مقاربة لرواية د. يوسف زيدان: "عزازيل"
كمال غبريال
الاحد 24 آب (أغسطس) 2008
من قبيل لزوم ما لا يلزم أن نحتاج إلى التذكير بأن مقاربة الأعمال الأدبية لها قواعدها، ولها أيضاً أهلها، لكن لأننا نعيش في حالة من اختلاط الأوراق والأفكار، فإننا مضطرون لإهدار الوقت لمناقشة البديهيات، وربما الجدال حولها، فالنص الأدبي يحتاج منا إلى العديد من المقاربات النقدية، لكن كما أن لقراءة النصوص الأدبية قواعدها، التي تختلف بالتأكيد عن قواعد قراءة مقال سياسي أو اجتماعي أو محاضرة علمية، فإن للنقد الأدبي أيضاً قواعده وأنواعه، فقد يأتي النقد من ناقد محترف ومتخصص في نوعية النص، وقد يأتي من قارئ يحدثنا عن انطباعاته وما خرج به من رحلته مع النص، وقد يتناول النقد النص الأدبي من ناحية بنيانه ولغته ومدى توفيق آليات سرده، كما قد ينحصر النقد في الجانب الفكري أو التاريخي المبثوث بين ثنايا السرد، يتناوله بالنقد والتحليل والمراجعة. . المفترض أن يتم كل هذا بمنأى عن الصرخات والتشنجات والتهديدات، وإلا كنا نحكم على أنفسنا بالتخلف، ولسنا نحكم على كاتب النص بأي مما قد ننسبه له.
عزازيل دعوة للتساؤل
ما أحوج مجتمعاتنا إلى العديد من الأعمال الأدبية على نمط رواية عزازيل، فهي تحمل دعوة للتساؤل، حول كثير مما تسلمناه كبديهات أو مقدسات، رغم أنها جميعاً أفكار بشرية، حتى وإن كانت تتحدث عن مقدسات، وإذا من الصحيح أنه "إن بطلنا نحلم نموت"، فمن الأولى أن نقول "إن بطلنا نتساءل نموت"، فالموت الثقافي والأدبي هو حالة الخمود والعقم التي تصيب الفرد أو المجتمع، فيستنيم في ظلال اليقين، ويكف عنه القلق والشك والتساؤل، فبدون هذه الثلاثية، التي تبدو بغيضة للكثيرين، تموت المجتمعات وتتحجر، وتصبح كماً مهملاً، أو عبئاً على الإنسانية، وهذه هي بالتحديد الحالة التي ترزح فيها مجتمعاتنا الآن.
نحتاج إلى العديد من مثل هذه الأعمال الإبداعية، لنعيد الحياة إلى شراييننا العقلية والثقافية المتيبسة، سواء فيما يتعلق بمقدساتنا الدينية، التي توسعت لتشمل كل مناحي حياتنا، أو مقدساتنا السياسية والاجتماعية، بل وحتى المجال الاقتصادي، لم ينج من غزو التابوهات المقدسة.
لا أعتقد أن ما يزعج المنزعجين من الرواية هو ما قد تكون تضمنته من مقولات يرونها غير صحيحة، فما يزعجهم بالحقيقة هو تحريضها لنا على التساؤل، وعلى التشكك فيما قدموه لنا على أنه الحقيقة المطلقة، ما يزعجهم أن يراجع أحد ما يقولون وما يكتبون، وأن ينزلهم بهذا عن عروشهم أو تكاياهم المقدسة، ليقفوا على الأرض كما نقف نحن، ويخلعوا عنهم ثياب الآلهة، ليرتدوا ثياباً بشرية.
نحن وعزازيل:
تقول لنا الرواية أن الشيطان (عزازيل) ليس كياناً ميتافيزيقاً خارجاً عنا، يدبر لنا المكائد ليل نهار، لكنه في داخلنا، هو هواجس نفوسنا، هو طبيعتنا البشرية، التي من الواجب ألا نخجل منها، بل نواجهها بشجاعة، ونفسح لها المجال لتعبر عن نفسها بصدق، لا أن نغلقها على ما تحوي من شكوك وشهوات، كمن يغلق جرحاً على ما فيه من صديد.
كنت أتمنى أن تقول لنا الرواية بوضوح أن الشك والضعف الإنساني ليس تشوهاً في طبيعتنا البشرية، بما يستدعي أن نجد من ننسبه إليه، وليكن عزازيل، فالشك والضعف هما وجه لعملة، وجهها الآخر هو الإيمان والقوة، وما لم يقم جدل داخلي صحي بين الشك والإيمان، وبين الضعف والقوة، لن يكون هناك إنسان، وإنما ببغاء يردد، أو قرد يحاكي، إلا إن كنا جادين وقادرين على مغادرة بشريتنا، لنتحول إلى ملائكة.
