شرح قصة إبراهيم عليه السلام
بما تقتضيه الآيات الثلاث
إحداها في استدلاله بالثلاثة الكواكب
الثانية في الأقوال الثلاثة التي قال إنها كذبات
الثالثة في قوله رب ارني كيف تحيي الموتى
فمما تخيلوه في استدلاله بالكواكب أنهم زعموا أن أمه فرت به صغيرا إلى مغارة خوفا من
النمرود فإنه كان يذبح أبناء العماليق ويستحيي نساءهم خيفة على خراب ملكه على يد
مولود فيهم كما كان يفعل فرعون ببني إسرائيل خيفة من خراب ملكه على يد مولود منهم
فألقته في المغارة وكانت تختلف إليه فترضعه فيها وكان يشق عليها ذلك خيفة من أن
يظهر أمرها معه لقومها بالتكرار إليه إلى أن جاءت يوما فوجدته يرضع ظبية فطابت نفسها
وعلمت أنه محفوظ فتركته ولم تعد إليه فبقي كذلك حتى حصل في حد من يعقل فخرج
ليلا من المغارة ليطلب العلم بصانعه ومعبوده فرأى كوكبا وقادا فقال هذا ربي إلى آخر ما
قال
فأما قولهم في قصة المغارة والظبية فهو قليل في كرامته وجائز عليه
وأما قولهم نظر في الكوكب فقال هذا ربي معتقدا لذلك فباطل فإن هذا القول كفر صراح
وما كفر نبي قط ولا سجد لوثن قبل النبوة ولا بعدها
ولا تفوه أحد من الأمة بذلك قط كان محقا أو غير محق
جاء في الأثر في خروج نبينا صغيرا مع عمه أبي طالب إلى الشام أنه لما مر بصومعة بحيرا
الراهب نزل إليه في حديث يطول ذكره إلى أن قال له باللات والعزى يا غلام ما اسمك
فقال له إليك عني فوالله ما تكلمت العرب بكلمة هي أثقل علي من هذه الكلمة
فحاشا لأنبياء الله تعالى من اعتقاد الكفر في وقت من الأوقات
وكيف وقد جاء في الصحيح أن النبي إذ كان غلاما كان يوما ينقل الحجارة مع عمه أبي
طالب لإصلاح ما ثلم في الكعبة وهو عار فسقط على وجهه في الأرض مغشيا عليه فلما
أفاق قال له عمه ما بالك فقال رأيت شخصا أشار إلي أن استتر وكان ذلك الشخص الملك
فهذا صغير ينبهه الملك على أدب من آداب الشريعة قبل التكليف فما ظنك بحمايتهم من
الكفر على أن منهم من أوتي الحكم صبيا كيحيى عليه السلام قال تعالى وآتيناه الحكم
صبيا وعيسى عليه السلام تكلم في المهد صبيا بالحكمة حيث قال إني عبد الله . . . الآية
والذبيح أوتي العلم والحلم غلاما قال وبشروه بغلام عليم وفي آية
أخرى حليم
فهذا هو الذي يصح من أحوالهم ويعتقد في جانبهم الكريم
وإذا كان هذا شأنهم في حال الطفولية فما ظنك بهم في حال الإدراك وكمال العقل
فحاشاهم أن يكفروا اعتقادا أو يتلفظوا بكلمة كفر كانوا صغارا أو كبارا
فإن قيل فمن أين عرفوا الله تعالى قبل النبوة
فنقول بالنظر والاستدلال
فإن قيل فقد كانوا زمن النظر غير عالمين بالله تعالى
قلنا كذلك هو لكن ما دام المحل معمورا بالنظر لم يحكم له بكفر ولا بإيمان إلا أنه كان آخر
نظرهم متصلا بالعلم ففي أثر ما نظروا عرفوا الحق حقا من غير أن يعتقدوا جهلا أو يتلفظوا
بكلمة كفر
ومن الناس من قال إنهم علموا خالقهم بعلوم ضرورية على جهة الخرق والإكرام لهم
وهذا سائغ في المقدور لائق بهم إلا أنهم يفوتهم في ذلك أجر الكسب إذ ليس للإنسان
إلا ما سعى
ومنهم من قال إنهم اكتسبوا العلم من غير تقدم نظر على جهة الخرق إكراما من الله
تعالى لهم والله أعلم
ولهم في هذا كلام لا تحتمل هذه التعاليق بسطه لكنهم مجمعون
على أنهم علموا من أول وهلة على أي وجه علموا نظرا أو ضرورة
فصل
وأول ما ينبغي أن نقدم قبل الخوض في هذه المسائل الإعلام بأن إبراهيم عليه السلام
كان نبي الحجة وهو أول من أصل أصول الدين بالاستدلال على علم التوحيد وبه اقتدى
رؤساء المتكلمين في استدلاله بالثلاثة الكواكب التي وردت في الكتاب كما سيأتي فيما
بعد إن شاء الله تعالى
قال تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
نرفع درجات من نشاء أي بالحجة البالغة والعلوم العالية فكان قومه حرانيين ينظرون في
النجوم ويردون لها القضاء في الأفعال ويعبدون بعضها فكان هو يقصد الاحتجاج عليهم في
حدوثها بتغيرها وتبدل أحوالها فخرج مع أهل الرصد ليلا لينبههم على حدوثها بتغيرها مع
تسليم مذهبهم الفاسد لهم جدلا وقصده مقابلة الفاسد بالفاسد فإنه من وجوه النظر
والأظهر في طريقة التنبيه على الحدوث الاستدلال بالأكوان فإن الحركة يعلم حدوثها ضرورة
لكونها تقطع الحيز بعد الحيز بحركة بعد حركة فمن رأى ساكنا يتحرك ضرورة علم تغيره
ضرورة فنظر عليه السلام فرأى كوكبا فقال لقومه هذا ربي يعني على ظنكم وحسابكم
ففرحوا بقوله وظنوا أنه رجع إلى مذهبهم فلما أفل رجع لهم عن قوله الأول بقوله لا أحب
الآفلين
فعلموا إذ ذاك أنه رجع عن مذهبهم بحجة بالغة والدليل على صحة ما
رمناه منه أنه قال هذا ربي على جهة التعنيت لهم وإقامته الحجة عليهم لعلهم يتفطنون
ويتعلمون من وجوه الاستدلال
ويتصور الرد فيه على القائلين بأنه استدل وغلط وتحير من ثلاثة أوجه
أحدها أنه لو قال هذا ربي على جهة الاعتقاد والتصميم لكان كافرا في تلك الليلة إلى
حين غروب الكوكب وكذلك يلزم في قوله في القمر والشمس ومن اعتقد هذا فقد أعظم
عليه الفرية ورد ما علم من دين الأمة في أن نبيا ما كفر قط عقدا ولا لفظا كما تقدم وغايته
أن لو كان ما زعموه لتوقف على دؤوب النظر حتى يعلم الحق حقا لكون الناظر في حال
