قراءة فيلولوجية في عبارة "إيلي إيلي لما شبقتني" (الجزء الأول)
أولاً: عبارة متَّى في الترجمة العربية
(وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) (متى 27 : 46)
ثانياً: عبارة مرقص في الترجمة العربية
(وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً:«إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) (مرقص 15 : 34)
من خلال المقارنة بين النصين نلاحظ الإتفاق حول تفسير اللفظ بقولهما: (إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟)، لكنَّا نلاحظ كذلك الإختلاف في اللفظ نفسه، أو بصورة أدق: في بعض أجزاء اللفظ، فمتَّى يقول: (إِيلِي، إِيلِي) بينما يقول مرقص: (إِلُوِي، إِلُوِي)
فما هي الحكاية؟
لما كانت أقدم نسخ العهد الجديد التي بين أيدينا مكتوبة باللسان اليوناني فلا مناص إذاً من العودة إليها.
ثالثاً: عبارة متَّى في النص اليوناني
(Ἠλὶ ἠλὶ, λιμᾶ σαβαχθανί) (Mt 27 : 46)
رابعاً: عبارة مرقص في النص اليوناني
(Ἐλωῒ Ἐλωῒ, λιμᾶ σαβαχθανί) (Mk 15 : 34)
فماذا نلاحظ؟
نلاحظ إتفاقاً حول الشطر الثاني من العبارة وهو (λιμᾶ σαβαχθανί) واختلافاً حول الشطر الأول منها، فمتَّى يقول: (Ἠλὶ ἠλὶ) وتنطق: إيلي إيلي، ومرقص يقول: (Ἐλωῒ Ἐλωῒ) وتنطق: إلوي إلوي،
فما هي الحكاية؟
إذا أخذنا لفظ الجلال "الله" بين العربية والآرامية والعبرية (المداخلة الثانية في هذا الشريط) في الإعتبار فيمكن تلخيص بعض ما تقدم من خلال النقطتين التاليتين:
- لفظ "إلهي" العربي والآرامي ولفظ "إلوهي" العبري بمعنى واحد وإن اختلفت طريقة التلفظ به.
- لا وجود للفظ "إلوي" لا في العربية ولا في الآرامية ولا في العبرية، وإنما نتج ذلك عن محاولة كتابة لفظ "إلوهي" العبري بالحروف اليونانية والتي تخلو أصلاً من حرف الهاء، إذ يستعيض عنه اليونان بعلامة spiritus asper، وذلك في أول الكلمة فقط. أما حرف H اليوناني فليس هو الهاء، كما في اللاتينية واللغات المشتقة منا مثل الإنجليزية، وإنما هو حرف الياء الممدودة حينما تأتي في أول الكلمة، فإن جاءت في وسطها أو آخرها رسمت هكذا η، أما حرف E اليوناني فهو كذلك ياء، إلا أن هذه قصيرة وتلك ممدودة. لذلك فإنه من غير الممكن رسم كلمة "إلوهي" العبرية بالحرف اليوناني، فتم كتابتها "إلوي" بإسقاط الهاء.
هذا عن "إلهي" و"إلوهي" و"إلوي"، فماذا عن "إيل"؟
معنى "إيل"
لنلاحظ كلمات مثل "اسرا - ئيل" و "جبرا - ئيل"، و"ميكا - ئيل" وغيرها، وتحديداً المقطع الثاني "إيل" في كل منها بحروفه الثلاثة الهمزة والياء واللام. هذا اللفظ عبارة عن كلمة عبرية وليست آرامية، وهي مشتقة من لفظ "إلاه" حيث تشترك معها في جميع الأحرف الساكنة إلا أنها تخلو من حرف الهاء، وتجمع على "إليم". يستخدم العبرانيون لفظ إيل אֵל بمعنى אֱלֹהּ، ويترجمها البعض إلى "رب" وهذا خطأ، لأنها مشتقة من "إلاه" فتترادف معها.
بناءاً على ذلك فإن لفظ "إلي" ولفظ "إلوهي" كلاهما عبري وليس آرامي ومقابلهما الآرامي هو "إلهي" كما في العربية تماماً.
