لا يستطيع المرء أن يلج هذه الحياة دون أن يعرف عن الزمن الذي يعيش فيه, فكان لا بدَّ من اعتماد أمور من شأنها أن تحفظ للإنسان وقته؛ لئلا يهيم في هذه الحياة, متخبِّطا في دياجير الضياع, وكان من الطبيعي أن يقع الاختيار على أمر عظيم في نفوس القوم وقتهم ذاك؛ فكان من الطبيعي أن يتخذ مولد عيسى بن مريم_ عليه السلام _مفصلاً في تاريخ البشرية؛ لما للمسيح_ عليه السلام _من مكانة وعظمة وحبٍّ في قلوب من صدَّقوه, وآمنوا به. وها نحن على أعتاب عام (2008) مـ.
وهكذا دأبت البشرية على هذا الحال, وقد كانت العرب تسلك مسلك التأريخ من حوادث ذي أهميِّة بالنسبة لديها. "وكانت العرب قديماً تورخ بالنجوم, وهو أصل قولك: نجمت على فلان كذا حتى يؤديه في نجوم"([1]). وزعم بعضهم أن أقدم التواريخ تاريخ القبط؛ لأنه بعد انقضاء الطوفان([2]).
وقد أرَّخ المسلمون منذ هجرة النَّبي محمد من مكة إلى المدينة المنوَّرة, وكان صاحب هذه الفكرة هو عمر بن الخطاب . وقد اعتمدت هذه السنة؛ لأنَّها ذو مكانة عظيمة في نفوس المسلمين, لقد كانت الهجرة مؤذنة بميلاد أمَّة الإسلام التي غيَّرت وجه التاريخ, وقد حكمت الأرض بعدل الإسلام ونوره أكثر من ثلاثة عشر قرنا, وقد تعرَّضت خلال هذه الفترة لهزَّات أثَّرت بها من أمثال الغزو الصليبي والمغولي لها, ومن خلال الثورات والقلاقل التي عاشتها, ولكن سرعان ما يبعث الله سبحلنه وتعالى لها من يعيد لها عزَّتها, إلا أنَّ المسلمين قد نكسوا نكسة لم يعهدوا مثلها من قبل, وهي إلغاء دولتهم عام 1924مـ, إذ إنَّه تآمرت بريطانيا مع الخون من العرب والأتراك؛ فأعلن مصطفى كمال إلغاء دولة الإسلام؛ فحلَّ بالمسلمين ما حلِّ بهم, والقلم يعجز عن التعبير...! وها نحن على أعتاب عام (1430) هـ.
ولعلَّ عام الفيل من أعظم الأحداث التي شهدتها الإنسانية, وأصل هذه الحادثة هو أنَّ أبرهة الحبشي بنى كنيسة عظيمة (القليس)؛ ليصرف حجَّ العرب من الكعبة إليها, فبلغه أنَّ رجلاً من كنانة قد أهانها بقضاء حاجته فيها؛ فاشتاط غضبا, وعزم على أن يدكَّ الكعبة (البيت الحرام) دكّا, وأن يرغم العرب على الحج؛ للقليس.
لمَّا بلغ أبرهة الحبشي حدود مكة, وكان قد صحب معه جيشاً عرمرما, بعث لعبد المطلب, "وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه ونزل عن سريره إليه وجلس معه على بساط وأجلسه إلى جنبه وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك ؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في إبلك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ؟ قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. وأمر برد إبله، فلما أخذها قلدها وجعلها هدياً وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب الله. وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج معه من مكة والتحرز في رؤوس الجبال خوفاً من معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقه باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة"[3]، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة, وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف والجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله، وكان اسمه محموداً، وأبرهة مجمعٌ لهدم البيت والعود إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي فمسك بأذنه وقال: ارجع محمود، ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ؟! ثم أرسل أذنه، فألقى الفيل نفسه إلى الأرض واشتد نفيل فصعد الجبل، فضربوا الفيل، فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض. وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه، فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلا هلك، ليس كلهم أصابت، وأرسل الله سيلاً ألقاهم في البحر وخرج من سلم مع أبرهة هارباً يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن[4]، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
وأصيب أبرهة في جسده؛ فسقطت أعضاؤه, عضواً عضواً حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصَّتهم في القرآن الكريم, فقال: ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ[, (الفيل: 1_5).
