بسم الله الرحمن الرحيم
وقبل الخوض في شبهات المستشرقين في بعض الأحكام الربانية التي هي بمثابة المنهجية الفطرية التي فطر الله الناس عليها ، وجبلهم على الانسجام والتناغم الفطري معها لا بد لنا من التعرف على ماهية الاستشراق وما هي أهدافه التي يرمي إليها . الاستـشـراق
التـعريف :
الاستشراق تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق ، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم , ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي ، والتي تشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته, ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة وعن العالم الإسلامي بصورة خاصة ، معبراً عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما.
البدايات :
من الصعب تحديد بداية للاستشراق إذ يعود به بعض المؤرخين إلى أيام الدولة الإسلامية في الأندلس ، في حين يعود به آخرون إلى أيام الصليبيين ، بينما يرجعه كثيرون إلى أيام الدولة الأموية في القرن الثاني الهجري, وأنه نشط في الشام بواسطة الراهب يوحنا الدمشقي في كتابين الأول : حياة محمد . والثاني : حوار بين مسيحي ومسلم. وكان هدفه إرشاد النصارى في جدل المسلمين . وأياً كان الأمر فإن حركة الاستشراق قد انطلقت بباعث ديني يستهدف خدمة الاستعمار وتسهيل عمله ونشر المسيحية ، والتشويه للإسلام .
وقام المستشرقون بدراسات متعددة عن الإسلام واللغة العربية والمجتمعات المسلمة. ووظفوا خلفياتهم الثقافية وتدريبهم البحثي لدراسة الحضارة الإسلامية والتعرف على خباياها لتحقيق أغراض الغرب الاستعمارية والتنصيرية.
وقد اهتم عدد من المستشرقين اهتماما حقيقيا بالحضارة الإسلامية وحاول أن يتعامل معها بموضوعية . وقد نجح عدد قليل منهم في هذا المجال . ولكن حتى هؤلاء الذين حاولوا أن ينصفوا الإسلام وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يستطيعوا أن ينفكوا من تأثير ثقافاتهم وعقائدهم فصدر منهم ما لا يقبله المسلم . وهذا يعني أن أي تصنيف للمستشرقين إلى منصفين ومتعصبين هو أمر تختلف حوله الآراء . فقد يصدر ممن عرف عنه الاعتدال قولاً أو رأياً مرفوضاً ، وقد يحصل العكس فتكون بعض آراء المتعصبين إنصافاً جميلاً للإسلام .
أهـداف الاستشراق :
وللاستشراق عموماً أهداف متنوعة يجنيها من وراء ما يقوم به أو يطمح في الحصول عليها سواء حال قيامه بالدارسة أو بعدها ولو بزمن بعيد . وإليك أهم هذه الأهداف :
أولاً : الهدف الديني :
كان هذا الهدف وراء نشأة الاستشراق ، وقد صاحبه خلال مراحله الطويلة ، وهو يتمثل في:
1ـ التشكيك في صحة القرآن والطعن فيه ، حتى ينصرف المسلمون عن مصدر العز والقوة بين أهل الأديان الأخرى .
2ـ التشكيك في صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، والزعم بأن الحديث النبوي إنما هو من عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى ، والهدف الخبيث من وراء ذلك هو محاربة السنة بهدف إسقاطها حتى يفقد المسلمون الصورة التطبيقية الحقيقية لأحكام الإسلام ولحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يفقد الإسلام أكبر عناصر قوته ، والمصدر الثاني للتشريع .
3ـ التقليل من قيمة الفقه الإسلامي واعتباره مستمداً من الفقه الروماني .
4ـ النيل من اللغة العربية واستبعاد قدرتها على مسايرة ركب التطور وتكريس دراسة اللهجات لتحل محل العربية الفصحى .
5ـ إرجاع الإسلام إلى مصادر يهودية ونصرانية بدلاً من إرجاع التشابه بين الإسلام وهاتين الديانتين إلى وحدة المصدر ، وذلك في بعض الأمور التي هي محل اتفاق بين الأديان .
6ـ العمل على تنصير المسلمين .
7ـ الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والأخبار الموضوعة في سبيل تدعيم آرائهم وبناء نظرياتهم .
8ـ لقد كان الهدف الاستراتيجي الديني من حملة التشويه ضد الإسلام هو حماية أوروبا من قبول الإسلام بعد أن عجزت عن القضاء عليه من خلال الحروب الصليبية.
