نظرات نقدية حول الروح القدس والأقانيم في المسيحية (الجزء الأول)
تَشكَّل مرتكزُ العقيدة المسيحية رسميا من خلال المجمع المسكوني (الكوني / الدولي / العالمي / الكوكبي) الأول بمدينة نيقية Nicea ـ بتركيا ـ عام 325 م وقد عقد ذلك المجمع الدولي بناء على دعوة من الإمبراطور قنسطنطين الكبير بسبب إنتشار أفكار آريوس Arius ـ كاهن بالإسكندرية ـ والتي تنكر ألوهية المسيح وتقرر بأنه كان مجرد إنسان مخلوق. إنعقد ذلك المجمع والذي حضره ( 318 ) أسقفا ممثلين لجميع كنائس ذلك العصر برئاسة البابا السكندري الأنبا الكسندروس Alexander. قرر المجمع حرمان آريوس وتحريم تعاليمه وصياغة “قانون الإيمان” بصورته الأساسية والتي تتلى في جميع الكنائس حتى اليوم.
نص قانون الإيمان النيقاوي ترجمة عن اليونانية القديمة
[نؤمن بإلهٍ واحد، آبٍ قادر على كل شيء، صانع كل الأشياء المرئيّة واللامرئيّة. وبربٍ واحدٍ يسوع المسيح، ابن الله، مولود الآب الوحيد، أي من جوهر الآب،إله من إله، نور من نور، إلهٌ حق من إلهٍ حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي بواسطتهِ كل الأشياء وُجِدَت، تلك التي في السماء وتلك التي في الأرض.الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزلَ وتجسَّد، تأنَّس، تألَّم وقام في اليوم الثالث [و] صعدَ إلى السماوات، آتٍ ليدين الأحياء والأموات، وبالروح القدس. أما أولئكَ الذين يقولون: “كان هناك وقتٌ فيهِ {الكلمة} لم يكن”، و:”قبل أن يكون مولوداً لم يكن” وبأنّهُ وُجِدَ ممّا هو غير موجود أو يقولون عن كيان ابن الله أنهُ من شخص أو جوهرٍ آخر أو {أنه} مخلوق [ـ !] أو أنهُ متحولٌ أو متغَيِّرٌ، {أولئكَ} الكنيسة الجامعة تحرمهم.]
نلاحظ أن حرف الباء “بـ” في عبارة “نؤمن بـ” يتعلق بثلاثة متعلقات هي “بإلهٍ …” و”بربٍ …” و “بالروح القدس”. نلاحظ أن النص المطروح إستخدم لفظ “آب” كبدل نحوي من لفظ “إله” في حين أنه استخدم لفظ “يسوع” كبدل نحوي من لفظ “رب” بينما لم يستخدم “الروح القدس” كبدل لا للإله ولا للرب ولكنه تركه كمتعلق ثالث للإيمان دونما تكييف لطبيعته. نفس الشيئ نجده في الترجمة عن اللغة اللاتينية مع بعض الإختلافات في الألفاظ.
نص قانون الإيمان النيقاوي ترجمة عن اللاتينية
[نؤمن بإلهٍ واحد، آبٍ قادر على كل شيء، صانع كل الأشياء المرئيّة واللامرئيّة. وبربنا الواحد يسوع المسيح، ابن الله، مولود الآب الوحيد، أي من جوهر الآب، إله من إله، نور من نور، إلهٌ حق من إلهٍ حق، مولود غير مصنوع {مخلوق}، له جوهر واحد مع الآب (باليونانية يُقال لهُ "هوموأوسيون") الذي بواسطتهِ كل الأشياء صُنِعَتْ، ما في السماء وما في الأرض. الذي من أجل خلاصنا نزلَ، تجسَّد وتأنَّس وتألَّم وقام في اليوم الثالث [و] صعدَ إلى السماوات، آتٍ ليدين الأحياء والأموات، وبالروح القدس. أما أولئكَ الذين يقولون: »كان هناك {وقتُ} فيه {الكلمة} لم يكن» و:»قبل أن يولَد لم يكن» و«بأنّهُ صُنِعَ ممّا هو غير موجود» أو يقولون عن الله أنهُ من جوهرٍ أوكيانٍ آخر أو (أنه) متحولٌ أو متغَيِّرٌ، أولئك الكنيسة الجامعة تحرمهم]
