تفسيره 1/54:
((حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيّب: أن الذي ذكر الله تعالى ذكره [أنه قال] { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [سورة النحل:103] إنما افتُتِن أنه كان يكتب الوحيَ، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: سميعٌ عليمٌ، أو عزيزٌ حكيمٌ، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو عَلى الوحي، فيستفهمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أعزيز حكيمٌ، أو سميعٌ عليم أو عزيز عليم؟ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ ذلك كتبت فهو كذلك. ففتنه ذلك، فقال: إن محمدًا وكَلَ ذلك إليّ، فأكتبُ ما شئتُ. وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة .))اهـ
هاتان الحادثتان تكتسبان أهميتهما الخاصة في أنهما لا مكان للرخصة والتيسير فيهما كما هو الحال مع الأحرف السبعة، بل على العكس تماماً النبي هنا يدون القرآن أي الصيغة النهائية والرسمية له، ومع ذلك لا يمانع أن يبدل الكاتب بين خواتم الآي، ما يدل دلالة قاطعة على أن النبي كان لا يهمه شكل النص بل روحه ومضمونه، وكل هذا قبل ظهور الأحرف السبعة.
تمكن الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (تاريخ القرآن) ص80-81 من تحديد الوقت الذي قيل فيه حديث الأحرف السبعة لأول مرة وذلك في السنة التاسعة للهجرة، وهى السنة التي شهدت اندفاع العرب من كل أنحاء شبه الجزيرة نحو المدينة، يعلنون إسلامهم.
وهذا يوضح لك حقيقة الأمور: فمنذ البدء كان النبي لا يهتم بشكل النص، ولكن لم يكن بعد قد جعل من ذلك قانوناً يجهر به ، فلم يمارسه إلا على نطاق ضيق، ومن ضمن هذا النطاق ما حصل مع الصحابيين المرتدين،
وبعد غزو مكة وهزيمة ثقيف، توالت الوفود على النبي، وحصلت طفرة في أعداد الداخلين في الإسلام، وحين رأى النبي الطفرة في أعداد الداخلين وتنوع مناطقهم وألسنتهم المختلفة عن اللسان القرشي، اجتمع ذلك مع أمية عموم العرب وتعويلهم على الذاكرة وصعوبة الالتزام بحرفية نص طويل وواجب التلاوة على كل مسلم, وأن العديدين يفدون على المدينة ثم يعودون لمدنهم ولا يملكون إلا صدورهم حافظاً للقرآن، بسبب كل ذلك رأى النبي أنه قد حان الوقت لتحويل ما في نفسه إلى تشريع يجهر به ويبلّغ كل الناس أن العبرة بالروح ولا بأس أن يغير المرء في ألفاظ القرآن طالما لم يمس التغيير روح النص، فقال محمد بأن القرآن أُنزل على ((سبعة أحرف ليس منها الا شاف كاف ان قلت غفورا رحيما أو قلت سميعا عليما أو عليما سميعا فالله كذلك ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب)) (مسند أحمد رقم 21187 ، تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين)
وقد أشارت رواية إلى دور أمية العرب في إقرار الأحرف السبعة كما جاء في أحد أحاديثها على لسان النبي وهو يطلب التيسير على أمته: « يَا جِبْرِيلُ إِنِّى بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِى لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ » (الترمذي 3196)
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من تأويل الأحرف السبعة ما ورد عن أكابر علماء القرون الأولى في سياق الخلاف حول جواز رواية الحديث النبوي بالمعنى، حيث تشدد في ذلك قوم ومنعوا رواية الحديث إلا بتمام ألفاظه دون تغييرها، بينما ذهب الأكثرية إلى جواز ذلك، ووما استدلوا به على ذلك أن القراءة بالمعنى تجوز في القرآن فكيف هو الحال مع الحديث؟
جاء في "قواعد التحديث" للقاسمي ص221 في حديثه عن رواية الحديث بالمعنى:
((وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه فقال له يحيى يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد)) اهـ
وجاء فيه:
((وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه ابن منده في ((معرفة الصحابة)) والطبراني في ((الكبيرة)) من حديث عبد الله بن سليمان بن أكثم الليثي قال قلت يا رسول الله إني إذا سمعت منك الحديث لا أستطيع أن أرويه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفاً فقال ((إذا لم تحلوا حراماً ولم يحرموا حلالاً وأصبتم المعنى فلا بأس)) فذكرت ذلك للحسن فقال ((لولا هذا ما حدثنا)) وقد استدل الشافعي لذلك بحديث ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) اهـ