ثانياً : الهدف التـجاري :
لقد كانت المؤسسات والشركات الكبرى ، والملوك كذلك ، يدفعون المال الوفير للباحثين؛ من أجل معرفة البلاد الإسلامية وكتابة تقارير عنها .
ثالثاُ : الهدف السياسـي : وذلك من خلال :
1ـ إضعاف روح الإخاء بين المسلمين والعمل على فرقتهم لإحكام السيطرة عليهم .
2ـ العناية باللهجات العامية ودراسة العادات السائدة لتمزيق وحدة المجتمعات المسلمة.
3ـ كانوا يوجهون موظفيهم في هذه المستعمرات إلى تعلم لغات تلك البلاد ودراسة آدابها ودينها ليعرفوا كيف يسوسونها ويحكمونها .
4ـ من خلال العمل مع أجهزة الاستخبارات لسبر غور حالة المسلمين وتقديم النصائح لما ينبغي أن يفعلوه لمقاومة حركات البعث الإسلامي .
رابعاُ : الهدف العلـمي الخالص :
بعضهم اتجه إلى البحث والتمحيص لمعرفة الحقيقة ، وقد وصل بعض هؤلاء إلى قناعة بالإسلام ودخل فيه ، نذكر منهم :
1ـ توماس أرنولد الذي أنصف المسلمين في كتابه الدعوة إلى الإسلام .
2ـ المستشرق الفرنسي رينيه فقد أسلم وعاش في الجزائر وله كتاب أشعة خاصة بنور الإسلام مات في فرنسا .
الجذور الفكرية والعقائدية
والخلاصة التي نخرج بها هي : أن الاستشراق تيار فكري يتجه صوب الشرق ، لدراسة حضارته وأديانه وثقافته ولغته وآدابه ، من خلال أفكار اتسم معظمها بالتعصب ، والرغبة في خدمة الاستعمار ، وتنصير المسلمين ، وجعلهم مسخاً مشوها للثقافة الغربية ، وذلك ببث الدونية فيهم ، وبيان أن دينهم مزيج من اليهودية والنصرانية ، وشريعتهم هي القوانين الرومانية مكتوبة بأحرف عربية ، والنيل من لغتهم ، وتشويه عقيدتهم وقيمهم ، ولكن بعضهم رأى نور الحقيقة فأسلم وخدم العقيدة الإسلامية ، وأثر في محدثيهم ، فبدأت كتاباتهم تجنح نحو العلمية ، وتنحو نهو العمق بدلا من السطحية ، وربما صدر ذلك عن رغبة من بعضهم في استقطاب القوى الإسلامية وتوظيفها لخدمة أهدافهم الاستشراقية ، وهذا يقتضي الحذر عند التعامل مع الفكر الاستشراقي .
بعض شبه المستشرقين
الشبهة الأولى : مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب بمعنى أن ابن عباس كان يرجع إلى بعض أهل الكتاب ليأخذ منهم تفسير لبعض المعاني القرآنية بحسب ما ورد لها من معان في الكتب السابقة .
وأما المستشرقون فقد ذهبوا في ذلك مذاهب بعيدة، بالغوا فيها إلى حدٍ ترفضه شريعة النقد والتمحيص. يقول المستشرق إجنتس جولد تسهير: وترى الرواية الإسلامية أن ابن عباس تلقى بنفسه ـ في اتصاله الوثيق بالرسول ـ وجوه التفسير التي يوثق بها وحدها. وقد أغفلت هذه الرواية بسهولة ـ كما في أحوال أخرى مشابهة ـ أن ابن عباس عند وفاة الرسول كان أقصى ما بلغ من السن ( 13سنة).
وكثيراً ما ذُكر أنه كان يرجع ـ كتابةً ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى مَن يُدعى (أبا الجلد) والظاهر أنه (غيلان بن فروة الأزدي) الذي كان يُثنى عليه بأنه قرأ الكتب, هذه هي عبارة (جولد تسيهر) البادي عليها غلوه المفرط بشأن مُسلمة اليهود الأمر الذي لا يكاد يصدق في أجواء كانت الملكة العلمية للصحابة تفوق كل تصور .
