منهج لدعوة غير المسلمين ## كيف تكون داعيا إلى الله ؟ ##

تقليص

عن الكاتب

تقليص

عبد الله بن يس مسلم اكتشف المزيد حول عبد الله بن يس
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الله بن يس
    2- عضو مشارك
    • 24 يون, 2007
    • 179
    • مسلم

    منهج لدعوة غير المسلمين ## كيف تكون داعيا إلى الله ؟ ##

    الشيخ الحبيب زكريا أبو مسلم حفظه الله و سدده..



    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته..



    لو تسمح لي بطرح بعض الأسئلة, للاستفادة من خبرتكم في مجال دعوة الكفار بمختلف مللهم, عسى الله أن ينفعني بها و إخواني, و تكون سببا في فتح مجالا للدعوة قد ظهر تقصيرنا تجاهه و لا حول و لا قوة إلا بالله..



    السؤال الأول:بالنسبة للعوام و طلبة العلم ممن لم يتخصص في علم مقارنة الأديان و انشغل بغيره من العلوم, هل من طريق لتفعيل دورهم في دعوة الكفار؟



    السؤال الثاني:بناء على خبرتكم في نقاش القوم, هل الأولى أن توجه دفة النقاش إلى بيان محاسن الشريعة الإسلامية, أم إلى نقض ملتهم و كتبهم؟



    السؤال الثالث:سمعت إحدى الفتاوى للشيخ الفوزان, ذكر فيها أن مناظرة رؤوس المبتدعة أنفع و أبلغ تأثيرا من مناظرة عوامهم, إذ لة قدر الله لبعضهم الهداية, لتبعه خلق كثير..


    هل لك أن تتناول هذا المعنى بشىء من البسط, من واقع خبرتكم في دعوة النصارى و اليهود و الوثنيين؟



    السؤال الرابع:هل من وسيلة لتفعيل دور كبار العلماء للمشاركة في هذا الباب؟



    السؤال الخامس:بالنسبة لشبهات للقوم..


    هل يعتمدون على شبهات أسلافهم, أم أنهم طوروا و جددوا فى مضمون الشبهات؟



    و إن كان ثم جديد في شبهاتهم, من الذي يتولى الرد عليها؟



    و هل تصدي بعض العلماء من أصحاب العقيدة السلفية لدحض هذه الشبهات, أم أنها جهود بعض المجدين من طلبة العلم؟



    السؤال السادس:ما هي الكتب التي تنصحون بها لمن أراد المشاركة في هذا الباب؟



    مع الأخذ في الاعتبار أن الطالب:


    -لا ينوي التخصص في هذا المجال.


    -ليس لديه سابق خبرة في هذا المجال, فيرجى مراعاة التدرج.



    السؤال السابع:ما رأي فضيلتكم في بعض من تصدر للدعوة إلى الإسلام في بلاد الغرب كأمريكا مثلا, و ليسوا على العقيدة السلفية الصافية..


    هل يؤثر ذلك على دعوتهم لغير المسلمين, فيتعين على طلبة العلم مناصحتهم و دعوتهم إلى العقيدة السلفية؟



    هذا ما جال بخاطري, و لو تتكرم و تتناول المزيد من المحاور على هذه الصفحة, أكن لك من الشاكرين..



    و أناشد إخواني أن يطرح كل منهم ما عنده من أسئلة لتعم الفائدة إن شاء الله.



    نحبكم في الله يا شيخ, و نسأل الله أن ينفع بك أينما حللتم.
  • عبد الله بن يس
    2- عضو مشارك
    • 24 يون, 2007
    • 179
    • مسلم

    #2
    رد الشيخ زكريا أبو مسلم



    السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته,

    أخي الحبيب بارك اللّه فيكم وأسأل اللّه أن يجمعنا وإيّاكم في جنّات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

    بالنّسبة إلى الأسئلة, فأريد أوّلاً أن أتكلّم في تحرير مختصر عن أمّهات هذا الفنّ, ثمّ أتبع بعد ذلك باستدراكات عن الأسئلة باذن اللّه تعالى.

    وهذا منهج علميّ يسير عليه من أراد أن الدّفاع عن الإسلام ودعوة اليهود والنصارى إلى التّوحيد, فأحببتُ أن أكتب هذا التأليف المُختصر, وقسّمتُه إلى ثلاثة أقسام:

    المبحث الأوّل: الخطوات العمليّة التي ينبغي للدّاعية إلى اللّه أن يسير عليها نحو التّخصّص
    المبحث الثّاني:وجه مخالفة دعوة أهل الكتاب دعوة غيرهم ممّن انتسب لأهل القبلة
    المبحث الثّالث: أصول المناظرة مع أهل الكتاب
    الأصل الأوّل: العقل والمنطق
    الأصل الثّاني: كتبهم المقدّسة
    الأصل الثّالث: التّاريخ والأخبار
    القسم الرّابع: القواعد المهمّة في مناظرة أهل الكتاب
    القاعدة الأولى: الإلزام
    القاعدة الثّانية: إظهار فساد الكتب المقدّسة السّابقة وتبيان تحريفها
    القاعدة الثّالثة: إثبات بشارات ونبوّة محمّد صلىّ الله عليه وسلّم من كتبهم المقدّسة

    وهذا أوان الشّروع في المقصود وأسأل اللّه تعالى التّوفيق والسّداد

    أوّلاً: دراسة آيات العقيدة في القرآن الكريم والتّمكّن في التّوحيد الذي هو دين الأنبياء جميعًا, واقصد بالتّوحيد هنا المُحكَم منه من حيث الاستدلال على وجود الله تعالى ووحدانيّته وإفراده بالعبودية ونفي الشّريك له من غير التّعمّق في مسائل الخلاف ممّا لا يُغني الانتفاع بها ابتداءًا.