الراهب هيبا والجدل:
تحدثنا الرواية عن قصة الإنسان، ممثلاً في الراهب المصري هيبا، في بحثه الوجودي عن الله وعن المعرفة. . ذلك البحث الذي قاده من بلدته في صعيد مصر، حيث تلقى من مقولات الإيمان ما شعر أنه بحاجة لتدعيمه باليقين، ومن علوم الطب ما استشعر بدائيته، وأراد تحصيل المزيد الذي يمكنه من امتلاك ناصيته. . وشأن الكثيرين من المنشغلين بالعلوم والميتافيزيقا، أراد هيبا أن يستحيل إلى عقل وروح محض، أن يفارق جسده الذي اعتبره معوقاً له في مسيرته نحو الحقيقة المطلقة، هكذا نذر نفسه للرهبنة، كأنما ليقتل هذا الجسد أو يخرسه إلى الأبد. . لكن كل خطواته ومراحل حياته، كانت تثبت له أن الحقيقة المطلقة التي يبحث عنها سراب، وأن سدنتها ما هم إلا تجار يتسترون خلفها لتعظيم ذواتهم وسلطانهم، كما أثبتت له الأيام والتجارب أن جسده لا يمكن أن يموت، وبأن الإنسان لابد وأن يبقى إنساناً، وأن الشهوات ومنها الشهوة الجنسية جزء جوهري من تكوينه، وليس ملحقاً خارجياً، يمكن انتزاعه أو تجميده بمجرد قرار أو وصايا بشرية أو إلهية.
الكنيسة والصراع اللاهوتي:
تناولت الرواية قضايا الصراع اللاهوتي الذي استغرق العالم المسيحي في القرنين الرابع والخامس، بحرفية أدبية عالية، بحيث لم تأت مقحمة على السياق، بل كجزء عضوي منه، وإذا رأى البعض أن الرواية تقول لنا أن هذا الصراع الذي بدا عقائدياً لاهوتياً، إنما هو في الحقيقة صراع سياسي على السلطة والثروة، فإن الرواية هكذا لا تكون قد أتت بجديد، فهذا ما سبق وأن قال به العديد من الباحثين والدارسين، بل أن القارئ العادي يستطيع بقليل من الفطنة أن يخلص إلى ذات النتيجة.
واسمحوا لي أن أضيف أن سدنة المقدس في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مازالوا حتى اليوم يلجأون لذات النهج في صراعاتهم، فلقد شهدنا جميعاً الاتهامات بالهرطقة التي وجهتها الكنيسة للأب متى المسكين وتلاميذه، إلى أن وصلت إلى إحراق كتبه، وإصدار قرار بحرمان د. جورج بباوي أستاذ اللاهوت، ليس بالتأكيد لآرائه اللاهوتية التي يعتنقها من سنوات طويلة، بل وربما هي ذات ما تم تلقينه لنا جميعاً داخل جدران الكنيسة، ولكن ما يشهد به الواقع أن محاكمته لم تتم إلا بعد ما عد تجاوز منه في خطابه لرأس الكنيسة، وكأننا عدنا إلى العصر الوسيط ومحاكم التفتيش، ولاشك أن التاريخ الرسمي للكنيسة يدون الآن ما يحدث على أنه دفاع عن الإيمان القويم، في حين أن وراء الأمر كله الغيرة من النفوذ المتعاظم للأب متى المسكين، ومن حجم الحب والاحترام الذي يكنه له الأقباط، والذي انتقل أيضاً إلى كل أبناء مصر، بما فيهم القيادة السياسية، لتأتي ملاحقة الفكر ومعتنقيه بعد رحيل الرجل من عالمنا الغارق في الزيف والنفاق.
توظيف الدين
تكشف لنا الرواية، وعلى الأخص في قصة هدم معبد السيرابيوم، ومصرع هيباثيا الفيلسوفة والعالمة باهرة الجمال، كيف يستخدم الدين ونوازع التقوى لدى الجماهير، لارتكاب أفظع الجرائم، ليبدو الأمس أقرب مما نظن إلى اليوم، وإن اختلفت المقولات والرايات، فعلى ذات النهج تم اغتيال فرج فودة، وتحولت محاكمة قاتليه إلى محاكمة للشهيد الأكثر من بين رجال عصره استنارة وإخلاصاً لوطنه وللإنسانية.
ذكرت الرواية في موضعين استناد مرتكبي عمليات القتل والاستئصال للآخر، إلى جملة وردت في خطاب السيد المسيح، يقول فيها إني ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، وهنا إشارة إلى آفة أظنها وراء كل ما نعاني ويعاني معنا العالم منه الآن، اقتطاع الجمل من سياقها، ثم إساءة قراءتها أو فهمها.
فبالتأكيد يعرف من استخدموا هذه الجملة لتبرير جرائمهم أن مفهوم "سيف" فيها مفهوم مجازي كأغلب تعبيرات السيد المسيح في عظاته، فقد كان يسرف في استخدام التشبيهات والتعبيرات المجازية، مثل قوله: إذا أعثرتك يدك فاقطعها، وإذا أعثرتك عينك فاقلعها، فالسيف في الجملة المذكورة مقصود به الحد الحاسم بين الحق والباطل، هذا عن إساءة القراءة، أما عن الاقتطاع من السياق، فمن المعروف حتى لمحدودي الاطلاع على كلام السيد المسيح، أن خطابه جميعه سلمي إلى حدود تكاد تكون غير مسبوقة، بل وحدود يعدها البعض غير قابلة للتطبيق لفرط مثاليتها، وأن يُترك كل الخطاب المسالم، وتنتقى منه جملة واحدة يساء فهمها وتوظيفها، فهذا ليس من قبيل السير على هدى المقولات الدينية، لكنه غصب وقصر للمقولات الدينية لتصير مبررة لتوجهاتنا الإجرامية.