وقد علَّمتنا الحياة أن لا نمرَّ على الأحداث مرور الكرام, بل علينا أن نتأمَّل بها, ونفكر بها تفكيراً مستنيراً بقلبٍ محبٍّ للحق, ساعٍ لمعرفته, وبعد تأمَّل هذه الحادثة التي نقلت لنا بالتواتر الذي لم يبقَ معه مجال للشكِّ, ندرك أنَّها من أعظم دلائل النُّبوة؛ لأنَّ أبرهة الحبشي من أهل الكتاب, وأهل مكة عبدة أوثان, وما كان الله ليفضِّل أهل الشرك على أهل الكتاب.
إذن, ما حلَّ بأصحاب الفيل ليس مكرمة لأهل مكة, ولكنَّه دليل خرِّيت, وبرهان ساطع, وسلطان مبين, وحجَّة دامغة على صدق نبوَّة محمد e؛ ذلك أنَّ الذي حلَّ بأهل الكتاب إمَّا مكرمة للبيت العتيق, وإمَّا مكرمة لمولد النبي . فإن كانت المكرمة للبيت, فمحمَّد هو الذي أمر بالحجِّ له, وإن كانت لمولده؛ فلأنَّه رسول الله وخاتم النَّبيين.
لا جرم أنَّ في عام الفيل لذكرى لمن كان له قلب, أو ألقى السمع وهو شهيد.
لقد سبق أن كتبت هذا الموضوع باسم (الداعي).
[1] : الصفدي: الوافي بالوفيات. ج: 1, ص: 4.
[2] : م.ن: ج: 1, ص: 5.
[3] : ابن الأثير: الكامل في التاريخ. ج: 1, ص: 151.
[4] : م.ن: ج: 1, ص: 152.
وهكذا دأبت البشرية على هذا الحال, وقد كانت العرب تسلك مسلك التأريخ من حوادث ذي أهميِّة بالنسبة لديها. "وكانت العرب قديماً تورخ بالنجوم, وهو أصل قولك: نجمت على فلان كذا حتى يؤديه في نجوم"([1]). وزعم بعضهم أن أقدم التواريخ تاريخ القبط؛ لأنه بعد انقضاء الطوفان([2]).
وقد أرَّخ المسلمون منذ هجرة النَّبي محمد من مكة إلى المدينة المنوَّرة, وكان صاحب هذه الفكرة هو عمر بن الخطاب . وقد اعتمدت هذه السنة؛ لأنَّها ذو مكانة عظيمة في نفوس المسلمين, لقد كانت الهجرة مؤذنة بميلاد أمَّة الإسلام التي غيَّرت وجه التاريخ, وقد حكمت الأرض بعدل الإسلام ونوره أكثر من ثلاثة عشر قرنا, وقد تعرَّضت خلال هذه الفترة لهزَّات أثَّرت بها من أمثال الغزو الصليبي والمغولي لها, ومن خلال الثورات والقلاقل التي عاشتها, ولكن سرعان ما يبعث الله سبحلنه وتعالى لها من يعيد لها عزَّتها, إلا أنَّ المسلمين قد نكسوا نكسة لم يعهدوا مثلها من قبل, وهي إلغاء دولتهم عام 1924مـ, إذ إنَّه تآمرت بريطانيا مع الخون من العرب والأتراك؛ فأعلن مصطفى كمال إلغاء دولة الإسلام؛ فحلَّ بالمسلمين ما حلِّ بهم, والقلم يعجز عن التعبير...! وها نحن على أعتاب عام (1430) هـ.