نلاحظ أن الترجمة اليونانية ـ وهي أقدم الترجمات ولكنها ليست النسخة الأصلية ـ تستخدم تعبير “بربٍ واحدٍ …” بينما تستخدم الترجمة اللاتينية تعبير “بربنا الواحد …” وغير ذلك من الإختلافات. فيما يتعلق بموضوع بحثنا ـ الروح القدس ـ يظل تعلقه بلا تكييف من ألوهية ولا ربوبية. الترجمتان توضحان أن “الإيمان” المسيحي له ثلاثة متعلقات: (1) إله هو الآب (2) رب هو يسوع (3) الروح القدس. عدم تكييف “طبيعة” الروح القدس أدى إلى ظهور جدل لاهوتي استغرق أكثر من نصف قرن. نادى أسقف القسطنطينية ـ إسطنبول حاليا ـ واسمه مكدونيوس بأن الروح القدس “مخلوق” كالملائكة. دعا الإمبراطور تاودوسيوس الكبير إلى إنعقاد المجمع المسكوني الثاني والذي عقد بالعاصمة البيزنطية القسطنطينية Konstantinopel سنة 381 م وحضره ( 150 ) أسقفا ممثلين لجميع كنائس ذلك العصر برئاسة البابا السكندري الأنبا تيموثاوس. قرر المجمع حرمان الأسقف مكدونيوس وتحريم تعاليمه وصياغة “تكييف” لاهوتي خاص بالروح القدس.
نص قانون الإيمان القسطنطيني ترجمة عن اليونانية القديمة
[نؤمن بإلهٍ واحد، آبٍ قادر على كل شيء، خالق السماء والأرض، كل الأشياء المرئيّة واللامرئيّة. وبربٍ واحدٍ يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولودُ من الآب قبل كل الدهور، نورٌ من نور، إلهٌ حق من إلهٍ حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي بواسطتهِ كانت كل الأشياء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزلَ من السماوات وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنَّس، صلِبَ من أجلنا على عهد بيلاطس البنطي تألَّم وقبر وقام في اليوم الثالث بحسب الكتب وصعدَ إلى السماوات وهو جالسٌ عن يمين الآب، آتٍ ثانية في المجد ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناءَ لمُلكهِ. وبالروح القدس الرب المحيي، المُنبثِق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ لهُ ومُمجَّد، الناطق بالأنبياء. وبكنيسة واحدة، مقدسة، جامعة ورسولية؛ نعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وننتظر قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي. آمين].
نص قانون الإيمان القسطنطيني ترجمة عن اللاتينية
[... وبالروح القدس الرب المحيي، المُنبثِق من الآب والابن، الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ لهُ ومُمجَّد، الناطق بالأنبياء....]
التكييف الرسمي للروح القدس إنطلاقا من سنة 381 م هو:
(1) الرب المحيي
(2) المُنبثِق من الآب
(3) الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ لهُ ومُمجَّد
(4) الناطق بالأنبياء
لنلاحظ أن “تكييف” طبيعة الروح القدس لم يرد في الأناجيل الأربعة لمتى ومرقص ولوقا ويوحنا ولكن ورد بتقرير 150 أسقف في عام 381 م أي بعد أربعة قرون بعد المسيح.