رغم وضوح سعة اطلاع مؤلف الرواية على الفكر المسيحي، إلا أنه قد تجاوز توضيح أو إبراز هذه النقطة، وهو بالطبع ليس مطالباً بأن يقول كل ما كنا نتمنى أن يقول، كما أننا لسنا مضطرين لقبول كل ما قال.
بنية الرواية"
يلزم أن نشيد بسلاسة وجمال بناء الجملة، وبالتمكن في تطويع اللغة، للتعبير عن الأفكار والأحداث.
فرضت فكرة الرواية كمذكرات أو سيرة ذاتية، أن يقتصر الفضاء السردي على تكنيك المونولوج، من بداية الرواية إلى آخرها، بما أفقد الرواية الثراء الذي يوفره السرد الشبكي والمتوازي، ما كان كفيلاً على سبيل المثال بإطلاعنا على دخائل ووجهات نظر الكثير من الشخصيات التي ورد ذكرها بالرواية، ومنها مثلاً بطرس قارئ الإنجيل، الذي قاد الجماهير لاغتيال أوكتافيا، فمنهج المونولوج يتيح لنا الدخول إلى أعماق الراوي، لكنه في ذات الوقت يجعل من باقي الشخصيات مسطحة أو هيكلية بقدر أو بآخر، كما يؤدي إلى تغلب الرؤية الأحادية على ما يقدمه لنا السرد.
ورغم أن الرواية بالأساس مخطوطة تنطق بلسان محدد، هو الشخصية المحورية والسارد معاً، إلا أننا نرى أنه كان من الممكن التغلب على هذه العقبة، بوجود راو خارجي، بخلاف من تتحدث المخطوطة بلسانه.
الجزءان اللذان يحكيان مشاهد عاطفية وجنسية موظفان عضوياً في الحكي، وهما جزء أصيل من العمود الفقري للرواية، وهو ضعفات وشهوات الإنسان، التي تعترضه في رحلة بحثه عن المطلق، وإن كان الجزء الأول المتعلق بالعلاقة الجنسية بين الراهب وأوكتافيا في الإسكندرية، ربما قد طال أو تمت استطالته أكثر مما ينبغي، بحيث بدا وكأنه مقصود لذاته، وقد ساهم أسلوب السرد الخطي المستمر في ازدياد وطأة تلك الاستطالة، فيما اتسم الجزء الثاني، والذي يعرض غرام هيبا بالمغنية مرتا، بالتقصير في توضيح طبيعة غرامها به ومبرراته، بعكس ما جاء في سرد غرام أوكتافيا، لتبدو قصة الغرام من جانب مرتا مسطحة بعض الشيء.
مع القمص عبد المسيح بسيط:
لا بأس كما نقدنا الرواية أن نمارس نقد النقد الذي تفضل به القمص عبد المسيح بسيط، فقد أعجبت برد الرجل في حديث تليفزيوني حول الرواية، قال فيه ما معناه أن الرواية عمل أدبي، ولا رد عليه إلا بالنقد المضاد، لكنني عندما قرأت ما كتبه جناب القمص نقداً للرواية على موقعه الإلكتروني، خطر لي أنه لم يقل ما قال مما بدا استنارة إلا مضطراً، فقد انهال في رده بالاتهامات على الكاتب والرواية، وقد بدأ بالغمز في نوايا الكاتب، نظراً لديانته المخالفة للعقيدة التي تتناولها الرواية، وهذا في حد ذلك خروج عن قضبان العقلانية والموضوعية، فنحن كقراء ونقاد لا شأن لنا بالكاتب، لأننا معنيين بالنص وليس بكاتبه، كما أن الأعمال الأدبية ليست بالنيات، بل بما يحتويه النص فعلاً بين دفتيه.
يقول جناب القمص أيضاً أن الرواية تشكك في وجود الله وفي طبيعة الشيطان، وهو معذور في قوله هذا، ربما لأنه لم يسبق له أن قرأ عملاً أدبياً، وربما لم يعرف في حياته غير العظات التي يلقيها على المؤمنين، ليرشدهم إلى الطريق القويم، بما يعني أن كل ما يجيء بالعظة من جمل ومعان لابد وأن تقود الإنسان إلى الهدف المحدد للعظة، ولا يعرف أن الأعمال الأدبية تختلف عن هذا تماماً، فهي تجتهد في استكشاف داخل الإنسان، لتصوره لنا في لحظات شكه وإيمانه، في فجوره وتقواه، تصوره إنساناً من لحم ودم، وليس كائناً خشبياً أو ذهبياً، وقد ألصق هذه الاتهامات بالرواية، رغم أنه يفتخر في نفس سطور نقده، بأن الكتاب المقدس يصور شخصيات حقيقية بكل ضعفاتها وقوتها، وليست شخصيات وهمية، وهذا صحيح بالطبع، فإذا كان الكتاب المقدس قد ذكر ضعفات الأنبياء، ولم يصورهم كملائكة، فلماذا يستنكر هذا في عمل أدبي؟!
