ذكر ما اختلقوه في قصة داوود عليه السلام
فمن شنيع تخرصهم في قصته عليه السلام مع امرأة أوريا وقلة مراعاتهم مع من جعله الله
تعالى خليفة في الأرض وشدد ملكه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب وسخر له الجبال يسبحن
معه والطير وألان له الحديد فمما اختلقوه عليه أن قالوا
إنه أشرف يوما من كوة كانت في محرابه فرأى امرأة تغتسل في حجرتها فأعجبه حسنها
ولين جانبها ورخامة دلها فشغفه حبها فالتفتت إليه فأسبلت شعرها على جسدها
لتستتر منه فزاده ذلك شغفا بها ثم أرسل إليها يسألها من بعلها فأخبرته أنه أوريا فأرسل
إليه فسأله أن ينزل له عنها بطلاقها فأبى فأمره بالخروج إلى الغزو وأرسل إلى صاحب
الجيش أن يغزيه ويقدمه للقتال في كل مأزق ففعل صاحب الجيش به ذلك مرات حتى قتل
فلما بلغ داوود عليه السلام أنه قتل أرسل إليها ليتزوجها فأسعفته فتزوجها وكان له مئة
امرأة إلا واحدة فأتم بها المئة فأرسل الله إليه إذ ذاك الملائكة فاختصموا عنده فأفتاهم بما
يؤول دركه عليه فخصموه ثم قال أحدهما للآخر قم فقد حكم الرجل على نفسه وصعدا
إلى السماء وهو ينظر إليهما فتفطن إذ ذاك أنهم ملائكة وأنه فتن وأخطأ فاستغفر ربه وخر
راكعا وأناب
فهذه من أقوالهم أقل شناعة وبشاعة مما سواها من الأقوال في كتب القصص والتواريخ
وبعض التفاسير الفاسدة
فصل
والذي ينبغي أن يعول عليه في هذه القصة وما يضاهيها من القصص ما جاء به الكتاب
العزيز أو ما صح عن الرسول عليه السلام من الخبر وما سوى ذلك فيطرح هو ومختلقه
وراويه إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
فصل
فأما قصة داوود عليه السلام فهي مذكورة على الكمال مفصلة في قوله تعالى وهل أتاك
نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إلى قوله وخر راكعا وأناب
قال تعالى وهل أتاك نبأ الخصم
اعلم رحمك الله أن استفهام الله تعالى لخلقه لا يجوز الآية يحمل على حقيقة الاستفهام
لوجوب احاطة علمه تعالى بجميع المعلومات على أتم التفصيل فلم يبق إلا أن يكون
الاستفهام هنا بمعنى التقرير والتنبيه لنبيه عليه السلام ليتهيأ لقبول الخطاب وليتفهم ما
يلقى إليه من غرائب العلم وعجائب الكائنات وأما إفراد الخصم وهما خصمان فالعرب
تسمي الواحد بالجمع والجمع بالواحد على وجه ما فنقول
خصما للواحد والجمع كما تقول ضيفا للواحد والجمع وقال الله تعالى هل أتاك حديث ضيف
إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فسماهم باسم الواحد ونعتهم بالجمع في قوله المكرمين
وكذلك إذ دخلوا عليه
ومعنى تسوروا المحراب أتوه من أعاليه ولم يأتوه من بابه ولذلك فزع منهم فإنه خاف أن
يكونوا لصوصا أو يكون بعض رعيته ثاروا عليه والمحراب في اللسان صدر المجلس وأحسن
ما فيه ولذلك سمي محراب المسجد محرابا وقبل المحراب الغرفة وفي فزعه منهم وكانوا
ملائكة دليل على أنه ليس من شرط النبوة أن يعرف النبي كل من يأتيه من الملائكة حتى
يعرف به وفيه أيضا دليل على أن الملائكة يتصورون على صور الآدميين بأمر ربهم وقدرته لا
بقدرتهم وفي تصورهم كذلك عريض من القول لسنا الآن له لكن الذي يصح منها وجهان