ولعلَّ عام الفيل من أعظم الأحداث التي شهدتها الإنسانية, وأصل هذه الحادثة هو أنَّ أبرهة الحبشي بنى كنيسة عظيمة (القليس)؛ ليصرف حجَّ العرب من الكعبة إليها, فبلغه أنَّ رجلاً من كنانة قد أهانها بقضاء حاجته فيها؛ فاشتاط غضبا, وعزم على أن يدكَّ الكعبة (البيت الحرام) دكّا, وأن يرغم العرب على الحج؛ للقليس.
لمَّا بلغ أبرهة الحبشي حدود مكة, وكان قد صحب معه جيشاً عرمرما, بعث لعبد المطلب, "وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه ونزل عن سريره إليه وجلس معه على بساط وأجلسه إلى جنبه وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك ؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في إبلك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ؟ قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. وأمر برد إبله، فلما أخذها قلدها وجعلها هدياً وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب الله. وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج معه من مكة والتحرز في رؤوس الجبال خوفاً من معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقه باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة"[3]، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
يا ربّ لا أرجو لهم سواكا ... يا ربّ فامنع منهم حماكا
إنّ عدوّ البيت من عاداكا ... إمنـعهم أن يخربوا فناكا
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة, وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف والجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله، وكان اسمه محموداً، وأبرهة مجمعٌ لهدم البيت والعود إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي فمسك بأذنه وقال: ارجع محمود، ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ؟! ثم أرسل أذنه، فألقى الفيل نفسه إلى الأرض واشتد نفيل فصعد الجبل، فضربوا الفيل، فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض. وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه، فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلا هلك، ليس كلهم أصابت، وأرسل الله سيلاً ألقاهم في البحر وخرج من سلم مع أبرهة هارباً يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن[4]، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرّ والإله الطّالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب
وأصيب أبرهة في جسده؛ فسقطت أعضاؤه, عضواً عضواً حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصَّتهم في القرآن الكريم, فقال: ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ[, (الفيل: 1_5).
وقد علَّمتنا الحياة أن لا نمرَّ على الأحداث مرور الكرام, بل علينا أن نتأمَّل بها, ونفكر بها تفكيراً مستنيراً بقلبٍ محبٍّ للحق, ساعٍ لمعرفته, وبعد تأمَّل هذه الحادثة التي نقلت لنا بالتواتر الذي لم يبقَ معه مجال للشكِّ, ندرك أنَّها من أعظم دلائل النُّبوة؛ لأنَّ أبرهة الحبشي من أهل الكتاب, وأهل مكة عبدة أوثان, وما كان الله ليفضِّل أهل الشرك على أهل الكتاب.
إذن, ما حلَّ بأصحاب الفيل ليس مكرمة لأهل مكة, ولكنَّه دليل خرِّيت, وبرهان ساطع, وسلطان مبين, وحجَّة دامغة على صدق نبوَّة محمد e؛ ذلك أنَّ الذي حلَّ بأهل الكتاب إمَّا مكرمة للبيت العتيق, وإمَّا مكرمة لمولد النبي . فإن كانت المكرمة للبيت, فمحمَّد هو الذي أمر بالحجِّ له, وإن كانت لمولده؛ فلأنَّه رسول الله وخاتم النَّبيين.
لا جرم أنَّ في عام الفيل لذكرى لمن كان له قلب, أو ألقى السمع وهو شهيد.
لقد سبق أن كتبت هذا الموضوع باسم (الداعي).
[1] : الصفدي: الوافي بالوفيات. ج: 1, ص: 4.
[2] : م.ن: ج: 1, ص: 5.
[3] : ابن الأثير: الكامل في التاريخ. ج: 1, ص: 151.
[4] : م.ن: ج: 1, ص: 152.
تعليق