يقول جناب القمص أيضاً أن الرواية تسيء للمسيحية، ولست أدري على أي أساس بنى اتهامه هذا، فالرواية حين أشارت إلى جرائم الغوغاء الذين هدموا السيرابيوم والذين قتلوا هيباثيا، لم تكن تتحدث عن المسيحية، وإنما عن الغوغاء من المسيحيين، وشتان الفرق بين الحديث عن الدين وبين الحديث عن المتدينين أو بالأحرى عن البعض منهم، ثم أن الرواية لم تخترع أحداثاً تاريخية لتنسبها للمسيحيين، وإنما كل ما ورد بها حصراً هو أحداث تاريخية موثقة، قد يختلف حول بعض تفصيلاتها الرواة، دون أن ينفي هذا عنها أصولها العلمية التاريخية.
بالطبع من حق القمص عبد المسيح بسيط أن يعتبر تاريخ الكنيسة ورجالها تاريخاً مقدساً لملائكة وليس لبشر، وسوف يجد في عصرنا هذا من يصدقه، لكن من حق آخرين ألا يقتنعوا بهذا الكلام، وأن يصروا على أن أجدادنا كانوا بشراً، وأن تاريخهم تاريخ بشري، وأننا نستفيد من تدارس أخطائهم حتى لا نكررها. . من حقنا أن نرفض الاستمرار في العيش في مستنقع من الأكاذيب، حتى لو كانت أكاذيب وردية، فمن يحجم أو يجبن عن مواجهة ماضيه بشجاعة، فلن يستطيع أبداً مواجهة حاضره.
انخرط جناب القمص في رده في استعراض لقضايا لاهوتية، مشهراً سيفاً خشبياً للدفاع عن العقيدة المسيحية، وكأن الرواية قد هددتها وهزت أركانها، وأنا أقول له هون على نفسك يا رجل، فالرواية لم تحمل على أحسن الفروض أو أسوأها (حسب وجهة نظرك) إلا دعوة للتساؤل، وحين يتساءل المرء عن عقيدته، خاصة في مسائل لاهوتية متخصصة، فإنه لن يستمد عقيدته من عمل أدبي، بل سيعمد إلى المراجع المتخصصة، ليدرس ما شاء الدرس. . هو انغلاق الفكر إذن، الذي يؤدي إلى حالة هلع، من مجرد التساؤل.
إذا كان جناب القمص يستنكر ما جاء بالرواية (نقلاً عن الوثائق التاريخية) من تحريض الأنبا كيرلس عمود الدين للغوغاء على قتل هيباثيا، فليسمح لي أن أطلب منه إعادة قراءة ما كتب عن الرواية وكاتبها د. يوسف زيدان، ولنتخيل معاً لو أن المسيحيين بالكثرة العددية التي كانوا عليها في القرن الرابع والخامس، ألا يوجد احتمال أن يقرأ كلماته تلك بعض الجهلة من المسيحيين، ليعيدوا قصة هيباثيا مع دكتورنا المعاصر، أم أنه يمكن أن ينفي أن يكون بين المسيحيين جاهل أو موتور، باعتبار المسيحيين ملائكة، وكهنتهم الذين يحرضونهم ويعادون العلماء أيضاً ملائكة؟!
لكي لا أكون قاسياً على الرجل أكثر مما ينبغي، على أن أستدرك فأنوه أن الإنسان ابن بيئته، ونحن نعيش في مصر الآن حالة احتقان ديني، والأقباط يسمعون طوال ساعات اليوم الازدراء بهم وبدينهم، عبر مكبرات الصوت، وعبر الجرائد المسماة بالقومية، وعبر الفضائيات القومية والخاصة، ومن غير المنصف في هذه الأجواء أن نتوقع منهم التحلي بما نتمناه للمصريين جميعاً من استنارة وسعة صدر، ولا يعني هذا أن نخرس، ونترك مواطنينا ضحية لموجات الكذب والتزييف التي لا نهاية لها. . الحل هو ممارسة النقد والمراجعة لكل تراثنا، بإخلاص وموضوعية وشجاعة، فنهر النقد المستنير متى تدفق، إلى كل الأركان والزوايا، وفي جميع الاتجاهات، وليس في اتجاه واحد هو نقد المستضعفين، وتحاشي نقد من يخشى بأسهم وبطشهم، عندها سوف نتعلم سوياً ألا ننزعج من النقد، وسوف يلذ لنا مذاق الحقيقة مهما كانت مرارتها، وسوف نتأفف من شرب حليب الكذب والزيف حتى لو كان له طعم العسل.
