بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء:
" وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ {51}."
والرشد هو اهتداء العقل إلى الأكمل في الصلاح والأعلى في الخير بحيث لا يأتي بعد الصلاح فساد ولا بعد الخير شر.
وهذا الرشد له نوعان :
رشد بنية ورشد معنى :
فرشد البنية هو اكتمال تكوين الإنسان بحيث إن كل جهاز فيه يقوم بوظيفته خير قيام .. وهذا يحدث عادة بعد البلوغ .. هذا بالنسبة للرشد المادي.
وهناك رشد أعلى يأتي للقمة الفكرية وهو العقل والذهن الذي يختار به الإنسان بين البدائل وهو لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى .. وأعطاه إبراهيم قبل أن يبلغ سن الرشد التي يحتاج إليها غيره من الناس .. فقد أنكر على قومه عبادتهم للأصنام.
" إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ {52}." سورة الأنبياء.
وهذا ليس استفهاماً حقيقياً .. ولكنه استفهام تقريري وتوبيخي لهم كأنه ينكر ما هم عليه من ضلال وانحراف .. إنهم كانوا يعمدون إلى أشياء يمكن نحتها أو تشكيلها ويجعلونها على صورة إنسان ويصنعون منها التماثيل الصغيرة والكبيرة .. يصنعونها من الحجر أو النحاس أو الحديد أو العجوة وغير ذلك .. ويبالغون في بعضها فيصنعونه من المرمر ويضعون في عينيه خرزاً لامعاً حتى يخيل للرائي أن له عينين .. فالقوم كانوا يتفننون في صناعة هذه التماثيل.
ومعنى " أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ {52}." سورة الأنبياء.
أي : مقيمون لأن الاعتكاف هو الإقامة .. ولأن كلمة عكف معناها أقام .. فالإنسان يعكف على الشيء أي يقيم عنده
..
واللام في قوله:
" لَهَا {52}." سورة الأنبياء.
ليست بمعنى " على " .. ولكنها لام الملكية ولام النفعية لأنهم يعكفون لصالح هذه الأصنام كأنها تملكهم وتسخرهم كما تريد لأنهم يعبدونها ويتقربون إليها.
فلما سألهم إبراهيم عن سر عكوفهم على هذه التماثيل ردوا عليه بقولهم :
" قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ {53}." سورة الأنبياء.
إذن .. لا حجة لهم إلا التقليد .. فليس عندهم حجة لذاتية العمل ولكن حجتهم التقليد .. فهم في ضلال لأنهم قلدوا آباءهم والإيمان لا يكون بالتقليد وآباؤهم في ضلال لأنهم اقترحوا هذه المسألة .
وهذا دليل على عدم الفهم لأن العبادة هي أن يطيع العابد المعبود والأصنام ليس لها أوامر وليس لها تكاليف
وبعد ذلك جاء رد إبراهيم عليهم :
" لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {54}." سورة الأنبياء.
ولأن هذا الرد كان غريباً عليهم ولم يكونوا يتوقعونه .. لذلك ظنوا أنه يمزح معهم .. ولذلك استغربوا منه أن يصفهم وآباءهم بالضلال فكان ردهم عليه :
" قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ {55}." سورة الأنبياء.
فأخبرهم أنه جاءهم بالحق من عند الله الذي أمره أن يدعوهم إلى نبذ عبادة الأصنام وأن يعبدوا الله وحده لذلك قال:
" قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ {56}." سورة الأنبياء
وكلمة ( بَل ) :
تفيد أن كلامهم الذي قالوه وأصنامهم التي يعكفون عليها لا تنفع .. لأن الرب المستحق للعبادة هو الله خالق السماوات والأرض.
بعد أن قال لهم هذا الكلام .. وأقام عليهم الحجة وبيّن لهم طريق الحق جادلوه بالباطل .. وتملكهم العناد والغرور .. ولم يستجيبوا له .. فكر إبراهيم في الانتقام من أصنامهم حتى يبين لهم أنها لا تنفع ولا تضر .. ولا تستطيع أن تحمي نفسها فقال:
" وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ {57}." سورة الأنبياء .
والكيد لا يكون للأصنام لأنها لا تعقل ولا تشعر بشيء .. ولكن إبراهيم بتكسيره للأصنام يكيد قومه الذين يعبدونها فهو يكيدهم في أصانامهم .. أما الأصنام نفسها فهي تسبح لله مثل كل شيء في الوجود .. وتتبرأ من عبادتهم لها من دون الله .
" فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ {90} فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ {91}." سورة الصافات.
كلمة ( فَرَاغَ ) : معناها تسلل خفية حتى لا يراه أحد .. وعندما وصل إلى الأصنام أول شيء فعله استهزأ بهذه الآلهة وقال لهم :
" أَلَا تَأْكُلُونَ {91}." سورة الصافات.
كأنه يعرض عليهم الطعام إن كانوا جوعى فلم يردوا عليه
.. فقال لهم:
" مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ {92}. " سورة الصافات.
آلهة لا تنطق ولا تتكلم وكان رده عليهم هو تكسيرهم وتحطيمهم :
" فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ {93}."
واليمين تعني القوة والقهر والغلبة .
" فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58}." سورة الأنبياء.