الروح القدس في الترجمات
كان المسيح عليه السلام من أحفاد العبرانيين أي من بني إسرائيل وبنو إسرائيل ـ في ذلك الوقت ـ يتكلمون اللغة العبرية القديمة Althebraeisch وكان رجال الدين منهم يتكلمون باللغة الآرامية Aramaeisch والتي تعتبر اللغة الأصلية للتعاليم التي بثها المسيح في بني إسرائيل. إن المخطوطات الأصلية والوثائق مفقودة أو معدومة أو محجوزة ـ الله تعالى أعلم ـ ومن ثم يكون اللجوء في هذه الحالة إلى أقدم المخطوطات المنسوخة والتي كتبت ـ في موضوعنا ـ باللغة اليونانية القديمة Altgriechisch. إذا رجعنا لتلك اللغة وجدنا أن لفظ “الروح القدس” ترجم عن كلمة يونانية واحدة هي Πνευμα” وتقرأ ـ بالحروف اللاتينية ـ هكذا “Pneuma”. كلمة “Πνευμα” اليونانية القديمة معناها: النفس أو الروح أو الغاز أو الهواء. تم ترجمة كلمة Πνευμα” اليونانية القديمة إلى كلمة “Spiritum Sanctum” ونلاحظ أنهما كلمتان وليستا كلمة واحدة. من أين جاءت كلمة “Sanctum”؟ قد يكون لسبب متعلق بفيلولوجية اللغة اليونانية القديمة. إذا تركنا اللغات القديمة وانتقلنا إلى اللغات الحية المعاصرة نجد أن محرري نسخة الملك جيمس ـ وهي النسخة البروتستنتية ـ ونسخة الروم الكاثوليك أعطوا أفضلية لكلمة Ghost الإنجليزية والتي تعني “الطيف” بدلا من كلمة “Spirit” الإنجليزية وأصلها اللاتيني هو “Spiritum” والتي تعني “الروح” عندما يترجمون كلمة “Πνευμα” ومن ثم يكون الروح القدس هو Holy Ghost وبالألمانية هو Heiliger Geist . منقحو النسخة القياسية .R. S. V استبدلوا الآن لفظ “Ghost” بلفظ “Spirit” بينما بقي على حاله القديم في اللغة الألمانية مثلا. الحديث الآن يدور عن Holy Spirit وليس عن Holy Ghost كترجمة لكلمة يونانية قديمة واحدة هي “Πνευμα”.
مرتكز الإعتقاد المسيحي
الله ـ في المعتقد الرسمي المسيحي ـ هو واحد في “جوهره” مثلث في “أقانيمه”. مثلث الأقانيم ـ في المعتقد الرسمي المسيحي ـ هو الآب والإبن والروح القدس. وقبل أن نواصل الحديث جدير بنا أن نقف وقفة سريعة عند مصطلحي “جوهر” و “أقانيم”.
مصطلح “جوهر”
هذه الكلمة ـ جوهر ـ يكثر استخدامها بين الفلاسفة والمتكلمين في مبحث الجواهر والأكوان والأعراض. الجوهر عند الفلاسفة هو أصغر ما يشغل حيزا ويقوم بذاته أي بتعبير عصرنا “الجزيء” أو “الذرة” فكما يتكون الجسم من “ذرات” فهو يتألف من “جواهر” إذ الجسم عند الفلاسفة هو ما يتألف من جوهرين فأكثر. إذا تركنا الفلسفة وانتقلنا إلى إيثيمولوجية اللسان العربي نجد أن أقرب الكلمات للفظ “جوهر” هو الفعل الماضي الثلاثي “جهر” بمعنى “ظهر”. الجوهر بهذا يكون معناه “الظاهر” أي الشيئ الظاهر. إذا تركنا اللسان وإنتقلنا إلى اللاهوت Theologie نجد أن علماء اللاهوت يرادفون كلمة “جوهر” بكلمة “طبيعة”. على هذا الأساس يكون معنى قولهم “الله واحد في جوهره” أي أنه ذو طبيعة واحدة. جدير بالذكر ونحن نتكلم عن “الطبيعة” الإلهية هنا أن تلك المسألة كانت سببا في إنقسام الكنيسة المسيحية قديما وحديثا إلى قسمين إزاء قضية “طبيعة” المسيح: بينما تتبع الكنيسة الأرثوذوكسية الأم في الإسكندرية وما حذا حذوها من الأرمن والسريان ما سبق وقرره الأنبا أثناسيوس والأنبا كرلس من بعده بأن للمسيح “طبيعة” واحدة بعد “إتحاد” اللاهوت والناسوت، تقرر الكنيسة اللاتينية ـ قبل وبعد الإنشقاق ـ بأن للمسيح “طبيعتين”. بل أن أصحاب الرأي الأول إنقسموا قديما لقسمين حسب تكييف تلك الطبيعة الواحدة فبينما يرى أثناسيوس وأتباعه ـ وهم الأغلبية ـ أن تلك الطبيعة الواحدة بعد “إتحاد” اللاهوت والناسوت كانت بدون إختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير، رأى رئيس دير قنسطنطيني واسمه “أوطاخي” أنه حدث إمتزاج وإختلاط. بسبب هذا الإختلاف عقد الأسقف فلابيانوس أسقف القنسطنطينية مجمعا محليا لحرمان أوطاخي. تقدم أوطاخي بعد ذلك بإلتماس فانعقد بذلك مجمع إفسس المسكوني الثاني Ephesus عام 449 م برئاسة الأنبا ديسقوروس بابا الإسكندرية وقرر براءة أوطاخي بعد “رجوعه” عن مذهب “الإمتزاج” وقرر كذلك حرمان الأسقف فلابيانوس لقوله بمذهب “الطبيعتين”. ونظرا لعدم إعتراف الكنيسة اليونانية وكنيسة روما بهذا المجمع إنعقد مجمع آخر في مدينة خلقدونيا Chalkedon عام 451 م بناء على طلب من بابا روما وقرر هذا المجمع إلغاء قرارات المجمع السابق ومن ثم تبرئة الأسقف فلابيانوس وحرمان أوطاخي وعزل الأنبا ديسقوروس بابا الإسكندرية ونفيه. حدث إنقسام لاهوتي بشأن “جوهر” الإله الواحد بعد “إتحاد” اللاهوت والناسوت : فمن قائل بالطبيعتين إلى القائل بالطبيعة الواحدة وهؤلاء بدورهم ينقسمون قسمين: قسم يقول بعدم الإمتزاج وقسم بقول بالإمتزاج.
