بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: الأستاذ جعفر شيخ إدريس مفكر سوداني من أعلام الدعوة والفكر
الإسلام كما أنزله الله ـ تعالى ـ على محمد -صلى الله عليه وسلم- ـ ومن غير تحريف ولا تبديل ـ هو الدين الذي رضيه ـ سبحانه وتعالى ـ للناس أجمعين في كل مكان وكل عصر منذ مبعث رسوله الأمين وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين.
فالإسلام لعصرنا كما كان للعصور قبلنا، لكن إذا كانت نصوص الشرع لا تتغير ولا تتبدل؛ فإن أحوال الناس تتغير وتتبدل؛ فماذا يفعلون؟
يقول المتذبذبون: دعوا النصوص كما هي؛ لكن أعيدوا تفسيرها وأعطوها من المعاني ما يتناسب مع ثقافة عصركم كما أعطاها من سبقكم ما يتناسب مع ثقافة عصره؛ فإن النصوص وحي إلهي لكن فهمها جهد بشري. النصوص مطلقة لكن فهمها نسبي.
يقول الثابتون على الحق: لكن نصوص القرآن نزلت بلغة عربية ذات معانٍ محددة يعقلها العارفون بهذه اللغة ((إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) [يوسف: 2] ثم جـاءت السنة لتزيد المعاني اللغوية بياناً، ثم إن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسروا هذه النصوص بحسب ما فهموا من لغة القرآن والسنة التي كانت لغتهم، وبحسب ما سمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبحسب ما شاهدوا من المناسبات التي نزلت بسببها الآيات، والأحوال التي ذكرت فيها الأحاديث، ثم جاءت الأجيال تلو الأجيال من أئمة المسلمين وعلمائهم لتَفْهم من نصوص الكتاب والسنة هذا الفهم نفسه كما تدل عليه مؤلفاتهم؛ فالقول بأنهم فسروا النصوص بحسب ثقافة عصورهم إنما هو مجرد وهْم تبطله الحقائق التاريخية.
يقول المتذبذب: أتعني أنهم لم يختلفوا؟
يقول الثابت: لم يختلفوا في المعاني الأساسية للنصوص إلا اختلافات يسيرة، لكن اختلفوا فيما يمكن أن يستنتج مـن النص ـ مثلاً ـ، أو في المسائل الاجتهادية التي لا نصوص فيها، لكن المهم أن اخـتلافهم لم يكن بسبب اختلاف ثقافات عصورهم كما تدعي، وإنما كانت اختلافات فردية حـتى في داخل العصر الواحد، وكانت اختلافات بين من التزموا بذلك المنهج الصحيح الذي بـيـّنـتُه لك بإيجاز وبين الذين لم يلتزموا منهجاً علمياً؛ وإنما أخذوا يفسرون النصوص بحسب أهوائهم ورغباتهم.
ـ أتعني أن لتفسير نصوص الكتاب والسنة منهجاً علمياً؟
ـ بل أعني أن لتفسير النصوص كلها سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية مناهج علمية.
ـ كيف؟
ـ أظنك تتكلم الإنجليزية.
ـ نعم.
ـ إذا قرأت قصيدة من قصائد شكسبير مثلاً، فكيف تفهمها؟
ـ أرجع إلى الكتب التي تولتْ شرحها، وبينتْ ما قصده شكسبير منها.
ـ أتعني أنك لا تفهمها بحسب ثقافة عصرك أو ثقافة بلدك العربي؟
ـ لا؛ بل لأنني أريد أن أعرف ما قصده شكسبير من كلماته.
ـ أتعني أنك تعطي كلماته المعاني التي قصدها والتي كانت شائعة في عصره حتى لو كانت تلك المعاني مخالفة للمعاني السائدة الآن في اللغة الإنجليزية؟
ـ لا شك في ذلك؛ لأن قصدي أن أعـرف ما قال شكسبير، فإذا أعطيت كلماته المعاني السائدة الآن فإني أكون قد قوّلته ما لم يقل.
ـ هل تفعل الشيء نفسه بالنسبة لنص من نصوص أرسطو ـ مثلاً ـ إذا كنت تحاول أن تكون مختصاً بفلسفته؟ أعني: هل تحاول أن تدرس لغته التي كتب بها فلسفته؟
ـ أجل، وأحاول أن لا أخلط بينها وبين اللغة اليونانـيـة الحديثة؛ لأن قصدي أن أفهم ما قال أرسطو.