إما انهم ينسلخون من أبعاضهم
او تنعدم من أجسامهم بالإمساك عن خلق الأعراض فيها ما شاء الله وتبقى ما شاء ثم
يعيدهم إلى مقامهم كما كانوا قيل فإنه ليس من شرط الحي العالم أن تكثر أجزاؤه ولا أن
تقل فإن العالم منه جزء فرد
وأما قوله لا تخف خصمان ولم يكونا خصمين على الحقيقة ولا بغى بعضهم على بعض ولا
أتفق لهما مما ذكراه شيء ففيه دليل
على أن الكذب أنما يقبح شرعا فمن أمره الله تعالى أن يخبر بما وقع وبما لم يقع فأخبر به
فهو مطيع ممتثل فاعل الحسن ولذلك جاز لهم أن يقولوا للمعصوم فاحكم بيننا بالحق ولا
تشطط والشطط الجور مع علمهم بأن المعصوم يحكم بالحق ولا يجور في الحكم فتخرج
لهم هذه الأقوال إذ هم ملائكة وسفرة معصومون مخرج أقوال يوسف عليه السلام إذ أمر
مناديه فنادى أيتها العير إنكم لسارقون وما كانوا بسارقين وقوله عليه السلام لإخوته أنتم
شر مكانا ولم يكونوا كذلك وأخذ أخاهم على حكمهم لا على حكم الملك وما كان له أن
يأخذه في دين الملك فإن الملك كان يقتل السارق ولا في دين إخوته في شريعتهم فإنهم
كانوا يستعبدون السارق وأخوه لم يكن سارقا
وجاء في الأخبار أنه كان ينقر في الصواع ويقول إن صواعي هذا يخبرني بكذا وكذا والصواع
لا يخبر حتى قال له بنيامين أخوه أيها الملك سل صواعك يخبرك أحي أخي يوسف أم ميت
فنقر في الصواع فقال هو حي وإنك لتراه وتلقاه إلى غير ذلك فأقام الله تعالى عذره في كل
ما أخبر عنه وفعله بقوله كذلك كدنا
ليوسف ومعناه بذلك أمرناه وأردنا منه
و ارتفع الاعتراض على أنه ما أخبر الملائكة عليهم السلام لداوود عليه السلام إنما كان
على جهة التجوز وضرب المثال بأخوة الإيمان إذ ليس في الملائكة ولادة وإذا لم يكن ولادة
فلا أخوة نسب
وتسمية النساء نعاجا لتأنيثهن وضعفهن و أكفلنيها كناية عن نكاحها وعزني في الخطاب
بمعنى غلبني وهذا آخر خطاب الخصم فقال له داوود عليه السلام لقد ظلمك ثم قيد
الظلم بسؤال النعجة إذ قال لهم إن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وهذا آخر خطابه للخصم
فصل
اعلموا أحسن الله إرشادنا وإياكم أن كل من تكلم في هذه القصة بما صح في حق داوود
عليه السلام وبما لم يصح إنما بنوه على أس هذه الخمس كلمات التي هي أكفلنيها
وعزني في الخطاب و لقد ظلمك و ليبغي بعضهم على بعض وقليل ما هم وهي بحمد
الله تخرج له على مذهب أهل الحق بأجمل ما ينبغي له وأكمله والله المستعان
فأول ما ينبغي أن نقدم قبل الخوض في هذه المسائل وما يضاهيها ثلاث مقدمات
إحداها ما صح من إجماع الأمة قاطبة على عصمة الأنبياء من الكبائر
والثانية أن كل محظور كبيرة على قول من قال بذلك من أئمة السنة وهو الصحيح لاتحاده
في الحظر وإنما يتصور كبير وأكبر بالتحريض على تركها وتأكيد الوعيد على فعل بعضها دون
بعض
والثالثة شرح هذه الأقوال وما يضاهيها من القصص الموعود بها على مذهب من قال بتنزيه
الأنبياء عليهم السلام عن الصغائر وأنهم لا يواقعون صغيرة من الذنوب ولا كبيرة وأن غاية
أقوالهم وأفعالهم التي وقع فيها العتاب من الله تعالى لمن عاتبه منهم أن يكون على فعل
مباح كان غيره من المباحات أولى منه في حق مناصبهم السنية