مصطلح “أقانيم”
كلمة “أقانيم” كلمة يونانية قديمة “υποστασες -” وبالأحرف اللاتينية “hypostases” ومفردها هو أقنوم “υποστασις-” وبالأحرف اللاتينية “hypostasis”. كلمة أقنوم اليونانية تتكون من مقطعين هما ” υπο-” ويعني “تحت” و “στασις” ويعني “نقطة الوقوف” فيكون المعنى التركيبي للكلمة هو “تحت نقطة الوقوف” بمعنى الترسُّب والترسيب، وهو المفهوم الذي استخدمه الفيلسوف اليوناني الكبير أرستوتاليس (أرسطو) Aristoteles. هل الأقانيم صفات لله؟ ينفي الأنبا أثناسيوس الرسولي السكندري Athenasios ذلك ويقرر (أن للآب أقنوما متميزا وللإبن أقنوما متميزا وللروح القدس أقنوما متميزا) وفق الإيمان المسيحي السرياني الذي ترجم كلمة “hypostasis” ـ في مفهومها السرياني - لمعنى “الذات المتميزة الغير منفصله” وهو المعنى الذي يخرج عن المعنى الإيثيمولوجي للكلمة بمفهومها اليوناني القديم.
تَشكَّل مرتكزُ العقيدة المسيحية رسميا من خلال المجمع المسكوني (الكوني / الدولي / العالمي / الكوكبي) الأول بمدينة نيقية Nicea ـ بتركيا ـ عام 325 م وقد عقد ذلك المجمع الدولي بناء على دعوة من الإمبراطور قنسطنطين الكبير بسبب إنتشار أفكار آريوس Arius ـ كاهن بالإسكندرية ـ والتي تنكر ألوهية المسيح وتقرر بأنه كان مجرد إنسان مخلوق. إنعقد ذلك المجمع والذي حضره ( 318 ) أسقفا ممثلين لجميع كنائس ذلك العصر برئاسة البابا السكندري الأنبا الكسندروس Alexander. قرر المجمع حرمان آريوس وتحريم تعاليمه وصياغة “قانون الإيمان” بصورته الأساسية والتي تتلى في جميع الكنائس حتى اليوم.
نص قانون الإيمان النيقاوي ترجمة عن اليونانية القديمة
[نؤمن بإلهٍ واحد، آبٍ قادر على كل شيء، صانع كل الأشياء المرئيّة واللامرئيّة. وبربٍ واحدٍ يسوع المسيح، ابن الله، مولود الآب الوحيد، أي من جوهر الآب،إله من إله، نور من نور، إلهٌ حق من إلهٍ حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي بواسطتهِ كل الأشياء وُجِدَت، تلك التي في السماء وتلك التي في الأرض.الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزلَ وتجسَّد، تأنَّس، تألَّم وقام في اليوم الثالث [و] صعدَ إلى السماوات، آتٍ ليدين الأحياء والأموات، وبالروح القدس. أما أولئكَ الذين يقولون: “كان هناك وقتٌ فيهِ {الكلمة} لم يكن”، و:”قبل أن يكون مولوداً لم يكن” وبأنّهُ وُجِدَ ممّا هو غير موجود أو يقولون عن كيان ابن الله أنهُ من شخص أو جوهرٍ آخر أو {أنه} مخلوق [ـ !] أو أنهُ متحولٌ أو متغَيِّرٌ، {أولئكَ} الكنيسة الجامعة تحرمهم.]