    ثانيًا: دراسة قصّة المسيح عيسى عليه السلام في القرآن الكريم والآيات الواردة فيه وفي أمّه والإلمام بتفسير ذلك وما أشكل كمعرفة تفسير قوله تعالى: " وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ " وقوله:"وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا " وكقوله تعالى:"وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا " وكقوله تعالى:"إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ". فيجب على المسلم الإلمامَ بمعاني ذلك وبتفاسير أهل العلم في اللّغة والبيان, وذلك حتى يحصّن نفسَه من الشّبهات الخطيرة كقول القائل مثلاً أن المسيح هو كلمة الله وكلام الله غير مخلوق إذن المسيح غير مخلوق , وحيث أنّه ليس غير مخلوق إلا الله, فالمسيح هو الله, إلى غير ذلك من الشبهات التافهة لكن يعجز الإنسان أمامها إذا كان قليل العلم.

    ثالثًا: دراسة قصص الأنبياء في القرآن الكريم ودعوتهم إلى التّوحيد وعصمتهم وطهارتهم وثباتهم على الحقّ ومالاقوه في سبيل دعوتهم.

    رابعًا: قراءة ما كتبه أهل الإسلام في الرّدّ على أهل الكتاب خصّيصًا ومن ذلك:

    - الجواب الصّحيح لمن بدّل دين المسيح لشيخ الاسلام ابن تيمية
    - إظهار الحقّ للشّيخ رحمة الله الهندي
    - هداية الحيارى في الرّدّ على اليهود والنصارى لابن القيم الجوزية
    - الرّدّ الجميل على ألوهية عيسى بصريح الإنجيل لحجّة الاسلام أبي حامد الغزالي (مع تحفّظي على الكتاب وعدم النصح به للمبتدئ لإشكالات واقعة فيه)

    تلك أمّهات الكتب في هذا الباب دون أن أنسى كتب المعاصرين كفضيلة الشّيخ الدّكتور منقذ بن محمود السّقار, والشّيخ الدكتور سفر الحوالي والدّكتور أحمد حجازي السقا, والشّيخ الدّكتور محمد أبو زهرة وغيرهم كثير.

    خامسًا: وإن تعدّى الإنسان خطوة الملكة وحصل له تصوّر ومعرفة في الفنّ, أمكنه بعد ذلك من الاطّلاع على ما يثيره أهل الكتاب من شبهات حول الإسلام ويتعلّم الدّفاع عنه, ومن ذلك التّمكن من إثبات نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وإثبات إعجاز القرآن الكريم والدّفاع عن السّنة النّبوية, ومحاولات التّشكيك فيها, ومعرفة الدّفاع عن ذلك.

    سادسًا: وإن تعدّى الداعية ذلك استطاع عندئذ النّظر في كتب القوم وما كتبوا حول عقيدتهم والدّفاع عنها, فيستطيع بما حصل له من علم أن يردّ عليها, ويستطيع أيضًا النّظر في كتبهم المقدّسة وقراءتها والتفحّص فيها ومطابقة النّسخ وغيرها ممّا لا يُخشى عليه فتنة أو شبهة لأنّه أمنها.

    سابعًا: ويصاحب ذلك كلّه تقوى الله والإخلاص في الدّعوة إلى الله تعالى حتى يحصل المطلوب, وكذا التحلّي بخلق الاسلام في الدّعوة والمناظرة والجدال, ومعرفة أنّ الهداية بيد الله تعالى وأن الله يهدي من يشاء.

    لقد أفرد أهل العلم رحمهم الله تعالى مباحث خاصة في الرّد على أهل الكتاب من يهود ونصارى ومن خرج عن الملة الإسلامية, وجعلوا لهم خطابًا يختلف عمّا يُخاطَب به غيرهم ممّن انتسب إلى الملّة المحمّدّية, فإن طريقة مخاطبة أهل الكتاب ليست من جنس مخاطبة غيرهم من أهل الأهواء ممن انتسبوا لأهل القبلة, وذلك لوجهين:

    الوجه الأول: أن الشّبهة المتمكّنة ممّن انتسبوا لأهل القبلة يقع تصنيفها تحت إقرارهم وادّعائهم بكونهم من أمّة الإسلام إجمالاً, فالرّدّ عليهم ومخاطبة أولئك يكون بتبيان أصول الإسلام وإلزامهم بقبول الحقّ الذي جاء به القرآن الكريم ومحمّد صلىّ الله عليه وسلّم, فلا مناص لهم من إنكار هذا الإلزام لهم لأنهم ادّعوه, فهم أمام أمرين: إمّا الرّجوع إلى الحقّ والعدول عن مقولتهم في ذلك لوقوع الإلزام بما قرّروه في أصلهم وهو القرآن والسّنّة, وإما البقاء على ماهم عليه, إمّا لبقاء الشّبهة أو لاستحكام الهوى.