من حق د. يوسف زيدان علينا أن نشكره على تقديم تلك الرواية، التي تقتحم المسكوت عنه بقوة وجرأة نفتقدها في زماننا هذا، وقد فعل هذا بأسلوب أدبي جميل، جعل من قراءة العمل متعة يستحق شكراً خاصاً عليها.
http://www.metransparent.com/spip.php?page=article&id_article=4349&lang=ar
كمال غبريال
الاحد 24 آب (أغسطس) 2008
من قبيل لزوم ما لا يلزم أن نحتاج إلى التذكير بأن مقاربة الأعمال الأدبية لها قواعدها، ولها أيضاً أهلها، لكن لأننا نعيش في حالة من اختلاط الأوراق والأفكار، فإننا مضطرون لإهدار الوقت لمناقشة البديهيات، وربما الجدال حولها، فالنص الأدبي يحتاج منا إلى العديد من المقاربات النقدية، لكن كما أن لقراءة النصوص الأدبية قواعدها، التي تختلف بالتأكيد عن قواعد قراءة مقال سياسي أو اجتماعي أو محاضرة علمية، فإن للنقد الأدبي أيضاً قواعده وأنواعه، فقد يأتي النقد من ناقد محترف ومتخصص في نوعية النص، وقد يأتي من قارئ يحدثنا عن انطباعاته وما خرج به من رحلته مع النص، وقد يتناول النقد النص الأدبي من ناحية بنيانه ولغته ومدى توفيق آليات سرده، كما قد ينحصر النقد في الجانب الفكري أو التاريخي المبثوث بين ثنايا السرد، يتناوله بالنقد والتحليل والمراجعة. . المفترض أن يتم كل هذا بمنأى عن الصرخات والتشنجات والتهديدات، وإلا كنا نحكم على أنفسنا بالتخلف، ولسنا نحكم على كاتب النص بأي مما قد ننسبه له.
عزازيل دعوة للتساؤل
ما أحوج مجتمعاتنا إلى العديد من الأعمال الأدبية على نمط رواية عزازيل، فهي تحمل دعوة للتساؤل، حول كثير مما تسلمناه كبديهات أو مقدسات، رغم أنها جميعاً أفكار بشرية، حتى وإن كانت تتحدث عن مقدسات، وإذا من الصحيح أنه "إن بطلنا نحلم نموت"، فمن الأولى أن نقول "إن بطلنا نتساءل نموت"، فالموت الثقافي والأدبي هو حالة الخمود والعقم التي تصيب الفرد أو المجتمع، فيستنيم في ظلال اليقين، ويكف عنه القلق والشك والتساؤل، فبدون هذه الثلاثية، التي تبدو بغيضة للكثيرين، تموت المجتمعات وتتحجر، وتصبح كماً مهملاً، أو عبئاً على الإنسانية، وهذه هي بالتحديد الحالة التي ترزح فيها مجتمعاتنا الآن.
نحتاج إلى العديد من مثل هذه الأعمال الإبداعية، لنعيد الحياة إلى شراييننا العقلية والثقافية المتيبسة، سواء فيما يتعلق بمقدساتنا الدينية، التي توسعت لتشمل كل مناحي حياتنا، أو مقدساتنا السياسية والاجتماعية، بل وحتى المجال الاقتصادي، لم ينج من غزو التابوهات المقدسة.
لا أعتقد أن ما يزعج المنزعجين من الرواية هو ما قد تكون تضمنته من مقولات يرونها غير صحيحة، فما يزعجهم بالحقيقة هو تحريضها لنا على التساؤل، وعلى التشكك فيما قدموه لنا على أنه الحقيقة المطلقة، ما يزعجهم أن يراجع أحد ما يقولون وما يكتبون، وأن ينزلهم بهذا عن عروشهم أو تكاياهم المقدسة، ليقفوا على الأرض كما نقف نحن، ويخلعوا عنهم ثياب الآلهة، ليرتدوا ثياباً بشرية.
نحن وعزازيل:
تقول لنا الرواية أن الشيطان (عزازيل) ليس كياناً ميتافيزيقاً خارجاً عنا، يدبر لنا المكائد ليل نهار، لكنه في داخلنا، هو هواجس نفوسنا، هو طبيعتنا البشرية، التي من الواجب ألا نخجل منها، بل نواجهها بشجاعة، ونفسح لها المجال لتعبر عن نفسها بصدق، لا أن نغلقها على ما تحوي من شكوك وشهوات، كمن يغلق جرحاً على ما فيه من صديد.
كنت أتمنى أن تقول لنا الرواية بوضوح أن الشك والضعف الإنساني ليس تشوهاً في طبيعتنا البشرية، بما يستدعي أن نجد من ننسبه إليه، وليكن عزازيل، فالشك والضعف هما وجه لعملة، وجهها الآخر هو الإيمان والقوة، وما لم يقم جدل داخلي صحي بين الشك والإيمان، وبين الضعف والقوة، لن يكون هناك إنسان، وإنما ببغاء يردد، أو قرد يحاكي، إلا إن كنا جادين وقادرين على مغادرة بشريتنا، لنتحول إلى ملائكة.