بهذا نصل إلى ختام المباحث المتعلقة بلفظي "إيلي" الذي استخدمه متَّى، و"إلوهي" الذي استخدمه مرقص مرسوماً بالحرف اليوناني هكذا "إلوي"، فماذا عن "شبقتني"؟
شبقتني
علمنا مما تقدم أن لفظي "إيلي" و"إلوهي" عبريان وليسا آراميين، ومن ثم فإننا نتوقع أن لفظ "شبقتني" هو كذلك عبري، لكن توقعنا سيخيب هنا، لأن ذلك اللفظ آرامي وليس عبرياً! إنه تركيب مدهش جداً في واقع الأمر، إلوهي إلوهي ... شبقتني، فشطره الأول عبري بينما شطره الثاني آرامي، فما هي الحكاية؟
يتكون الفعل الآرامي الماضي الثلاثي المجرد שְׁבַק من ثلاثة أحرف هي الشين والباء والقاف، لكن الغريب هو أن الرسم اليوناني للفظ، كما تقدم، هو: σαβαχθανί حيث يبدأ بالسين وليس بالشين، فلماذا؟ السبب ببساطة أن كلاً من حرف الشين שׁ (النقطة على اليمين) والسين שׂ (النقطة على الشِمال) كان يكتب في العبرانية القديمة بدون نقطة أساساً، أي هكذا ש، مما أحدث خلطاً عن كتابة الحرف اليوناني فتمت كتابة اللفظ بالسين σ بدلا من الشين χ. أما الطريقة التي استخدمها الطِّبريّون في تنقيطهم فكانت بالشين، وليس عندنا في واقع الأمر دليل قاطع على هذا الأمر، فربما كانت تنطق فعلاً بالسين لا بالشين، أي "سبقتني"، وليس "شبقتني"، لكني سأعتمد هنا على النسخة القياسية ل Biblia Hebraica حيث تكتب بالشين كما في سفر دانيال مثلاً.
اخترتُ سفر دانيال لكونه السفر الوحيد، إضافة لسفر عزرا، الذي كٌتب جله بالآرامية، لا بالعبرية حيث وردت تلك المادة بصيغة المبني لما لم يُسمَّ فاعله (المبني للمجهول) في (Daniel 2 : 44) هكذا: תִּשְׁתְּבִק. أما معنى تلك الكلمة، شبق، في ذلك اللسان هو "ترك" كما تشير المعاجم القياسية مثل جيزينيوس مثلاً. لذلك يتم ترجمة الكلمة إلى "تركتني".
قرأتُ تعليقاً لكاتب عُماني "خميس العدوي" يقول فيه:
(أما نحن أهل عمان فنستخدم كلمة (شبق) بنفس المعنى الذي استخدمه "يسوع" وهو اللصق على الشيء، ومنه الصلب، فالذي يلصق على الصليب يقال له شبقت يداه على اللوح ... وأكيد هذا المعنى لا يعرفه الناطقون باليونانية؛ فهو لهجة من لهجات العرب التي لا تزال موجودة عندنا في عمان، أو في كثير من مناطقها).
لفتَ ذلك الكلام انتباهي وأثار عندي فضولاً علمياً لم أستطع مقاومته لمزيد من البحث لمقاربة ذلك اللفظ، فماذا وجدتُ؟ لقد وجدتُ نصين مهمين لهما ارتباط وثيق بتلك الكلمة:
أولهما: نص النبي دانيال الآرامي والذي جاءت فيه مادة تلك الكلمة فعلاً بمعنى يدل على الترك، ترجمته العربية هي: (وَفِي أَيَّامِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ، يُقِيمُ إِلهُ السَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا، وَمَلِكُهَا لاَ يُتْرَكُ لِشَعْبٍ آخَرَ، وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ، وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ.) (دانيال ٢ : 44)، والشاهد فيها كلمة "يترك" أي "تشتبق" بالآرامية. أما معنى اللصق ومشتقاته فسيبدو غير منسجم في السياق.
ثانيهما: نص عجيب، لكنه نص عبري وليس آرامياً، وترجمته العربية هي: ( إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي ...) (مزامير 22 : 1)، حيث يكاد يتطابق، بل هو متطابق فعلاً في الترجمة العربية، مع نصي متَّى ومرقص، علماً بأن ذلك النص في العهد القديم وذانك النصان في العهد الجديد، فما هو الجديد؟
الجديد هو أن اللفظ المستخدم في المزامير هو:
(אֵלִי אֵלִי לָמָה עֲזַבְתָּנִי) (Ps 22 : 1)
أي "إيلي إيلي لما عزبتني"، باستخدام حرف الزاي "ز" وليس حرف الذال "ذ"، لكن الدارس للغات السامية يعلم أن العبرانيين يستخدمون حرف الزاي للإشارة بدلاً من الذال، لذلك فليس ببعيد أبداً، من وجهة نظر فيلولوجيا اللسان العبري، أن يكون اللفظ المشار إليه هو "عذبتني". جدير بالذكر أن بعض النسخ العربية تستخدم لفظ "أصبتني" وهو خطأ، لأن النص العبراني الأصلي يخلو من الألف والصاد، بل يستخدم العين والزاي (الذال).
