أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الأبرار الميامين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أسأل الله العظيم أن يتقبل منا جميعا صالح الأعمال وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم وأن يتوب علينا ويغفر لنا وأن يدخلنا الجنة بفضله ورحمته وأن يعتق رقابنا من النار اللهم آمين
قال الحافظ شيخ الإسلام الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي رضي الله عنه
اعلم أن هذا البابَ مهمٌّ جدَّاً، فأحببتُ تقديمه لعمومِ الحاجة إليه.
وقد صنَّف في هذا جماعة من أصحابنا، منهم أبو القاسم الصيمري شيخ صاحب الحاوي، ثم الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي، ثم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وكل منهم ذكرَ نفائس لم يذكرها الآخران، وقد طالعت كتب الثلاثة ولخصت منها جملة مختصرة مستوعبة لكل ما ذكروه من المهم، وضممت إليها نفائس من متفرقات كلام الأصحاب، وبالله التوفيق.
اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ; ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى.
وروينا عن ابن المُنكدر قال: "العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم".
وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة، نذكر منها أحرفاً تبركاً.
وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول". وفي رواية: "ما منهم من يحدث بحديث، إلا وَدَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: "مَنْ أفتى عن كلِّ ما يسأل فهو مجنون".
وعن الشعبي والحسن وأبي حَصِين -بفتح الحاء- التابعيين قالوا: "إن أحدَكَم ليفتي في المسألة ولو وَرَدَتْ على عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر".
وعن عطاء بن السائب التابعي: "أدركتُ أقواماً يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد".
وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان: "إذا أغفل العالم (لا أدري) أُصِيبت مقاتله".
وعن سفيان بن عيينة وسحنون: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً".
وعن الشافعي -وقد سئل عن مسألةٍ فلم يجب-، فقيل له، فقال: "حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب".
وعن الأثرم: سمعتُ أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: (لا أدري)، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه.
وعن الهيثم بن جميل: شهدتُّ مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري).
وعن مالك أيضاً: أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: "من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب".
وسئل عن مسألة فقال: (لا أدري)، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: (ليس في العلم شيء خفيف).
وقال الشافعي: (ما رأيتُ أحداً جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا).
وقال أبو حنيفة: (لولا الفَرَقُ من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيتُ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر).
وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.
قال الصيمري والخطيب: قلَّ من حرص على الفتيا، وسابق إليها، وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقُه، واضطرب في أموره، وإن كان كارهاً لذلك، غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة، وأحال الأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه أغلب.
واستَدَلاَّ بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنتَ عليها).
قال الخطيب: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمَنْ صَلحَ للفتيا أقرَّه، ومن لا يصلح منعه، ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عاد.
وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته، ويعتمد أخبار الموثوق به.
ثم روى بإسناده عن مالك -رحمه الله- قال: "ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك". وفي رواية: "ما أفتيت حتى سألتُ من هو أعلم مني: هل يراني موضعا لذلك" ؟
قال مالك: "ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه".
قالوا: وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع، مشهوراً بالديانة الظاهرة، والصيانة الباهرة.
وكان مالك -رحمه الله- يعمل بما لا يلزمه الناس، ويقول: :لا يكون عالماً حتى يعمل في خاصَّةِ نفسه بما لا يلزمه الناس مما لو تركه لم يأثم".
وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة.
شرط المفتي كونه مكلفاً مسلماً، وثقةً مأموناً متنـزِّهاً عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيهَ النفس، سليمَ الذهن، رصينَ الفِكر، صحيح التصرف والاستنباط، متيقظاً.
سواءٌ فيه الحرُّ والعبد والمرأة والأعمى، والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة، وجرّ نفع ودفع ضر، لأن المفتي في حكم مخبرٌ عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان كالراوي لا كالشاهد، وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي.
قال: وذكر صاحب الحاوي أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً صار خصماً حكماً معانداً، فتُردُّ فتواه على من عاداه كما ترد شهادته عليه.
واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين، ويجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه.
وأما المستور وهو الذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطناً، ففيه وجهان: أصحهما: جواز فتواه; لأنَّ العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة.
والثاني: لا يجوز كالشهادة، والخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين.
قال الصيمري: وتصح فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه، ونقل الخطيب هذا ثم قال: وأما الشرار والرافضة الذين يسبون السلف الصالح ففتاويهم مردودة وأقوالهم ساقطة.
والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهة، هذا هو الصحيح المشهور من مذهبنا، قال الشيخ: ورأيت في بعض تعاليق الشيخ أبي حامد أنَّ له الفتوى في العبادات، وما لا يتعلق بالقضاء، وفي القضاء وجهان لأصحابنا: أحدهما: الجواز; لأنه أهل، والثاني: لا; لأنه موضع تهمة.
