بسم الله الرحمن الرحيم
منهج السلف هو سماع الأموات للأحياء
منهجية أهل السنة والجماعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه و نستغفره و نستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و اشهد ان سيدنا محمد عبده ورسوله ، أما بعد :
لقد تميز دين الإسلام عن بقية الأديان بحفظ كتابه العزيز ، فالكتب السابقة المنزلة كانت عرضة للتحريف ، وأهم أسباب التحريف كانت بسبب التعصبات المذهبية ، أذكر من هذا التحريف مثالاً: عند اليهود فرقتان: اليهود العبرانيون واليهود السامرة ، ولهذين الفرقتين نسختين مختلفتين من التوراة ، فنجد في نسخة العبرانيين أن نبي الله موسى عليه السلام بارك جبل جرزيم ولعن جبل عيبال وأما في توراة السامريين فإنه العكس ، ذلك لأن العبرانيين يعظمون جبل جرزيم وأما السامرة فيعظمون جبل عيبال.
إن التحريف مستحيل على القرآن الكريم ، ولكن يوجد عندنا اختلافات مذهبية وبينها تعصبات ، وهذه الاختلافات على مدى قرون لم تستطع أن تغير حرفاً واحداً للقرآن الكريم ولله الحمد ، وإنما كل الذي استطاعت أن تعمله هو تغيير مفاهيم القرآن الكريم وإخراج معاني نصوص القرآن الكريم عن مقاصدها ومعانيها ، يعني الاختلاف في التفسير.
ولذلك لما كنا أمة خيرها القرون الثلاثة الأولى (كما جاء في الحديث الشريف) ، كان الضابط لفهم الكتاب الكريم هو السلف الصالح ، ومن هنا جاءت مسمى السلفية أي أتباع السلف.
ولكن إعلاناً للحق واعترافاً للحق وجب علينا التبيين حتى وإن كان الحق ضدنا ، فعلينا أن نقر ونعترف ونعود إلى الصواب إن خالفنا الحق في شيء ، أقول ذلك لأننا نحتاج إلى غربلة بعض المفاهيم الدخيلة علينا والمخالفة لمنهج السلف الصالح يرحمهم الله.
فللأسف موضوع هام في العقيدة وهو قضية الأموات ، هل يسمعوننا أم لا؟ قبل أن أسهب في الحديث حول هذا الموضوع أريد أن أبين أنني لست مع الذين يعبدون القبور ، فعبادة القبور شرك أكبر مخرج من الملة ، وعلينا محاربة كل من يدعوا إلى عبادة غير الله تعالى ، بل إن اعتقدها مسلم فإنه يرتد عن دين الله مستحق لعقوبة حد الردة وهو القتل.
ولكنني ضد أن ندخل في دين الله ما ليس منه ونخالف السلف الصالح وأن نغالي في مسائل العقيدة ، وأنا أتحدث هنا عن مسألة سماع أهل القبور للأحياء (وأكرر أني لا أتحدث عن عبادتها والتي هي شرك).
فقد أصبح بعضهم اليوم يبتدعون بدعة جديدة وهي أن الأموات لا يسمعون الأحياء بل ووصل الحال إلى أنهم فسروا الآيات بما لا تطيق كقوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} وقوله تعالى: {إنك لا تُسمع الموتى} ، فليس الحال من إنكارنا لعبادة القبور أن نغير في دين الله في بعض المسائل الأخرى ، فعقيدة السلف الصالح هو أن الأموات يسمعون الأحياء وفي نفس الوقت هم يحرمون عبادة الأموات بل وعبادة كل ماسوى الله.
وللأسف إن بعض الفتاوى التي خرجت في حق الأموات اليوم إنما هي صادرة عن مجرد مخالفة لبعض أهل البدع وليس مصدرها السلف الصالح.
دعني أستعرض بعض الفتاوى المتأخرة في سماع أهل القبور للأحياء ثم سأستعرض أقوال قدماء العلماء في هذا الشأن مع ملاحظة أنني لا أقلل من قدر هؤلاء العلماء المتأخرون ولكن أقول: لا لمخالفة السلف في مسائل العقيدة.