الراهب هيبا والجدل:
تحدثنا الرواية عن قصة الإنسان، ممثلاً في الراهب المصري هيبا، في بحثه الوجودي عن الله وعن المعرفة. . ذلك البحث الذي قاده من بلدته في صعيد مصر، حيث تلقى من مقولات الإيمان ما شعر أنه بحاجة لتدعيمه باليقين، ومن علوم الطب ما استشعر بدائيته، وأراد تحصيل المزيد الذي يمكنه من امتلاك ناصيته. . وشأن الكثيرين من المنشغلين بالعلوم والميتافيزيقا، أراد هيبا أن يستحيل إلى عقل وروح محض، أن يفارق جسده الذي اعتبره معوقاً له في مسيرته نحو الحقيقة المطلقة، هكذا نذر نفسه للرهبنة، كأنما ليقتل هذا الجسد أو يخرسه إلى الأبد. . لكن كل خطواته ومراحل حياته، كانت تثبت له أن الحقيقة المطلقة التي يبحث عنها سراب، وأن سدنتها ما هم إلا تجار يتسترون خلفها لتعظيم ذواتهم وسلطانهم، كما أثبتت له الأيام والتجارب أن جسده لا يمكن أن يموت، وبأن الإنسان لابد وأن يبقى إنساناً، وأن الشهوات ومنها الشهوة الجنسية جزء جوهري من تكوينه، وليس ملحقاً خارجياً، يمكن انتزاعه أو تجميده بمجرد قرار أو وصايا بشرية أو إلهية.
الكنيسة والصراع اللاهوتي:
تناولت الرواية قضايا الصراع اللاهوتي الذي استغرق العالم المسيحي في القرنين الرابع والخامس، بحرفية أدبية عالية، بحيث لم تأت مقحمة على السياق، بل كجزء عضوي منه، وإذا رأى البعض أن الرواية تقول لنا أن هذا الصراع الذي بدا عقائدياً لاهوتياً، إنما هو في الحقيقة صراع سياسي على السلطة والثروة، فإن الرواية هكذا لا تكون قد أتت بجديد، فهذا ما سبق وأن قال به العديد من الباحثين والدارسين، بل أن القارئ العادي يستطيع بقليل من الفطنة أن يخلص إلى ذات النتيجة.
واسمحوا لي أن أضيف أن سدنة المقدس في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مازالوا حتى اليوم يلجأون لذات النهج في صراعاتهم، فلقد شهدنا جميعاً الاتهامات بالهرطقة التي وجهتها الكنيسة للأب متى المسكين وتلاميذه، إلى أن وصلت إلى إحراق كتبه، وإصدار قرار بحرمان د. جورج بباوي أستاذ اللاهوت، ليس بالتأكيد لآرائه اللاهوتية التي يعتنقها من سنوات طويلة، بل وربما هي ذات ما تم تلقينه لنا جميعاً داخل جدران الكنيسة، ولكن ما يشهد به الواقع أن محاكمته لم تتم إلا بعد ما عد تجاوز منه في خطابه لرأس الكنيسة، وكأننا عدنا إلى العصر الوسيط ومحاكم التفتيش، ولاشك أن التاريخ الرسمي للكنيسة يدون الآن ما يحدث على أنه دفاع عن الإيمان القويم، في حين أن وراء الأمر كله الغيرة من النفوذ المتعاظم للأب متى المسكين، ومن حجم الحب والاحترام الذي يكنه له الأقباط، والذي انتقل أيضاً إلى كل أبناء مصر، بما فيهم القيادة السياسية، لتأتي ملاحقة الفكر ومعتنقيه بعد رحيل الرجل من عالمنا الغارق في الزيف والنفاق.
توظيف الدين
تكشف لنا الرواية، وعلى الأخص في قصة هدم معبد السيرابيوم، ومصرع هيباثيا الفيلسوفة والعالمة باهرة الجمال، كيف يستخدم الدين ونوازع التقوى لدى الجماهير، لارتكاب أفظع الجرائم، ليبدو الأمس أقرب مما نظن إلى اليوم، وإن اختلفت المقولات والرايات، فعلى ذات النهج تم اغتيال فرج فودة، وتحولت محاكمة قاتليه إلى محاكمة للشهيد الأكثر من بين رجال عصره استنارة وإخلاصاً لوطنه وللإنسانية.
ذكرت الرواية في موضعين استناد مرتكبي عمليات القتل والاستئصال للآخر، إلى جملة وردت في خطاب السيد المسيح، يقول فيها إني ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، وهنا إشارة إلى آفة أظنها وراء كل ما نعاني ويعاني معنا العالم منه الآن، اقتطاع الجمل من سياقها، ثم إساءة قراءتها أو فهمها.
فبالتأكيد يعرف من استخدموا هذه الجملة لتبرير جرائمهم أن مفهوم "سيف" فيها مفهوم مجازي كأغلب تعبيرات السيد المسيح في عظاته، فقد كان يسرف في استخدام التشبيهات والتعبيرات المجازية، مثل قوله: إذا أعثرتك يدك فاقطعها، وإذا أعثرتك عينك فاقلعها، فالسيف في الجملة المذكورة مقصود به الحد الحاسم بين الحق والباطل، هذا عن إساءة القراءة، أما عن الاقتطاع من السياق، فمن المعروف حتى لمحدودي الاطلاع على كلام السيد المسيح، أن خطابه جميعه سلمي إلى حدود تكاد تكون غير مسبوقة، بل وحدود يعدها البعض غير قابلة للتطبيق لفرط مثاليتها، وأن يُترك كل الخطاب المسالم، وتنتقى منه جملة واحدة يساء فهمها وتوظيفها، فهذا ليس من قبيل السير على هدى المقولات الدينية، لكنه غصب وقصر للمقولات الدينية لتصير مبررة لتوجهاتنا الإجرامية.