وقال ابن المنذر: تكره الفتوى في مسائل الأحكام الشرعية وقال شريح: أنا أقضي ولا أفتي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أسأل الله العظيم أن يتقبل منا جميعا صالح الأعمال وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم وأن يتوب علينا ويغفر لنا وأن يدخلنا الجنة بفضله ورحمته وأن يعتق رقابنا من النار اللهم آمين
قال الحافظ شيخ الإسلام الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي رضي الله عنه
باب آداب الفتوى والمفتي والمستفتي
وقد صنَّف في هذا جماعة من أصحابنا، منهم أبو القاسم الصيمري شيخ صاحب الحاوي، ثم الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي، ثم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وكل منهم ذكرَ نفائس لم يذكرها الآخران، وقد طالعت كتب الثلاثة ولخصت منها جملة مختصرة مستوعبة لكل ما ذكروه من المهم، وضممت إليها نفائس من متفرقات كلام الأصحاب، وبالله التوفيق.
اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ; ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى.
وروينا عن ابن المُنكدر قال: "العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم".
وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة، نذكر منها أحرفاً تبركاً.
وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول". وفي رواية: "ما منهم من يحدث بحديث، إلا وَدَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: "مَنْ أفتى عن كلِّ ما يسأل فهو مجنون".
وعن الشعبي والحسن وأبي حَصِين -بفتح الحاء- التابعيين قالوا: "إن أحدَكَم ليفتي في المسألة ولو وَرَدَتْ على عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر".
وعن عطاء بن السائب التابعي: "أدركتُ أقواماً يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد".
وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان: "إذا أغفل العالم (لا أدري) أُصِيبت مقاتله".
وعن سفيان بن عيينة وسحنون: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً".
وعن الشافعي -وقد سئل عن مسألةٍ فلم يجب-، فقيل له، فقال: "حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب".
وعن الأثرم: سمعتُ أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: (لا أدري)، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه.
وعن الهيثم بن جميل: شهدتُّ مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري).
وعن مالك أيضاً: أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: "من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب".
وسئل عن مسألة فقال: (لا أدري)، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: (ليس في العلم شيء خفيف).
وقال الشافعي: (ما رأيتُ أحداً جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا).
وقال أبو حنيفة: (لولا الفَرَقُ من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيتُ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر).
وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.
قال الصيمري والخطيب: قلَّ من حرص على الفتيا، وسابق إليها، وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقُه، واضطرب في أموره، وإن كان كارهاً لذلك، غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة، وأحال الأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه أغلب.
واستَدَلاَّ بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنتَ عليها).
فصل
[وظيفة إمام المسلمين تجاه المفتين]
[وظيفة إمام المسلمين تجاه المفتين]
وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته، ويعتمد أخبار الموثوق به.
ثم روى بإسناده عن مالك -رحمه الله- قال: "ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك". وفي رواية: "ما أفتيت حتى سألتُ من هو أعلم مني: هل يراني موضعا لذلك" ؟
قال مالك: "ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه".
فصل
وكان مالك -رحمه الله- يعمل بما لا يلزمه الناس، ويقول: :لا يكون عالماً حتى يعمل في خاصَّةِ نفسه بما لا يلزمه الناس مما لو تركه لم يأثم".
وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة.
فصل
سواءٌ فيه الحرُّ والعبد والمرأة والأعمى، والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة، وجرّ نفع ودفع ضر، لأن المفتي في حكم مخبرٌ عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان كالراوي لا كالشاهد، وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي.
قال: وذكر صاحب الحاوي أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً صار خصماً حكماً معانداً، فتُردُّ فتواه على من عاداه كما ترد شهادته عليه.
واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين، ويجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه.
وأما المستور وهو الذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطناً، ففيه وجهان: أصحهما: جواز فتواه; لأنَّ العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة.
والثاني: لا يجوز كالشهادة، والخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين.
قال الصيمري: وتصح فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه، ونقل الخطيب هذا ثم قال: وأما الشرار والرافضة الذين يسبون السلف الصالح ففتاويهم مردودة وأقوالهم ساقطة.
والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهة، هذا هو الصحيح المشهور من مذهبنا، قال الشيخ: ورأيت في بعض تعاليق الشيخ أبي حامد أنَّ له الفتوى في العبادات، وما لا يتعلق بالقضاء، وفي القضاء وجهان لأصحابنا: أحدهما: الجواز; لأنه أهل، والثاني: لا; لأنه موضع تهمة.
وقال ابن المنذر: تكره الفتوى في مسائل الأحكام الشرعية وقال شريح: أنا أقضي ولا أفتي.
تعليق