    الوجه الثاني: أن ضلالات أهل الكتاب إنّما هي ناتجة عن شبهة متمكّنة في اعتقادهم تخالف معقول أهل الإسلام وخارجة عن نطاقه, فلا وجه لإلزامهم بما يُلزَم به أهل الإسلام لاختلاف الأصول, ولذلك فإدراك شبهتهم هذه والإلمام بها من أهمّ المطالب التي ينبغي للداعي أن يهتمّ بها, وعلى هذا فدعوة انسان دون دين ودون شبهة هي أسهل الأمور لخلوّ عقله ونفسه من شائبات الاعتقادات, بخلاف من شاب على فساد عقيدة أو انحراف فطرة, فإن ذاك يوجب تخليتَه من اعتقاده وتبيان فساده أوّلاً, ثم تحليته بالحقّ المبين وإرجاعه إلى فطرة الدين القويم.

    ولا يعني هذا أن شبهة أهل الكتاب قد لا توجد في غيرهم من أهل الأهواء, فإن سبل الضلالة متداخلة متقاربة, وقد توافق مقولة أهل الأهواء مقولة أهل الكتاب, والكفر ملّة واحدة, لكنّ طريقة الدعوة والجدال تخلتف باختلاف ما تدّعيه كل فرقة من الفرق, و كلّما خلا جوف الإنسان من شبهة مُضلّلة كان إلى الفطرة أقرب, وكلّما كان قريبًا إلى الفطرة سهُل عليه تقبّل الإسلام وعقيدة التّوحيد الصافية, والعكس كذلك, فكلّما تمكّنت الشّبهة في نفسه كان أبعد إلى تقبّل الحقّ ورأيته يصدّ عنه صدودًا, وهذا حال أهل الكتاب, فإن شبهتهم مبنية على المكابرة ومعاندة العقول, ولذلك فالمتأمّل لما كتبه شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في ردوده على الفرق والطّوائف يدرك هذا الأمر, فإن شيخ الاسلام إذا سرد شبهة يشترك فيها من انتسب إلى أهل القبلة والنصارى, سعى إلى دحضها بالأدلّة النّقلية والنّصوص إلزامًا لأهل القبلة, ودحضها أيضًا بالحجج والأدلّة المنطقية والعقلية إلزامًا للفلاسفة وأهل الكلام أو المتأوّلين من الفريقين, كمسألة الحلول والاتحاد التي يشترك فيها بعض أهل الأهواء مع النصارى, كل بحسب مدركه.

    وأهمّ ما يجب على من أخذ هذا العلم على عاتقه معرفة أصلين اثنين وما يندرج تحتهما من مطالب:

    الأصل الأول: وهو المعرفة بشُبه أهل الكتاب وضلالتهم, والأصل الثاني: معرفة كيفية الوصول إليها ومناظرتهم فيها, فإن معرفة الشبهة وحدها لا يكفي وإنّما لا بدّ من معرفة طرق الوصول إليها من كيفية المناظرة والجدال وأساليبها, وطرق الوصول إلى قلب الإنسان لمحو شبهته وإزالتها بالحجة والبرهان, ومن ذلك معرفة واقع الإنسان ومجتمعه وكيفية معيشته وثقافته في بلده وكيفية تفكيره, فإن ذلك كلّه يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار من قِبل الداعي إلى الله تعالى حتى يصيب مكمن الدّاء ويقضي الله أمرًا كان مفعولاً, وكم هناك ممّن فتح الله عليه بالعلم لكنّه غاب عليه طرائق الوصول إلى الدعوة وأساليبها, فلم يستفد النّاس من علمه ولا استطاع تبليغ أمره.

    أما الأصل الأوّل فيتحقّق بالتّحصيل في طلب العلم من معرفة أحكام دين التّوحيد وشرعة الأنبياء وطريق دعوتهم والعلم بعلوم أهل الكتاب والنّظر في شبههم وضلالاتهم وكتبهم والإتيان على تناقضاتها وتحريفاتها, والأصل الثاني وهو المهمّ, هو المنهج الذي يجب أن يسير عليه المناظر الداعي إلى الله من أساليب شرعية, منهجية عقلية, يكون الوصول إلى الحق عن طريقها لا ينكره إلا مكابر طمس الله بصيرته. وليس لهذا المنحرف –إذن-بعد ذاك إلا الضلال والخزي والعار, وليس بعد إقامة الحجة بيان, وليس بعد العلم إعذار, أما الداعي إلا الله فقد رضي الله له بالتّبليغ والبيان, واطمأن قلبه بالإعذار, وسار على درب الأنبياء وإن أتى يوم القيامة ومعه الرّجُل والرّجُلان, وفوق كل هذا كله عُلم أن الله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء, وهو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.