الرد على الشبهة : والجواب علي هذه الشبهة أنه :
كانت مراجعة ابن عباس رضي الله عنه لأهل الكتاب في دائرة ضيقة النطاق، في أمور لم يتعرض لها القرآن، ولا جاءت في بيان النبي ، حيث لم تَعُد حاجة ملحة إلى معرفتها، ولا فائدة كبيرة في العلم بها كعدد أصحاب الكهف، والبعض الذي ضرب به موسى من البقرة، ومقدار سفينة نوح، وما كان خشبها، واسم الغلام الذي قتله الخضر، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، ونحو ذلك مما لا طريق إلى معرفة الصحيح منه. فهذا يجوز أخذه من أهل الكتاب، والتحدث عنهم ولا حرج، كما ورد : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"(1) .
قال ابن تيمية: وفي بعض الأحيان يُنقل عنهم (عن بعض الصحابة مثل ابن مسعود وابن عباس وكثير من التابعين) ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله حيث قال: " بلغوا عني ولو آيةً، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، و هذه الأحاديث الإسرائيلية إنما تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها من الأمور المسكوت عنها، ولم نعلم صدقها ولا كذبها مما بأيدينا، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، وقد أبهمه الله في القرآن، ووافقه على هذا الرأي الأستاذ الذهبي، قال: كان ابن عباس يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل، في كثير من المواضع التي أُجملت في القرآن وفُصلت في كتب العهدين. ولكن في دائرة محدودة ضيقة، تتفق مع القرآن وتشهد له. أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن ولا يتفق مع الشريعة، فكان لا يقبله ولا يأخذ به.
قال: فابن عباس وغيره من الصحابة، كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام فيما لا يمس العقيدة أو يتصل بأصول الدين وفروعه، كبعض القصص والأخبار الماضية.
قال: وبهذا المسلك يكون الصحابة قد جمعوا بين قوله صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، وقوله أيضاً: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"(2). فإن الأول محمول على ما وقع فيهم من الحوادث والأخبار، لما فيها من العظة والاعتبار، بدليل قوله بعد ذلك: ((فإن فيهم أعاجيب)). والثاني محمول على ما إذا كان المخبر به من قبلهم كان المخبر به من قبلهم محتملاً، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه. قال: كما أفاده ابن حجر، ونبه عليه الشافعي.
إن ابن عباس كان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة بغية العثور على أطراف العلم الموروث من الرسول الأكرم ، وقد سئل: أنى أدركت هذا العلم؟ فقال: بلسان سؤول وقلب عقول.
وإليك من تصريحات ابن عباس نفسه، يحذر مراجعة أهل الكتاب بالذات، فكيف يا ترى، ينهى عن شيء ثم يرتكبه؟!
أخرج البخاري بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، قال:"يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أُنزل على نبيه أحدث الأخبار بالله تقرأونه لم يشب (أي لم يخلطه شيء من غير القرآن)، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم"(3).
وأخرج عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليكم".
وأخرج عبد الرزاق من طريق حريث بن ظهير، قال: قال عبد الله بن عباس: " لا تسألوا أهل الكتاب، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم، فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل"(4).
وهذا الحديث وضح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في عدم تصديقهم ولا تكذيبهم، لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، فلا يمكن تصديقهم، لأنه ربما كان تصديقاً لباطل، ولا تكذيبهم، لأنه ربما كان تكذيباً لحق، فالمعنى: أن لا يُعتبر من كلامهم شيء ولا يترتب على ما يقولونه شيء. فلا حجية لكلامهم ولا اعتبار لأقوالهم على الإطلاق، إذن فلا ينبغي مراجعتهم ولا الأخذ عنهم في وجه من الوجوه.
والصحيح: أن ابن عباس كان في غنى عن مراجعة أهل الكتاب، وعنده الرصيد الأوفى بالعلوم والمعارف والتاريخ واللغة .
هذه حقيقة موقف ابن عباس من اليهود كما ترى، وهو إذ كان يدعو إلى تجنب الرجوع إلى أهل الكتاب، لما يدخل بسبب ذلك من فساد على العقول وتشويه على العامة، فكيف يرجع إليهم رغم نهيه وتحذيره! وهل لم يطرق سمعه، وهو الحافظ لكلام الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ﴾[ الصف:2-3] , فحاشا ابن عباس أن يُراجع أهل الكتاب، وحاشاه حاشاه!!
الشبهة الثانية : التدوين وأثره في صحة الحديث :
هذه دعوى اخترعها بعض غلاة المستشرقين من قديم ، وأقام بناءها على وهم فاسد.