نظره لا يحكم له بكفر ولا بإيمان كما تقدم
الثاني أنه لو كان يثبت إلهية الكوكب عند الطلوع من أجل ظهوره وينفيها عند الغروب من
أجل غروبه لقامت عليه حجة الخصم بأن يقول له إذا أثبت إلهيته الكوكب عند الطلوع
ونفيتها عند الغروب فالكوكب يسري على ما هو به وإنما غاب عنك وسيطلع غدا ويظهر لك
فيلزمك أن تثبت الآلهية له عند كل طلوع وتنفيها عند كل غروب وهذا تناقض بين مع
تساوي الغروب والطلوع له في التغير
الثالث أن الكواكب لا تكاد تعد كثرة فمن أين له أن يعين أحدها بالإلهية مع التساوي بينهما
في كل حال
فإن قالوا إن الكوكب كان من الدراري السبعة التي يعتقد قومه فيها الآلهية قبل
قيل لهم هذا باطل من أربعة أوجه
أحدها أنكم قلتم إنه عندما خرج في حال صغره من المغارة رأى أول كوكب فقال هذا ربي
فهو على قولكم لم يعلم الدراري من غيرها رؤية ولا سماعا لكونه لم ير أحدا يخبره بذلك
الثاني أنه لو كان يقصد أحد الدراري لعلمه بأن قومه عبدوها وخصصوها بالآلهية فيقول هذا
ربي معتقدا لذلك لكان مقلدا لقومه في الكفر لكونه ما عنده إلا ما سمع منهم بأنها آلهة
وهذا أشد عليهم في الإنكار من كل ما تخيلوه
الثالث أن الطلوع والغروب في التغير والحركات على سواء في الاستدلال على الحدوث فلم
استدل بأحدهما على نفي الآلهية وأثبتها للثاني
الرابع أنه قال في الشمس والقمر ما قاله في الكوكب فصار ينقل الآلهية من جسم إلى
جسم والكل في حالة الطلوع والغروب على سواء وهذه غاية الجهل الذي يحاشى الخليل
عليه السلام عنه قطعا
فإن قالوا لما رأى القمر ظن أنه لا يغرب فقال ذلك قلنا هذا باطل فإنه قد جرب الكوكب
وطلوعه وغروبه ثم رأى القمر طالعا كالكوكب فلو كان ما زعمتم لتوقف عن هذا القول حتى
يرى هل يغرب أم لا يغرب وأما قوله في الشمس فيجب أن يتأكد الإنكار عليه لتأكد تكرار
التجربة منه في الكواكب والقمر
وهذه الأقوال كلها لو قدرت لأحد منا لأنكرها كل الإنكار فإن فيها غاية الحيرة وعدم
الاستدلال فكيف تثبت لخليل الرحمن الذي أراه ملكوت السموات والأرض حتى كان يرى
ويسمع صريف القلم في اللوح المحفوظ وكان يسمع خفقات قلبه من خشية الله على
فرسخ فإذا بطلت في حقه بل في حق العقلاء المستدلين هذه الأقوال لم يبق إلا أنه قالها
باب مقابلة الفاسد بالفاسد ليقيم الحجة على قومه في التغير بالأكوان الدالة
على الحدوث ويعضد ذلك قوله لهم في الشمس هذا ربي هذا أكبر يعني أكبر جرما وأبهر
ضياء وأنفع لأهل الأرض من كل ما دونها من الكواكب وهي تتغير كتغيرها وليس بعدها ما
ينتظر يا قوم إني بريء مما تشركون الآيات إلى قوله وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله
وقد هدان الآية والبارئ تعالى يخبر أنه نادى قومه وناجاهم وحاجوه وحاجهم ورد عليهم
وهم يقولون إنه خرج من المغارة وحده واستدل وغلط وتحير وقال هذا ربي في الكواكب
الثلاثة فلو كان صغيرا كما زعموا لم يكن له قوم يناديهم ويحاجهم ويحاجونه ولو كان أيضا
لم ير الكواكب إلا تلك الليلة كما زعموا لم يقل في الشمس على الإطلاق هذا ربي هذا
أكبر مع تجويز طلوع أكبر منها فلولا ما رأى الكواكب قبل ذلك لم يقل هذا أكبر
وهذا جزاء من يتكلم في أمور الأنبياء عليهم السلام قبل أن يتمرن في علم ما يجب لهم
ويستحيل عليهم
فصل
فإن قالوا فإذا زعمت أنه قال لقومه هذا يعني ثلاث مرات معترضا ومنبها ليقيم الحجة
عليهم وهو يعتقد خلاف ما يقول فلم لم يعد هذه الأقوال في الكذبات التي يعتذر بها في
المحشر حين يطالب بالشفاعة فيقول كذبت في الإسلام ثلاث كذبات وهي بالإضافة إلى
هذه الثلاث ست وكذلك جاء في الحديث أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب إلا ثلاث كذبات
وما منها كذبة إلا وهو يماحل بها عن الإسلام أي يدافع فالجواب من ثلاثة أوجه
أحدها ان الثلاث الكذبات التي عددها على أوجه مختلفة فإحداها أنه لما دعوه للخروج
معهم لمهرجانهم في سدفة السحر وفي باله أن يكيد أصنامهم بعد خروجهم كما أخبرهم
حين قال وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فنظر إلى النجوم ليقيم عذره عندهم
على زعمهم لكونهم يقولون بالقضاء في النجوم فقال إني سقيم فاعتقدوا أنه رأى في
النجوم أسباب المرض فرضوا عنه بذلك وتركوه
وهذا من النمط الذي قدمناه في الكواكب الثلاثة أن أقواله فيها إنما كانت على جهة الإبهام
عليهم والتنبيه لهم لعلهم يتفطنون في ثاني حال
الثانية قوله بعدما صير أصنامهم جذاذا حين سألوه من فعل هذا بآلهتنا فقال بل فعله
كبيرهم هذا وأشار إلى كبير الأصنام وهو قد شوه صورته وسمل عينيه وجدع أنفه ومقطوع
به أنه قال ذلك ليقيم الحجة عليهم في نفي الإلهية عما اعتقدوه من الكواكب والأصنام
فصارت هذه القولة في معناها تشبه تلك الأقوال الثلاثة في الكواكب فلما كانت الأقوال مع
قوله في الصنم على وجه واحد من إقامة الحجة على مذهب الخصم ومقابلة الفاسد
بالفاسد صارت كالواحدة في المعنى ثم أضاف لها القولتين المختلفتين في النظر في
النجوم وقوله في أهله للملك الجبار هي أختي فصارت ثلاثا
وأما الثالثة التي هي قوله للملك الذي أراد أن يأخذ منه أهله عنوة فسأله ما هذه التي