    لماّ كان الإسلام هو دين الفطرة, وهو الدّين الذي يرتضيه أصحاب العقول السّليمة والفطرة الخالية من السّقم كان التحاكم مع من خالف الإسلام إلى العقل والمنطق والبرهان من أنجع وسائل الدعوة إلى الله تعالى لإقامة الحجّة.

    ولا شكّ أن دين أهل الكتاب من يهود ونصارى مبنيّ على أمور كانت في أوّل أمرها شبهات وخلافات منشؤها الغلوّ وتحكيم الشّهوة والشّبهة, لكنّها تطوّرت مع الزّمن لتصير مبنيّة على أصول وقواعد في دينهم هي التي تشدّ أعمدة بنيان عقيدتهم, فقد أدخل النصارى كثيرًا من الفلسفات والعلوم العقلية والكذب في دينهم وأصبحت عندهم من قبيل الأصول والمسلّمات, فتراهم مثلا صنّفوا المجلّدات الطّوال في إثبات التثليث بما يدكّ العقل دكًّا من أجل صياغتها الصّياغة العقليّة السّليمة, وهذا حال جميع أهل الأهواء والضّلالة, فإن الضّلالة تكون في أوّلها شبهة أو شهوة لتتطوّر وتصبح لها تأصيلا يُحتكم به وفنونًا تبنى عليه, ومن ثمّ كان منهج القرآن في التّعامل مع أهل الباطل من تبيان الحق والرّشد دعوة إلى التحاكم إلى الحقّ والفطرة بالحجة والبرهان من أجل أن يكون الدين كلّه لله, ولذلك قال الله تعالى:"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ", وهذا هو منهج الأنبياء والرسل, وهو نوع من الجهاد كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:" جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". قال ابن حزم رحمه الله: "وهذا حديث غاية في الصّحّة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنّفقة في سبيل الله", وقال أيضا في قوله تعالى:"وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ " ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجّة الصّادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصّحيحة لا تغلب أبداً فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمّة" ولذلك تصدّى لهذا الأمر الكثير من أهل العلم حديثًا وقديمًا ونبغ فيه من نبغ قديمًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وحديثا الشيخ العلامة رحمة الله الهندي, والذي كتابهما من أحسن ما صنّف في الباب, بل حتى ابن تيمية رحمه الله هناك من أنكر عليه دفاعه عن الإسلام والسنّة وردّه على أهل الأهواء من يهود ونصارى وغيرهم كما قال خليل الصفدي عنه:"… وضيّع الزّمان في ردّه على النّصارى والرافضة ومن عاند الدين وناقضه, ولوتصدّى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم لقلد أعناق أهل العلوم بدرّ كلامه النظيم" اهـ, ونحن نقول رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية, فقد قدّم للإسلام خدمات جليلة نسأل الله تعالى أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خيرًا جزيلا.ً

    أصول المناظرة مع أهل الكتاب

    أحسن ما يُتعامل مع كلّ صاحب عقيدة يظنّ أنّ الذي معه هو الحقّ هو أن تحاكمه إلى أصوله التي يرتضيها هو حكمًا, ويقبل بها ويقرّ بها عينًا, وكل عاقل ماش على هذه الأرض يقبل بهذا حكمًا, ومن هذا نستخلص الأصول التي نحاكم بها أهل الكتاب وإقرارهم بها ورضائهم بحكمها, فإن اليهود والنصارى بل كل ضالّ متأوّل في الديانة يعتقد أن الحقّ معه وأنّه على منهج العقلاء والحكماء, وأن دينه هو الحقّ والصّواب, حتىّ فيما بين الطوائف النّصرانية نفسها, فإن الكاثوليك يخطّئون البروتستانت, والبروتستانت يخطّئون الكاثوليك, وشهود يهوه يكفّرونهما معًا, وكتبهم في ذلك والردّ فيما بينهم كثيرة كبيرة, وكلّ في ضلال مبين, وهاهي أصول ثلاثة استعملها أهل العلم في الرّدّ على أهل الكتاب وجعلوا كتبهم وردودهم ومناظراتهم على أساسها, أبيّنها قبل أن أدقّق في تفصليها:

    الأصل الأوّل - العقل والمنطق : فإنّ أهل الكتاب يعتقدون أنّهم أصابوا الحقّ بما لديهم في دينهم ولا يزالون منذ رفع المسيح وتكوين لبنة الضّياع الأولى واختلاف الأحزاب فيه يحاربون ويصولون ويجولون ويبشّرون ويدعون إلى دينهم معتقدين أنّه الحق والصواب, وأنّ من خالفهم فقد خالف الحقّ المبين. وأصل ذلك قوله تعالى:"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ". ولا يظنّ أحد من النّصارى أنه مخالف للحق المبين أو العقل السليم وإنما يعتقد كامل اعتقاده أنه على الهداية المثلى وعلى الصراط المستقيم وغيره على ضلال مبين كما قال الله تعالى:" وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ " وما ذلك إلا للعمى المتمكّن على عقولهم وبصيرتهم فيرون أنفسهم على الحق.