وسنبين ذلك في سياق الكلام إن شاء الله تعالى
فصل
فأما قولة داوود عليه السلام أكفلنيها فهذا بمعنى أنزل لي عنها بطلاق وأتزوجها بعدك
وهذا من القول المأذون في فعله وتركه ومباح أن يقول الرجل لأخيه أو صديقه انزل لي عن
زوجك بإضمار إن شئت وهذا بمثابة من يقول لصاحبه أو أخيه بع مني أمتك إن شئت وهذا
قول مباح ليس بمحظور في الشرع ولا مكروه ومن ادعى حظره أو كراهته في الشرع
فعليه الدليل ولا دليل له عليه كيف وقد جاء في
الصحيح أن النبي لما واخى بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف قال له
الأنصاري لي كذا وكذا من المال أشاطرك فيه ولي زوجان أنزل لك عن إحداهما فقال له
عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك أرني طريق السوق
ووجه الاستدلال بهذا الحديث قوله بين يدي النبي أنزل لك عن إحداهما فأقره النبي على
هذا القول ولم ينكره عليه وهو لا يقر على منكر وهو المعلم الأكبر صلوات الله عليه
وتسليمه فلم يبق إلا الإباحة لكن تركها بمعنى الأولى والأحرى في كمال منصب النبوة
كان أولى وأتم
وأما قوله وعزني في الخطاب أي غلبني فنزلت له عنها فهو غلب الحشمة لا غلب القهر
لعظم منزلة السائل في قلب المسؤول ولا غلب الحس بالقهر المنهي عنه فإنه ظلم
منهي عنه شرعا تتحاشى عنه الأنبياء عليهم السلام كما تقدم
فإن قيل كان داوود عليه السلام خليفة وصاحب سيف والمطلوب منه رعية ومن شأن
الرعية هيبة الملوك والمبادرة لقضاء حوائجهم لكونهم قاهرين لهم فيقضون حوائجهم باللين
خوفا من العنف والإكراه وفي سؤال داوود عليه السلام حمل على المسؤول من هذا الباب
قلنا صحيح ما اعترضت به إلا أن هذا الحمل على المسؤول لا يتصور إلا فيمن عهد منه
الظلم والغصب من الأمراء وأما من عهد نه العدل والإحسان كخلفاء الصحابة والتابعين لهم
بإحسان فلا يتصور ذلك في حقهم إذا منعوا المباحات وإذا لم يتصور ذلك في حقهم مع
عدم العصمة فما ظنك بالمعصومين المنزهين عن الخطايا تنزيه الوجوب كما تقدم فبطل
اعتراض هذه القولة في حق داوود عليه السلام في هذا الباب
وأما قوله للخصم لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ففيه اعتراض من وجه آخر نتخلص
منه ونرجع إلى ما نحن بسبيله
قالوا كيف يكون داوود عليه السلام من خلف الله في أرضه ويقطع على الظلم بقول الواحد
قبل أن يسمع قول الآخر
فالجواب عن هذا يتصور من وجهين
أحدهما أنه سمع من الآخر حجة لا تخلصه فقال للأول لقد ظلمك أو صدقه الآخر في قوله
فقال للأول لقد ظلمك
والثاني أن يقول لقد ظلمك بإضمار إن كان حقا ما تقول وهذا سائغ وأما أن يقول له لقد
ظلمك من غير أن يسمع حجة الآخر فهذا لا نسوغه في حق عاقل منصف فكيف في حق
من آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب
ألا ترى موقف يعقوب عليه السلام لما جاءه بنوه عشيا يبكون وهم جماعة فقالوا ما قالوا
فقال بل سولت لكم أنفسكم أمرا ولم يقبل أقوالهم ولا دموعهم بغير دليل فكيف يقبل
داوود عليه السلام قول الخصم من غير حجة حتى يقول له لقد ظلمك هذا لا يصح في