يقول هذا الزعم : إن الحديث بقي مائتي سنة غير مكتوب ،ثم بعد هذه المدة الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث ، وصاروا يأخذون عمن سمعوا الأحاديث ، فصار هؤلاء يقول الواحد منهم : سمعت فلاناً يقول سمعت فلاناً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن لما ظهرت الفتنة أدت إلى ظهور الانقسامات والفرق السياسية فقد قامت بعض الفرق بوضع أحاديث مزورة حتى تثبت أنها على حق .
وقد قام علماء السنة بدراسة أقسام الحديث ونوعوه إلى أقسام كثيرة جداً ، وعلى هذا يصعب الحكم بأن هذا الحديث صحيح أو هذا الحديث موضوع .
تفـنيد الشبهة :
يعلم الجميع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتمتعون بحوافظ قوية ، وقلوب واعية ، وذكاء مفرط ، مما أعانهم على حفظ السنة وتبليغها كما سمعوها ، مستجيبين في ذلك لحث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لهم بقوله : " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(5), فتم ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - من حفظ السنة وتبليغها ، ويكون بذلك - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ دين الله عز وجل كاملاً ولم ينقص منه شيئاً .
1- إن تدوين الحديث قد بدأ منذ العهد الأول في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وشمل قسماً كبيراً من الحديث ، بالأدلة القاطعة ، وننبه هنا إلى ما يجده المطالع للكتب المؤلفة في رواة الحديث من نصوص تاريخية مبثوثة في تراجم هؤلاء الرواة تثبت كتابتهم للحديث بصورة واسعة جداً تدل على انتشار التدوين وكثرته البالغة ، حتى لقد يقع في ظن الباحث أن الحديث قد دُوِّن جميعُه منذ عهده المبكر .
2- إن تصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة كثيراً في كتابة الحديث ، وقد تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير ، بل إنه قد تم في أوائل القرن الثاني ، بين سنة 120 ـ 130 هـ . بدليل الواقع الذي يحدثنا عن ذلك ، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية ، مثل جامع معمر بن راشد (154) وجامع سفيان الثوري (161) وهشام بن حسان (148) وابن جريج (150) وغيرها كثير .
وقد وجد العلماء بعض هذه الجوامع ، ويجري الآن تحقيق جامع معمر بن راشد في الهند ، ليكون إخراجه شاهد حق ودليل صدق على ما بيناه في هذه المسألة .
3- إن علماء الحديث وضعوا شروطاً لقبول الحديث تكفل نقله عبر الأجيال بأمانة وضبط ، حتى يُؤدَّى كما سُمِع من رسول الله صلى الله عليه وسلم . من شروط الراوي التي توفر فيه غاية الصدق لما اجتمع فيه من الدوافع الدينية والاجتماعية والنفسية ، مع الإدراك التام لتصرفاته وتحمل المسئولية ، كما أنها توفر فيه قوة الحفظ والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معاً مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه ، وكما أوضحه العلماء من شروط الصحيح والحسن التي تكفل ثقة الرواة ثم سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد وسلامته من القوادح الظاهرة والخفية . ثم بما بينوه من دقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد فقد دليل على صحته ، من غير أن ينتظروا قيام دليل مضادٍّ له . وقد وجد العلماء بعض هذه الجوامع ، ويجري الآن تحقيق جامع معمر بن راشد في الهند ، ليكون إخراجه شاهد حق ودليل صدق على ما بيناه في هذه المسألة .
4- إن علماء الحديث لم يكتفوا بهذا ، بل تنبهوا إلى عوامل في الرواية المكتوبة لم يتنبه إليها هؤلاء المتطفلون بالاقتراح عليهم ، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة شروط الحديث الصحيح ، لذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راوٍ إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه ، ونجد عليها إثبات السماعات وخط المؤلف أو الشيخ المسمع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن فرعها . .
فكان منهج المحدثين بذلك أقوى وأحكم ، وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات، والمستندات المكتوبة .
5- إن البحث عن الإسناد لم ينتظر مائتي سنة كما وقع في كلام الزاعم ، بل فتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة 35 هجرية ، لصيانة الحديث من الدس .
وقد ضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد ، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحثاً عنها ، واختباراً لرواة الحديث ، حتى اعتبرت الرحلة شرطاً أساسياً لتكوين المحدث .
