{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [النساء: 82]
إننا نكون بصدد "استعمال" شيء ما عندما نسند إليه خاصيّة معيّنة ، في قولنا مثلاً : «يرفض زيد أن يمتثل للأوامر» .
في حين أننا نتكلّم عن "ذكر" شيء ما في حالة إسناد خاصيّة معيّنة لاسم الشيء ، وليس للشيء ذاته ، في قولنا مثلاً : «هذه الجملة تتكوّن من ست كلمات» .
إذ يبدو الفرق واضحاً بين الجملتين . فالأولى تنتمي إلى اللّغة الشيئيّة ، لكونها تعيّن واقعة شيئيّة تتمثّل في رفض زيد أن يمتثل للأوامر . في الوقت الذي تطرح فيه الجملة الثانية بعض الصعوبات ، لأنها تتميّز بتسميتها لذاتها ، أي أنها انعكاسية وتقوم بوصف ذاتها وهي تعود في المنطق إلى ما يسمّيه العلماء بـ"الإحالة الذاتية"
وإن البحث عن الفرق بين هاتين الحالتين يجرّنا مباشرة إلى البحث عن المفارقات اللّغوية .
ولقد عاب القرآن الكريم إعراض المنافقين عن تدبّره ، في قوله تعالى :
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [النساء: 82] .
فلكون الرسالة المنبثقة منه سبحانه خالية من التناقض والاختلاف ، ولكونها متناسقة وثابتة في نصّها ، نعلم علماً يقينياً أنها من عنده سبحانه وتعالى .
وإن هذه الآية الكريمة وحدها فيها من الإعجاز القرآني ما يكفي للردّ على مطاعنهم . وكيف لا يكون كذلك ، وهي تصرّح بأن سلامة القرآن الكريم من الاختلاف والتناقض ، هو دليل على كونه من عند الله تبارك وتعالى ؟
نعود من جديد إلى الآية التي أخبرنا الله سبحانه وتعالى فيها ، أنه لو لم يكن هذا الكتاب من عنده ، لوجد فيه الذين يتدبّرونه «اختلافاً كثيراً» .
ونقول : لقد تمّ "استعمال" كلمة «اختلافاً» في العبارة القرآنية للدلالة على عدم وجود التناقض في كلامه تعالى .
ولكن في حالة إسناد كلمة «اختلافاً» إلى "ذكرها" في العبارة القرآنية ، نجد أنفسنا أمام أمر عجيب ، لأننا نحصل على صورة مغايرة تماماً لما نعهده في الكتب البشرية جمعاء .
فإذا أمعنت النظر في ذكر كلمة «اختلافاً» ، وليس في "استعمالها" ، أي في دلالتها المعنوية في الآية ، فستتجلّى لك الصورة التالية :
لو كان القرآن من تأليف البشر ، لوجدت أن "ذكر" كلمة «اختلافاً» ككلمة ، جاء فيه أكثر من مرة واحدة ، لأن كلمة «كثيراً» تفيد الكثرة ، وهي بالعادة أكثر من مرة واحدة .
والآن وبعد الرجوع إلى القرآن الكريم ، نجد أن كلمة «اختلافاً» جاءت بهذه الصيغة في كل القرآن الكريم مرة واحدة فقط ، وذلك في الآية التي نحن بصددها .
فلو كان هذا القرآن من عند غير الله ، «لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» ، كأن قد قيل : لو كان هذا القرآن من كلام البشر ، لوجدتم فيه أيها السادة أن كلمة «اختلافاً» "كذكر" لكلمة «اختلافاً» ، جاءت فيه أكثر من مرة واحدة . ولكن بما أن هذه الكلمة لم ترد بهذه الصيغة إلا مرة واحدة في كل القرآن ، فإن ما نقرؤه في القرآن الكريم هو حقاً كلام الله سبحانه وتعالى !
فهل يمكن لبشر أن يحيط بشيء من هذا القبيل ؟ لا يمكن ! ولماذا ؟ لأن البشر لا يستطيعون تصوير الحقائق بصورة مطلقة ، يستوي في ذلك ما كان معلوماً منها عندهم أو مجهولاً . وكلما اتسع إدراكنا لهذه الحقيقة ، تبيّن لنا أن التصوير المطلق للعبارات القرآنية يوحي بأن هذا الكتاب العظيم قادم من الملأ الأعلى ، وفيه من الإعجاز ما تنتهي الدنيا ولا ينتهي !
تعليق