حقه وأما قوله للخصم لقد ظلمك فعنى به بخسك وغبنك في قول كان غيره من المباحات
أولى بك منه وحد الظلم في اللسان وضع الشيء في غير موضعه وقد قدمنا أن قول قائل
لغيره أكفلني زوجك ليس بظلم منهي عنه شرعا فلم يبق إلا ما ذكرناه في حقه
وأما قوله وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض
فيخرج البغي مخرج الظلم حرفا بحرف فإنه إذا ساغ في اللسان والمعتاد أن يسمى مالك
الكثير إذا طلب من المقل قليله ظالما فلا غرو أن يسمى باغيا
ولو أن رجلا كان له عبدان مطيعان له مستقيمان غاية ما يمكنهما من وجوه الاستقامة
فأحسن إلى أحدهما وأعطاه ووسع عليه ورفه معيشته ولم يحسن للآخر بعين ما ألزمه
الله مما يتعين للعبيد على السادة لسمى العقلاء هذا السيد ظالما باغيا من حيث إنه
أحسن لأحدهما ولم يحسن مع الآخر مع تساويهما في الطاعة والنصيحة والسيد مع هذا
التخصيص بالإحسان لأحدهما لم يأت في الشرع بمحظور ولا بمكروه بل كل ما فعل معهما
مباح له
فهذا وجه من وجوه التخلص من هذه الأقوال وأنها مباحة لقائلها وفاعل ما وقع منها من
غير أن يلحقه ذم من الشرع ولا ثلب
وأما قوله وقليل ما هم فمقصوده الأكابر الأفراد من المحسنين المؤثرين فإنهم يحسنون
في المباحات كإحسانهم في المشروعات فيتعاونون في العشرة ويتناصفون في الخلطة
كما قال تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ثم قال وقليل ما هم فإنهم الكبريت الأحمر وهذا آخر خطابه للملائكة
فصل
والذي يكمل به هذا التفسير ويعضده نكتة شريفة وذلك أن الله تعالى أخبر بما وقع بين
داوود عليه السلام وبين الخصم من محاورة ومراجعة
وأن ذكر التكفل والعزة في الخطاب كلامهما وما أخبر به تعالى عن قول قائل فليس هو في
الإلزام كالذي يخبر به عن نفسه وحكمه فمن أخبر تعالى أنه ظلم وغلب وبغى في
المشروعات فهو ظالم غالب باغ شرعا ومن أخبر تعالى أنه قال ظلمت وبغيت أو قال ظلم
زيد وغلب وبغى فقد يخبر عن حقيقة شرعية وعن مجازية عادية كما تقدم في مثال
السيد والعبد
وقد ثبت أن هذه الأقوال التي وقعت بين داوود عليه السلام وبين خصمه من المجازية
العادية وإذا كان ذلك لم يثبت بها حكم شرعي وإذا لم يثبت حكم لم تثبت طاعة ولا
معصية
قال تعالى وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا
لزلفى وحسن مآب
هذا الظن منه يحتمل أن يكون علما ويحتمل أن يكون ظنا على معنى الظن الذي هو التردد
في الشك مع الميل إلى أحد الطرفين
فإن كان بمعنى العلم فهو أنه لما علم أن الخصمين ملكان وأنه المقصود بالمثال وأنه فتن
أي اختبر وامتحن ببعض المباحات فعوتب إذ لم يصبر فيها صبر المؤثرين حتى قال ما قال
وفعل ما فعل فخر راكعا يعني ساجدا فإن الركوع والسجود يسمى كل واحد منهما باسم
الثاني وأناب أي تاب من ذلك ظاهرا وباطنا فأخبر تعالى أنه غفر له ذلك أي درأ عنه الطلب
فيما رأى هو أنه ذنب في حقه فترك الأولى كما تقدم
وإن كان حكمه على حكم الظن فيكون أنه غلب ظنه على أن الذي وقع منه فتنة يتعلق
فيها طلب إذ لله تعالى في صريح العقل أن يطلب ما شاء ويترك ما شاء فأخبر تعالى أنه لا
طلب عليه في ذلك
