من قتل يوحنا المعمدان؟
“يوحنا المعمدان” تسمية يسمي بها أهل العهد الجديد Neues Testament نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام وذلك لتعميده أتباعه وغسلهم بماء نهر الأردن. يصف مَتَّى الإنجيلي يحيى عليه السلام بما يدل على زهده وتقشفه: أما لباسه فكان (مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ) (مَتَّى : 3 : 4)، وأما طعامه فكان (جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا) (مَتَّى : 3 : 4)، وأما صفته في سفر اشعياء فهي (صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً) (مَتَّى : 3 : 3). أما صفته في الكتاب المبين فقد أخبرنا الله عنها بقوله سبحانه: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران : 39) وغير ذلك من الصفات الرائعة فسلام على يحيى في العالمين.
الزعم بقتل يحيى عليه السلام
يقال أن الملك هيرودس كانت له ابنة أخ حسناء فأراد أن ينكحها، وكانت ـ وكذلك أمها ـ توافق على ذلك وتطلبه. كان القراءون من اليهود لا يرون بأسا في ذلك الزواج ولا يعتبرونه محرما في الشريعة الموسوية، بينما وقف الربانيون من اليهود ضد ذلك الزواج وعلى رأسهم يحيى عليه السلام كبير معلمي الشريعة ومرجعها وعارضه معارضة شديدة. بعد إحدى الرقصات ذات الإيحاءات الجنسية قامت بها سالومي في قصر عمها طلبت منه أن يكون مهرها هو رأس يوحنا المعمدان، فوافق على طلبها وزعموا أنه كان لها ما طلبت، فتم تقديم رأس يوحنا المعمدان لها على طبق من فضة وهكذا تم التخلص من زعيم الربانيين الرافضين لذلك النكاح المحرم وهو أن ينكح الرجل ابنة أخيه. إنها بالفعل قصة مؤثرة وقد صورها الرسامون بطريقة شديدة الإيحاء. لكن ما مدى صحة تلك القصة؟ أو على الأقل ما مدى صحة زعم قتل يحيى عليه السلام سواء أكان بسبب معارضته لذلك النكاح المحرم أم لسبب آخر؟ لنستجلي آيات الذكر الحكيم للوقوف على إجابة نطمئن إليها.
هل قُتِلَ يحيى أم مات؟
يفرق القرآن الكريم بين صورتين من صور الوفاة: الوفاة بالموت وهي الوفاة الطبيعية، والوفاة بالقتل وهي الوفاة الغير طبيعية. لذلك يقول الحق سبحانه في الكتاب: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ …) (آل عمران : 144) حيث فرق بين (القتل) و(الموت). إذا رجعنا مرة أخرى لدراسة الأخبار عن يحيى عليه السلام في الكتاب فإننا نقرأ ـ ضمن ما نقرأ ـ قول الله تعالى مخبرا عن يحيى عليه السلام: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (مريم : 12 - 15) والشاهد فيه قوله تعالى ـ والذي نزل بعد أكثر من خمسة أو ستة قرون على وفاة يحيى عليه السلام: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) والتركيز فيه على (وَيَوْمَ يَمُوتُ) ربط ذلك بقوله تعالى (سَلامٌ عَلَيْهِ) بما يوحي بأمرين، أولهما: أن يحيى عليه السلام توفي وفاة طبيعية بالموت وليس بالقتل. ثانيهما: أنه مات في حالة سلام وبسلام. من خلال استنطاقنا لآيات الكتاب المبين نطمئن إلى أن يحيى عليه السلام مات ولم يقتل ومن ثم فإننا نرفض تلك الأقاصيص والأساطير والأعمال الفنية التي تزعم قتل يحيى عليه السلام.
يحيى النبي الصالح والعبد الرباني
ميز الله سبحانه عبده يحيى بن زكريا عليهما السلام بمميزات رائعة تبعث في العقل والقلب تيارا من المحبة والاحترام والتبجيل لذلك السيد الجليل سلام الله عليه في الخالدين. من هذه المميزات في قوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (مريم : 12 - 15) أن الله سبحانه (آتاه الحكم صبيا) أي أنه وصل لمرحلة الحاكمية الشرعية / المرجعية الشرعية وهو في سن الصبا. يقول الله سبحانه عن تلك (الحاكمية) ما يلي: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء …) (المائدة : 44). فالله سبحانه وتعالى أنزل التوراة على واحد من خيرة المرسلين على الإطلاق، وهو عميد أنبياء بني إسرائيل، وجبل الشريعة ومرجعها وأستاذها، الجبل الأشم والبحر الخضم موسى عليه الصلاة والسلام. أنزلها وفيها هدى ونور ليسير عليها بنو إسرائيل وكان موسى عليه السلام يحكم بها ما حيا، وبعد موته انتقلت الحاكمية إلى النبيين الذين ساروا على هدي إمامهم عليه السلام في الحكم بالشريعة. استمر الأمر هكذا إلى أن وصلت تلك الحاكمية لنبي لم يجتز مرحلة الصبا إلا بعد أن أصبح حاكما بالتوراة ومرجعا إليها ومستفتى فيها ومن حكمائها ومحكميها وهو في تلك السن المبكرة … ذلكم هو يحيى بن زكريا عليهما السلام. إضافة لذلك الجانب النبوي والحاكمي والفكري في شخصية يحيى عليه السلام ميزه الله سبحانه بفيوضات ربانية قدسية، حيث آتاه (… حَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) فسلام الله عليه في الصالحين.