    الأصل الثاني- كتبهم المقدّسة: وهو المعيار الثّابت عندهم ومصدر التلقّي والقبول في دينهم وعقيدتهم, ومن حكمة الله تعالى أن جعل في كتبهم ما يشهد لهم بالضلالة إلى يوم الدين, فإلزامهم بما في كتبهم وعرض عقيدتهم عليها من أصعب مراحل المناظرة عند النصارى, وهذا بالتجربة, فمن أصعب وقت النصراني حين تلزمه بقول في أصل من أصول اعتقاد ولا دليل عليه من كتابه أو يوجد دليل معارض له, فيرجع للتأويل على ما سيأتي تفصيله باذن الله. والأصل في ذلك قول الله تعالى:" وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ". تأمّل التّحدّي الوارد في الآية من طلبهم إتيان الدليل والبرهان لاثبات صدقهم, وإنمّا أمروا باثبات صدقهم وليس كلّ من قدّم برهانًا أو دليلاً كان صادقًا في دعواه وإلاً فقد حاولوا, فقد قدّموا كتابًا مقدّسًا ضخمًا يحتوي على ما يدّعون أنَه كلام الله مقدّس مصدّقين بصحّته إلى الله. أما وقد قدّموا دليلهم, فلننظر إلى ما ورد فيه وما جاء فيه من الاعتقاد والنبوات ونرى صحة ادعائهم ونحاججهم به.

    الأصل الثالث- التّاريخ والأخبار : إن ضلال النّصارى وانحرافهم إنمّا هو ناتج عن الكذب الحاصل لهم في رواية الأخبار, فينبني لهم على ذلك الكذب اعتقاد يسري في التاريخ, فمحاولة اثبات كذب التاريخ والروايات التي ينبني عليها اعتقادهم عنصر مهمّ لارجاعهم ذلك الاعتقاد, والأصل في ذلك من القرآن الكريم قول الله تعالى:" وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا" فما ادّعوه هو خلاف الواقع الحقّ والتّاريخ المبين, وإبطال كذب التّاريخ عندهم يزيل الشّبهة سواء كانت بغفلة أم بجهل كما في قوله تعالى:" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْـزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ"

    بعد ذكر تلك الأصول الثلاثة المهمّة التي يستعملها الدّاعية, يجب أن نبيّن القواعد والأدوات التي تجمع ذلك حتى يكون للداعي الملكة القوية التي تساعده على تقديم الحجة والبيان, وتمكنه من دحض حجج النصارى المناظرين واستعمال الأصول الثلاثة السابقة, لأن معرفة تلك الأصول وحدها من غير معرفة لأدوات استعمالها لا يفي بالمطلوب.

    القاعدة الأولى - قاعدة الإلزام:

    الإلزام هو جعل الخصم يقبل بالمقدّمات المسلّمة عنده أصولاً, لتظهر النَتيجة من الدّاعية بناء على المقدّمات التي أقرّها النّصراني احقاقًا للحقّ, ولا يُشترط بعد ذلك قبوله للنّتيجة, فإنّه إن قبلها فذاك منتهى الآمال ولله الحمد, لكن من أجل تبيان الحقّ ورجوعه إليه أبين وآكد خصوصًا عند علمه بفساد المقدّمات, وفساد المقدّمات ينتج عنه فساد النتيجة, فلو تأمّل العاقل النصراني في ذلك لعلم أنّ فساد النتيجة عنده ( وإلا فهي ليست بفاسدة عند الداعية وإنما هي عين الحق) لم يكن إلا لفساد إحدى المقدّمتين أو كليهما فيرجع عن ذلك, ومعلوم أن النتيجة تبتغي أخسّ المقدّمتين كما قال الشاعر:



    لا تنكحنّ إلا نجيبة معشر *** فالعرق دسّاس من الطرفين
    أوما ترى أن النّتيجة دائمًا *** تبغي الأخسّ من المقدّمتين


    وقال ابن رشد:" الغرض في المناظرة إظهار الصّواب، والغرض من الجدل والخلاف الإلزام‏" اهـ, فالإلزام منتهى الحجة, لأنه لو عارض بعد ذلك لا يكون إلا مكابرًا أو متهرّبًا أو ناقضًا لمسلّمات مقدّمتيه, ومثال ذلك في قوله تعالى:" فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ " فانظر كيف رجعوا إلى القول بفساد المقدّمة التي جعلها لهم إبراهيم عليه السلام إلزامًا لهم, فكانوا مستحقّين بعد ذلك ل :"أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ "

