ما الذي يفعله اليهود بالفلسطينيين وقد أصبحوا تحت هيمنة ما يسمى بالدولة العبرية.. وما الذي فعلته الدولة الإسلامية معهم بعد إذ أصبحوا من رعاياها ؟
لنرجع قليلاً إلى التاريخ ... الشواهد كثيرة ... كثيرة جداً ... ولذا سنؤشر على بعضها حسبما يسمح به المجال ... فلعل فيه الكفاية.
يقول المؤرخ اليهودي إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اليهود في بلاد العرب): (هناك أمر يستوقف النظر وهو أنه كان بين الغنائم التي غنمها المسلمون في غزوة خيبر صحائف متعددة من التوراة ، فلما جاء اليهود يطلبونها أمر النبي بتسليمها لهم ، ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية ، مما جعل اليهود يشيرون إلى النبي بالبنان حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة ، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ق . م إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم ، وما فعله المتعصبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا أيضاً صحف التوراة . هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام).
ورغم الانتصار الحاسم الذي حققه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ضد يهود خيبر، بعد مقاومة شديدة ، وبعد سلسة من الأعمال العدائية والمؤامرات بما في ذلك تأليب الأحزاب ضد دولة الإسلام في المدينة ، ودفع بني قريظة هناك إلى نقض عهدها مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أشد الظروف حلكة وعسراً ، فإنهم ، أي يهود خيبر ، عندما طلبوا منه أن يحقن دماءهم أجابهم إلى ذلك ، فلما نزلوا إليه عرضوا عليه أن يبقيهم في أرضهم لقاء أن يدفعوا للمسلمين نصف حاصلاتهم ، فوافق الرسول (صلى الله عليه وسلم) على العرض تقديراً منه لإمكاناتهم الزراعية ورغبة في الإفادة من أية طاقة في إعمار الأراضي واستثمارها.
ولما سمع يهود فدك ، القرية اليهودية المجاورة ، بما حل برفاقهم في خيبر من معاملة طيبة ، بعثوا إلى رسول (صلى الله عليه وسلم) يعلنون رغبتهم في المصالحة على مناصفة أراضيهم ، وكذلك فعل مع (وادي القرى) رغم مقاومتها للمسلمين ، ولما بلغت يهود تيماء أنباء الانتصارات الإسلامية صالحوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الجزية وأقاموا في بلدهم.
وقد ظل اليهود بعدئذ مواطنين ، يمارسون حقوقهم في إطار الدولة الإسلامية ، لا يمسهم أحد بسوء ، وعاد بعضهم إلى المدينة ، بدليل ما ورد عن عدد منهم في (سيرة ابن هشام) وفي (مغازي الواقدي).
وهناك الكثير من النصوص والروايات التاريخية التي تدل على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح حتى أنه أوصى عامله على اليمن (معاذ بن جبل) (بألا يفتن اليهود عن يهوديتهم) وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين ، إذ لم يكلفوا إلا بدفع الجزية ، وبقوا متمسكين بدين آبائهم .
وأهم من كل ذلك تلك الحقوق والامتيازات التي منحها الرسول ( صلى الله عليه وسلم) لآل بني حنينة الخيبرية وبني جنبة بمقنا القريبة من أيلة على خليج العقبة ، إذ بعث إليهم (أما بعد فقد نزل علي رسلكم راجعين إلى قريتكم ، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله ، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم ، لا ظلم عليكم ولا عدى ، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه ، وأن عليكم ربع ما أخرجت نخلكم ، وصادت مراكبكم واغتزلت نساؤكم ، وأنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله أن يكرم كريمكم، ويعفو عن مسيئكم ، وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله) . وكتب لجماعة أخرى من اليهود تدعى (بني غاديا) (إن لهم الذمة وعليكم الجزية ولا عداء) كما كتب (لبني عريض) كتاباً آخر يحدد فيه ما عليهم أن يدفعوا للمسلمين لقاء حمايتهم لها وعدم ظلمهم إياهم وكتب لأهل جرباء وأذرح من اليهود (إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد ، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة ، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين ومن لجأ إليهم من المسلمين).