بذلك نصل إلى "نظرية" مدهشة وممتعة توفق بين الآراء جميعها، وذلك لو قرأنا النص الآرامي لمتَّى مثلاً في ضوء النص العبري للمزمور الثاني والعشرين. إن فعلنا ذلك وقمنا بمضاهاة الكلمة الآرامية "شبقتني" مع الكلمة العبرية "عذبتني" وجدنا أن كلام الكاتب العُماني خميس العدوي ينسجم تماماً مع السياق المذكور في سفر دانيال، لأن ترك المملكة هنا ليس تركاً عادياً، وإنما هو ترك للعذاب، لذلك جاءت مفردات دالة على ذلك عند دانيال مثل "فَتَتَسَلَّطُ"، "يَدُقُّ وَيَسْحَقُ"، "يُكَسِّرُ تَسْحَقُ وَتُكَسِّرُ"، وغير ذلك من الألفاظ الدالة على العذاب.
حتى في اللغة العربية، سواء اللهجة العمانية أو الفصحى، تدل مادة "شبق" على العذاب، فشدة الإغتلام الجنسي مثلاً هو عذاب، معنوي ومادي، لذلك سمي شبقاً.
نقطة أخرى أود الإشارة إليها وهي أنه لا يلزم من ذلك أن القائل "شبقني" هو عربي اللسان، وذلك لاشتراك اللسان العربي مع اللسانين العبري والآرامي في كثير من المفردات، حيث أنها جميعاً أغصان دوحة واحدة هي دوحة اللغات السامية، وإن كان ليس ببعيد أن تكون العربية هي أصلها، والباقي فروعها.
وجه آخر حول جملة "عزبتني"
هناك وجه ثانٍ لتفسير جملة "عزبتني" يتعلق بإمضاء اللفظ على ظاهره، أي بحرف الزاي، دونما حاجة لافتراض وجود حرف الذال. ربما يختلف القالبُ الجديد مع ما تقدم إلا أن قلبَه يستوعب ما مرّ. لنقرأ قول الله تعالى في البلاغ المبين:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (سبأ : 3)
والشاهد فيه هو فعل "يعزب" فما معناه؟ الفعل العربي الماضي الثلاثي المجرد عَزَبَ يَعْزُبُ معناه: بَعُد، و في الحديث: "من قرأ القرآن في أربعين ليلة فقد عزب" أي بعُد عهدٌه بما ابتدأ منه و أبطأ في تلاوته. يدل هذا الفعل في اللسان العربي على معاني البعد والهجر والترك وما إلى ذلك.
نفسُ المعنى العربي يحمله الفعل العبري الماضي الثلاثي المجرد עָזַב، بالعين الممدودة (حركة مد طويل) والزاي المحدودة (حركة مد قصير) والباء الساكنة، أي معنى الترك والتخلي. من هنا يصح إمضاء لفظ "عزبتني" العبري الوارد في المزمور الثاني والعشرين بمعنى "هجرتني" أو "تركتني".
الجمع بين الوجهين
أما الوجه الأول فهو: "عزبتني" معناها "عذبتني" بافتراض أن الزاي هنا ذالاً. وأما الوجه الثاني فهو: "عزبتني" معناها "تركتني" أو "هجرتني"، والجمع بينهما أن يكون المقصود هو "الهجر المفضي إلى العذاب" أو "العذاب المتولد عن الهجر"، والعذاب قسمان، عذابٌ معنوي كهجران المحبوب، وهو المعنى الغالب في المزمور، وعذابٌ مادي كالألم، وهو المعنى الغالب عند متَّى ومرقص.