ومعنى (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً )
الجذاذ هو القطع المتناثرة مثل الحطام .. فالشيء الذي كان له هيكل ومنظر تقطع وتفتت إلى قطع متناثرة .. فحطم الأصنام كلها وترك الصنم الأكبر لعلهم يسألونه عما حدث لباقي الأصنام . فلما ذهب القوم كعادتهم إلى مكان الأصنام ووجدوها مكسرة ومحطمة غضبوا وثاروا.
" قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59}." سورة الأنبياء.
فالذي فعل هذا الفعل في نظرهم ظالم ومجرم .. لأنه اعتدى على الآلهة السليمة وكسرها .. ولكنهم لم يفكروا لحظة واحدة في أن يراجعوا أنفسهم في عبادة آلهة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها .. لما أخذوا يسألون عن الجاني الذي اعتدى على الآلهة وحطمها .. تطوع بعض القوم بالإبلاغ عن إبراهيم بما علموا عنه من كراهيته للأصنام ..
لأن القوم كان لهم يوم من الأيام يذهبون فيه إلى ناديهم الذي يجتمعون فيه عند الأصنام .. ويضعون لها الطعام والقرابين .. ففي هذا اليوم الذي يتجمعون فيه عند الأصنام .. أراد عم إبراهيم أن يأخذه معه .. لعله يهتدي إلى عبادة آلهة آبائه وأجداده .. ولعل صنماً يجذبه على عبادته.
وحاول القوم أن يصحبوه معهم .. ولكنه رفض أن يذهب معهم :
" فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ {89}." سورة الصافات.
فأخبرهم أنه مريض ولن يستطيع أن يذهب معهم .. وعزم في نفسه على تحطيم تلك الأصنام التي يعبدونها فكأن أحداً سمعه وهو يحدث نفسه بتكسير معبوداتهم .. فأخبرهم بأنه فتى اسمه إبراهيم كان يذكر الأصنام بسوء ..
" قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ {60}." سورة الأنبياء.
فاتفقوا على أن يأتوا به على مشهد من القوم حتى يكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسه التعدي على الآلهة .. فلا يجترئ أحد بعد ذلك على مثل هذه الفعلة .
" قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ {61}." سورة الأنبياء.
ومعنى : ( لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ )
أي يشهدون ما سيوقعونه به حتى لا يجترئ أحد على مثل هذا الفعل مرة أخرى .
فذهب القوم وأحضروا إبراهيم على مشهد من الناس ووجهوا إليه الاتهام:
" قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} ." سورة الأنبياء.
فرد إبراهيم بثبات المؤمن وكأنه يستغرب جهلهم وغضبهم بسبب آلهة مزعومة لا تنفع ولا تضر .
" قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ {95} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ {96}. " الصافات.
ثم قال :
" قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ {63}." سورة الأنبياء.
كان إبراهيم ينتظر منهم أن يقولوا إن كبير الأصنام لا يستطيع أن يفعل شيئاً من هذا .. وحينئذ نقول لهم إذا كان عاجزاً عن أي فعل فلماذا تعبدونهم ؟
وهذا ليس كذباً من إبراهيم .. ولكنه توبيخ للقوم الكافرين حتى يصلوا إلى الجواب بأنفسهم .. ويقتنعوا بأن الأصنام لا تستحق العبادة .. وأنهم على ضلال ويجب عليهم أن يستجيبوا للحق.
ولكن القوم لم يسألوا الأصنام .. لأنهم يعرفون أنها لا تنطق :
" فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ {65}. " الأنبياء.
فبعد أن غلبهم الواقع أمامهم ودفعهم إلى محاولة قول الحق .. تذكروا ما يجره عليهم هذا الحق من فقدان لمكانتهم وسلطتهم الزمنية .
أي أنك تعلم أن هذه الآلهة لا تنطق .. فيرد عليهم إبراهيم ويقيم عليهم الحجة :
" أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {67}." سورة الأنبياء.
إذا كان الأمر كذلك .. فلماذا تعبدونهم من دون الله مع أنهم لا ينفعونكم إن عبدتموهم ولا يضرونكم إن تركتم عبادتهم .
وكلمة : (أُفٍّ ) :
معناها التضجر فهذا شيء يضايق النفس ويغيضها .. وهي في اللغة ليست اسماً ولا فعلاً ولا حرفاً .. ولكن يسمونها في اللغة " الخالفة " .. ومعناها : أنها اسم مدلوله فعل في اسم معناه فعل مثل هيهات معناها بعد.
ويسمونها الخالفة .. لأنها خالفت الأقسام الثلاثة الموجودة في اللغة هل هذا معقول أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم وحين يقع تعدلونه .. وإذا كُسر تصلحونه .. وإذا جرفه السيل وغطاه الطين تغسلونه وتضعونه مكانه وتعبدونه .. هل هذا معقول؟
فماذا كان ردهم.
" قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ {97} فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ {98}. " سورة الصافات.
لم يستجيبوا لنداء العقل بل عزموا على الانتقام من إبراهيم واتفقوا على حرقه بالنار ..
" قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ {68}. "
شيء عجيب .. آلهة ينصرها المخلوقون اتفقوا على أن يحرقوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام . الخ ..
وللحديث بقية ..
أخوكم : الاثرم
تعليق