فمن شنيع تخرصهم في قصته عليه السلام مع امرأة أوريا وقلة مراعاتهم مع من جعله الله
تعالى خليفة في الأرض وشدد ملكه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب وسخر له الجبال يسبحن
معه والطير وألان له الحديد فمما اختلقوه عليه أن قالوا
إنه أشرف يوما من كوة كانت في محرابه فرأى امرأة تغتسل في حجرتها فأعجبه حسنها
ولين جانبها ورخامة دلها فشغفه حبها فالتفتت إليه فأسبلت شعرها على جسدها
لتستتر منه فزاده ذلك شغفا بها ثم أرسل إليها يسألها من بعلها فأخبرته أنه أوريا فأرسل
إليه فسأله أن ينزل له عنها بطلاقها فأبى فأمره بالخروج إلى الغزو وأرسل إلى صاحب
الجيش أن يغزيه ويقدمه للقتال في كل مأزق ففعل صاحب الجيش به ذلك مرات حتى قتل
فلما بلغ داوود عليه السلام أنه قتل أرسل إليها ليتزوجها فأسعفته فتزوجها وكان له مئة
امرأة إلا واحدة فأتم بها المئة فأرسل الله إليه إذ ذاك الملائكة فاختصموا عنده فأفتاهم بما
يؤول دركه عليه فخصموه ثم قال أحدهما للآخر قم فقد حكم الرجل على نفسه وصعدا
إلى السماء وهو ينظر إليهما فتفطن إذ ذاك أنهم ملائكة وأنه فتن وأخطأ فاستغفر ربه وخر
راكعا وأناب
فهذه من أقوالهم أقل شناعة وبشاعة مما سواها من الأقوال في كتب القصص والتواريخ
وبعض التفاسير الفاسدة
فصل
والذي ينبغي أن يعول عليه في هذه القصة وما يضاهيها من القصص ما جاء به الكتاب
العزيز أو ما صح عن الرسول عليه السلام من الخبر وما سوى ذلك فيطرح هو ومختلقه
وراويه إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
فصل
فأما قصة داوود عليه السلام فهي مذكورة على الكمال مفصلة في قوله تعالى وهل أتاك
نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إلى قوله وخر راكعا وأناب
قال تعالى وهل أتاك نبأ الخصم
اعلم رحمك الله أن استفهام الله تعالى لخلقه لا يجوز الآية يحمل على حقيقة الاستفهام
لوجوب احاطة علمه تعالى بجميع المعلومات على أتم التفصيل فلم يبق إلا أن يكون
الاستفهام هنا بمعنى التقرير والتنبيه لنبيه عليه السلام ليتهيأ لقبول الخطاب وليتفهم ما
يلقى إليه من غرائب العلم وعجائب الكائنات وأما إفراد الخصم وهما خصمان فالعرب
تسمي الواحد بالجمع والجمع بالواحد على وجه ما فنقول
خصما للواحد والجمع كما تقول ضيفا للواحد والجمع وقال الله تعالى هل أتاك حديث ضيف
إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فسماهم باسم الواحد ونعتهم بالجمع في قوله المكرمين
وكذلك إذ دخلوا عليه
ومعنى تسوروا المحراب أتوه من أعاليه ولم يأتوه من بابه ولذلك فزع منهم فإنه خاف أن
يكونوا لصوصا أو يكون بعض رعيته ثاروا عليه والمحراب في اللسان صدر المجلس وأحسن
ما فيه ولذلك سمي محراب المسجد محرابا وقبل المحراب الغرفة وفي فزعه منهم وكانوا
ملائكة دليل على أنه ليس من شرط النبوة أن يعرف النبي كل من يأتيه من الملائكة حتى
يعرف به وفيه أيضا دليل على أن الملائكة يتصورون على صور الآدميين بأمر ربهم وقدرته لا
بقدرتهم وفي تصورهم كذلك عريض من القول لسنا الآن له لكن الذي يصح منها وجهان
إما انهم ينسلخون من أبعاضهم
او تنعدم من أجسامهم بالإمساك عن خلق الأعراض فيها ما شاء الله وتبقى ما شاء ثم