معك فقال هي أختي فكان قوله ذلك طمعا في تخليصها منه بهذه القولة ليقيم عذره عند
الملك لكون الغيرة على الأخت آكد منها على الزوج فقال له ذلك لعله يتركها له كالذي فعل
فلو قال هي زوجتي فربما كان يقول له انزل لي عنها أتملكها على الوجه الذي كانت عندك
فلما كانت القولتان تخالف الواحدة التي اتحدت مع الثلاث في إقامة الحجة على الخصوم
بعد تسليم مذهبهم لهم جدلا عد الكل ثلاثا لاتحاد الأربعة الأقوال في المعنى
الوجه الثاني أن تكون القولات الثلاث في الكواكب التي لم يعدها من الكذبات بأمر من الله
تعالى أمر أن يقولها فقالها ولم يعدها كذبات لكونه مأمورا بها وتلك الثلاث التي عدها كانت
عن نظره واجتهاده فأبهمها بأن رأى أن السكوت عنها كان له أولى على ما قدمناه في
حقهم من مراعاة الأولى
وإذا كانت الثلاث الأخر بأمر الله تعالى له فلا حرج فيها لكونه مأمورا بها فتخرج له مخرج قول
الملك لداوود عليه السلام إن هذا أخي ولم يكن أخاه حقيقة وقوله له تسع وتسعون نعجة
ولم يكن له نعاج إلى آخر ما قاله
وقوله يوسف عليه السلام لإخوته إنكم لسارقون كما قدمناه حرفا بحرف
والأظهر من الوجهين الأخير منهما ودليلنا عليه أن الستة الألفاظ في التلفظ بخلاف المعتقد
على سواء
فذكر الثلاث والإعراض عن ذكر الثلاث الأخر مع ورعه عليه السلام وشدة مراقبته دليل
على أن التي أعرض عن ذكرها كانت بأمر الله تعالى
الثالث ما جاء في الصحيح أن النبي قال لم يكذب إبراهيم عليه السلام في الإسلام إلا
ثلاث كذبات كلها ما حل بها عن دين الله قوله في الكوكب هذا ربي وقوله في سارة هي
أختي وقوله في الأوثان بل فعله كبيرهم هذا
فقد فسرها عليه السلام حين عدها ثلاثا فصارت الثلاثة القولات في الكواكب كالواحد في
العدد لكونها متحدة في المعنى وانضافت إليها قولته عن سارة وقولته عن الأوثان فصارت
ثلاثا
وتكون قولته إني سقيم حقيقة وتكون النجوم هنا ما ينجم له من تفاصيل أحواله أي يظهر
له ويعضد هذا الخبر ما ذكرناه من أنه قال في الكواكب ما لم يعتقده دينا كما زعم الجهلة
فصل
وأما قصته عليه السلام في طلب رؤية كيفية البعث وجمع الأجسام بعد تبددها وسبب
هذا الطلب ما جاء في الخبر عن سيد البشر أنه قال بينما إبراهيم عليه السلام يمشي
على ساحل البحر إذ مر بدابة
بعضها في البر وبعضها في البحر فرأى دواب البحر تأكل مما يليها ودواب البر تأكل مما يليها
فقال ليت شعري كيف يجمع الله هذه الحديث
فاشتاق إلى رؤية الكيفية فقال إذ ذاك رب أرني كيف تحيي الموتى نقل هذا الخبر على
المعنى
فصل
اعترضت الملحدة هذه القصة ومن تابعهم من اليهود والنصارى والقرامطة ومن قال من
الباطنية باستحالة حشر الأجساد والجهلة بعصمة الأنبياء عليهم السلام على الوجه الذي
ذكرناه قبل
فقالوا هذا إبراهيم عليه السلام على جلالة قدره قد استراب في البعث حتى طلب رؤية
الكيفية ليطمئن قلبه بنفي الاسترابة وهذا أشد في الاعتراض من كل ما ذكروه فإن الشك
في البعث كفر صراح بالإجماع من كل أمة فإن حقيقة الكفر في الشرع تكذيب الله ورسله
وما ملئت طباق جهنم إلا من هذا الصنف الشاك فيما جاءت به الرسل عليهم السلام
فانظر عصمنا الله وإياكم إلى معتقد هذه الوصمة في حق الخليل عليه السلام أن تؤول به
ولأجلها جاء عنه أنه قال نحن أحق بالشك من إبراهيم نبه ضعفاء العامة أن أنبياء الله تعالى
في العصمة والنزاهة على سواء فما جاز على أحدهم جاز على الكل فكأنه
يقول إياكم أن تجوزوا الشك على إبراهيم عليه السلام فيما يوحى إليه ربه فإن جوزتموه
عليه فأنا أحق أن تجوزوه علي وأنتم لا تجوزونه علي فلا تجوزوه عليه ثم تأدب عليه
السلام مع الأب بقوله نحن أحق
فصل
في شرح الآية قال الله تعالى وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل
منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم
قوله تعالى وإذ قال إبراهيم تنبيه لنبينا عليه السلام ليتهيأ لقبول الخطاب كما قدمنا في
قصة زيد فكأنه يقول له وقد أخبرك عن قول إبراهيم إذ طلب أن أريه كيف أحيي الموتى
فأسعفته في ذلك وأريته الكيفية فذكره تعالى إسباغ آلائه على أنبيائه وإسعافه لهم فيما
يثلج به صدورهم مما غاب عنهم من بعض الجائزات في معلوماته تعالى
وأما قولة إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى وأنه طلب أن يريه تعالى مثلا
محسوسا يطلعه على كيفية الجمع من أقاصي الأرض وبطون الحيوانات وكيفية سرعتها
في الحركات عند الاجتماع ولأي أصل تجتمع وعلى أي وجه تتصور إذ الجواز بحر لا ساحل
له
وقد نبه على بعض هذه الكيفيات فقال كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب فإنه منه
خلق وفيه يركب
ومعنى خلق هنا صور لكون الشيء لا يخترع من الشيء وإنما يخترع لا من شيء وأخبر
عليه السلام أن عجب الذنب الذي هو وسط الجرم منه بدئ تركيبه في الرحم وإليه ترجع
الأجزاء الزائلة عنه في نواحي الأرض إذا بعث
وفي هذا الحديث دليل على أن اكل الأرض إنما هو عبارة عن تبدد الأجزاء في الجهات لا
عدمها البتة
ويعضد ذلك ما سنذكره إن شاء الله تعالى في هذه القصة من جمع أجزاء الطيور بعد
تفريقها وللناس في هذا عريض من القول لسنا الآن له