6- إن المسلمين ـ كما تبين مما سبق ـ لم يغفلوا عما اقترفه الوضاعون وأهل البدع والمذاهب السياسية من الاختلاق في الحديث ، بل بادروا لمحاربة ذلك بإتباع الوسائل العلمية الكافلة لصيانة السنة في قيود رواية المبتدع ، ولبيان أسباب الوضع وعلامات الحديث الموضوع ، وعندما ظهرت الفرق المنحرفة التي تعتبر المعين الذي يستقي منه المستشرقون أباطيلهم كان علماء الأمة لهم بالمرصاد فظهر مبدأ ( سموا لنا رجالكم ) .
7- إن هذا التنوع الكثير للحديث ليس بسبب أحواله من حيث القبول أو الرد فقط، بل إنه يتناول إضافة إلى ذلك أبحاث رواته وأسانيده ومتونه ، وهو دليل على عمق نظر المحدثين ودقة بحثهم ، فكان على هذا القائل أن يسلم لهم ، كما أننا نستدل على دقة العلم وإحكام أهله له بتقاسيمه وتنويعاته ، بل لا يُعد علماً ما ليس فيه تقسيم أقسام وتنويع أنواع ؟!!
8- إن علماء الحديث قد أفردوا لكل نوع من الحديث وعلومه كتباً تجمع أفراد هذا النوع من أحاديث ، أو أسانيد أو رجال ، فلا يصلح بعد هذا أن يقول قائل كيف نعرف هذا الحديث أنه صحيح من بين تلك الأنواع . وكيف ستعرف هذا الفن ولست من أهله ولا من محبيه . فنقول لهؤلاء المستشرقين كما قال الأول :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فكما يرجع في الطب إلى الأطباء ، وفي الهندسة إلى المهندسين وفي الكيمياء إلى علمائها ، والصيدلة إلى أصحابها .... كذلك فارجع في الحديث إلى علماء الحديث المتخصصين في هذا العلم لأخذ البيان الجلي المدعم بالأدلة القاطعة عن كل حديث تريده وتود معرفة حاله .
وهذه الشبهة من أصلها قول من أبعد النجعة عن الحقيقة ، وعمد إلى المبالغة في تضخيم الأثر المتوهم لتأخر تدوين الحديث المزعوم .
فقد كان عالم الحديث الذي ينال لقب " حافظ" -وكانوا كُثراً- فكان يحفظ آلاف الأحاديث بأسانيدها . وبالإضافة إلى القدرة العجيبة في الحفظ عند العرب فثمة مسألة أخرى وهي تمسك المسلمين بدينهم وحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.والدليل على ذلك أن كثيراً من علماء الحديث أنفقوا أعمارهم في دراسة الحديث والرحلة في طلب الحديث ، وقد اعترف بعض المستشرقين بهذه الجهود.وكيف لا يحرص المسلمون على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأصل الثاني من أصول الشريعة الإسلامية .والحديث هو حديث نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم .وهذا الكلام فيه بيان شاف لتثبـّتِ المحدثين واستخدام عقولهم النيرة عند سماع الحديث أي من شيوخهم ثم عند التحديث به فلا يحدث الأئمة منهم إلا بما حفظوه وأتقنوه أو من كتبهم وعند الحكم على الرواة فلا يحكمون إلا بعلم ودراسة الراوي المحكوم عليه ومن اعترى حكمه خلل سد هذا الخلل غيره من الأئمة تحقيقاً لوعد الله بحفظ دينه وحمايته له من النقص والخطأ والباطل.
وكان أهل العلم يشددون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم أنه قال : كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث من رجل سألنا عن حاله حتى يقال : أتريدون أن تزوجوه؟ وجاء جماعة إلى شيخ ليسمعوا منه فرأوه خارجاً وقد انفلتت بغلته وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة، فرجعوا ولم يسمعوا منه. قالوا هذا يكذب على بغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث.
الشبهة الثالثة : وهي عبارة عن مجموعة من شبهات المستشرقين حول المكي والمدني :
لقد درس بعض المستشرقين ظاهرة المكي والمدني وفكرة وجود خصائص لكل منهما، فحاولوا استخلاص خصائص لكل من المكي والمدني، ومن ثَمّ استنتجوا من ذلك أن القرآن خضع لظروف بشرية متأثرة بالمحيط والمجتمع، وبالتالي فهو غير مرتبط بالله تعالى المنزه عن التأثر بهذه المؤثرات فهو من تأليف (محمد) لا من وحي السماء.