نلاحظ أن حرف الباء “بـ” في عبارة “نؤمن بـ” يتعلق بثلاثة متعلقات هي “بإلهٍ …” و”بربٍ …” و “بالروح القدس”. نلاحظ أن النص المطروح إستخدم لفظ “آب” كبدل نحوي من لفظ “إله” في حين أنه استخدم لفظ “يسوع” كبدل نحوي من لفظ “رب” بينما لم يستخدم “الروح القدس” كبدل لا للإله ولا للرب ولكنه تركه كمتعلق ثالث للإيمان دونما تكييف لطبيعته. نفس الشيئ نجده في الترجمة عن اللغة اللاتينية مع بعض الإختلافات في الألفاظ.
نص قانون الإيمان النيقاوي ترجمة عن اللاتينية
[نؤمن بإلهٍ واحد، آبٍ قادر على كل شيء، صانع كل الأشياء المرئيّة واللامرئيّة. وبربنا الواحد يسوع المسيح، ابن الله، مولود الآب الوحيد، أي من جوهر الآب، إله من إله، نور من نور، إلهٌ حق من إلهٍ حق، مولود غير مصنوع {مخلوق}، له جوهر واحد مع الآب (باليونانية يُقال لهُ "هوموأوسيون") الذي بواسطتهِ كل الأشياء صُنِعَتْ، ما في السماء وما في الأرض. الذي من أجل خلاصنا نزلَ، تجسَّد وتأنَّس وتألَّم وقام في اليوم الثالث [و] صعدَ إلى السماوات، آتٍ ليدين الأحياء والأموات، وبالروح القدس. أما أولئكَ الذين يقولون: »كان هناك {وقتُ} فيه {الكلمة} لم يكن» و:»قبل أن يولَد لم يكن» و«بأنّهُ صُنِعَ ممّا هو غير موجود» أو يقولون عن الله أنهُ من جوهرٍ أوكيانٍ آخر أو (أنه) متحولٌ أو متغَيِّرٌ، أولئك الكنيسة الجامعة تحرمهم]
نلاحظ أن الترجمة اليونانية ـ وهي أقدم الترجمات ولكنها ليست النسخة الأصلية ـ تستخدم تعبير “بربٍ واحدٍ …” بينما تستخدم الترجمة اللاتينية تعبير “بربنا الواحد …” وغير ذلك من الإختلافات. فيما يتعلق بموضوع بحثنا ـ الروح القدس ـ يظل تعلقه بلا تكييف من ألوهية ولا ربوبية. الترجمتان توضحان أن “الإيمان” المسيحي له ثلاثة متعلقات: (1) إله هو الآب (2) رب هو يسوع (3) الروح القدس. عدم تكييف “طبيعة” الروح القدس أدى إلى ظهور جدل لاهوتي استغرق أكثر من نصف قرن. نادى أسقف القسطنطينية ـ إسطنبول حاليا ـ واسمه مكدونيوس بأن الروح القدس “مخلوق” كالملائكة. دعا الإمبراطور تاودوسيوس الكبير إلى إنعقاد المجمع المسكوني الثاني والذي عقد بالعاصمة البيزنطية القسطنطينية Konstantinopel سنة 381 م وحضره ( 150 ) أسقفا ممثلين لجميع كنائس ذلك العصر برئاسة البابا السكندري الأنبا تيموثاوس. قرر المجمع حرمان الأسقف مكدونيوس وتحريم تعاليمه وصياغة “تكييف” لاهوتي خاص بالروح القدس.
نص قانون الإيمان القسطنطيني ترجمة عن اليونانية القديمة
[نؤمن بإلهٍ واحد، آبٍ قادر على كل شيء، خالق السماء والأرض، كل الأشياء المرئيّة واللامرئيّة. وبربٍ واحدٍ يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولودُ من الآب قبل كل الدهور، نورٌ من نور، إلهٌ حق من إلهٍ حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي بواسطتهِ كانت كل الأشياء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزلَ من السماوات وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنَّس، صلِبَ من أجلنا على عهد بيلاطس البنطي تألَّم وقبر وقام في اليوم الثالث بحسب الكتب وصعدَ إلى السماوات وهو جالسٌ عن يمين الآب، آتٍ ثانية في المجد ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناءَ لمُلكهِ. وبالروح القدس الرب المحيي، المُنبثِق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ لهُ ومُمجَّد، الناطق بالأنبياء. وبكنيسة واحدة، مقدسة، جامعة ورسولية؛ نعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وننتظر قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي. آمين].