وأما قوله تعالى أولم تؤمن قال بلى
سأله بالنفي فأجابه ب بلى التي هي جواب النفي لإثبات المنفي كأنه قال له ألست
مؤمنا بالبعث قال بلى معناه أنا مؤمن به كما علمت لكنني أريد أن يطمئن قلبي برؤية
الكيفية فقال تعالى له فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك أي أملهن إليك بالإحسان والتعليم
لكي تدعوها فتأتيك مجيبة لدعائك ففعل ذلك ثم أخذ الطيور وذكاها وحز رؤوسها وأمسكها
عنده وهشم أجسامها وخلطها حتى صارت جسما واحدا لا يتميز بعضها من بعض ثم فرقها
على أربعة أجبل ثم قعد هو في الجبل الوسط الذي أحاطت به الجبال الأربعة ثم دعاها
فطارت القطرة من الدم إلى القطرة واللحمة إلى اللحمة والريشة إلى الريشة وكذلك
صكيك العظام وهو ينظر إليها حتى التأم كل جسد على ما كان عليه من الأجزاء التي
كانت له قبل ثم طار كل جسد إلى رأسه فالتأم به
فصل
انظروا رحمكم الله إلى وقوع هذه الكيفية فإنها تشبه بعث بعض الأجساد وجمعها واحياءها
وسرعة مسيرها إلى أرض المحشر حذوك النعل بالنعل
فأما كون وقوع المثال بالطيور بدلا من سائر الحيوانات فهو أن يقع الشبه فيها بأحوال البعث
من ثلاثة أوجه
أحدها أنها تقبل التعليم حتى تدعى فتجيب كالنسر والعقاب والبازي والسوذنيق والغراب
والطاووس إلى غير ذلك
وأنها تؤخذ أفراخا فتربى وتعلم فتقبل التعليم حتى تطير وترجع إلى داعيها إذا دعيت
وكذلك الملك إذا دعا الموتى من القبور جمعوا وحيوا وأتوه
والثاني أن الطيور إذا دعيت أتت بسرعة تفوق بها سائر الحيوانات وكذلك الملك إذا دعا
الموتى أتوه بسرعة كما قال تعالى مهطعين إلى الداع أي مسرعين وقال تعالى يوم
يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون
الثالث أن الطير تأتي في الهواء على خط استواء فتكون أسرع في الإتيان وأظهر للرائي
فإنها لا تفوت بصره فلو كانت غير الطيور من الحيوانات كالأرانب والثعلب والكلب والذئب إلى
غير ذلك وجاءته لكانت تتوارى في بعض الغيطان وخلف الشجر والربا إلى غير ذلك فكانت
تغيب عن بصر
إبراهيم عليه السلام تارة وتظهر أخرى فما كانت تتم له الرؤية التي طلب إذ قال رب أرني
وأما كونها أربعة ولم يكن أكثر ولا أقل فلأن يقع الاكتفاء بها في الجهات الأربع وهو المقصود
أيضا بكون الجبال أربعة وذلك لأن الجهات ست فوق وتحت ويمين وشمال وأمام وخلف
ومعلوم أن أجزاء الحيوانات الأرضية إذا تبددت بعد موتها لا تصعد إلى فوق ولا تغوص إلى
تحت وإنما تتبدد في الجهات الأربع
فلذا كانت الطيور أربعة والجبال أربعة والله أعلم
وأما كون إبراهيم عليه السلام على الجبل المتوسط منها فأشبه شيء بالملك الذي يقف
على صخرة بيت المقدس فيدعو الحيوانات فيأتون إليه من الأربع جهات مسرعين كما تقدم
وأما مجيء النقطة من الدم إلى النقطة واللحمة إلى اللحمة والريشة إلى الريشة والعظم
إلى العظم وهو ينظر إليها فأشبه شيء بمجيء الأجزاء يوم البعث من الجهات التي
افترقت فيها حتى تجتمع كما كانت أول مرة لا يشذ منها شيء عن صاحبه وهو كان
مطلوبه عندما رأى الدابة تتبدد أجزاؤها في بطون حيوانات مختلفة كما جاء في الخبر
فاشتاق إلى رؤية كيفية الجمع فسألها فأجيب فيها
وأما فائدة حبس الرؤوس عنده ومجيء الأجسام بأعيانها فلخمسة أوجه
أحدها أنه لما كانت رؤوسها عنده وجاء كل جسد إلى رأسه وقع له اليقين أنها هي لا
غيرها
الثاني أن في هذه القصة ردا على من أنكر حشر الأجساد من غلاة الباطنية وغيرهم
الثالث رد على من زعم أن الأزواج تركب في أجسام أخر غير التي كانت مركبة عليها في
الدنيا لكون الأرواح عندهم في الحي الناطق والأجسام ظروف متماثلة فلا يبالي بإعادتها
الرابع رد على من قال من أهل الأهواء المضلة إن الحيوانات لا تحيى دون الرؤوس ولا يجوز
ذلك فحييت الرؤوس
الخامس قولهم إنه لا تكون الإدراكات والحواس إلا في الرؤوس على بنية مخصوصة
فأكذبهم الله تعالى بأن سمعت ورأت بإدراكات خلقت في بعض أجسامها دون الرؤوس
فحييت وسمعت حين دعيت ورأت وجاءت طائرة بلا رؤوس ولا عيون ولا آذان وهذا هو
مذهب أهل الحق أنه ليس للإدراكات شرط في المحل سوى الحياة
وأما قوله تعالى واعلم أن الله عزيز حكيم فقد يكون أمرا له عليه السلام بأن يبقى على
معلوماته في إثبات عزة الله تعالى وحكمته لا أن يستجد علما بما لم يكن يعلم ويحتمل أن
يأمره بأن يستجد علوما أخر بأنواع من الحكمة والعزة لم يكن يعلمها قبل
وأما ذكره العزة في هذا المقام فهي الغلب والقهر تقول العرب من عز بز أي من غلب
سلب فلما كان في جمع الموتى وإحيائهم دفعة واحدة غاية الغلب والقهر والحكم والعلم
والإتقان والإحكام تمدح البارئ تعالى بصفاته العلى وعزة قهره فأمره أن يتزيد علما بصفات
الجلال والجمال
وقد يكون الأمر بالعلم فيما رأى من تفاصيل عجائب الكيفيات فلما أطلعه على ذلك غاية
الإطلاع وعلمه ما لم يكن يعلم قال له
تعالى واعلم أن الله عزيز حكيم أي وابق عالما بما زدتك من العلوم الحسية التي لا يتأتى
الجهل بها ولا الشك فيها في مستقر العادة ولا يتغافل عنها
فهذه رحمك الله قصص إبراهيم عليه السلام في الثلاث الآيات والتبرئة له
من كتاببما تقتضيه الآيات الثلاث