هذه هي الفكرة التي تدور حولها شبهاتهم هنا، وقبل أن نتطرّق إلى هذه الشبهات ومناقشتها بشكل تفصيلي، لا بد أن ننبه إلى نقطة هامّة.
وهي أنه يجب أن نفرق بين خضوع القرآن للظروف والحالة البشرية، وبين انسجامه مع الواقع الموضوعي وطبيعة التدرج الموضوعي للرسالة الإسلامية ، ويتجلى الفرق بينهما من خلال آثار وسمات كل من الحالتين .
وعندما نرجع إلى القرآن الكريم لا نلمس أي مؤشر على خضوعه للحالة البشرية، ولا نجد فيه أي أثر من آثار هذا الخضوع، فليس فيه تذبذب في المستوى الفني أو مناقضة في المضمون، كما لا يخضع للتطوّر التدريجي ولا أمثال ذلك .
بل الملاحظ فيه انسجامه بأسلوبه ومضمونه مع متطلبات المراحل التي كانت تمرّ بها مسيرة الرسالة الإسلامية الطويلة والمعقدة خلال حياة الرسول، وهذا يزيد القرآن عظمة وروعة ـ على العكس مما رامه هؤلاء المستشرقون ـ، إذ يؤكّد ارتباطه بقوة عليا محيطة بالواقع الموضوعي وقادرة على إدارته بأزمانه وتعقيداته وظروفه المختلفة من دون أن تنفعل وتتأثر هي بالظروف والمؤثرات.
وقد التبس الأمر على هؤلاء المستشرقين ـ عن قصد أو من دون قصد ـ ولم يميّزوا بين الحالتين وطبيعة آثارهما، فجاء حكمهم معكوساً بعيداً عن الصواب، بينما كان حرياً بهم أن يتأملوا في ظاهرة انسجام القرآن ـ رغم تنوّع مواضيعه ـ مع برهتين مختلفتين تماماً ـ قبل الهجرة وبعدها ـ وعدم تذبذب مستواه ولا تناقض مضمونه خلال هذه المسيرة الطويلة والمتشعبة، ويجعلوا هذا برهاناً على عدم كونه من تأليف البشر المتأثّر بمحيطه وظروفه وانفعالاته ومشاعره.
﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد:24], وقال تعالى:﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾[النساء:82] .
وبعد الانتباه لهذه النقطة الهامّة، سنتناول تلك الشبهات ومناقشتها:
الشبهة الأولى:
أن القسم المكي يمتاز عن القسم المدني بطابع الشدّة والعنف بل السباب أيضاً، وهذا يدلّ على تأثّر محمد بالبيئة التي كان يعيش فيها، لأنّها مطبوعة بالغلظة والجهل، ولذا يزول هذا الطابع عندما ينتقل محمد إلى مجتمع المدينة، الذي تأثّر فيه ـ بشكل أو بآخر ـ بحضارة أهل الكتاب وأساليبهم، وقد اسشهد هؤلاء المستشرقون لتثبيت هذه الشبهة بمجموعة من السور المكية المطبوعة بطابع الوعيد والتهديد والتعنيف مثل سور "المسد" و"العصر" و"التكاثر" و"الفجر" وغيرها.
ونرد على هذه الشبهة من وجوه :
الأول: إنّا نرفض تماماً اشتمال القرآن الكريم على السباب وكل مالا يليق، كما تشهد بذلك مراجعة الآيات القرآنية، رغم أنواع المآسي والتجاوزات التي مارسها أعداء النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) ضده وضد أنصاره.
الثاني : إن طابع الوعيد والإنذار لا يختص به القسم المكي، بل نجده كثيراً في القسم المدني حسب ما اقتضته الظروف، فمن ذلك :
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ *كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ *قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾[آل عمران:10-12].
وهناك الكثير من الآيات المدنية المتضمّنة للوعيد والتهديد . كما نلاحظ الكثير من الآيات المكية التي تفيض سماحة وليناً مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[فصلت:33-35].
الشبهة الثانية:
إنّ القسم المكي يمتاز بقصر السور والآيات، وعرض المضمون بشكل موجز، بخلاف القسم المدني حيث نلاحظ السور الطوال فيه، مثل سور البقرة، والنساء، وآل عمران، وغيرها ، ويعود هذا التفاوت إلى تأثره بالبيئة التي عاشها (محمد)، حيث كان المجتمع المكي اُمّياً لا يستوعب تفصيل المفاهيم، فجاءت الآيات والسور قصيرة موجزة، ثمّ لمّا عايش النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المجتمع المدني المتحضّر نسبياً تأثر بهم فجاءت الآيات والسور طويلة بمضامين مفصلة.