ـ هل تكتفي في فهم نصوصه إذن بدراسـتك للغـة اليونانية التي كتب بها، أم أن هنالك وسائل أخرى تعينك على فهم كلامه؟
ـ نعم هنالك وسائل أخرى منها: أن أدرس كيف فهمه معاصروه؛ لأنهم أدرى به، ومنها: الاستعانة بالخبراء الذين سبقوني.
ـ ما أظنك إلا متبعاً منهجك هذا نفسه في دراستك لشاعر جاهلي كامرئ القيس.
ـ بلى؛ فأنا لا أعرف لهذا المنهج بديلاً في دراسة النصوص البشرية.
ـ هذا المنهج الذي اتبعته في دراستك لما أسميته بالنصوص البشرية هو المنهج العلمي الذي نريد منك اتباعه في دراستك للنصوص الإسلامية. نريد أن يكون همك هو أن تفهم مراد الله ومـراد رسوله بقدر المستطاع، وأن تكون أميناً في ذلك؛ لا تُقوّل الله أو رسوله ما لم يقولا، وأن تقرر معنى نصوصهما كما هي حتى لو رأيتها مخالفة لما هو سائد في عصرك.
ـ لكن هنالك فوارق مهمة ـ أراك قد أغفلتها ـ بين النصوص البشرية والنصوص الإلهية.
ـ ما هي؟
ـ منـهـا: أنـنـي أستطيع أن أفهم مراد البشر؛ لأنهم مخلوقون محدودون يخاطبونني بلغة محدودة، أما الله ـ تعالى ـ فمطلق؛ فلا يمكن أن تسع اللغة المحدودة معانيه المطلقة؛ لذلك كان من حق كـل إنـسـان أن يفـسرها بلغـته المحدودة حتى تتسع معانيها فتقترب من المطلق!!
ـ دعك يا أخي من الـكلام الغامض عن تفسير المطلق والمحدود؛ فإنها ألفاظ لا طائل تحتها؛ واللهُ ـ تعالى ـ لم يسمّ نفسه ولا سماه رسوله بالمطلق ولا وصفه بذلك. إن خلاصة ما تريد أن تنتهي إليه هو أن البشر حين يتكلمون باللغة العربية يكون لكلامهم معنى محدد يمكن معرفته بطريقة علمية، وأما إذا خاطَبَنَا اللهُ بهذه اللغة فإنه لا يكون لكلامه معنى يمكن معرفته بطريقة علمية! ألا ترى أنك جعلت الله ـ تعالى ـ عاجزاً عما جعلت البشر قادرين عليه؟ كيف يستطيع البشر حين يخاطبوننا باللغة العربية أن يوصلوا معانيهم التي قصدوها إلينا ولا يستطيع رب البـشر أن يفعل ذلك، وقد قال إنه إنما خاطبنا بهذه اللغة لنفهم عنه ما يقول؟
ـ هـذا بـيان معقول؛ لكنّ هنالك فارقاً آخر هو أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فإذا أعطينا نـصوصه المعاني ذاتـهــا التي أعطاها إياها الصحابة ـ مثلاً ـ، فإنا نكون قد حصرناها؛ وبذلك حصرنا الإسلام في زمان معين ومكان معين!
ـ فما البديل إذن؟
ـ البديل هو كما قلت لك: أن يفـسر كل أهل عصرٍ تلك النصوص بما يتناسب مع ثقافة عصرهم.
ـ حتى لو كانت هذه التفاسير متضاربة متناقضة؟
ـ نعم؛ لأن فهم النصوص الإلهية هو ـ كما قلت لك ـ نسبي؛ فما يفهمه أهل كل عصر صحيح بالنسبة لهم حتى لو كان غير صحيح بالنسبة لغيرهم.
ـ هل هذا هو ما فهمته من مقولة: إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان؟
ـ أجل، وما أراك قادراً على الإتيان بفهمٍ غيره أو أحسن منه.
ـ إذا كانت صلاحية الكلام لكل زمان ومكان تعني أن تُغيّر معانيه لتناسب أهواء الناس في كل زمان ومكان، فإن كل كلام حتى لو كان لأبلد الناس يمكن أن تكون له هذه الميزة.