نص قانون الإيمان القسطنطيني ترجمة عن اللاتينية
[... وبالروح القدس الرب المحيي، المُنبثِق من الآب والابن، الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ لهُ ومُمجَّد، الناطق بالأنبياء....]
التكييف الرسمي للروح القدس إنطلاقا من سنة 381 م هو:
(1) الرب المحيي
(2) المُنبثِق من الآب
(3) الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ لهُ ومُمجَّد
(4) الناطق بالأنبياء
لنلاحظ أن “تكييف” طبيعة الروح القدس لم يرد في الأناجيل الأربعة لمتى ومرقص ولوقا ويوحنا ولكن ورد بتقرير 150 أسقف في عام 381 م أي بعد أربعة قرون بعد المسيح.
الروح القدس في الترجمات
كان المسيح عليه السلام من أحفاد العبرانيين أي من بني إسرائيل وبنو إسرائيل ـ في ذلك الوقت ـ يتكلمون اللغة العبرية القديمة Althebraeisch وكان رجال الدين منهم يتكلمون باللغة الآرامية Aramaeisch والتي تعتبر اللغة الأصلية للتعاليم التي بثها المسيح في بني إسرائيل. إن المخطوطات الأصلية والوثائق مفقودة أو معدومة أو محجوزة ـ الله تعالى أعلم ـ ومن ثم يكون اللجوء في هذه الحالة إلى أقدم المخطوطات المنسوخة والتي كتبت ـ في موضوعنا ـ باللغة اليونانية القديمة Altgriechisch. إذا رجعنا لتلك اللغة وجدنا أن لفظ “الروح القدس” ترجم عن كلمة يونانية واحدة هي Πνευμα” وتقرأ ـ بالحروف اللاتينية ـ هكذا “Pneuma”. كلمة “Πνευμα” اليونانية القديمة معناها: النفس أو الروح أو الغاز أو الهواء. تم ترجمة كلمة Πνευμα” اليونانية القديمة إلى كلمة “Spiritum Sanctum” ونلاحظ أنهما كلمتان وليستا كلمة واحدة. من أين جاءت كلمة “Sanctum”؟ قد يكون لسبب متعلق بفيلولوجية اللغة اليونانية القديمة. إذا تركنا اللغات القديمة وانتقلنا إلى اللغات الحية المعاصرة نجد أن محرري نسخة الملك جيمس ـ وهي النسخة البروتستنتية ـ ونسخة الروم الكاثوليك أعطوا أفضلية لكلمة Ghost الإنجليزية والتي تعني “الطيف” بدلا من كلمة “Spirit” الإنجليزية وأصلها اللاتيني هو “Spiritum” والتي تعني “الروح” عندما يترجمون كلمة “Πνευμα” ومن ثم يكون الروح القدس هو Holy Ghost وبالألمانية هو Heiliger Geist . منقحو النسخة القياسية .R. S. V استبدلوا الآن لفظ “Ghost” بلفظ “Spirit” بينما بقي على حاله القديم في اللغة الألمانية مثلا. الحديث الآن يدور عن Holy Spirit وليس عن Holy Ghost كترجمة لكلمة يونانية قديمة واحدة هي “Πνευμα”.
مرتكز الإعتقاد المسيحي
الله ـ في المعتقد الرسمي المسيحي ـ هو واحد في “جوهره” مثلث في “أقانيمه”. مثلث الأقانيم ـ في المعتقد الرسمي المسيحي ـ هو الآب والإبن والروح القدس. وقبل أن نواصل الحديث جدير بنا أن نقف وقفة سريعة عند مصطلحي “جوهر” و “أقانيم”.