والجواب: من وجوه :
الأول : إنّا قد ذكرنا سابقاً إنّ قصر السور والآيات ليست خاصةً بالقسم المكّي، بل نجد مثله في القسم المدني، كما أن طوال السور والآيات لا يختص بالقسم المدني، بل هو كثير في القسم المكّي، فوجود كلا القسمين يؤكد أن اختيار نمط السورة أو الآية يتبع متطلبات الموقف والظرف، وليس ناشئاً من محدودية في قدرات منزل القرآن الكريم.
وبهذا تفسّر الكثرة النسبية للسور والآيات القصار في القسم المكي والسور والآيات الطوال في القسم المدني، حيث أن الدراسات اللغوية المتخصصة أكدت أنّ الإيجاز يعتبر مظهراً من مظاهر القدرة الفائقة على التعبير، وهو بالتالي من مظاهر الإعجاز القرآني ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم من ربه فكيف بمن آتاه هذه الخصلة وهو الله سبحانه .
وحيث نزل القرآن متحدياً للعرب فكان قِصر الآيات والسور أقوى في الدلالة على الإعجاز البياني الذي يهزّ مشاعر المكيين أكثر من غيره خصوصاً مع كثرة السور القصار وتنوعها.
وربما نضيف إلى ذلك ظروف المسلمين الخاصة آنذاك وتخفيهم وتشتتهم بحيث يسهل عليهم الحفظ والتفاعل مع السور القصار، بينما اختلفت الظروف في المدينة حيث صاروا أمّةً، لهم كيانهم الخاص بهم.
والثاني : لو افترضنا أن لطبيعة المجتمعين المكي والمدني وثقافتيهما دوراً في هذا التفاوت النسبي في أسلوبي القسمين، فهذا لا يقلل من قيمة القرآن ولا ينفي ارتباطه بالسماء وعدم خضوعه للطبيعة البشرية، لأنه لا يعني سوى انسجام القرآن مع الواقع الموضوعي من حوله، فهو يتحدث بلغة المحيط والمجتمع الذي ينزل بينهم.
كما كان اختيار اللغة العربية له باعتباره قد نزل بين العرب وعلى رسول عربي. كل ذلك كي ينفذ إلى أعماق نفوس أبناء هذا المجتمع والتأثير فيهم وإقامة الحجة عليهم، باعتبار أن أرضهم وبلادهم مهد القرآن، وقد نبّهنا سابقاً ـ قبل استعراض هذه الشبهات ـ على ضرورة التفريق بين خضوع القرآن للطبيعة البشرية وبين انسجامه مع الواقع والظروف والمجتمع المحيط به، والذي يفترض أن ينطلق إلى الأمم الأخرى من خلاله. وكما قلنا سابقاً يكون هذا الانسجام شاهداً إضافياً على انتسابه للسماء لا للبشر ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ...﴾[يونس:37].
وقد ذكر علماء البلاغة أن مميزات المتكلم البليغ مراعاته لمقتضى الحال، إذ لكل مقام مقال كما جاء في المثل المعروف، وهل هناك أولى من كلام الله الحكيم الخبير في مراعاة ذلك؟
والثالث : إنّ تفاعل الإنسان مع المجتمع والبيئة الجديدة لا يتم بسرعة بين عشية وضحاها، خاصةً ما يرتبط بتطوّر قدراته الذاتية وتفاعله مع ثقافة المجتمع الجديد الذي يعيشه، ويكفينا لتأكيد هذه الحقيقة أن نلقي نظرةً على الجماعات المهاجرة إلى البلدان الأخرى والمعاناة التي يعانونها بسبب عدم قدرتهم على التفاعل مع مجتمعات هذه البلدان، حتى أن هذه المعاناة قد تمتد إلى أجيالهم اللاحقة.
بينما نلاحظ أن نزول القرآن الكريم تلاحق بمجرد هجرة النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) للمدينة المنوّرة ولم تمر فترة انقطاع طويلة ريثما يتفاعل (محمد) مع المجتمع الجديد، فهل يعقل مع هذا أن يكون هذا القرآن من (محمد) خاصةً إذا عرفنا أن أول سورة مدنية هي سورة البقرة ـ أكبر سورة في القرآن ـ وأن السور الست الأولى النازلة في المدينة، هي البقرة، الأنفال، آل عمران، الأحزاب، الممتحنة، النساء، حيث تندرج فيها أكبر ثلاث سور في القرآن، وفيها القسم الكبير أو الأكبر من المفاهيم والتشريعات التفصيلية المتنوعة فكيف استطاع (محمد) المكي المتأثر بالبيئة المكية الأُمية والساذجة ـ كما يزعمون ـ أن يغير خطابه بهذا المستوى من التباين خلال فترة وجيزة؟!