الفتاوى المتأخرة التي تخالف عقيدة السلف
يجدر هنا أن أذكر فتوى للشيخ ابن باز رحمه الله تعالى (وهي على موقعه الإلكتروني: www.binbaz.org.sa/mat/10389) ، نص السؤال هو: "سمعت من بعض العلماء بأن الميت إذا أوتي به إلى القبر ليدفن فإنه يسمع كل ما يقول الناس الذين أتوا لدفنه ، فهل هذا صحيح أم لا؟" ويجيب الشيخ بن باز: "بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمدلله وصلى وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد: فأمور البرزخ وأمور الأموات من الأمور العظيمة الغيبية التي لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى ، وما يقوله الناس في هذا الباب لا يعتمد عليه ، وإنما الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليسمع قرع نعالهم)، يعني بعد انصرافهم وبعد الدفن ، هذا هو المحفوظ ، أما سماع ما يقول الناس وما يتحدثون به فلم يرد فيه شيء فيما نعلم ولا يجوز الجزم بذلك إلا بدليل ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام ذكر أنه يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا من دفنه ، فلا يجوز لمؤمن ولا لغيره أن يجزم بشيء عن الأموات إلا بدليل." انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
وفتوى أخرى صدرت عن "فتاوى اللجنة الدائمة" بالسعودية: "الأصل أن الأموات عموماً لا يسمعون نداء الأحياء من بني آدم و لا دعاءهم ، كما قال تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} ، ولم يثبت في الكتاب ولا في السنة الصحيحة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع كل دعاء أو نداء من البشر حتى يكون ذلك خصوصية له ، وإنما ثبت عنه صلى الله عليه سلم أنه يبلغه صلاة وسلام من يصلي ويسلم عليه فقط ، سواء كان من يصلي عليه عند قبره أو بعيداً عنه كلاهما سواء في ذلك ؛ لما ثبت عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أنه رأى رجلاً يجيءإلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم." " (مجموع فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية – المجلد العاشر (العقيدة))
وحديث "لا تتخذوا قبري عيداً" الذي استدل به علماء اللجنة الدائمة هو حديث ضعيف لا يحتج به ، قال ابن كثير في تفسيره 3/677 معلقاً على هذا الحديث:
"في إسناده رجل مبهم لم يسم ، وقد روي من وجه آخر مرسلاً"
وقال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/483 عن هذا الحديث:
"هذا مرسل، وما استدل الحسن - في فتواه - بطائل من الدلالة، فمن وقف على الحجرة المقدسة ذليلا مُسَلِّما مصليا على نبيه، فيا طوبى له فقد أحسن الزيارة، وأجمل في التذلل والحب، وقد أتى بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه أو في مصلاه إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه، والمصلى في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً."
إن رأي الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى و رأي علماء اللجنة الدائمة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمعنا ولا حتى بقية الأموات ، وهذه العقيدة مخالفة للسلف الصالح وقدماء علماء أهل السنة والجماعة وإجماعهم! بل هو خلاف الأحاديث الصحيحة الصريحة ، فكما قال أحد السلف وهو الإمام مالك: " كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر [أي النبي صلى الله عليه وسلم]" ، فالشيخ بن باز هو عالم جليل لكن كلامه ليس بمعصوم و ما خالف من كلامه كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف أو إجماعاً للمسلمين فهو مرفوض.
عقيدة السلف وإجماعهم
يرد على رأي الشيخ بن باز وعلى علماء اللجنة الدائمة الشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاوى الجزء الرابع (ص 362) حيث قال:
"يسمع الميت في الجملة كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: "يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه" وثبت عن النبي: "أنه ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقال "يا أباجهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا" فسمع عمر رضي الله عنه قفال يا رسول الله كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا فقال: "والذي نفسي بيده ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ثم أمر بهم فسحبوا في قليب بدر" وكذلك في الصحيحين عن عبدالله بن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا وقال إنهم يسمعون الآن ما أقول" وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور ويقول: "قولوا السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم" وهذا خطاب لهم وإنما يُخاطَب من يسمع وروى ابن عبد البر عن النبي أنه قال: "مامن رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام." وفي السنن عنه أنه قال: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي فقالوا يا رسلو الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يعني صرت رميما فقال إن الله تعالى حرّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء" وفي السنن أنه قال "إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام" فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي ولا يجب أن يكون السمع له دائماً بل قد يسمع في حال دون حال كما قد يعرض للحي فإنه قد يسمع أحياناً خطاب من يخاطبه وقد لا يسمع لعارض يعرض له وهذا السمع سمع إدراك ليس يترتب عليه جزاء ولا هو السمع المنفي بقوله [تعالى] {إنك لا تسمع الموتى} فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعي ولا امتثال ما أمر به ونهى عنه فلا ينتفع بالأمر و النهي وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي وإن سمع الخطاب وفهم المعنى كما قال تعالى {ولو علم فيهم خيراً لأسمعهم} ، وأما رؤية الميت فقد روى في ذلك آثار عن عائشة وغيرها . . هل تعاد روحه إلى بدنه ذلك الوقت أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره فإن روحه تعاد إلى البدن في ذلك الوقت كما جاء في الحديث وتعاد أيضا في غير ذلك وأرواح المؤمنين في الجنة كما في الحديث الذي رواه النسائي ومالك والشافعي وغيرهم "أن نسمة المؤمن طائر يعلق في جر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" وفي لفظ "ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش" ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم وهذا جاء في عدة آثار أن الأرواح تكون في أفنية القبور قال مجاهد الأرواح تكون على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارقه فهذا يكون أحيانا وقال مالك بن أنس بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت والله أعلم" انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.