وجاء الراشدون (رضي الله عنهم) لكي يشهد المجتمع الإسلامي تفرداً في العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم لا يقل تفرداً وتألقاُ عما شهده عصر الرسالة ، فلقد كان العصر الجديد عصر الفتوح والامتداد الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها ، وتحول الدولة الإسلامية إلى دولة عالمية ، وكانت مساحات واسعة من الأراضي التي بلغها الإسلام تضم حشوداً كبيرة من اليهود والنصارى والمجوس والطوائف الدينية الأخرى . لقد أصبح المجتمع الإسلامي بحركة الفتح هذه مجتمعاً عالمياً ضم تحت جناحيه أعدادا كبيرة من الأجناس والأديان والأقوام والجماعات والمذاهب والفرق والاتجاهات ، ولقد حظي اليهود أسوة بغيرهم بمساحة مدهشة من العدل والحرية والسماحة وتكافؤ الفرص ، فيما لم يشهدوا عشر معشاره في أية بقعة أخرى في الأرض خارج دار الإسلام ، ويكفي أن نرجع إلى كتاب المؤرخ البريطاني المعروف السير توماس أرنولد (الدعوة إلى الإسلام) لكي نضع أيدينا على حشود الشواهد التاريخية في هذا المجال.
في العصر الأموي ، والعصور العباسية التالية ، حيث ازداد المجتمع الإسلامي تعقيداً واتساعاً ، وحيث أخذت منحنيات الإبداع الحضاري تزداد صعوداً واطرادا ، وتزداد معها المؤسسات الإدارية نضجاً ونمواً ، أخذ الموقف من غير المسلمين يتألق بالمزيد من صيغ التعامل الإنساني أخذاً وعطاء.
لقد فتح المسلمون ، قواعد وسلطة ، صدرهم لغير المسلمين ، يهوداً ونصارى ومجوساً وصابئة ، وأتاحوا للعناصر المتميزة من هؤلاء وهؤلاء احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص لم تعرفه أمة من الأمم عبر تاريخ البشرية كله . لقد أسهم غير المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية وإغنائها دونما أية عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك ، كما فتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب ، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاء بمركز الوزارة الخطير نفسه ، وأتيح لأبناء الأديان والمذاهب الأخرى ، بما فيهم اليهود ، أن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية تكاد تكون مطلقة ، فنموا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية ، بما يوازي قدراتهم على العمل والنشاط ، وملأوا بهذا وذلك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين ، بل إن بعض الأنشطة المالية والاقتصادية كادت أن تصبح من اختصاص أهل الكتاب ، تماماً كما كانت الترجمة في المجال الثقافي من نصيبهم ، وكما كانت بعض الوظائف الإدارية والكتابية من نصيبهم كذلك.
إنه مجتمع تكافؤ الفرص ، والحرية العقدية ، والانفتاح ، لقد استجاب المسلمون لتحديات التنوع الديني ، وكانوا في معظم الأحيان عند حسن ظن رسولهم (صلى الله عليه وسلم) بهم وهو يوصيهم قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، أن يكونوا رفقاء بأهل ذمته.
الوقائع كثيرة ، تيار من المعطيات التاريخية نفذت في ساحة المجتمع الإسلامي عبر القرون الطوال ، وعلى مختلف الجبهات ، ووفق سائر الاتجاهات الحضارية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية عموماً.
لقد تمتع أهل الذمة بقسط وافر من الحرية لقاء تأديتهم الجزية ، وارتبطت قضاياهم في أمورهم المدنية والجنائية برؤسائهم الروحيين ، وأقاموا في مزارعهم ومنازلهم الريفية ، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية وحافظوا على لغاتهم الأصيلة ، وفي المدن تقلدوا مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة ، وكان للعهدين القديم والجديد من التوراة والإنجيل ترجمات عربية معروفة ، ولقد لقي اليهود من محاسن المسلمين فوق ما لقيه النصارى وقد وجد المقدسي سنة (985م) أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية من اليهود ، ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصّهم المعتضد العباسي مراكز هامة في الدولة لليهود ، وكان لهم في بغداد أحياء وأسواق كبيرة ظلت مزدهرة حتى سقوط المدينة ، وقد زارها الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي حوالي سنة (1169م) فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين ، وثلاثة عشرين كنيساً ، وأفاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين بصفته سليل بيت داود النبي (عليه السلام) ورئيس الملة الإسرائيلية ، وقد كان لرئيس الحاخامين هذا من السلطة التشريعية على أبناء طائفته ما كان للجاثليق على جميع النصارى ، وقد روي أنه كانت له ثروة ومكانة وأملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة ، وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة وأحاط به رهط من الفرسان ، وجرى أمامه ساع يصيح بأعلى صوته (أفسحوا درباً لسيدنا ابن داود ).