ـ كيف؟
ـ هب أن رجلاً اسمه (حمار) وضع مذهباً من عشر مسائل فقال: على من يقبل مذهبي: أن يفعل في الاقتصاد كذا، وفي السياسة كذا، وفي التربـية كذا، إلى آخر المسألة التاسعة، ثم قال في العاشرة: (لكل من يتبع مذهبي الحماري هذا أن يفسر مسائله التسع السابقة بما يراه مناسباً لبيئته الثقافية) أظنك توافقني على أنه لن يمر إلا وقت قليل حتى لا يبقى من مسائل حمار هذا ـ بحسب ما كتبها ـ إلا المسألة العاشرة. لكن أصحابه سيظلون ينتمون إلى هذا المذهب، وسيظلون يتفاخرون بأنهم حماريون، وأن مذهبه الحماري صالح لكل زمان ومكان؟ فهل تريد للإسلام أن يكون كذلك؟
ـ فما معنى كون الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان إذن؟
ـ معناه أنه كما أنزله الله ـ ومن غير تحريف ولا تبديل ـ صالح لكل من يريد الهداية من الأفراد والجماعات في كل زمان ومكان. والسر في هذا أنه تنزيل من حكيم عليم، علم ما هو صالح لعباده بما هم به بشر، لا بما هم به أهل هذا العصر أو ذاك، ولا بما هم به عرب أو عجم، أو أصحاب زراعة أو صناعة، أو في شرق الأرض أو غربها، أو غير ذلك من الاختلافات التي لا تؤثر في بشريتهم، فأنزل عليه كتاباً غير مقيد بشيء من هذا كله.
ـ إذن فما معنى عبارتك: (الإسلام لعصرنا)؟
ـ معناها أنه إذا كانت نصوص الكتاب والسنة لا تتغير ولا تتبدل فإن أحوال الناس تتبدل وتتغير، فيجدّ لهم من المشكلات اللغوية والفكرية، والعلمية التجريبية، ما يحتاجون معه إلى أن يُعانوا على فهم دينهم الفهم الصحيح، وأن تزداد ثقتهم فيه وإيمانهم به، وذلك يكون:
بتفسير حقائقه الثابتة بلغة جديدة يفهمونها، إن كانوا عرباً، أو بترجمتها إلى لغاتهم إن لم يكونوا عرباً، وبتقويم ما يجدّ من أفكار، والرد على ما يُـثار من شبهات، وبإيجاد الحلول الإسلامية لما يجدّ من مشكلات عملية، وبالاستفادة من الكشوف العلمية الموافقة للنصوص الإسلامية في تثبيت الإيمان والدعوة إلى الإسلام، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تتأتى إلا بإمعان النظر في النصوص وتدبرها. إن النصوص محدودة لـكـن ما يُستنتج منها غير محدود، كيف لا والقرآن كتاب لا تنقضي عجائبه؟!
بقلم: الأستاذ جعفر شيخ إدريس مفكر سوداني من أعلام الدعوة والفكر
الإسلام كما أنزله الله ـ تعالى ـ على محمد -صلى الله عليه وسلم- ـ ومن غير تحريف ولا تبديل ـ هو الدين الذي رضيه ـ سبحانه وتعالى ـ للناس أجمعين في كل مكان وكل عصر منذ مبعث رسوله الأمين وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين.
فالإسلام لعصرنا كما كان للعصور قبلنا، لكن إذا كانت نصوص الشرع لا تتغير ولا تتبدل؛ فإن أحوال الناس تتغير وتتبدل؛ فماذا يفعلون؟
يقول المتذبذبون: دعوا النصوص كما هي؛ لكن أعيدوا تفسيرها وأعطوها من المعاني ما يتناسب مع ثقافة عصركم كما أعطاها من سبقكم ما يتناسب مع ثقافة عصره؛ فإن النصوص وحي إلهي لكن فهمها جهد بشري. النصوص مطلقة لكن فهمها نسبي.
يقول الثابتون على الحق: لكن نصوص القرآن نزلت بلغة عربية ذات معانٍ محددة يعقلها العارفون بهذه اللغة ((إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) [يوسف: 2] ثم جـاءت السنة لتزيد المعاني اللغوية بياناً، ثم إن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسروا هذه النصوص بحسب ما فهموا من لغة القرآن والسنة التي كانت لغتهم، وبحسب ما سمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبحسب ما شاهدوا من المناسبات التي نزلت بسببها الآيات، والأحوال التي ذكرت فيها الأحاديث، ثم جاءت الأجيال تلو الأجيال من أئمة المسلمين وعلمائهم لتَفْهم من نصوص الكتاب والسنة هذا الفهم نفسه كما تدل عليه مؤلفاتهم؛ فالقول بأنهم فسروا النصوص بحسب ثقافة عصورهم إنما هو مجرد وهْم تبطله الحقائق التاريخية.