يعيدهم إلى مقامهم كما كانوا قيل فإنه ليس من شرط الحي العالم أن تكثر أجزاؤه ولا أن
تقل فإن العالم منه جزء فرد
وأما قوله لا تخف خصمان ولم يكونا خصمين على الحقيقة ولا بغى بعضهم على بعض ولا
أتفق لهما مما ذكراه شيء ففيه دليل
على أن الكذب أنما يقبح شرعا فمن أمره الله تعالى أن يخبر بما وقع وبما لم يقع فأخبر به
فهو مطيع ممتثل فاعل الحسن ولذلك جاز لهم أن يقولوا للمعصوم فاحكم بيننا بالحق ولا
تشطط والشطط الجور مع علمهم بأن المعصوم يحكم بالحق ولا يجور في الحكم فتخرج
لهم هذه الأقوال إذ هم ملائكة وسفرة معصومون مخرج أقوال يوسف عليه السلام إذ أمر
مناديه فنادى أيتها العير إنكم لسارقون وما كانوا بسارقين وقوله عليه السلام لإخوته أنتم
شر مكانا ولم يكونوا كذلك وأخذ أخاهم على حكمهم لا على حكم الملك وما كان له أن
يأخذه في دين الملك فإن الملك كان يقتل السارق ولا في دين إخوته في شريعتهم فإنهم
كانوا يستعبدون السارق وأخوه لم يكن سارقا
وجاء في الأخبار أنه كان ينقر في الصواع ويقول إن صواعي هذا يخبرني بكذا وكذا والصواع
لا يخبر حتى قال له بنيامين أخوه أيها الملك سل صواعك يخبرك أحي أخي يوسف أم ميت
فنقر في الصواع فقال هو حي وإنك لتراه وتلقاه إلى غير ذلك فأقام الله تعالى عذره في كل
ما أخبر عنه وفعله بقوله كذلك كدنا
ليوسف ومعناه بذلك أمرناه وأردنا منه
و ارتفع الاعتراض على أنه ما أخبر الملائكة عليهم السلام لداوود عليه السلام إنما كان
على جهة التجوز وضرب المثال بأخوة الإيمان إذ ليس في الملائكة ولادة وإذا لم يكن ولادة
فلا أخوة نسب
وتسمية النساء نعاجا لتأنيثهن وضعفهن و أكفلنيها كناية عن نكاحها وعزني في الخطاب
بمعنى غلبني وهذا آخر خطاب الخصم فقال له داوود عليه السلام لقد ظلمك ثم قيد
الظلم بسؤال النعجة إذ قال لهم إن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وهذا آخر خطابه للخصم
فصل
اعلموا أحسن الله إرشادنا وإياكم أن كل من تكلم في هذه القصة بما صح في حق داوود
عليه السلام وبما لم يصح إنما بنوه على أس هذه الخمس كلمات التي هي أكفلنيها
وعزني في الخطاب و لقد ظلمك و ليبغي بعضهم على بعض وقليل ما هم وهي بحمد
الله تخرج له على مذهب أهل الحق بأجمل ما ينبغي له وأكمله والله المستعان
فأول ما ينبغي أن نقدم قبل الخوض في هذه المسائل وما يضاهيها ثلاث مقدمات
إحداها ما صح من إجماع الأمة قاطبة على عصمة الأنبياء من الكبائر
والثانية أن كل محظور كبيرة على قول من قال بذلك من أئمة السنة وهو الصحيح لاتحاده
في الحظر وإنما يتصور كبير وأكبر بالتحريض على تركها وتأكيد الوعيد على فعل بعضها دون
بعض
والثالثة شرح هذه الأقوال وما يضاهيها من القصص الموعود بها على مذهب من قال بتنزيه
الأنبياء عليهم السلام عن الصغائر وأنهم لا يواقعون صغيرة من الذنوب ولا كبيرة وأن غاية
أقوالهم وأفعالهم التي وقع فيها العتاب من الله تعالى لمن عاتبه منهم أن يكون على فعل
مباح كان غيره من المباحات أولى منه في حق مناصبهم السنية
وسنبين ذلك في سياق الكلام إن شاء الله تعالى
فصل