ومن أوضح ما جاء في هذا الباب شهادة مهمة من التابعي الكبير ابن شهاب الزهري القرشي الذي وُلد عام 58هـ والذي هو أول من جمع الحديث، ورأى عشرة من الصحابة، وله عدد كبير من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، جاء في صحيح مسلم:
1939 -... عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَقْرَأَنِى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ فَيَزِيدُنِى حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ بَلَغَنِى أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الأَحْرُفَ إِنَّمَا هِىَ فِى الأَمْرِ الَّذِى يَكُونُ وَاحِدًا لاَ يَخْتَلِفُ فِى حَلاَلٍ وَلاَ حَرَامٍ. اهـ
ويوضح الزهري ذلك جيداً فيما نقله عنه القاسمي في سياق حديثه عن رواية الحديث بالمعنى ص222: ((وأسند عن أويس قال ((سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث وإذا أصيب معنى الحديث فلم يحل به حراما ولم يحرم حلالا فلا بأس)) . اهـ
وقد اعترف أبو بكر الباقلاني في (الانتصار للقرآن) 1/370-372 بأن السماح للقارئ بأن يقرأ بالمعنى كان موجوداً في حياة النبي، إلا أنه نُسخ ومُنع بعد ذلك كما يقول.
تجدر الإشارة هنا إلى أن أخبار إباحة تبديل خواتم الآي هى أخبار متواترة وردت عن سبعة من الصحابة.
وقد مارس النبي القراءة بالمعنى في مواضع عديدة، منها على سبيل المثال قول النبي:
((إذا أتاكم من ترضون خلقه و دينه فانكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد عريض)) (المستدرك على الصحيحن للحاكم)
فالجزء الأخير من قول النبي هو مأخوذ من هذه الآية: الأنفال/73 (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ).
لاحظ كيف أبدل النبي آخر كلمة من الآية بكلمة أخرى توافقها في المعنى حيث قال (وفساد عريض).
وطبعاً لم يقتصر الأمر على النبي فقط، فقد جاء مثل ذلك عن الصحابة، ومن أهم هذه الأمثلة:
جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم:
3684 - ... عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قرأ رجل عنده { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم } فقال أبو الدرداء : قل طعام الأثيم فقال الرجل : طعام اليثيم فقال أبو الدرداء : قل طعام فاجر.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه
تعليق الذهبي قي التلخيص : على شرط البخاري ومسلم. اهـ
وكذلك ((أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية : ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا ) ، فقال له رجل : إنما نقرؤها ( وأقوم قيلا (1) ) ، فقال : « إن أقوم ، وأصوب ، وأهيأ ، وأشباه هذا واحد » اهـ (مسند أبي يعلى رقم 3913)
ولقوة الروايتين الأخيرتين، أقر الإمام في النحو ابن جني والإمام في التفسير واللغة الزمخشري أقرا بأن الصحابة قد قرأوا بالمعنى، قال ابن جني بعد أن أورد الرواية عن أنس بن مالك:
((قال أبو الفتح: هذا يؤنس بأن القوم كانوا يعتبرون المعاني، ويخلدون إليها، فإذا حصلوها وحصنوها سامحوا أنفسهم في العبارات عنها.)) المحتسب 2/336
وقال الزمخشري بعد أن أورد الخبر السابق عن ابن مسعود ((وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها)) (تفسير الكشاف، الرحمن/44)
وفي كثير من القراءات التي وردت عن الصحابة نجد أثر القراءة بالمعنى جلياً فيها، جاء في كتاب المصاحف لابن أبي داود ص284 وصححه المحقق:
... عن الأسود، عن عمر، أنه كا يقول: (مالك يوم الدين) ، وكان يقرأ: (صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين).
... عن الأسود وعلقمة أنهما صلَّيا خلف عمر فقرأ بهذا. اهـ
و مع أبي حنيفة، تصل القراءة بالمعنى إلى أوجها حين يرى جواز أن يقرأ الفارسي القرآن في صلاته باللغة الفارسية! المبسوط للسرخسي1/98 (من موقع الإسلام ترقيم غير موافق للمطبوع).
2- نسخ التلاوة.
