الإشراق من سعير
تنبأ إشعياء بالرسالة الإلهية في سعير التي سبق وبشّر بها موسى، فقال: "وحي من جهة أرض السكوت: صرخ إليّ صارخ من سعير: يا حارس، ما مِن الليل؟ يا حارس، مِن الليل؟ قال الحارسُ: أتى صباح، وأيضاً ليل. إن كنتم تطلبون، فاطلبوا. ارجعوا! تعالوا!" (إش 21: 11-12).
وعبارة (أرض السكوت) في النص العبري דּוּמָה دُومَة، وهي التي اعتبرها المفسرون (أدوم)! وهذا غلط، فأدوم لم تـُذكَر إطلاقاً في الكتاب المقدس باسم دومة! وعلى فرض أن كلمة (دومة) هي اسم علَم، فهي أيضاً ليس لها علاقة بأدوم، بل هي اسم أحد أبناء إسماعيل (تك 25: 14)!
حينئذ فاعلم أن دومة هنا ليست اسمَ بلد، وإنما تعني (أرض السكوت) كما وردت بهذا المعنى عينه في (مزامير 94: 17؛ 115: 17)، وأطلقها إشعياء هنا مجازاً على أرض يهوذا التي غرقت في ظلمات الخطايا. وللحارس المذكور في هذه النبوءة سر خفيّ، قد أذكره في موضوع مستقل إن أحياني الله وإياكم.
والصباح المقصود في نبوءة إشعياء هو ظهور السيد المسيح الذي يبزغ في ظلام اليهود، ثم يعود اليهود من بعده ليزدادوا ظلمة على ظلمتهم. من أين جئنا بهذا الكلام؟
إنه كلام المسيح نفسه! فهكذا صرّح عندما جاء عليه السلام، فقال: "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل، حين لا يستطيع أحد أن يعمل. ما دُمتُ في العالم، فأنا نور العالم" (يو 9: 4-5). ولمّا شارفت حياته بينهم على الانقضاء، قال لهم: "النور معكم زماناً قليلاً بعد، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام" (يو 12: 35).
فاتضح أن نور الصباح المقصود به هو ظهور المسيح بالإنجيل مصداقاً لبشارة موسى بإشراق الرب من سعير لبني إسرائيل، ويظل بني إسرائيل من بعده في ظلمات الليل في انتظار تلألؤ الرب من جبل فاران. ولكن أين جبل فاران هذا؟
شريعة فاران المحمدية
لا خلاف على أن فاران هي سُكنى إسماعيل باعتراف التوراة: "وسكن في برية فاران" (تك 21: 21). ويبقى التخبّط والتعارض والمغالطة هي سبيل علماء الكتاب المقدس في تحديد موقع فاران هذه! فتراها على بعض الخرائط التي يضعونها في موضع غير الذي تضعها فيه خرائط أخرى؟ فما سرّ هذه التخبطات؟
السبب هو أنهم ظنوا فاران اسم بلد معين في جنوب فلسطين، ولم يُدركوا أن فاران هو اسم أطلقه عرب الشمال على البرّية الشاسعة الممتدة من العَقـَبة حتى مشارف اليمن بطول البحر الأحمر، وهي التي أطلق عليها العرب المتأخرون فيما بعد اسم "الحجاز" وتضمّ سلسلة جبال السراة الشهيرة. والعرب البائدة أطلقت على الحجاز (فاران) على اسم أحد زعماء العرب العماليق، وهو المسمى فاران بن عمرو بن عمليق بن لود بن سام بن نوح (تاريخ الطبري 1/76).
وكانوا يقطنون شمال الحجاز في منطقة العَقبة، وهي التي كانت تسمّى (أيلة)، وعُرفت في زمان سيدنا إبراهيم بـ (إيل فاران) (تك 14: 6)، نسبة إلى ذلك الزعيم العماليقي. وقصة العماليق معروفة في كتب التراث العربي وأنهم كانوا أسياد الحجاز شماله وجنوبه.
والسؤال هنا: هل فاران في سيناء أم أدوم؟ والجواب: لا في هذه ولا تلك! ولسنا نحن مَن نقول ذلك، بل يوسبيوس القيصري العالِم المسيحي، فقد نصَّ على أن (فاران) تقع في الصحراء العربية جنوباً إلى الشرق من أيلة:
Encyclopaedia Biblica, (Paran), p. 3584
يتبع إن شاء الله
تعليق