إحداها في استدلاله بالثلاثة الكواكب
الثانية في الأقوال الثلاثة التي قال إنها كذبات
الثالثة في قوله رب ارني كيف تحيي الموتى
فمما تخيلوه في استدلاله بالكواكب أنهم زعموا أن أمه فرت به صغيرا إلى مغارة خوفا من
النمرود فإنه كان يذبح أبناء العماليق ويستحيي نساءهم خيفة على خراب ملكه على يد
مولود فيهم كما كان يفعل فرعون ببني إسرائيل خيفة من خراب ملكه على يد مولود منهم
فألقته في المغارة وكانت تختلف إليه فترضعه فيها وكان يشق عليها ذلك خيفة من أن
يظهر أمرها معه لقومها بالتكرار إليه إلى أن جاءت يوما فوجدته يرضع ظبية فطابت نفسها
وعلمت أنه محفوظ فتركته ولم تعد إليه فبقي كذلك حتى حصل في حد من يعقل فخرج
ليلا من المغارة ليطلب العلم بصانعه ومعبوده فرأى كوكبا وقادا فقال هذا ربي إلى آخر ما
قال
فأما قولهم في قصة المغارة والظبية فهو قليل في كرامته وجائز عليه
وأما قولهم نظر في الكوكب فقال هذا ربي معتقدا لذلك فباطل فإن هذا القول كفر صراح
وما كفر نبي قط ولا سجد لوثن قبل النبوة ولا بعدها
ولا تفوه أحد من الأمة بذلك قط كان محقا أو غير محق
جاء في الأثر في خروج نبينا صغيرا مع عمه أبي طالب إلى الشام أنه لما مر بصومعة بحيرا
الراهب نزل إليه في حديث يطول ذكره إلى أن قال له باللات والعزى يا غلام ما اسمك
فقال له إليك عني فوالله ما تكلمت العرب بكلمة هي أثقل علي من هذه الكلمة
فحاشا لأنبياء الله تعالى من اعتقاد الكفر في وقت من الأوقات
وكيف وقد جاء في الصحيح أن النبي إذ كان غلاما كان يوما ينقل الحجارة مع عمه أبي
طالب لإصلاح ما ثلم في الكعبة وهو عار فسقط على وجهه في الأرض مغشيا عليه فلما
أفاق قال له عمه ما بالك فقال رأيت شخصا أشار إلي أن استتر وكان ذلك الشخص الملك
فهذا صغير ينبهه الملك على أدب من آداب الشريعة قبل التكليف فما ظنك بحمايتهم من
الكفر على أن منهم من أوتي الحكم صبيا كيحيى عليه السلام قال تعالى وآتيناه الحكم
صبيا وعيسى عليه السلام تكلم في المهد صبيا بالحكمة حيث قال إني عبد الله . . . الآية
والذبيح أوتي العلم والحلم غلاما قال وبشروه بغلام عليم وفي آية
أخرى حليم
فهذا هو الذي يصح من أحوالهم ويعتقد في جانبهم الكريم
وإذا كان هذا شأنهم في حال الطفولية فما ظنك بهم في حال الإدراك وكمال العقل
فحاشاهم أن يكفروا اعتقادا أو يتلفظوا بكلمة كفر كانوا صغارا أو كبارا
فإن قيل فمن أين عرفوا الله تعالى قبل النبوة
فنقول بالنظر والاستدلال
فإن قيل فقد كانوا زمن النظر غير عالمين بالله تعالى
قلنا كذلك هو لكن ما دام المحل معمورا بالنظر لم يحكم له بكفر ولا بإيمان إلا أنه كان آخر
نظرهم متصلا بالعلم ففي أثر ما نظروا عرفوا الحق حقا من غير أن يعتقدوا جهلا أو يتلفظوا
بكلمة كفر
ومن الناس من قال إنهم علموا خالقهم بعلوم ضرورية على جهة الخرق والإكرام لهم
وهذا سائغ في المقدور لائق بهم إلا أنهم يفوتهم في ذلك أجر الكسب إذ ليس للإنسان
إلا ما سعى
ومنهم من قال إنهم اكتسبوا العلم من غير تقدم نظر على جهة الخرق إكراما من الله
تعالى لهم والله أعلم
ولهم في هذا كلام لا تحتمل هذه التعاليق بسطه لكنهم مجمعون
على أنهم علموا من أول وهلة على أي وجه علموا نظرا أو ضرورة
فصل
وأول ما ينبغي أن نقدم قبل الخوض في هذه المسائل الإعلام بأن إبراهيم عليه السلام
كان نبي الحجة وهو أول من أصل أصول الدين بالاستدلال على علم التوحيد وبه اقتدى
رؤساء المتكلمين في استدلاله بالثلاثة الكواكب التي وردت في الكتاب كما سيأتي فيما
بعد إن شاء الله تعالى
قال تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
نرفع درجات من نشاء أي بالحجة البالغة والعلوم العالية فكان قومه حرانيين ينظرون في
النجوم ويردون لها القضاء في الأفعال ويعبدون بعضها فكان هو يقصد الاحتجاج عليهم في
حدوثها بتغيرها وتبدل أحوالها فخرج مع أهل الرصد ليلا لينبههم على حدوثها بتغيرها مع
تسليم مذهبهم الفاسد لهم جدلا وقصده مقابلة الفاسد بالفاسد فإنه من وجوه النظر
والأظهر في طريقة التنبيه على الحدوث الاستدلال بالأكوان فإن الحركة يعلم حدوثها ضرورة
لكونها تقطع الحيز بعد الحيز بحركة بعد حركة فمن رأى ساكنا يتحرك ضرورة علم تغيره
ضرورة فنظر عليه السلام فرأى كوكبا فقال لقومه هذا ربي يعني على ظنكم وحسابكم
ففرحوا بقوله وظنوا أنه رجع إلى مذهبهم فلما أفل رجع لهم عن قوله الأول بقوله لا أحب
الآفلين
فعلموا إذ ذاك أنه رجع عن مذهبهم بحجة بالغة والدليل على صحة ما
رمناه منه أنه قال هذا ربي على جهة التعنيت لهم وإقامته الحجة عليهم لعلهم يتفطنون
ويتعلمون من وجوه الاستدلال
ويتصور الرد فيه على القائلين بأنه استدل وغلط وتحير من ثلاثة أوجه
أحدها أنه لو قال هذا ربي على جهة الاعتقاد والتصميم لكان كافرا في تلك الليلة إلى
حين غروب الكوكب وكذلك يلزم في قوله في القمر والشمس ومن اعتقد هذا فقد أعظم
عليه الفرية ورد ما علم من دين الأمة في أن نبيا ما كفر قط عقدا ولا لفظا كما تقدم وغايته
أن لو كان ما زعموه لتوقف على دؤوب النظر حتى يعلم الحق حقا لكون الناظر في حال
نظره لا يحكم له بكفر ولا بإيمان كما تقدم