يحيى السيد والحصور
أما لفظ (سيدا) فيدل على السؤدد والسادة وهو الشرف والرئاسة القائمة على نبل الأصل وطيب المنبع ورفعة السلوك وعلو الأخلاق. وأما لفظ (حصورا) على وزن فعولا للمبالغة في (الحصر). يدل مفهوم (حصر) في لسان القرآن على معنى (الإحاطة) بالشيئ، ومنه قوله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ …) (البقرة : 196) أي: فإن أحيط بكم، بمعنى فإن أحاط بكم مرض أو عدو بعد أن شرعتم بالإحرام، فما استيسر من الهدي. فكلمات مثل: حصر، حصار، محصور، … الخ تدل كلها على معنى واحد أصيل هو الإحاطة. لذلك وصف الله سبحانه عبده يحيى عليه السلام بكونه (حصورا) بعد وصفه بكونه (سيدا) فعطف الأول على الثاني عطف خاص على عام لأن المنعة والحماية جزء من السيادة. إضافة للإحاطة والمنعة يدل اللفظ نفسه على الحيطة والحذر وهي الملكة التي تحيط بصاحبها فتحجزه عن الاندفاع والتسرع. امتدح الله سبحانه عبده يحيى عليه السلام بأنه سيد وحصور للدلالة على رئاسته في الخلق القويم، والسلوك المستقيم، والشرف والمنعة، فكأنه كالليث الهزبر يمنع الأذى عن أصحابه ويمنع الشرور عنهم، ويحيط بهم في موضع سؤدده ويمنعهم من الإضرار بالآخرين كما يمنع الآخرين من الإضرار بهم. هذا هو مفهوم (حصورا) كما جاء به الكتاب، وكل معنى آخر يخالف هذا المفهوم الأصيل مما فيه تعريض أو انتقاص فهو وهم من الأوهام إن لم يكن تخرص اللئام، لمخافته خير الكلام، كلام الحكيم العلام.
سلام على يحيى بدر التمام، سلام عليه في الأولين، وسلام عليه في الآخرين، وسلام عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
I
ولكن … من قال إنه قُتِلَ من الأصل؟
ولكن … من قال إنه قُتِلَ من الأصل؟
“يوحنا المعمدان” تسمية يسمي بها أهل العهد الجديد Neues Testament نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام وذلك لتعميده أتباعه وغسلهم بماء نهر الأردن. يصف مَتَّى الإنجيلي يحيى عليه السلام بما يدل على زهده وتقشفه: أما لباسه فكان (مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ) (مَتَّى : 3 : 4)، وأما طعامه فكان (جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا) (مَتَّى : 3 : 4)، وأما صفته في سفر اشعياء فهي (صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً) (مَتَّى : 3 : 3). أما صفته في الكتاب المبين فقد أخبرنا الله عنها بقوله سبحانه: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران : 39) وغير ذلك من الصفات الرائعة فسلام على يحيى في العالمين.
الزعم بقتل يحيى عليه السلام
يقال أن الملك هيرودس كانت له ابنة أخ حسناء فأراد أن ينكحها، وكانت ـ وكذلك أمها ـ توافق على ذلك وتطلبه. كان القراءون من اليهود لا يرون بأسا في ذلك الزواج ولا يعتبرونه محرما في الشريعة الموسوية، بينما وقف الربانيون من اليهود ضد ذلك الزواج وعلى رأسهم يحيى عليه السلام كبير معلمي الشريعة ومرجعها وعارضه معارضة شديدة. بعد إحدى الرقصات ذات الإيحاءات الجنسية قامت بها سالومي في قصر عمها طلبت منه أن يكون مهرها هو رأس يوحنا المعمدان، فوافق على طلبها وزعموا أنه كان لها ما طلبت، فتم تقديم رأس يوحنا المعمدان لها على طبق من فضة وهكذا تم التخلص من زعيم الربانيين الرافضين لذلك النكاح المحرم وهو أن ينكح الرجل ابنة أخيه. إنها بالفعل قصة مؤثرة وقد صورها الرسامون بطريقة شديدة الإيحاء. لكن ما مدى صحة تلك القصة؟ أو على الأقل ما مدى صحة زعم قتل يحيى عليه السلام سواء أكان بسبب معارضته لذلك النكاح المحرم أم لسبب آخر؟ لنستجلي آيات الذكر الحكيم للوقوف على إجابة نطمئن إليها.