فالشيخ ابن تيمية يفتي بأن الأرواح تسمع كلام الحي وأورد الأدلة على ذلك و أن الميت يرى الحي أيضاً و أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت كما قالها الإمام مالك بن أنس!
ولو قرأت أيها القارئ كتاب "الروح" لابن القيم لوجدت أنه استفاض في الاستدلال بحياة أرواح الموتى وسماعها كلام الحي بل واتصالها أيضاً بالحي ، قال ابن القيم في الفصل الأول من هذا الكتاب (أي الروح) تحت عنوان: "المسألة الأولى وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا":
"وفي الصحيحين عنه من وجوه متعددة أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربى حقا فقال له عمر يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا فقال والذي بعثنى بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جواباً ، وثبت عنه صلى الله وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه ، وقد شرع النبي لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد. والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به ، قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبى الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء حدثنا محمد بن عون حدثنا يحيى بن يمان عن عبد الله بن سمعان عن زيد بن أسلم عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت قال رسول الله ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم ، حدثنا محمد بن قدامة الجوهرى حدثنا معن بن عيسى القزاز أخبرنا هشام بن سعد حدثنا زيد بن أسلم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام . . . وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحى من أقاربه وإخوانه قال عبد الله بن المبارك حدثنى ثور بن يزيد عن ابراهيم عن أبى أيوب قال تعرض أعمال الأحياء على الموتى فإذا رأوا حسنا فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءا قالوا اللهم راجع به وذكر ابن أبى الدنيا عن أحمد بن أبى الحوارى قال حدثنى محمد أخى قال دخل عباد بن عباد على ابراهيم بن صالح وهو على فلسطين فقال عظنى قال بم أعظك أصلحك الله بلغنى أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى فانظر ما يعرض على رسول الله من عملك فبكى ابراهيم حتى اخضلت لحيته . . . وهذا باب في آثار كثيرة عن الصحابة وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول اللهم إنى أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله ، ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال زاره هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم وكذلك السلام عليهم أيضا فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال وقد علم النبي أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية ، وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويردو إن لم يسمع المسلم الرد وإذا صلى الرجل قريبا منهم شاهدوه وعلموا صلاته وغبطوه على ذلك."
وذكر ابن القيم مارواه مسلم عن وصية الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث قال: " فإذا دفنتموني فشنوا على التراب شنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ما أراجع به رسل ربي" وعلّق ابن القيم بقوله: "فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم"
ثم قال في فصل آخر: "المسألة الثالثة وهى هل تتلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا ، شواهد هذه المسألة وأدلتها كثر من أن يحصيها إلا الله تعالى والحس والواقع من أعدل الشهود بها فتلقي أرواح الأحياء و الأموات كما تلاقي أرواح الأحياء وقد قال تعالى الله يتوفي الأنفس حين موتها والتى لم تمت في منامها فيمسك التى قضي عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . . . عن ابن عباس في هذه الآية قال بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتسألون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها . . . وقد دل التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحى يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحى فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه وربما أخبره بدين عليه وذكر له شواهده وأدلته , وأبلغ من هذا أنه يخبر بما عمله من عمل لم يطلع عليه أحد من العالمين وأبلغ من هذا أنه يخبره أنك تأتينا إلى وقت كذا وكذا فيكون كما أخبر وربما أخبره عن أمور يقطع الحي أنه لم يكن يعرفها غيره . . . وقال سعيد بن المسيب التقى عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي فقال أحدهما للآخر إن مت قبلى فالقني فأخبرني ما لقيت من ربك وإن أنا مت قبلك لقيتك فأخبرتك فقال الآخر وهل تلتقي الأموات والأحياء قال نعم أرواحهم في الجنة تذهب حيث تشاء قال فمات فلان فلقيه في المنام فقال توكل وأبشر فلم أر مثل التوكل قط وقال العباس بن عبد المطلب كنت أشتهي أن أرى عمر في المنام فما رأيته إلا عند قرب الحول فرأيته يمسح العرق عن جبينه وهو يقول هذا أوان فراغي إن كاد عرشي ليهد لولا أن لقيت رءوفاً رحيماً" وفي ختام هذا الفصل قال ابن القيم:" وبالجملة فهذا أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وأحكامها وشأنها وبالله التوفيق."
يكفينا هنا قول ابن القيم: "والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به" ، فكما نعلم بأن مصادر التشريع أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وقد وردت السنة ببيان حياة الأموات في قبورهم وسماعهم إيانا و أجمع السلف على ذلك كما ذكر ابن القيم ، فلا عبرة بفتوى الشيخ بن باز فهو ليس بمصدر تشريع ، وهذا لا يقلل من كونه عالماً ولكن كلًّ يؤخذ منه ويُرد ، كما أن الشرف كل الشرف في اتباع السلف والتلف كل التلف في اتباع الخلف.
تعليق