الشبهة الثالثة:
أن القسم المكي لم يتناول التشريع في مجالات العلاقات والشؤون المرتبطة بالمجتمع، ويرجع هذا إلى طبيعة بيئة مكة المتخلفة، بينما نلاحظ اشتمال القسم المدني على ذلك بسبب تطور المجتمع المدني المتأثر بثقافة أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
والجواب عن هذه الشبهة يتضح من خلال ما تقدم، فإن عدم تناول القسم المكي للتشريع يعود إلى انعدام موضوعه آنذاك حيث كان المسلمون أقلية متناثرة مستضعفة، ولا توجد أرضية لتطبيق هذه التشريعات الإسلامية فكان بيانها ـ آنذاك ـ سابقاً لأوانه.
وأمّا ادعاء تأثرالدين الإسلامي بثقافة أهل الكتاب فهو ادعاء غير صحيح تكذبه الشواهد، حيث نجد:
أولاً:أن ابتداء التشريع الإسلامي كان بمجرد هجرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة وقبل أن يمر زمن طويل يسمح بتفاعل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) مع أهل الكتاب.
وثانياً: أن التشريع الإسلامي يختلف اختلافاً جوهرياً مع التشريع المتداول لدى أهل الكتاب، وكانوا هم يدركون ذلك. ولذا لم يصدر منهم هذا الادعاء.
وهذه قضية هامة حيث أن ادعاء تأثّر النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) بأهل الكتاب لم يصدر إلا من المتأخرين، ولو كان له حقيقة لادعاه أهل الكتاب المعاصرون له، والذين كانوا يحاورون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين ويجادلونهم حتى وصل الأمر بنصارى نجران إلى طلب المباهلة مع شخص النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم).
الشبهة الرابعة :
أن القسم المكي لم يتضمن الأدلة والبراهين على أصول العقيدة وتعاليم الرسالة الإسلامية على خلاف القسم المدني، وهذا مؤشر آخر على تأثر القسم المكي بالمجتمع المكي الساذج البسيط، وتأثر القسم المدني بمجتمع المدينة الحضاري المتطور، وأن القرآن الكريم اكتسب العمق في البرهنة والاستدلال من أهل الكتاب المتواجدين والمؤثرين في مجتمع المدينة.
ويتضح الجواب عن هذه الشبهة من خلال ما تقدم أيضاً، من رجوع ذلك إلى تفاوت متطلبات الموقف واختلاف طبيعة المجتمع الذي كان في المدينة عن المجتمع المكي من دون أن يعني ذلك تأثر القرآن وتطوّره تبعاً لتطور البيئة المحيطة به.
ونضيف على ذلك أنا عندما راجعنا المصحف الشريف لاحظنا كثيراً من الاستدلالات في القسم المكي مما يعني انهيار الشبهة من أساسها.
فمن ذلك قوله تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾[المؤمنون:91].
وقوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[الأنبياء:22].
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ... أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[العنكبوت: 48-51].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ *وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ *وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[الجاثـية:3-5] .
وقوله تعالى: ﴿... وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ* إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾[فاطر:13-14] .
أهم المراجع:
- الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابات المستشرقين: نذير حمدان.
- أوربا والإسلام: د. عبد الحليم محمود.
- محمد رسول الله: المستشرق الفرنسي آتين دينيه وسليمان بن إبراهيم، ترجمة: د.عبد الحليم محمود، ود.محمد عبد الحليم محمود.
- الاستشراق والفلسفة الإسلامية بين التجديد والتبديد: أ.د. إبراهيم صقر.
- الاستشراق في الفكر العربي: د. محسن جاسم الموسى.
ـ الاستشراق أهدافه ووسائله ( دراسة تطبيقية حول منهج الغربيين في دارسة بن خلدون ) للدكتور : محمد فتح الله الزيادي ) . تاريخ حركة الاستشراق ( الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين ) للمستشرق : يوهان فوك . تعريب : عمر لطفي العالم .