الثاني أنه لو كان يثبت إلهية الكوكب عند الطلوع من أجل ظهوره وينفيها عند الغروب من
أجل غروبه لقامت عليه حجة الخصم بأن يقول له إذا أثبت إلهيته الكوكب عند الطلوع
ونفيتها عند الغروب فالكوكب يسري على ما هو به وإنما غاب عنك وسيطلع غدا ويظهر لك
فيلزمك أن تثبت الآلهية له عند كل طلوع وتنفيها عند كل غروب وهذا تناقض بين مع
تساوي الغروب والطلوع له في التغير
الثالث أن الكواكب لا تكاد تعد كثرة فمن أين له أن يعين أحدها بالإلهية مع التساوي بينهما
في كل حال
فإن قالوا إن الكوكب كان من الدراري السبعة التي يعتقد قومه فيها الآلهية قبل
قيل لهم هذا باطل من أربعة أوجه
أحدها أنكم قلتم إنه عندما خرج في حال صغره من المغارة رأى أول كوكب فقال هذا ربي
فهو على قولكم لم يعلم الدراري من غيرها رؤية ولا سماعا لكونه لم ير أحدا يخبره بذلك
الثاني أنه لو كان يقصد أحد الدراري لعلمه بأن قومه عبدوها وخصصوها بالآلهية فيقول هذا
ربي معتقدا لذلك لكان مقلدا لقومه في الكفر لكونه ما عنده إلا ما سمع منهم بأنها آلهة
وهذا أشد عليهم في الإنكار من كل ما تخيلوه
الثالث أن الطلوع والغروب في التغير والحركات على سواء في الاستدلال على الحدوث فلم
استدل بأحدهما على نفي الآلهية وأثبتها للثاني
الرابع أنه قال في الشمس والقمر ما قاله في الكوكب فصار ينقل الآلهية من جسم إلى
جسم والكل في حالة الطلوع والغروب على سواء وهذه غاية الجهل الذي يحاشى الخليل
عليه السلام عنه قطعا
فإن قالوا لما رأى القمر ظن أنه لا يغرب فقال ذلك قلنا هذا باطل فإنه قد جرب الكوكب
وطلوعه وغروبه ثم رأى القمر طالعا كالكوكب فلو كان ما زعمتم لتوقف عن هذا القول حتى
يرى هل يغرب أم لا يغرب وأما قوله في الشمس فيجب أن يتأكد الإنكار عليه لتأكد تكرار
التجربة منه في الكواكب والقمر
وهذه الأقوال كلها لو قدرت لأحد منا لأنكرها كل الإنكار فإن فيها غاية الحيرة وعدم
الاستدلال فكيف تثبت لخليل الرحمن الذي أراه ملكوت السموات والأرض حتى كان يرى
ويسمع صريف القلم في اللوح المحفوظ وكان يسمع خفقات قلبه من خشية الله على
فرسخ فإذا بطلت في حقه بل في حق العقلاء المستدلين هذه الأقوال لم يبق إلا أنه قالها
باب مقابلة الفاسد بالفاسد ليقيم الحجة على قومه في التغير بالأكوان الدالة
على الحدوث ويعضد ذلك قوله لهم في الشمس هذا ربي هذا أكبر يعني أكبر جرما وأبهر
ضياء وأنفع لأهل الأرض من كل ما دونها من الكواكب وهي تتغير كتغيرها وليس بعدها ما
ينتظر يا قوم إني بريء مما تشركون الآيات إلى قوله وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله
وقد هدان الآية والبارئ تعالى يخبر أنه نادى قومه وناجاهم وحاجوه وحاجهم ورد عليهم
وهم يقولون إنه خرج من المغارة وحده واستدل وغلط وتحير وقال هذا ربي في الكواكب
الثلاثة فلو كان صغيرا كما زعموا لم يكن له قوم يناديهم ويحاجهم ويحاجونه ولو كان أيضا
لم ير الكواكب إلا تلك الليلة كما زعموا لم يقل في الشمس على الإطلاق هذا ربي هذا
أكبر مع تجويز طلوع أكبر منها فلولا ما رأى الكواكب قبل ذلك لم يقل هذا أكبر
وهذا جزاء من يتكلم في أمور الأنبياء عليهم السلام قبل أن يتمرن في علم ما يجب لهم
ويستحيل عليهم
فصل
فإن قالوا فإذا زعمت أنه قال لقومه هذا يعني ثلاث مرات معترضا ومنبها ليقيم الحجة
عليهم وهو يعتقد خلاف ما يقول فلم لم يعد هذه الأقوال في الكذبات التي يعتذر بها في
المحشر حين يطالب بالشفاعة فيقول كذبت في الإسلام ثلاث كذبات وهي بالإضافة إلى
هذه الثلاث ست وكذلك جاء في الحديث أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب إلا ثلاث كذبات
وما منها كذبة إلا وهو يماحل بها عن الإسلام أي يدافع فالجواب من ثلاثة أوجه
أحدها ان الثلاث الكذبات التي عددها على أوجه مختلفة فإحداها أنه لما دعوه للخروج
معهم لمهرجانهم في سدفة السحر وفي باله أن يكيد أصنامهم بعد خروجهم كما أخبرهم
حين قال وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فنظر إلى النجوم ليقيم عذره عندهم
على زعمهم لكونهم يقولون بالقضاء في النجوم فقال إني سقيم فاعتقدوا أنه رأى في
النجوم أسباب المرض فرضوا عنه بذلك وتركوه
وهذا من النمط الذي قدمناه في الكواكب الثلاثة أن أقواله فيها إنما كانت على جهة الإبهام
عليهم والتنبيه لهم لعلهم يتفطنون في ثاني حال
الثانية قوله بعدما صير أصنامهم جذاذا حين سألوه من فعل هذا بآلهتنا فقال بل فعله
كبيرهم هذا وأشار إلى كبير الأصنام وهو قد شوه صورته وسمل عينيه وجدع أنفه ومقطوع
به أنه قال ذلك ليقيم الحجة عليهم في نفي الإلهية عما اعتقدوه من الكواكب والأصنام
فصارت هذه القولة في معناها تشبه تلك الأقوال الثلاثة في الكواكب فلما كانت الأقوال مع
قوله في الصنم على وجه واحد من إقامة الحجة على مذهب الخصم ومقابلة الفاسد
بالفاسد صارت كالواحدة في المعنى ثم أضاف لها القولتين المختلفتين في النظر في
النجوم وقوله في أهله للملك الجبار هي أختي فصارت ثلاثا
وأما الثالثة التي هي قوله للملك الذي أراد أن يأخذ منه أهله عنوة فسأله ما هذه التي
معك فقال هي أختي فكان قوله ذلك طمعا في تخليصها منه بهذه القولة ليقيم عذره عند