تواترت الأخبار في حصول نسخ لتلاوة العديد من الآيات، وقد كان شائعاً عند الصحابة أن الآية التي يُنسخ حكمها لا تُكتب بعد ذلك، ولذلك استغرب عبد الله بن الزبير أثناء كتابة المصحف العثماني استغرب من إدخال آية منسوخة الحكم إلى المصحف مطالباً عثمان بحذفها.
جاء في صحيح البخاري:
4536 - ... قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِى فِى الْبَقَرَةِ ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ) إِلَى قَوْلِهِ ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى ، فَلِمَ تَكْتُبُهَا أو تَدَعُهَا. قال يَا ابْنَ أَخِى لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ .
لو كان النبي وأصحابه يعتبرون كل آية من القرآن معجزة بنظمها لما وُجد على الإطلاق شيء اسمه "نسخ تلاوة" حتى للآيات المنسوخة الحكم، فهى وإن انتهى العمل بها، إلا أن الإعجاز ما يزال سارياً عليها، وحذف مثل هذه هو إنقاص من معجزة القرآن، فكيف إذا علمنا بأن نسخ التلاوة قد طال آيات غير منسوخة الحكم مثل ما نزل في قتلى بئر معونة؟، بل وما بالك إذا علمت بأن نسخ التلاوة قد طال مقداراً كبيراً من القرآن بحيث أن سورة الأحزاب كانت بحجم سورة البقرة؟ - هذا على فرض صحة التفسير الإسلامي التقليدي لهذه الروايات بأنها تشير إلى نسخ التلاوة - .
3- غياب أي أثر لهذا التحدي.
لو كان مثل هذا التحدي قد حصل، لكانت فضيحة كبرى لقريش بكل المقاييس، ولكان له تأثير كبير على مستويات كثيرة، ولجاءتنا روايات عن ذلك، ولذكرها الشعراء في شعرهم كحسان بن ثابت وغيره ممن أكثروا في هجاء المشركين دون أن يذكروا شيئاً عن فضيحة عجزهم عن إجابة التحدي على الرغم من كونهم من أرباب الفصاحة. ولكن يمضي القرن الإسلامي الأول دون أي إشارة على حصول هذا التحدي أو أي من تبعاته. ونجد السيرة تنقل لنا نصوص الكثير من جدالات النبي مع قومه في مكة واحتجاجه عليهم دون أن يذكر شيئاً عن أنه تحداهم وعجزوا عن إجابة التحدي، (انظر لأحد هذه الحوارات الطويلة في سيرة ابن هشام 2/132-136)، لم يذكر لهم التحدي لأن التحدي لم يكن في اللغة، ولأن التحدي كان ذا طبيعية تعجيزية كما بيّن نولدكه في الاقتباس السابق. أقصى ما لدينا هو روايات عن إعجاب بعض المشركين ببلاغة القرآن مثل القول الشهير من الوليد بن المغيرة "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة".. إلا أن هذه هذه الروايات غاية ما تثبته هو أنهم وجدوا القرآن بليغاً.. وكون القرآن نص بليغ فهذا شيء لا ينكره أحد، ولكن أين ذلك من إثبات أن التحدي وقع في البلاغة وأن القرآن لا يقدر أحد من البشر على الإتيان بمثله؟.
إن كان التحدي لم يكن في اللغة، فكيف نشأ القول بذلك؟
الإجابة بسيطة، القول بذلك نشأ ببساطة لأن طبيعة القرآن نفسه شكلت أرضية خصبة لمثل هذا الإدعاء، فلغة القرآن أصلاً متميزة بشكل فريد فلا هو بالنثر ولا هو بالشعر، وعالي البلاغة. إن تميز القرآن اللغوي العالي هو حقيقة ثابتة، لذلك فلا مانع قوي عند المسلمين من القول بأن لغة القرآن معجزة، وبتالي وقع فيها التحدي. ومنها وجد القول بكون الإعجاز هو في اللغة وجد له حاضناً قوياً، فانتشر هذا القول حتى صار صوته لا يعلو عليه صوت.
فالذين أتوا بهذا الإدعاء نظروا إلى آيات التحدي، وحين أرادوا أن يعرفوا فيم وقع التحدي نظروا إلى أهم ما يميز القرآن وهو لغته وبلاغته فقالوا بأن التحدي قد وقع فيه..
شكراً للجميع.
تعليق