هل قُتِلَ يحيى أم مات؟
يفرق القرآن الكريم بين صورتين من صور الوفاة: الوفاة بالموت وهي الوفاة الطبيعية، والوفاة بالقتل وهي الوفاة الغير طبيعية. لذلك يقول الحق سبحانه في الكتاب: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ …) (آل عمران : 144) حيث فرق بين (القتل) و(الموت). إذا رجعنا مرة أخرى لدراسة الأخبار عن يحيى عليه السلام في الكتاب فإننا نقرأ ـ ضمن ما نقرأ ـ قول الله تعالى مخبرا عن يحيى عليه السلام: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (مريم : 12 - 15) والشاهد فيه قوله تعالى ـ والذي نزل بعد أكثر من خمسة أو ستة قرون على وفاة يحيى عليه السلام: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) والتركيز فيه على (وَيَوْمَ يَمُوتُ) ربط ذلك بقوله تعالى (سَلامٌ عَلَيْهِ) بما يوحي بأمرين، أولهما: أن يحيى عليه السلام توفي وفاة طبيعية بالموت وليس بالقتل. ثانيهما: أنه مات في حالة سلام وبسلام. من خلال استنطاقنا لآيات الكتاب المبين نطمئن إلى أن يحيى عليه السلام مات ولم يقتل ومن ثم فإننا نرفض تلك الأقاصيص والأساطير والأعمال الفنية التي تزعم قتل يحيى عليه السلام.
II
(… سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران : 39)
(… سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران : 39)
يحيى النبي الصالح والعبد الرباني
ميز الله سبحانه عبده يحيى بن زكريا عليهما السلام بمميزات رائعة تبعث في العقل والقلب تيارا من المحبة والاحترام والتبجيل لذلك السيد الجليل سلام الله عليه في الخالدين. من هذه المميزات في قوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (مريم : 12 - 15) أن الله سبحانه (آتاه الحكم صبيا) أي أنه وصل لمرحلة الحاكمية الشرعية / المرجعية الشرعية وهو في سن الصبا. يقول الله سبحانه عن تلك (الحاكمية) ما يلي: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء …) (المائدة : 44). فالله سبحانه وتعالى أنزل التوراة على واحد من خيرة المرسلين على الإطلاق، وهو عميد أنبياء بني إسرائيل، وجبل الشريعة ومرجعها وأستاذها، الجبل الأشم والبحر الخضم موسى عليه الصلاة والسلام. أنزلها وفيها هدى ونور ليسير عليها بنو إسرائيل وكان موسى عليه السلام يحكم بها ما حيا، وبعد موته انتقلت الحاكمية إلى النبيين الذين ساروا على هدي إمامهم عليه السلام في الحكم بالشريعة. استمر الأمر هكذا إلى أن وصلت تلك الحاكمية لنبي لم يجتز مرحلة الصبا إلا بعد أن أصبح حاكما بالتوراة ومرجعا إليها ومستفتى فيها ومن حكمائها ومحكميها وهو في تلك السن المبكرة … ذلكم هو يحيى بن زكريا عليهما السلام. إضافة لذلك الجانب النبوي والحاكمي والفكري في شخصية يحيى عليه السلام ميزه الله سبحانه بفيوضات ربانية قدسية، حيث آتاه (… حَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) فسلام الله عليه في الصالحين.
يحيى السيد والحصور
أما لفظ (سيدا) فيدل على السؤدد والسادة وهو الشرف والرئاسة القائمة على نبل الأصل وطيب المنبع ورفعة السلوك وعلو الأخلاق. وأما لفظ (حصورا) على وزن فعولا للمبالغة في (الحصر). يدل مفهوم (حصر) في لسان القرآن على معنى (الإحاطة) بالشيئ، ومنه قوله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ …) (البقرة : 196) أي: فإن أحيط بكم، بمعنى فإن أحاط بكم مرض أو عدو بعد أن شرعتم بالإحرام، فما استيسر من الهدي. فكلمات مثل: حصر، حصار، محصور، … الخ تدل كلها على معنى واحد أصيل هو الإحاطة. لذلك وصف الله سبحانه عبده يحيى عليه السلام بكونه (حصورا) بعد وصفه بكونه (سيدا) فعطف الأول على الثاني عطف خاص على عام لأن المنعة والحماية جزء من السيادة. إضافة للإحاطة والمنعة يدل اللفظ نفسه على الحيطة والحذر وهي الملكة التي تحيط بصاحبها فتحجزه عن الاندفاع والتسرع. امتدح الله سبحانه عبده يحيى عليه السلام بأنه سيد وحصور للدلالة على رئاسته في الخلق القويم، والسلوك المستقيم، والشرف والمنعة، فكأنه كالليث الهزبر يمنع الأذى عن أصحابه ويمنع الشرور عنهم، ويحيط بهم في موضع سؤدده ويمنعهم من الإضرار بالآخرين كما يمنع الآخرين من الإضرار بهم. هذا هو مفهوم (حصورا) كما جاء به الكتاب، وكل معنى آخر يخالف هذا المفهوم الأصيل مما فيه تعريض أو انتقاص فهو وهم من الأوهام إن لم يكن تخرص اللئام، لمخافته خير الكلام، كلام الحكيم العلام.
سلام على يحيى بدر التمام، سلام عليه في الأولين، وسلام عليه في الآخرين، وسلام عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
تعليق