الملك لكون الغيرة على الأخت آكد منها على الزوج فقال له ذلك لعله يتركها له كالذي فعل
فلو قال هي زوجتي فربما كان يقول له انزل لي عنها أتملكها على الوجه الذي كانت عندك
فلما كانت القولتان تخالف الواحدة التي اتحدت مع الثلاث في إقامة الحجة على الخصوم
بعد تسليم مذهبهم لهم جدلا عد الكل ثلاثا لاتحاد الأربعة الأقوال في المعنى
الوجه الثاني أن تكون القولات الثلاث في الكواكب التي لم يعدها من الكذبات بأمر من الله
تعالى أمر أن يقولها فقالها ولم يعدها كذبات لكونه مأمورا بها وتلك الثلاث التي عدها كانت
عن نظره واجتهاده فأبهمها بأن رأى أن السكوت عنها كان له أولى على ما قدمناه في
حقهم من مراعاة الأولى
وإذا كانت الثلاث الأخر بأمر الله تعالى له فلا حرج فيها لكونه مأمورا بها فتخرج له مخرج قول
الملك لداوود عليه السلام إن هذا أخي ولم يكن أخاه حقيقة وقوله له تسع وتسعون نعجة
ولم يكن له نعاج إلى آخر ما قاله
وقوله يوسف عليه السلام لإخوته إنكم لسارقون كما قدمناه حرفا بحرف
والأظهر من الوجهين الأخير منهما ودليلنا عليه أن الستة الألفاظ في التلفظ بخلاف المعتقد
على سواء
فذكر الثلاث والإعراض عن ذكر الثلاث الأخر مع ورعه عليه السلام وشدة مراقبته دليل
على أن التي أعرض عن ذكرها كانت بأمر الله تعالى
الثالث ما جاء في الصحيح أن النبي قال لم يكذب إبراهيم عليه السلام في الإسلام إلا
ثلاث كذبات كلها ما حل بها عن دين الله قوله في الكوكب هذا ربي وقوله في سارة هي
أختي وقوله في الأوثان بل فعله كبيرهم هذا
فقد فسرها عليه السلام حين عدها ثلاثا فصارت الثلاثة القولات في الكواكب كالواحد في
العدد لكونها متحدة في المعنى وانضافت إليها قولته عن سارة وقولته عن الأوثان فصارت
ثلاثا
وتكون قولته إني سقيم حقيقة وتكون النجوم هنا ما ينجم له من تفاصيل أحواله أي يظهر
له ويعضد هذا الخبر ما ذكرناه من أنه قال في الكواكب ما لم يعتقده دينا كما زعم الجهلة
فصل
وأما قصته عليه السلام في طلب رؤية كيفية البعث وجمع الأجسام بعد تبددها وسبب
هذا الطلب ما جاء في الخبر عن سيد البشر أنه قال بينما إبراهيم عليه السلام يمشي
على ساحل البحر إذ مر بدابة
بعضها في البر وبعضها في البحر فرأى دواب البحر تأكل مما يليها ودواب البر تأكل مما يليها
فقال ليت شعري كيف يجمع الله هذه الحديث
فاشتاق إلى رؤية الكيفية فقال إذ ذاك رب أرني كيف تحيي الموتى نقل هذا الخبر على
المعنى
فصل
اعترضت الملحدة هذه القصة ومن تابعهم من اليهود والنصارى والقرامطة ومن قال من
الباطنية باستحالة حشر الأجساد والجهلة بعصمة الأنبياء عليهم السلام على الوجه الذي
ذكرناه قبل
فقالوا هذا إبراهيم عليه السلام على جلالة قدره قد استراب في البعث حتى طلب رؤية
الكيفية ليطمئن قلبه بنفي الاسترابة وهذا أشد في الاعتراض من كل ما ذكروه فإن الشك
في البعث كفر صراح بالإجماع من كل أمة فإن حقيقة الكفر في الشرع تكذيب الله ورسله
وما ملئت طباق جهنم إلا من هذا الصنف الشاك فيما جاءت به الرسل عليهم السلام
فانظر عصمنا الله وإياكم إلى معتقد هذه الوصمة في حق الخليل عليه السلام أن تؤول به
ولأجلها جاء عنه أنه قال نحن أحق بالشك من إبراهيم نبه ضعفاء العامة أن أنبياء الله تعالى
في العصمة والنزاهة على سواء فما جاز على أحدهم جاز على الكل فكأنه
يقول إياكم أن تجوزوا الشك على إبراهيم عليه السلام فيما يوحى إليه ربه فإن جوزتموه
عليه فأنا أحق أن تجوزوه علي وأنتم لا تجوزونه علي فلا تجوزوه عليه ثم تأدب عليه
السلام مع الأب بقوله نحن أحق
فصل
في شرح الآية قال الله تعالى وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل
منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم
قوله تعالى وإذ قال إبراهيم تنبيه لنبينا عليه السلام ليتهيأ لقبول الخطاب كما قدمنا في
قصة زيد فكأنه يقول له وقد أخبرك عن قول إبراهيم إذ طلب أن أريه كيف أحيي الموتى
فأسعفته في ذلك وأريته الكيفية فذكره تعالى إسباغ آلائه على أنبيائه وإسعافه لهم فيما
يثلج به صدورهم مما غاب عنهم من بعض الجائزات في معلوماته تعالى
وأما قولة إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى وأنه طلب أن يريه تعالى مثلا
محسوسا يطلعه على كيفية الجمع من أقاصي الأرض وبطون الحيوانات وكيفية سرعتها
في الحركات عند الاجتماع ولأي أصل تجتمع وعلى أي وجه تتصور إذ الجواز بحر لا ساحل
له
وقد نبه على بعض هذه الكيفيات فقال كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب فإنه منه
خلق وفيه يركب
ومعنى خلق هنا صور لكون الشيء لا يخترع من الشيء وإنما يخترع لا من شيء وأخبر
عليه السلام أن عجب الذنب الذي هو وسط الجرم منه بدئ تركيبه في الرحم وإليه ترجع
الأجزاء الزائلة عنه في نواحي الأرض إذا بعث
وفي هذا الحديث دليل على أن اكل الأرض إنما هو عبارة عن تبدد الأجزاء في الجهات لا
عدمها البتة
ويعضد ذلك ما سنذكره إن شاء الله تعالى في هذه القصة من جمع أجزاء الطيور بعد
تفريقها وللناس في هذا عريض من القول لسنا الآن له
وأما قوله تعالى أولم تؤمن قال بلى