رغم وضوح سعة اطلاع مؤلف الرواية على الفكر المسيحي، إلا أنه قد تجاوز توضيح أو إبراز هذه النقطة، وهو بالطبع ليس مطالباً بأن يقول كل ما كنا نتمنى أن يقول، كما أننا لسنا مضطرين لقبول كل ما قال.
بنية الرواية"
يلزم أن نشيد بسلاسة وجمال بناء الجملة، وبالتمكن في تطويع اللغة، للتعبير عن الأفكار والأحداث.
فرضت فكرة الرواية كمذكرات أو سيرة ذاتية، أن يقتصر الفضاء السردي على تكنيك المونولوج، من بداية الرواية إلى آخرها، بما أفقد الرواية الثراء الذي يوفره السرد الشبكي والمتوازي، ما كان كفيلاً على سبيل المثال بإطلاعنا على دخائل ووجهات نظر الكثير من الشخصيات التي ورد ذكرها بالرواية، ومنها مثلاً بطرس قارئ الإنجيل، الذي قاد الجماهير لاغتيال أوكتافيا، فمنهج المونولوج يتيح لنا الدخول إلى أعماق الراوي، لكنه في ذات الوقت يجعل من باقي الشخصيات مسطحة أو هيكلية بقدر أو بآخر، كما يؤدي إلى تغلب الرؤية الأحادية على ما يقدمه لنا السرد.
ورغم أن الرواية بالأساس مخطوطة تنطق بلسان محدد، هو الشخصية المحورية والسارد معاً، إلا أننا نرى أنه كان من الممكن التغلب على هذه العقبة، بوجود راو خارجي، بخلاف من تتحدث المخطوطة بلسانه.
الجزءان اللذان يحكيان مشاهد عاطفية وجنسية موظفان عضوياً في الحكي، وهما جزء أصيل من العمود الفقري للرواية، وهو ضعفات وشهوات الإنسان، التي تعترضه في رحلة بحثه عن المطلق، وإن كان الجزء الأول المتعلق بالعلاقة الجنسية بين الراهب وأوكتافيا في الإسكندرية، ربما قد طال أو تمت استطالته أكثر مما ينبغي، بحيث بدا وكأنه مقصود لذاته، وقد ساهم أسلوب السرد الخطي المستمر في ازدياد وطأة تلك الاستطالة، فيما اتسم الجزء الثاني، والذي يعرض غرام هيبا بالمغنية مرتا، بالتقصير في توضيح طبيعة غرامها به ومبرراته، بعكس ما جاء في سرد غرام أوكتافيا، لتبدو قصة الغرام من جانب مرتا مسطحة بعض الشيء.
مع القمص عبد المسيح بسيط:
لا بأس كما نقدنا الرواية أن نمارس نقد النقد الذي تفضل به القمص عبد المسيح بسيط، فقد أعجبت برد الرجل في حديث تليفزيوني حول الرواية، قال فيه ما معناه أن الرواية عمل أدبي، ولا رد عليه إلا بالنقد المضاد، لكنني عندما قرأت ما كتبه جناب القمص نقداً للرواية على موقعه الإلكتروني، خطر لي أنه لم يقل ما قال مما بدا استنارة إلا مضطراً، فقد انهال في رده بالاتهامات على الكاتب والرواية، وقد بدأ بالغمز في نوايا الكاتب، نظراً لديانته المخالفة للعقيدة التي تتناولها الرواية، وهذا في حد ذلك خروج عن قضبان العقلانية والموضوعية، فنحن كقراء ونقاد لا شأن لنا بالكاتب، لأننا معنيين بالنص وليس بكاتبه، كما أن الأعمال الأدبية ليست بالنيات، بل بما يحتويه النص فعلاً بين دفتيه.
يقول جناب القمص أيضاً أن الرواية تشكك في وجود الله وفي طبيعة الشيطان، وهو معذور في قوله هذا، ربما لأنه لم يسبق له أن قرأ عملاً أدبياً، وربما لم يعرف في حياته غير العظات التي يلقيها على المؤمنين، ليرشدهم إلى الطريق القويم، بما يعني أن كل ما يجيء بالعظة من جمل ومعان لابد وأن تقود الإنسان إلى الهدف المحدد للعظة، ولا يعرف أن الأعمال الأدبية تختلف عن هذا تماماً، فهي تجتهد في استكشاف داخل الإنسان، لتصوره لنا في لحظات شكه وإيمانه، في فجوره وتقواه، تصوره إنساناً من لحم ودم، وليس كائناً خشبياً أو ذهبياً، وقد ألصق هذه الاتهامات بالرواية، رغم أنه يفتخر في نفس سطور نقده، بأن الكتاب المقدس يصور شخصيات حقيقية بكل ضعفاتها وقوتها، وليست شخصيات وهمية، وهذا صحيح بالطبع، فإذا كان الكتاب المقدس قد ذكر ضعفات الأنبياء، ولم يصورهم كملائكة، فلماذا يستنكر هذا في عمل أدبي؟!