مجلة المنار ، العدد 69 ، ربيع الثاني 1424هـ.
لنرجع قليلاً إلى التاريخ ... الشواهد كثيرة ... كثيرة جداً ... ولذا سنؤشر على بعضها حسبما يسمح به المجال ... فلعل فيه الكفاية.
يقول المؤرخ اليهودي إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اليهود في بلاد العرب): (هناك أمر يستوقف النظر وهو أنه كان بين الغنائم التي غنمها المسلمون في غزوة خيبر صحائف متعددة من التوراة ، فلما جاء اليهود يطلبونها أمر النبي بتسليمها لهم ، ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية ، مما جعل اليهود يشيرون إلى النبي بالبنان حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة ، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ق . م إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم ، وما فعله المتعصبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا أيضاً صحف التوراة . هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام).
ورغم الانتصار الحاسم الذي حققه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ضد يهود خيبر، بعد مقاومة شديدة ، وبعد سلسة من الأعمال العدائية والمؤامرات بما في ذلك تأليب الأحزاب ضد دولة الإسلام في المدينة ، ودفع بني قريظة هناك إلى نقض عهدها مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أشد الظروف حلكة وعسراً ، فإنهم ، أي يهود خيبر ، عندما طلبوا منه أن يحقن دماءهم أجابهم إلى ذلك ، فلما نزلوا إليه عرضوا عليه أن يبقيهم في أرضهم لقاء أن يدفعوا للمسلمين نصف حاصلاتهم ، فوافق الرسول (صلى الله عليه وسلم) على العرض تقديراً منه لإمكاناتهم الزراعية ورغبة في الإفادة من أية طاقة في إعمار الأراضي واستثمارها.
ولما سمع يهود فدك ، القرية اليهودية المجاورة ، بما حل برفاقهم في خيبر من معاملة طيبة ، بعثوا إلى رسول (صلى الله عليه وسلم) يعلنون رغبتهم في المصالحة على مناصفة أراضيهم ، وكذلك فعل مع (وادي القرى) رغم مقاومتها للمسلمين ، ولما بلغت يهود تيماء أنباء الانتصارات الإسلامية صالحوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الجزية وأقاموا في بلدهم.
وقد ظل اليهود بعدئذ مواطنين ، يمارسون حقوقهم في إطار الدولة الإسلامية ، لا يمسهم أحد بسوء ، وعاد بعضهم إلى المدينة ، بدليل ما ورد عن عدد منهم في (سيرة ابن هشام) وفي (مغازي الواقدي).
وهناك الكثير من النصوص والروايات التاريخية التي تدل على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح حتى أنه أوصى عامله على اليمن (معاذ بن جبل) (بألا يفتن اليهود عن يهوديتهم) وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين ، إذ لم يكلفوا إلا بدفع الجزية ، وبقوا متمسكين بدين آبائهم .
وأهم من كل ذلك تلك الحقوق والامتيازات التي منحها الرسول ( صلى الله عليه وسلم) لآل بني حنينة الخيبرية وبني جنبة بمقنا القريبة من أيلة على خليج العقبة ، إذ بعث إليهم (أما بعد فقد نزل علي رسلكم راجعين إلى قريتكم ، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله ، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم ، لا ظلم عليكم ولا عدى ، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه ، وأن عليكم ربع ما أخرجت نخلكم ، وصادت مراكبكم واغتزلت نساؤكم ، وأنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله أن يكرم كريمكم، ويعفو عن مسيئكم ، وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله) . وكتب لجماعة أخرى من اليهود تدعى (بني غاديا) (إن لهم الذمة وعليكم الجزية ولا عداء) كما كتب (لبني عريض) كتاباً آخر يحدد فيه ما عليهم أن يدفعوا للمسلمين لقاء حمايتهم لها وعدم ظلمهم إياهم وكتب لأهل جرباء وأذرح من اليهود (إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد ، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة ، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين ومن لجأ إليهم من المسلمين).