يقول المتذبذب: أتعني أنهم لم يختلفوا؟
يقول الثابت: لم يختلفوا في المعاني الأساسية للنصوص إلا اختلافات يسيرة، لكن اختلفوا فيما يمكن أن يستنتج مـن النص ـ مثلاً ـ، أو في المسائل الاجتهادية التي لا نصوص فيها، لكن المهم أن اخـتلافهم لم يكن بسبب اختلاف ثقافات عصورهم كما تدعي، وإنما كانت اختلافات فردية حـتى في داخل العصر الواحد، وكانت اختلافات بين من التزموا بذلك المنهج الصحيح الذي بـيـّنـتُه لك بإيجاز وبين الذين لم يلتزموا منهجاً علمياً؛ وإنما أخذوا يفسرون النصوص بحسب أهوائهم ورغباتهم.
ـ أتعني أن لتفسير نصوص الكتاب والسنة منهجاً علمياً؟
ـ بل أعني أن لتفسير النصوص كلها سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية مناهج علمية.
ـ كيف؟
ـ أظنك تتكلم الإنجليزية.
ـ نعم.
ـ إذا قرأت قصيدة من قصائد شكسبير مثلاً، فكيف تفهمها؟
ـ أرجع إلى الكتب التي تولتْ شرحها، وبينتْ ما قصده شكسبير منها.
ـ أتعني أنك لا تفهمها بحسب ثقافة عصرك أو ثقافة بلدك العربي؟
ـ لا؛ بل لأنني أريد أن أعرف ما قصده شكسبير من كلماته.
ـ أتعني أنك تعطي كلماته المعاني التي قصدها والتي كانت شائعة في عصره حتى لو كانت تلك المعاني مخالفة للمعاني السائدة الآن في اللغة الإنجليزية؟
ـ لا شك في ذلك؛ لأن قصدي أن أعـرف ما قال شكسبير، فإذا أعطيت كلماته المعاني السائدة الآن فإني أكون قد قوّلته ما لم يقل.
ـ هل تفعل الشيء نفسه بالنسبة لنص من نصوص أرسطو ـ مثلاً ـ إذا كنت تحاول أن تكون مختصاً بفلسفته؟ أعني: هل تحاول أن تدرس لغته التي كتب بها فلسفته؟
ـ أجل، وأحاول أن لا أخلط بينها وبين اللغة اليونانـيـة الحديثة؛ لأن قصدي أن أفهم ما قال أرسطو.
ـ هل تكتفي في فهم نصوصه إذن بدراسـتك للغـة اليونانية التي كتب بها، أم أن هنالك وسائل أخرى تعينك على فهم كلامه؟
ـ نعم هنالك وسائل أخرى منها: أن أدرس كيف فهمه معاصروه؛ لأنهم أدرى به، ومنها: الاستعانة بالخبراء الذين سبقوني.
ـ ما أظنك إلا متبعاً منهجك هذا نفسه في دراستك لشاعر جاهلي كامرئ القيس.
ـ بلى؛ فأنا لا أعرف لهذا المنهج بديلاً في دراسة النصوص البشرية.
ـ هذا المنهج الذي اتبعته في دراستك لما أسميته بالنصوص البشرية هو المنهج العلمي الذي نريد منك اتباعه في دراستك للنصوص الإسلامية. نريد أن يكون همك هو أن تفهم مراد الله ومـراد رسوله بقدر المستطاع، وأن تكون أميناً في ذلك؛ لا تُقوّل الله أو رسوله ما لم يقولا، وأن تقرر معنى نصوصهما كما هي حتى لو رأيتها مخالفة لما هو سائد في عصرك.
ـ لكن هنالك فوارق مهمة ـ أراك قد أغفلتها ـ بين النصوص البشرية والنصوص الإلهية.
ـ ما هي؟
ـ منـهـا: أنـنـي أستطيع أن أفهم مراد البشر؛ لأنهم مخلوقون محدودون يخاطبونني بلغة محدودة، أما الله ـ تعالى ـ فمطلق؛ فلا يمكن أن تسع اللغة المحدودة معانيه المطلقة؛ لذلك كان من حق كـل إنـسـان أن يفـسرها بلغـته المحدودة حتى تتسع معانيها فتقترب من المطلق!!