فأما قولة داوود عليه السلام أكفلنيها فهذا بمعنى أنزل لي عنها بطلاق وأتزوجها بعدك
وهذا من القول المأذون في فعله وتركه ومباح أن يقول الرجل لأخيه أو صديقه انزل لي عن
زوجك بإضمار إن شئت وهذا بمثابة من يقول لصاحبه أو أخيه بع مني أمتك إن شئت وهذا
قول مباح ليس بمحظور في الشرع ولا مكروه ومن ادعى حظره أو كراهته في الشرع
فعليه الدليل ولا دليل له عليه كيف وقد جاء في
الصحيح أن النبي لما واخى بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف قال له
الأنصاري لي كذا وكذا من المال أشاطرك فيه ولي زوجان أنزل لك عن إحداهما فقال له
عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك أرني طريق السوق
ووجه الاستدلال بهذا الحديث قوله بين يدي النبي أنزل لك عن إحداهما فأقره النبي على
هذا القول ولم ينكره عليه وهو لا يقر على منكر وهو المعلم الأكبر صلوات الله عليه
وتسليمه فلم يبق إلا الإباحة لكن تركها بمعنى الأولى والأحرى في كمال منصب النبوة
كان أولى وأتم
وأما قوله وعزني في الخطاب أي غلبني فنزلت له عنها فهو غلب الحشمة لا غلب القهر
لعظم منزلة السائل في قلب المسؤول ولا غلب الحس بالقهر المنهي عنه فإنه ظلم
منهي عنه شرعا تتحاشى عنه الأنبياء عليهم السلام كما تقدم
فإن قيل كان داوود عليه السلام خليفة وصاحب سيف والمطلوب منه رعية ومن شأن
الرعية هيبة الملوك والمبادرة لقضاء حوائجهم لكونهم قاهرين لهم فيقضون حوائجهم باللين
خوفا من العنف والإكراه وفي سؤال داوود عليه السلام حمل على المسؤول من هذا الباب
قلنا صحيح ما اعترضت به إلا أن هذا الحمل على المسؤول لا يتصور إلا فيمن عهد منه
الظلم والغصب من الأمراء وأما من عهد نه العدل والإحسان كخلفاء الصحابة والتابعين لهم
بإحسان فلا يتصور ذلك في حقهم إذا منعوا المباحات وإذا لم يتصور ذلك في حقهم مع
عدم العصمة فما ظنك بالمعصومين المنزهين عن الخطايا تنزيه الوجوب كما تقدم فبطل
اعتراض هذه القولة في حق داوود عليه السلام في هذا الباب
وأما قوله للخصم لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ففيه اعتراض من وجه آخر نتخلص
منه ونرجع إلى ما نحن بسبيله
قالوا كيف يكون داوود عليه السلام من خلف الله في أرضه ويقطع على الظلم بقول الواحد
قبل أن يسمع قول الآخر
فالجواب عن هذا يتصور من وجهين
أحدهما أنه سمع من الآخر حجة لا تخلصه فقال للأول لقد ظلمك أو صدقه الآخر في قوله
فقال للأول لقد ظلمك
والثاني أن يقول لقد ظلمك بإضمار إن كان حقا ما تقول وهذا سائغ وأما أن يقول له لقد
ظلمك من غير أن يسمع حجة الآخر فهذا لا نسوغه في حق عاقل منصف فكيف في حق
من آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب
ألا ترى موقف يعقوب عليه السلام لما جاءه بنوه عشيا يبكون وهم جماعة فقالوا ما قالوا
فقال بل سولت لكم أنفسكم أمرا ولم يقبل أقوالهم ولا دموعهم بغير دليل فكيف يقبل
داوود عليه السلام قول الخصم من غير حجة حتى يقول له لقد ظلمك هذا لا يصح في
حقه وأما قوله للخصم لقد ظلمك فعنى به بخسك وغبنك في قول كان غيره من المباحات