    ولا يفهمنّ أحد عندما يرى أحدًا من الدّعاة استعمال هذا الإلزام بتقرير مسلّمات المناظَر أنّه يقول بها, فإنّه ما استعملها إلاّ من أجل الوصول إلى المنطق السّليم في دحضها, كما لا يفهمنّ أحد من قول ابراهيم عليه السّلام قوله:"قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ " بأنه يعتقد بنطق الأصنام, فذلك ممّا لا يقول به عاقل, فطلب سؤال الأصنام لهم من ابراهيم تحدّيّ إلزاميّ, وهذا قد يخفى على الكثير من النّاس من الناّظرين لمثل هذه المناظرات, خصوصًا إذا لم يبيّن الدّاعية أنّه في موقع الإلزام, وهذه القاعدة هي أهمّ قاعدة اعتمد عليها المناظرون لأهل الكتاب, قال الشّيخ العلاّمة رحمة الله الهندي في إظهار الحق:" إنّي إذا أطلقت الكلام في هذا الكتاب في موضع من المواضع فهو منقول عن كتب علماء بروتستنت بطريق الإلزام والجدل, فإن رآه الناظر مخالفًا لمذهب أهل الإسلام فلا يقع في الشك"اهـ وقال في موضع آخر:" واعلم – أرشدك الله تعالى- إنّما نقلت الأقوال المسيحية وأوّلتها لأجل إتمام الإلزام وإثبات أن تمسّكهم بها ضعيف, وكذا ما قلت في أقوال الحواريين إنّما هو على تقدير تسليم أنّها أقوالهم, وعقيدتني أن المسيح والحواريين كانوا برآء من هذه العقيدة الكفرية يقينًا"اهـ وهي قاعدة جليلة جميلة, دامغة الحجّة, واضحة البيان, استعملها سيّد الحنفاء وأبو الأنبياء وعمدة المناظرين ابراهيم عليه وعلى نبيّنا أفضل الصّلاة والسّلام.

    فمنه قوله تعالى:" فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَفَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ " تأمّل إلزام ابراهيم لهم بكون تلك الكواكب آلهة, وكونها آلهة لا ينبغي لها أن تأفل, فإلزامهم بقبولهم بها آلهة وهو مسلّم عندهم مع اقتضاء الأفول يقتضي فساد كونها آلهة تستحق العبادة, فإما أن يقولوا إنها آلهة نعبدها وهي لا تأفل وقد ثبت أفولها, وإما أن يقولوا إنها آلهة نعبدها ولو أفلت, فحاجهم موسى.

    ومنه قوله تعالى في إبراهيم:"فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ " فإن إبراهيم عليه السلام ألزمهم تسليمًا بسماع تلك النجوم, فشكى لها سقمه ولم يكن سقيما لكن على وجه إلزامهم, فلما لم يستجيبوا أثبت لهم :"أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ "

    وهذا الأسلوب مفيد في نقض عقائد النصارى أصولاً كانت أم فروعًا, كنقض ألوهية المسيح وإثباته انسانيته, وإبطال صلبه وموته وغير ذلك من العقائد الفاسدة.

    القاعدة الثانية -إظهار فساد الكتب المقدّسة السّابقة وتبيان تحريفها:

    وأصل هذه القاعدة قوله تعالى:"وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ".ومعلوم عند كل عاقل أن كل كتاب يدّعي أنه سماوي وقع فيه الاحتمال سقط به الاستدلال, كتاب النصارى المقدسة مرجعهم الشّرعي, ومآلهم الديني وشعارهم, ويعتقدون أنه كلام الله موحى إليه إلى البشر, ورغم أن نظرة النّصارى إلى الكتاب المقدس تختلف من مذهب لآخر, إلاّ أنّهم يجمعون على مرجعيّته العليا, ويقبلون به حَكَمًا وملزمًا, فكان هذا مدخلاً يحسن استغلاله للرّدّ عليهم وعن عقيدتهم الكفرية. وإلزام النصارى بالكتّاب المقدّس نوعان:

    أولاً : ما علمنا أنّه حقّ فنخرجه لهم إلزامًا لهم ودعوةً لهم لاتّباعه, وأن مخالفتهم إياّه مخالفتهم لدينهم, ومن هذا جنس بشارات محمّد صلى الله عليه وسلم, وسأتكلّم عنها في القاعدة الثالثة.

    ثانيًا: ما لم يهمّنا كونه حقًّا أم باطلاً وإنما نخرجه لهم إظهارًا للتّناقض والتّحريف, والزّيادة والنّقصان والتّبديل والتغيير.

    وهذه قاعدة واسعة عريضة, ينبغي للدّاخل فيها أن يدخل بعلمٍ ودريّةٍ وميزان. قال ابن القيّم رحمه الله في إغاثة اللهفان:"التّوراة التي بين أيديهم في الحقيقة كتاب عزرا وفيها كثير من التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصّلاة والسّلام, ثم تداولتها أمّة قد مزّقها الله تعالى كل ممزّق, وشتّت شملها فلحقها ثلاثة أمور:

    أحدها: بعض الزّيادة والنقصان
    الثاني: اختلاف التّرجمة
    الثالث: اختلاف التّأويل والتفسير.

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح: كتبت التّوراة باثنتين وسبعين لغة. اهـ وبين شيخ الإسلام في مباحثه النفيسة أن دفعهم جواز تحريف التوراة بتعدّد لغاتها هذا هو أدلّ ما يدّل عليه التّبديل والتّحريف. وليت شيخ الاسلام رحمه الله رأى التّحريف الحاصل الآن في اللّغة الواحدة وفي الطّبعات المختلفة. وقال الشافعي رحمه الله في خطبة الرسالة:"والنّاس صنفان. أحدهما أهل الكتاب بدّلوا عن أحكامه, وكفروا بالله, فافتعلوا كذبًا صاغوه بألسنتهم, فخلطوه بحقّ الله الذي أنزل إليهم"اهـ ولذلك فلا يظننّ أحد أن كلّ التوراة باطل لا حقّ فيها, قال ابن القيم رحمه الله:"ونحن نذكر السّبب الموجب لتغيير ما غيّر منها, والحقّ أحقّ ما اتبع, فلا نغلو غلو المستهينين بها, المستمسخرين بها, بل معاذ الله من ذلك, ولا نقول: إنها باقية كما أنزلت من كل وجه إلا القرآن.اهـ