وجاء الراشدون (رضي الله عنهم) لكي يشهد المجتمع الإسلامي تفرداً في العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم لا يقل تفرداً وتألقاُ عما شهده عصر الرسالة ، فلقد كان العصر الجديد عصر الفتوح والامتداد الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها ، وتحول الدولة الإسلامية إلى دولة عالمية ، وكانت مساحات واسعة من الأراضي التي بلغها الإسلام تضم حشوداً كبيرة من اليهود والنصارى والمجوس والطوائف الدينية الأخرى . لقد أصبح المجتمع الإسلامي بحركة الفتح هذه مجتمعاً عالمياً ضم تحت جناحيه أعدادا كبيرة من الأجناس والأديان والأقوام والجماعات والمذاهب والفرق والاتجاهات ، ولقد حظي اليهود أسوة بغيرهم بمساحة مدهشة من العدل والحرية والسماحة وتكافؤ الفرص ، فيما لم يشهدوا عشر معشاره في أية بقعة أخرى في الأرض خارج دار الإسلام ، ويكفي أن نرجع إلى كتاب المؤرخ البريطاني المعروف السير توماس أرنولد (الدعوة إلى الإسلام) لكي نضع أيدينا على حشود الشواهد التاريخية في هذا المجال.
في العصر الأموي ، والعصور العباسية التالية ، حيث ازداد المجتمع الإسلامي تعقيداً واتساعاً ، وحيث أخذت منحنيات الإبداع الحضاري تزداد صعوداً واطرادا ، وتزداد معها المؤسسات الإدارية نضجاً ونمواً ، أخذ الموقف من غير المسلمين يتألق بالمزيد من صيغ التعامل الإنساني أخذاً وعطاء.
لقد فتح المسلمون ، قواعد وسلطة ، صدرهم لغير المسلمين ، يهوداً ونصارى ومجوساً وصابئة ، وأتاحوا للعناصر المتميزة من هؤلاء وهؤلاء احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص لم تعرفه أمة من الأمم عبر تاريخ البشرية كله . لقد أسهم غير المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية وإغنائها دونما أية عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك ، كما فتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب ، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاء بمركز الوزارة الخطير نفسه ، وأتيح لأبناء الأديان والمذاهب الأخرى ، بما فيهم اليهود ، أن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية تكاد تكون مطلقة ، فنموا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية ، بما يوازي قدراتهم على العمل والنشاط ، وملأوا بهذا وذلك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين ، بل إن بعض الأنشطة المالية والاقتصادية كادت أن تصبح من اختصاص أهل الكتاب ، تماماً كما كانت الترجمة في المجال الثقافي من نصيبهم ، وكما كانت بعض الوظائف الإدارية والكتابية من نصيبهم كذلك.
إنه مجتمع تكافؤ الفرص ، والحرية العقدية ، والانفتاح ، لقد استجاب المسلمون لتحديات التنوع الديني ، وكانوا في معظم الأحيان عند حسن ظن رسولهم (صلى الله عليه وسلم) بهم وهو يوصيهم قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، أن يكونوا رفقاء بأهل ذمته.
الوقائع كثيرة ، تيار من المعطيات التاريخية نفذت في ساحة المجتمع الإسلامي عبر القرون الطوال ، وعلى مختلف الجبهات ، ووفق سائر الاتجاهات الحضارية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية عموماً.
لقد تمتع أهل الذمة بقسط وافر من الحرية لقاء تأديتهم الجزية ، وارتبطت قضاياهم في أمورهم المدنية والجنائية برؤسائهم الروحيين ، وأقاموا في مزارعهم ومنازلهم الريفية ، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية وحافظوا على لغاتهم الأصيلة ، وفي المدن تقلدوا مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة ، وكان للعهدين القديم والجديد من التوراة والإنجيل ترجمات عربية معروفة ، ولقد لقي اليهود من محاسن المسلمين فوق ما لقيه النصارى وقد وجد المقدسي سنة (985م) أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية من اليهود ، ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصّهم المعتضد العباسي مراكز هامة في الدولة لليهود ، وكان لهم في بغداد أحياء وأسواق كبيرة ظلت مزدهرة حتى سقوط المدينة ، وقد زارها الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي حوالي سنة (1169م) فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين ، وثلاثة عشرين كنيساً ، وأفاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين بصفته سليل بيت داود النبي (عليه السلام) ورئيس الملة الإسرائيلية ، وقد كان لرئيس الحاخامين هذا من السلطة التشريعية على أبناء طائفته ما كان للجاثليق على جميع النصارى ، وقد روي أنه كانت له ثروة ومكانة وأملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة ، وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة وأحاط به رهط من الفرسان ، وجرى أمامه ساع يصيح بأعلى صوته (أفسحوا درباً لسيدنا ابن داود ).
مجلة المنار ، العدد 69 ، ربيع الثاني 1424هـ.