أولى بك منه وحد الظلم في اللسان وضع الشيء في غير موضعه وقد قدمنا أن قول قائل
لغيره أكفلني زوجك ليس بظلم منهي عنه شرعا فلم يبق إلا ما ذكرناه في حقه
وأما قوله وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض
فيخرج البغي مخرج الظلم حرفا بحرف فإنه إذا ساغ في اللسان والمعتاد أن يسمى مالك
الكثير إذا طلب من المقل قليله ظالما فلا غرو أن يسمى باغيا
ولو أن رجلا كان له عبدان مطيعان له مستقيمان غاية ما يمكنهما من وجوه الاستقامة
فأحسن إلى أحدهما وأعطاه ووسع عليه ورفه معيشته ولم يحسن للآخر بعين ما ألزمه
الله مما يتعين للعبيد على السادة لسمى العقلاء هذا السيد ظالما باغيا من حيث إنه
أحسن لأحدهما ولم يحسن مع الآخر مع تساويهما في الطاعة والنصيحة والسيد مع هذا
التخصيص بالإحسان لأحدهما لم يأت في الشرع بمحظور ولا بمكروه بل كل ما فعل معهما
مباح له
فهذا وجه من وجوه التخلص من هذه الأقوال وأنها مباحة لقائلها وفاعل ما وقع منها من
غير أن يلحقه ذم من الشرع ولا ثلب
وأما قوله وقليل ما هم فمقصوده الأكابر الأفراد من المحسنين المؤثرين فإنهم يحسنون
في المباحات كإحسانهم في المشروعات فيتعاونون في العشرة ويتناصفون في الخلطة
كما قال تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ثم قال وقليل ما هم فإنهم الكبريت الأحمر وهذا آخر خطابه للملائكة
فصل
والذي يكمل به هذا التفسير ويعضده نكتة شريفة وذلك أن الله تعالى أخبر بما وقع بين
داوود عليه السلام وبين الخصم من محاورة ومراجعة
وأن ذكر التكفل والعزة في الخطاب كلامهما وما أخبر به تعالى عن قول قائل فليس هو في
الإلزام كالذي يخبر به عن نفسه وحكمه فمن أخبر تعالى أنه ظلم وغلب وبغى في
المشروعات فهو ظالم غالب باغ شرعا ومن أخبر تعالى أنه قال ظلمت وبغيت أو قال ظلم
زيد وغلب وبغى فقد يخبر عن حقيقة شرعية وعن مجازية عادية كما تقدم في مثال
السيد والعبد
وقد ثبت أن هذه الأقوال التي وقعت بين داوود عليه السلام وبين خصمه من المجازية
العادية وإذا كان ذلك لم يثبت بها حكم شرعي وإذا لم يثبت حكم لم تثبت طاعة ولا
معصية
قال تعالى وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا
لزلفى وحسن مآب
هذا الظن منه يحتمل أن يكون علما ويحتمل أن يكون ظنا على معنى الظن الذي هو التردد
في الشك مع الميل إلى أحد الطرفين
فإن كان بمعنى العلم فهو أنه لما علم أن الخصمين ملكان وأنه المقصود بالمثال وأنه فتن
أي اختبر وامتحن ببعض المباحات فعوتب إذ لم يصبر فيها صبر المؤثرين حتى قال ما قال
وفعل ما فعل فخر راكعا يعني ساجدا فإن الركوع والسجود يسمى كل واحد منهما باسم
الثاني وأناب أي تاب من ذلك ظاهرا وباطنا فأخبر تعالى أنه غفر له ذلك أي درأ عنه الطلب
فيما رأى هو أنه ذنب في حقه فترك الأولى كما تقدم
وإن كان حكمه على حكم الظن فيكون أنه غلب ظنه على أن الذي وقع منه فتنة يتعلق
فيها طلب إذ لله تعالى في صريح العقل أن يطلب ما شاء ويترك ما شاء فأخبر تعالى أنه لا
طلب عليه في ذلك
من كتاب
تنزيه الأنبياء
عما نسب إليهم حثالة الأغبياء
أبي الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي
تعليق