سأله بالنفي فأجابه ب بلى التي هي جواب النفي لإثبات المنفي كأنه قال له ألست
مؤمنا بالبعث قال بلى معناه أنا مؤمن به كما علمت لكنني أريد أن يطمئن قلبي برؤية
الكيفية فقال تعالى له فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك أي أملهن إليك بالإحسان والتعليم
لكي تدعوها فتأتيك مجيبة لدعائك ففعل ذلك ثم أخذ الطيور وذكاها وحز رؤوسها وأمسكها
عنده وهشم أجسامها وخلطها حتى صارت جسما واحدا لا يتميز بعضها من بعض ثم فرقها
على أربعة أجبل ثم قعد هو في الجبل الوسط الذي أحاطت به الجبال الأربعة ثم دعاها
فطارت القطرة من الدم إلى القطرة واللحمة إلى اللحمة والريشة إلى الريشة وكذلك
صكيك العظام وهو ينظر إليها حتى التأم كل جسد على ما كان عليه من الأجزاء التي
كانت له قبل ثم طار كل جسد إلى رأسه فالتأم به
فصل
انظروا رحمكم الله إلى وقوع هذه الكيفية فإنها تشبه بعث بعض الأجساد وجمعها واحياءها
وسرعة مسيرها إلى أرض المحشر حذوك النعل بالنعل
فأما كون وقوع المثال بالطيور بدلا من سائر الحيوانات فهو أن يقع الشبه فيها بأحوال البعث
من ثلاثة أوجه
أحدها أنها تقبل التعليم حتى تدعى فتجيب كالنسر والعقاب والبازي والسوذنيق والغراب
والطاووس إلى غير ذلك
وأنها تؤخذ أفراخا فتربى وتعلم فتقبل التعليم حتى تطير وترجع إلى داعيها إذا دعيت
وكذلك الملك إذا دعا الموتى من القبور جمعوا وحيوا وأتوه
والثاني أن الطيور إذا دعيت أتت بسرعة تفوق بها سائر الحيوانات وكذلك الملك إذا دعا
الموتى أتوه بسرعة كما قال تعالى مهطعين إلى الداع أي مسرعين وقال تعالى يوم
يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون
الثالث أن الطير تأتي في الهواء على خط استواء فتكون أسرع في الإتيان وأظهر للرائي
فإنها لا تفوت بصره فلو كانت غير الطيور من الحيوانات كالأرانب والثعلب والكلب والذئب إلى
غير ذلك وجاءته لكانت تتوارى في بعض الغيطان وخلف الشجر والربا إلى غير ذلك فكانت
تغيب عن بصر
إبراهيم عليه السلام تارة وتظهر أخرى فما كانت تتم له الرؤية التي طلب إذ قال رب أرني
وأما كونها أربعة ولم يكن أكثر ولا أقل فلأن يقع الاكتفاء بها في الجهات الأربع وهو المقصود
أيضا بكون الجبال أربعة وذلك لأن الجهات ست فوق وتحت ويمين وشمال وأمام وخلف
ومعلوم أن أجزاء الحيوانات الأرضية إذا تبددت بعد موتها لا تصعد إلى فوق ولا تغوص إلى
تحت وإنما تتبدد في الجهات الأربع
فلذا كانت الطيور أربعة والجبال أربعة والله أعلم
وأما كون إبراهيم عليه السلام على الجبل المتوسط منها فأشبه شيء بالملك الذي يقف
على صخرة بيت المقدس فيدعو الحيوانات فيأتون إليه من الأربع جهات مسرعين كما تقدم
وأما مجيء النقطة من الدم إلى النقطة واللحمة إلى اللحمة والريشة إلى الريشة والعظم
إلى العظم وهو ينظر إليها فأشبه شيء بمجيء الأجزاء يوم البعث من الجهات التي
افترقت فيها حتى تجتمع كما كانت أول مرة لا يشذ منها شيء عن صاحبه وهو كان
مطلوبه عندما رأى الدابة تتبدد أجزاؤها في بطون حيوانات مختلفة كما جاء في الخبر
فاشتاق إلى رؤية كيفية الجمع فسألها فأجيب فيها
وأما فائدة حبس الرؤوس عنده ومجيء الأجسام بأعيانها فلخمسة أوجه
أحدها أنه لما كانت رؤوسها عنده وجاء كل جسد إلى رأسه وقع له اليقين أنها هي لا
غيرها
الثاني أن في هذه القصة ردا على من أنكر حشر الأجساد من غلاة الباطنية وغيرهم
الثالث رد على من زعم أن الأزواج تركب في أجسام أخر غير التي كانت مركبة عليها في
الدنيا لكون الأرواح عندهم في الحي الناطق والأجسام ظروف متماثلة فلا يبالي بإعادتها
الرابع رد على من قال من أهل الأهواء المضلة إن الحيوانات لا تحيى دون الرؤوس ولا يجوز
ذلك فحييت الرؤوس
الخامس قولهم إنه لا تكون الإدراكات والحواس إلا في الرؤوس على بنية مخصوصة
فأكذبهم الله تعالى بأن سمعت ورأت بإدراكات خلقت في بعض أجسامها دون الرؤوس
فحييت وسمعت حين دعيت ورأت وجاءت طائرة بلا رؤوس ولا عيون ولا آذان وهذا هو
مذهب أهل الحق أنه ليس للإدراكات شرط في المحل سوى الحياة
وأما قوله تعالى واعلم أن الله عزيز حكيم فقد يكون أمرا له عليه السلام بأن يبقى على
معلوماته في إثبات عزة الله تعالى وحكمته لا أن يستجد علما بما لم يكن يعلم ويحتمل أن
يأمره بأن يستجد علوما أخر بأنواع من الحكمة والعزة لم يكن يعلمها قبل
وأما ذكره العزة في هذا المقام فهي الغلب والقهر تقول العرب من عز بز أي من غلب
سلب فلما كان في جمع الموتى وإحيائهم دفعة واحدة غاية الغلب والقهر والحكم والعلم
والإتقان والإحكام تمدح البارئ تعالى بصفاته العلى وعزة قهره فأمره أن يتزيد علما بصفات
الجلال والجمال
وقد يكون الأمر بالعلم فيما رأى من تفاصيل عجائب الكيفيات فلما أطلعه على ذلك غاية
الإطلاع وعلمه ما لم يكن يعلم قال له
تعالى واعلم أن الله عزيز حكيم أي وابق عالما بما زدتك من العلوم الحسية التي لا يتأتى
الجهل بها ولا الشك فيها في مستقر العادة ولا يتغافل عنها
فهذه رحمك الله قصص إبراهيم عليه السلام في الثلاث الآيات والتبرئة له
تنزيه الأنبياء
عما نسب إليهم حثالة الأغبياء
أبي الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي
تعليق