تويت
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
وجحدوا به واستيقنتها أنفسهم
من الحقائق التي ينبغي أن يدركها الداعية أنه ليس كل حق متبع، ولا كل حجة بالغة مصدقة، ولذلك مع وجوب أن يبذل المسلم الأسباب وأن يقدم الحجة والبرهان ليدحض الاتهامات والشبه الملفقة، إلا أنه لا يليق به أن يكون مثالياً أو أن يعيش في أحلام وردية كاذبة، فقد لا ينفع هذا الجهد كله، وقد لا يستطيع دحض الشبه أو إزالتها وإقناع الآخرين ببطلانها.
لقد أسمعت لو ناديت حــياً ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضـاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
ولو ناراً نفخت بها أضـاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
" إن عليك أيها الداعية أن لا تتوقع أن يوافقك الناس على رأيك، إذا كنت مصيباً وأقمت عليه الدليل واقتنعوا هم به، فالنفس الإنسانية مزيج عجيب من عوامل شتى منها عامل الهوى، فإذا سيطر الهوى على المرء فلا حجة ولا منطق ولا دليل.
وأوضح الأمثلة على صدق ما نقول هو ما حدث للأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا عبدة الأصنام من قومه، وبيّن لهم قولاً وعملاً أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة لأنها مصنوعة ولا تعقل ولا تستطيع رد الأذى عن نفسها، فاقتنعوا بكلامه، واعترفوا أنهم هم الظالمون، ونكسوا رؤوسهم ذلاً وخزياً، ولكن: هل اعترفوا له؟ لا، هل تركوه يذهب وشأنه؟ لا، لم يفعلوا شيئاً من ذلك، بل أرادوا إحراقه والقضاء عليه.
يقول الله تعالى: " قالوا أ أنت فعلت هذا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أُفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ".( الأنبياء: الآيات 62-68).
لقد أعوزتهم قوة الحجة فلجأوا إلى حجة القوة، وهذا مثال يتكرر على مر العصور.
وكذلك الحال في أمر يوسف الصديق عليه السلام، فبعد أن ظهرت أدلة براءته من التهمة التي وجّهتها له امرأة العزيز، بشهادة أهلها، وبعد اعترافهم بأنها مكيدة دبرتها له، سجنوه بضع سنين، قال تعالى: " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ".( يوسف: الآية 35).
وموسى عليه السلام أرسله الله سبحانه بالمعجزات القاطعة إلى فرعون وقومه، فعلموا يقيناً أنها من عند الله، ومع ذلك عاندوا وجحدوا الحق اعتداءً وتكبراً، ولذلك قال الله تعالى فيهم: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرةً قالوا هذا سحر مبين وجحدوا به واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ". (النمل: الآيتان 13-14)
فإذا لم يوافقك صاحبك على رأيك فلا تغضب، ولا تحاول أن تحمل الناس على ما تراه حقاً وصواباً، إذ " لا إكراه في الدين ".(البقرة: الآية 256). فمن باب أولى أن لا يكون إكراه في وجهات النظر.
كان الإمام مالك رحمه الله أثبت الأئمة في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوثقهم إسناداً، وقد ألّف كتابه " الموطأ" وتوخي فيه إيراد القوي من حديث أهل الحجاز، كما نقل ما ثبت لديه من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين وبوّبه على أبواب الفقه، فأحسن ترتيبه وأجاد تبويبه.
واعتبر " الموطأ " ثمرة جهد الإمام مالك أربعين عاماً، وهو أول كتاب في الحديث والفقه ظهر في الإسلام وافقه على ما فيه سبعون عالماً من معاصريه من علماء الحجاز.
ومع ذلك فحين أراد المنصور كتابة عدة نسخ منه، وتوزيعها على الأمصار وحمل الناس عليه حسماً للخلاف، كان الإمام مالك أول من اعترض وقال: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم، قال الخليفة: وفقك الله يا أبا عبد الله ".
وعندما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة، كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عاملاً له، وكانت وجهات نظرهما في المسائل تختلف، فهل حمل أمير المؤمنين عامله على رأيه؟ لا ، وهل غضب منه لمخالفته إياه؟ لا، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن ابن مسعود خالف عمر
في حوالي مائة مسألة. ( رواه أحمد والترمذي والحاكم)فلماذا أغضب أنا وتغضب أنت، ونريد أن نحمل الناس على رأينا، وهذا ما لم يفعله عمر بن الخطاب والإمام مالك بن أنس .
.ولكن ماذا تصنع لو سُدت عليك الأبواب، وهاجمتك الشبهات والتهم من كل حدب وصوب وأنت بريء من ذلك، ولم تجد لك حيلة في إزالتها وإقناع الناس بزيفها، أقول ماذا تصنع إذا حدث ذلك؟
إن الجواب لا يحتاج إلى ذكاء ولا فطنة بالنسبة للمسلم، بل هو أمر بدهي عنده، وهو اللجوء إلى من بيده خزائن السماوات والأرض إلى مصرّف القلوب والأبصار، إلى الذي أمره بين الكاف والنون، إلى الذي لا يخذل أحبابه ودعاته، إلى ملك الملوك، إلى من جهدنا له وبذلنا في سبيله، إلى الله رب العالمين، يصرفها كيفما شاء، إلى من وعده حق وهو لا يخلف الميعاد.
إذا ضاقت بك الأيام قهــــــراً فدم صبراً فضرٌ لا يـــــــــدوم
فبالصبر الجميل تنال أجــــراً وتقضي بعد ذلك ما تــــــروم
فكم من محنة عظمت ودامت وخان مواصل وجفا حـمــــيم
أتى فرج الإله لها صباحـــــاً فما أمسى الهموم ولا الغموم
إنها العلاقة الربانية الإيمانية التي ينبغي للمسلم أن ينطلق منها، إنه الإيمان المتصل بالسماء المرتفع عن حضيض الدنيا، إنه أغلى ما يملكه المؤمن، نعم، إنه الكنز الذي لا يقدر بثمن، بل هو أكثر من ذلك بكثير، إنها صرخة الأنبياء والمرسلين من قبلنا، وصدق الله إذ يقول على لسان شعيب:
" قال يا قوم أرأيتم إن كنتُ على بيّنة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وإليه أنيب ".( هود: الآية 88)
تعليق