ـ دعك يا أخي من الـكلام الغامض عن تفسير المطلق والمحدود؛ فإنها ألفاظ لا طائل تحتها؛ واللهُ ـ تعالى ـ لم يسمّ نفسه ولا سماه رسوله بالمطلق ولا وصفه بذلك. إن خلاصة ما تريد أن تنتهي إليه هو أن البشر حين يتكلمون باللغة العربية يكون لكلامهم معنى محدد يمكن معرفته بطريقة علمية، وأما إذا خاطَبَنَا اللهُ بهذه اللغة فإنه لا يكون لكلامه معنى يمكن معرفته بطريقة علمية! ألا ترى أنك جعلت الله ـ تعالى ـ عاجزاً عما جعلت البشر قادرين عليه؟ كيف يستطيع البشر حين يخاطبوننا باللغة العربية أن يوصلوا معانيهم التي قصدوها إلينا ولا يستطيع رب البـشر أن يفعل ذلك، وقد قال إنه إنما خاطبنا بهذه اللغة لنفهم عنه ما يقول؟
ـ هـذا بـيان معقول؛ لكنّ هنالك فارقاً آخر هو أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فإذا أعطينا نـصوصه المعاني ذاتـهــا التي أعطاها إياها الصحابة ـ مثلاً ـ، فإنا نكون قد حصرناها؛ وبذلك حصرنا الإسلام في زمان معين ومكان معين!
ـ فما البديل إذن؟
ـ البديل هو كما قلت لك: أن يفـسر كل أهل عصرٍ تلك النصوص بما يتناسب مع ثقافة عصرهم.
ـ حتى لو كانت هذه التفاسير متضاربة متناقضة؟
ـ نعم؛ لأن فهم النصوص الإلهية هو ـ كما قلت لك ـ نسبي؛ فما يفهمه أهل كل عصر صحيح بالنسبة لهم حتى لو كان غير صحيح بالنسبة لغيرهم.
ـ هل هذا هو ما فهمته من مقولة: إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان؟
ـ أجل، وما أراك قادراً على الإتيان بفهمٍ غيره أو أحسن منه.
ـ إذا كانت صلاحية الكلام لكل زمان ومكان تعني أن تُغيّر معانيه لتناسب أهواء الناس في كل زمان ومكان، فإن كل كلام حتى لو كان لأبلد الناس يمكن أن تكون له هذه الميزة.
ـ كيف؟
ـ هب أن رجلاً اسمه (حمار) وضع مذهباً من عشر مسائل فقال: على من يقبل مذهبي: أن يفعل في الاقتصاد كذا، وفي السياسة كذا، وفي التربـية كذا، إلى آخر المسألة التاسعة، ثم قال في العاشرة: (لكل من يتبع مذهبي الحماري هذا أن يفسر مسائله التسع السابقة بما يراه مناسباً لبيئته الثقافية) أظنك توافقني على أنه لن يمر إلا وقت قليل حتى لا يبقى من مسائل حمار هذا ـ بحسب ما كتبها ـ إلا المسألة العاشرة. لكن أصحابه سيظلون ينتمون إلى هذا المذهب، وسيظلون يتفاخرون بأنهم حماريون، وأن مذهبه الحماري صالح لكل زمان ومكان؟ فهل تريد للإسلام أن يكون كذلك؟
ـ فما معنى كون الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان إذن؟
ـ معناه أنه كما أنزله الله ـ ومن غير تحريف ولا تبديل ـ صالح لكل من يريد الهداية من الأفراد والجماعات في كل زمان ومكان. والسر في هذا أنه تنزيل من حكيم عليم، علم ما هو صالح لعباده بما هم به بشر، لا بما هم به أهل هذا العصر أو ذاك، ولا بما هم به عرب أو عجم، أو أصحاب زراعة أو صناعة، أو في شرق الأرض أو غربها، أو غير ذلك من الاختلافات التي لا تؤثر في بشريتهم، فأنزل عليه كتاباً غير مقيد بشيء من هذا كله.
ـ إذن فما معنى عبارتك: (الإسلام لعصرنا)؟
ـ معناها أنه إذا كانت نصوص الكتاب والسنة لا تتغير ولا تتبدل فإن أحوال الناس تتبدل وتتغير، فيجدّ لهم من المشكلات اللغوية والفكرية، والعلمية التجريبية، ما يحتاجون معه إلى أن يُعانوا على فهم دينهم الفهم الصحيح، وأن تزداد ثقتهم فيه وإيمانهم به، وذلك يكون:
بتفسير حقائقه الثابتة بلغة جديدة يفهمونها، إن كانوا عرباً، أو بترجمتها إلى لغاتهم إن لم يكونوا عرباً، وبتقويم ما يجدّ من أفكار، والرد على ما يُـثار من شبهات، وبإيجاد الحلول الإسلامية لما يجدّ من مشكلات عملية، وبالاستفادة من الكشوف العلمية الموافقة للنصوص الإسلامية في تثبيت الإيمان والدعوة إلى الإسلام، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تتأتى إلا بإمعان النظر في النصوص وتدبرها. إن النصوص محدودة لـكـن ما يُستنتج منها غير محدود، كيف لا والقرآن كتاب لا تنقضي عجائبه؟!