    ولذلك فكما سبق أن اعتبارية الكتب المقدّسة ليست من جنس كونها كلام الله, لكن باعتبارها تحمل بعض الحق الذي أنزله الله على موسى عليه السلام والذي يمكن محاجات أهلهم به, وكذلك يقال على كتب الأنبياء الأخرى. فإن قيل: كيف يجمع بين عدم كونها مقدّسة وبين فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الصّحيح عن ابن عمر حديث رجم اليهودي وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ائتوني بالتوراة, فأتي بها ونزع الوسادة من تحته, ووضع التوراة عليها, ثم قال آمنت بكِ وبمن أنزلكِ.. الحديث. ؟ فالجواب أنه يحتمل أن يكون الجزء الذي أتوا به إلى الرسول وفيه حكم الرجم لم يحرّف ولم تمسه يد التحريف, وقد حكم به عليهم, فدلّ ذلك على صحّة الحكم. وقد أجاد الشيخ رحمة الله الهندي في إثبات التحريف بجميع أنواعه وأسهب في ذكر الأمثلة الواسعة والدقيقة منها فرحمه الله رحمه واسعة. وماقيل عن التوراة يقال عن الإنجيل وكتب الأنبياء.

    وهذه القاعدة مهمّة أيضًا في زعزعة ثقتهم في كتابهم المتمسّكين به وإثبات وقوع التّحريف فيه فيعلم أن عقيدته شابها الانحراف بوقوع التحريف.

    القاعدة الثالثة - إثبات بشارات ونبوّة محمّد صلىّ الله عليه وسلّم من كتبهم المقدّسة:

    وهذه من أجلّ القواعد وأكملها في دعوة النّصارى إلى دين الإسلام, فحيث كانت القاعدتان السّابقتان تتعلّقان بالشّطر الأوّل من كلمة التّوحيد لاإله إلا الله من نفي الشّريك لله تعالى وإفراده بالألوهية والرّبوبية والعبودية له وحده, كان لازمًا إتباع هذا البيان بتبيان ما يكتمل به الإسلام وهو اتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم, إذ لا يكون الناجي ناجيًا إلاّ إذا آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلمّ, لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:" والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار". فالإيمان بما أنزل على محمّد خاتم الأنبياء لا يتحقّق الإسلام إلا به, ولا تنعقد النجاة إلا باتّباعه صلّى الله عليه وسلم, ولذلك اهتم أهل العلم ومن تولوا دعوة أهل الكتاب إلى التّركيز على هذه القاعدة أيمّا تركيز وأفردوا فيها مؤلفات, وتبيان أنّ الإسلام ليس دينًا بدعًا من الأديان, ولا كان محمّد بدعًا من الرّسل, وإنما هو دين جميع الأنبياء لا يسع أي ملّة تدّعي اتّباع نبيّ من الأبياء إلا أن تتّبع محمّدًا صلّى الله عليه وسلم, قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:" إنّا معاشر الأنبياء ديننا واحد, الأنبياء إخوة لعلاّت وأنا أولى الناس بابن مريم فإنه ليس بيني وبينه نبي"

    وقد ثبت جزمًا ذكر محمّد صلّى الله عليه وسلّم في كتبهم المتقدّمة كما صرّح بذلك القرآن الكريم, وثبت كذلك أن الأنبياء أخذوا الميثاق لئن جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ليؤمننّ به وليتبعنّ دينه, وكذا كل شريعة نبوية أتت جاء ذكره صلى الله عليه وسلم, وعلى الرغم من تحريف الكتب المقدّسة والأسفار النّبوية الكثيرة, لا تزال بحمد الله إشعاعات ذكر محمّد صلى الله عليه وسلم موجودة إمّا تلميحًا وإمّا تصريحًا, وقد قامت الحجّة عليهم من هذا الباب, فاليهود يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وهو مكتوب في كتبهم وأسفارهم, والنّصارى جحدوا نبوّته وآثروا الكفر والشرك المبين.

    هذا ما جاء في كتبهم من الدّلائل النقلية, أما في النّظر العقليّ فقد قال ابن القيّم رحمه الله:" لو لم يظهر محمد بن عبد الله-صلى الله عليه وسلم- لبطلت نبوّة سائر الأنبياء، فظهور نبوّته تصديقٌ لنبوّاتهم وشهادة لها بالصّدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله:" بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ "اهـ

    وأغلب النّصارى يتأوّلون ما جاء عن النّبيّ صلىّ الله عليه وسلّم في كتبهم ويصرفونه إلى غير معناه, فهم بذلك كافرون به, فالداعية عندما يثير فيهم هذه الدّلالات ويخرجها لهم ويبّين لهم أن محمّدًا صلى الله عليه وسلم هو امتداد لمسيرة النبوّة والرّسالة السّماوية ما يسعكم إلاّ أن تؤمنوا كما بشّر المسيح عليه السلام, فهذا ممّا يكون فاتحًا لقبولهم الحق وإيمانهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلم وقبولهم الإسلام.