مصطلح “جوهر”
هذه الكلمة ـ جوهر ـ يكثر استخدامها بين الفلاسفة والمتكلمين في مبحث الجواهر والأكوان والأعراض. الجوهر عند الفلاسفة هو أصغر ما يشغل حيزا ويقوم بذاته أي بتعبير عصرنا “الجزيء” أو “الذرة” فكما يتكون الجسم من “ذرات” فهو يتألف من “جواهر” إذ الجسم عند الفلاسفة هو ما يتألف من جوهرين فأكثر. إذا تركنا الفلسفة وانتقلنا إلى إيثيمولوجية اللسان العربي نجد أن أقرب الكلمات للفظ “جوهر” هو الفعل الماضي الثلاثي “جهر” بمعنى “ظهر”. الجوهر بهذا يكون معناه “الظاهر” أي الشيئ الظاهر. إذا تركنا اللسان وإنتقلنا إلى اللاهوت Theologie نجد أن علماء اللاهوت يرادفون كلمة “جوهر” بكلمة “طبيعة”. على هذا الأساس يكون معنى قولهم “الله واحد في جوهره” أي أنه ذو طبيعة واحدة. جدير بالذكر ونحن نتكلم عن “الطبيعة” الإلهية هنا أن تلك المسألة كانت سببا في إنقسام الكنيسة المسيحية قديما وحديثا إلى قسمين إزاء قضية “طبيعة” المسيح: بينما تتبع الكنيسة الأرثوذوكسية الأم في الإسكندرية وما حذا حذوها من الأرمن والسريان ما سبق وقرره الأنبا أثناسيوس والأنبا كرلس من بعده بأن للمسيح “طبيعة” واحدة بعد “إتحاد” اللاهوت والناسوت، تقرر الكنيسة اللاتينية ـ قبل وبعد الإنشقاق ـ بأن للمسيح “طبيعتين”. بل أن أصحاب الرأي الأول إنقسموا قديما لقسمين حسب تكييف تلك الطبيعة الواحدة فبينما يرى أثناسيوس وأتباعه ـ وهم الأغلبية ـ أن تلك الطبيعة الواحدة بعد “إتحاد” اللاهوت والناسوت كانت بدون إختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير، رأى رئيس دير قنسطنطيني واسمه “أوطاخي” أنه حدث إمتزاج وإختلاط. بسبب هذا الإختلاف عقد الأسقف فلابيانوس أسقف القنسطنطينية مجمعا محليا لحرمان أوطاخي. تقدم أوطاخي بعد ذلك بإلتماس فانعقد بذلك مجمع إفسس المسكوني الثاني Ephesus عام 449 م برئاسة الأنبا ديسقوروس بابا الإسكندرية وقرر براءة أوطاخي بعد “رجوعه” عن مذهب “الإمتزاج” وقرر كذلك حرمان الأسقف فلابيانوس لقوله بمذهب “الطبيعتين”. ونظرا لعدم إعتراف الكنيسة اليونانية وكنيسة روما بهذا المجمع إنعقد مجمع آخر في مدينة خلقدونيا Chalkedon عام 451 م بناء على طلب من بابا روما وقرر هذا المجمع إلغاء قرارات المجمع السابق ومن ثم تبرئة الأسقف فلابيانوس وحرمان أوطاخي وعزل الأنبا ديسقوروس بابا الإسكندرية ونفيه. حدث إنقسام لاهوتي بشأن “جوهر” الإله الواحد بعد “إتحاد” اللاهوت والناسوت : فمن قائل بالطبيعتين إلى القائل بالطبيعة الواحدة وهؤلاء بدورهم ينقسمون قسمين: قسم يقول بعدم الإمتزاج وقسم بقول بالإمتزاج.
مصطلح “أقانيم”
كلمة “أقانيم” كلمة يونانية قديمة “υποστασες -” وبالأحرف اللاتينية “hypostases” ومفردها هو أقنوم “υποστασις-” وبالأحرف اللاتينية “hypostasis”. كلمة أقنوم اليونانية تتكون من مقطعين هما ” υπο-” ويعني “تحت” و “στασις” ويعني “نقطة الوقوف” فيكون المعنى التركيبي للكلمة هو “تحت نقطة الوقوف” بمعنى الترسُّب والترسيب، وهو المفهوم الذي استخدمه الفيلسوف اليوناني الكبير أرستوتاليس (أرسطو) Aristoteles. هل الأقانيم صفات لله؟ ينفي الأنبا أثناسيوس الرسولي السكندري Athenasios ذلك ويقرر (أن للآب أقنوما متميزا وللإبن أقنوما متميزا وللروح القدس أقنوما متميزا) وفق الإيمان المسيحي السرياني الذي ترجم كلمة “hypostasis” ـ في مفهومها السرياني - لمعنى “الذات المتميزة الغير منفصله” وهو المعنى الذي يخرج عن المعنى الإيثيمولوجي للكلمة بمفهومها اليوناني القديم.
تعليق