يقول جناب القمص أيضاً أن الرواية تسيء للمسيحية، ولست أدري على أي أساس بنى اتهامه هذا، فالرواية حين أشارت إلى جرائم الغوغاء الذين هدموا السيرابيوم والذين قتلوا هيباثيا، لم تكن تتحدث عن المسيحية، وإنما عن الغوغاء من المسيحيين، وشتان الفرق بين الحديث عن الدين وبين الحديث عن المتدينين أو بالأحرى عن البعض منهم، ثم أن الرواية لم تخترع أحداثاً تاريخية لتنسبها للمسيحيين، وإنما كل ما ورد بها حصراً هو أحداث تاريخية موثقة، قد يختلف حول بعض تفصيلاتها الرواة، دون أن ينفي هذا عنها أصولها العلمية التاريخية.
بالطبع من حق القمص عبد المسيح بسيط أن يعتبر تاريخ الكنيسة ورجالها تاريخاً مقدساً لملائكة وليس لبشر، وسوف يجد في عصرنا هذا من يصدقه، لكن من حق آخرين ألا يقتنعوا بهذا الكلام، وأن يصروا على أن أجدادنا كانوا بشراً، وأن تاريخهم تاريخ بشري، وأننا نستفيد من تدارس أخطائهم حتى لا نكررها. . من حقنا أن نرفض الاستمرار في العيش في مستنقع من الأكاذيب، حتى لو كانت أكاذيب وردية، فمن يحجم أو يجبن عن مواجهة ماضيه بشجاعة، فلن يستطيع أبداً مواجهة حاضره.
انخرط جناب القمص في رده في استعراض لقضايا لاهوتية، مشهراً سيفاً خشبياً للدفاع عن العقيدة المسيحية، وكأن الرواية قد هددتها وهزت أركانها، وأنا أقول له هون على نفسك يا رجل، فالرواية لم تحمل على أحسن الفروض أو أسوأها (حسب وجهة نظرك) إلا دعوة للتساؤل، وحين يتساءل المرء عن عقيدته، خاصة في مسائل لاهوتية متخصصة، فإنه لن يستمد عقيدته من عمل أدبي، بل سيعمد إلى المراجع المتخصصة، ليدرس ما شاء الدرس. . هو انغلاق الفكر إذن، الذي يؤدي إلى حالة هلع، من مجرد التساؤل.
إذا كان جناب القمص يستنكر ما جاء بالرواية (نقلاً عن الوثائق التاريخية) من تحريض الأنبا كيرلس عمود الدين للغوغاء على قتل هيباثيا، فليسمح لي أن أطلب منه إعادة قراءة ما كتب عن الرواية وكاتبها د. يوسف زيدان، ولنتخيل معاً لو أن المسيحيين بالكثرة العددية التي كانوا عليها في القرن الرابع والخامس، ألا يوجد احتمال أن يقرأ كلماته تلك بعض الجهلة من المسيحيين، ليعيدوا قصة هيباثيا مع دكتورنا المعاصر، أم أنه يمكن أن ينفي أن يكون بين المسيحيين جاهل أو موتور، باعتبار المسيحيين ملائكة، وكهنتهم الذين يحرضونهم ويعادون العلماء أيضاً ملائكة؟!
لكي لا أكون قاسياً على الرجل أكثر مما ينبغي، على أن أستدرك فأنوه أن الإنسان ابن بيئته، ونحن نعيش في مصر الآن حالة احتقان ديني، والأقباط يسمعون طوال ساعات اليوم الازدراء بهم وبدينهم، عبر مكبرات الصوت، وعبر الجرائد المسماة بالقومية، وعبر الفضائيات القومية والخاصة، ومن غير المنصف في هذه الأجواء أن نتوقع منهم التحلي بما نتمناه للمصريين جميعاً من استنارة وسعة صدر، ولا يعني هذا أن نخرس، ونترك مواطنينا ضحية لموجات الكذب والتزييف التي لا نهاية لها. . الحل هو ممارسة النقد والمراجعة لكل تراثنا، بإخلاص وموضوعية وشجاعة، فنهر النقد المستنير متى تدفق، إلى كل الأركان والزوايا، وفي جميع الاتجاهات، وليس في اتجاه واحد هو نقد المستضعفين، وتحاشي نقد من يخشى بأسهم وبطشهم، عندها سوف نتعلم سوياً ألا ننزعج من النقد، وسوف يلذ لنا مذاق الحقيقة مهما كانت مرارتها، وسوف نتأفف من شرب حليب الكذب والزيف حتى لو كان له طعم العسل.
من حق د. يوسف زيدان علينا أن نشكره على تقديم تلك الرواية، التي تقتحم المسكوت عنه بقوة وجرأة نفتقدها في زماننا هذا، وقد فعل هذا بأسلوب أدبي جميل، جعل من قراءة العمل متعة يستحق شكراً خاصاً عليها.
http://www.metransparent.com/spip.php?page=article&id_article=4349&lang=ar
تعليق