    وهذه القاعدة مهمّة جدًا عند عقلاء النّصارى ومفكّريهم, فإن بعض طوائف النّصارى لاسيّما من مذهب الكاثوليك, يظهرون احترامهم للاسلام ولنبيّه صلّى الله عليه وسلم, لكنّهم يقولون أنّ اتّباعه ليس بملزم لنا وشرعنا كاف لنا وهو لم يبعث لنا وإنما بُعث للعرب, وقد فصّل شيخ الإسلام في الرّدّ على هؤلاء الطّوائف وأثبت أن اتّباع المسيح عليه السلام يقتضي اتّباع محمّد صلّى الله عليه وسلم .

    والنّصارى كونهم لا يؤمنون بالقرآن الكريم لا يمكن للدّاعية أن يُلزمهم بالإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلّم منه, بل يقتصر على ما جاء في نصوص الكتاب المقدس حول ذكر محمّد صلّى الله عليه وسلم, وهذا أدعى إلى تطييب أنفسهم لمكانة هذه الكتب عندهم, فإذا استطاع الدّاعية أن يكسب قلوبهم بالزامهم بما ثبت عندهم من نبوته, ودحض ما يتمسك به علماؤهم ومفسّروا هذه الكتب من تأويلات النّصوص التي جاءت في خاتم الأنبياء وصرفها عن معناها, وقع الإلزام في اتّباعهم لمحمّد صلى الله عليه وسلم, وكان مجال الإسلام أمامهم بينًا جلّيًا.

    هذا ما اقتضى المقام ذكرَه في هذا البحث, وأسأل اللّه تعالى أن ينفع به وأدعو من قرأه وعمل به أن يدعو لكاتبه بالمغفرة والثّواب, والحمد للّه ربّ العالمين.

    تعليق

    • عبد الله بن يس
      2- عضو مشارك
      • 24 يون, 2007
      • 179
      • مسلم

      #3
      تعريف بالشيخ زكريا أبو مسلم كتبه الأخ رضا صمدي

      الشيخ النابغه العلامة الفقيه الأصولي المثقف المتوسع المتبحر
      أبو مسلم زكريانور الدين بلخمزة الجزائري ... من اسرة مَعْنِيَّة بالعلم الشرعي .
      أتم حفظ القرآن في بلاده ودرس مبادئ العلوم الشرعية كالعقيدة والنحو والفقه
      وأصوله والقراءة على بعض مشايخ بلاده .
      ، ثم استوطن ماليزيا ...وأتم فيها دراسته الأكاديمية ... حيث تخصص في
      موضوع التجارة الإلكترونية ...ولكنه هاله ما تعج به ماليزيا من تنصير فشمر
      عن ساعد الجد وبحث ونقب في علم مقارنة الأديان ، مع ما تضلع من علوم
      الشريعة وساعده على ذلك مُكنته في اللغة الأنجليزية والفرنسية والماليزية
      فضلا عن العربية .. فتوسع في البحث والدراسة حتى يمكن اعتباره بحق مرجعا
      يعتمد عليه في نقض النصرانية .. وإن طال به العمر فسيكون له شأن في
      هذا الباب أي شأن ..
      شرفت بلقائه وصحبته بعض يوم وكنتُ قبل ذلك أعرفه عن طريق الشبكة ، فلم يكن
      الخبر كالعيان ...
      اما الهيئة فسيما أهل السنة الأقحاح ...
      وأما المحيا فجلال العلم وجمال الخلق ينطقان في كل قسمات وجهه ...
      وأما العلم والتوسع والإحاطة وسعة الأفق فلا يمكن أن نصفه في بعض
      كلمات ...
      هذا ومعرفتنا بالرجل ليست في كلمة أو كلمتين ، بل في البحوث التي نشرها
      في هذا المنتدى وغيره .. فكل منتسب للعلم يقرأ لهذا الرجل يعرف قدره ،
      فأسأل الله تعالى ألا أكون بخسته حقه ، أو أنزلته في غير منزله ..
      وما كتبت هذه الكلمات إلا وفاء بمكانة أهل العلم وحتى لا نكون من المتنكرين

      تعليق

      مواضيع ذات صلة

      تقليص

      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
      ابتدأ بواسطة العبادي محمد, 29 ماي, 2015, 03:27 م
      ردود 10
      2,324 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة محب المصطفى
      بواسطة محب المصطفى
      ابتدأ بواسطة معارج القبول, 27 ديس, 2010, 11:06 ص
      ردود 16
      10,515 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة عاشق طيبة
      بواسطة عاشق طيبة
      ابتدأ بواسطة ابنة صلاح الدين, 14 أبر, 2010, 09:38 م
      ردود 108
      32,308 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة محب المصطفى
      بواسطة محب المصطفى
      ابتدأ بواسطة محب المصطفى, 5 أكت, 2007, 03:21 ص
      ردود 4
      4,931 مشاهدات
      0 ردود الفعل
      آخر مشاركة محب المصطفى
      بواسطة محب المصطفى
      يعمل...