أولاً: عبارة متَّى في الترجمة العربية
(وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) (متى 27 : 46)
ثانياً: عبارة مرقص في الترجمة العربية
(وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً:«إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) (مرقص 15 : 34)
من خلال المقارنة بين النصين نلاحظ الإتفاق حول تفسير اللفظ بقولهما: (إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟)، لكنَّا نلاحظ كذلك الإختلاف في اللفظ نفسه، أو بصورة أدق: في بعض أجزاء اللفظ، فمتَّى يقول: (إِيلِي، إِيلِي) بينما يقول مرقص: (إِلُوِي، إِلُوِي)
فما هي الحكاية؟
لما كانت أقدم نسخ العهد الجديد التي بين أيدينا مكتوبة باللسان اليوناني فلا مناص إذاً من العودة إليها.
ثالثاً: عبارة متَّى في النص اليوناني
(Ἠλὶ ἠλὶ, λιμᾶ σαβαχθανί) (Mt 27 : 46)
رابعاً: عبارة مرقص في النص اليوناني
(Ἐλωῒ Ἐλωῒ, λιμᾶ σαβαχθανί) (Mk 15 : 34)
فماذا نلاحظ؟
نلاحظ إتفاقاً حول الشطر الثاني من العبارة وهو (λιμᾶ σαβαχθανί) واختلافاً حول الشطر الأول منها، فمتَّى يقول: (Ἠλὶ ἠλὶ) وتنطق: إيلي إيلي، ومرقص يقول: (Ἐλωῒ Ἐλωῒ) وتنطق: إلوي إلوي،
فما هي الحكاية؟
إذا أخذنا لفظ الجلال "الله" بين العربية والآرامية والعبرية (المداخلة الثانية في هذا الشريط) في الإعتبار فيمكن تلخيص بعض ما تقدم من خلال النقطتين التاليتين:
- لفظ "إلهي" العربي والآرامي ولفظ "إلوهي" العبري بمعنى واحد وإن اختلفت طريقة التلفظ به.
- لا وجود للفظ "إلوي" لا في العربية ولا في الآرامية ولا في العبرية، وإنما نتج ذلك عن محاولة كتابة لفظ "إلوهي" العبري بالحروف اليونانية والتي تخلو أصلاً من حرف الهاء، إذ يستعيض عنه اليونان بعلامة spiritus asper، وذلك في أول الكلمة فقط. أما حرف H اليوناني فليس هو الهاء، كما في اللاتينية واللغات المشتقة منا مثل الإنجليزية، وإنما هو حرف الياء الممدودة حينما تأتي في أول الكلمة، فإن جاءت في وسطها أو آخرها رسمت هكذا η، أما حرف E اليوناني فهو كذلك ياء، إلا أن هذه قصيرة وتلك ممدودة. لذلك فإنه من غير الممكن رسم كلمة "إلوهي" العبرية بالحرف اليوناني، فتم كتابتها "إلوي" بإسقاط الهاء.
هذا عن "إلهي" و"إلوهي" و"إلوي"، فماذا عن "إيل"؟
معنى "إيل"
لنلاحظ كلمات مثل "اسرا - ئيل" و "جبرا - ئيل"، و"ميكا - ئيل" وغيرها، وتحديداً المقطع الثاني "إيل" في كل منها بحروفه الثلاثة الهمزة والياء واللام. هذا اللفظ عبارة عن كلمة عبرية وليست آرامية، وهي مشتقة من لفظ "إلاه" حيث تشترك معها في جميع الأحرف الساكنة إلا أنها تخلو من حرف الهاء، وتجمع على "إليم". يستخدم العبرانيون لفظ إيل אֵל بمعنى אֱלֹהּ، ويترجمها البعض إلى "رب" وهذا خطأ، لأنها مشتقة من "إلاه" فتترادف معها.
بناءاً على ذلك فإن لفظ "إلي" ولفظ "إلوهي" كلاهما عبري وليس آرامي ومقابلهما الآرامي هو "إلهي" كما في العربية تماماً.
بهذا نصل إلى ختام المباحث المتعلقة بلفظي "إيلي" الذي استخدمه متَّى، و"إلوهي" الذي استخدمه مرقص مرسوماً بالحرف اليوناني هكذا "إلوي"، فماذا عن "شبقتني"؟
شبقتني
علمنا مما تقدم أن لفظي "إيلي" و"إلوهي" عبريان وليسا آراميين، ومن ثم فإننا نتوقع أن لفظ "شبقتني" هو كذلك عبري، لكن توقعنا سيخيب هنا، لأن ذلك اللفظ آرامي وليس عبرياً! إنه تركيب مدهش جداً في واقع الأمر، إلوهي إلوهي ... شبقتني، فشطره الأول عبري بينما شطره الثاني آرامي، فما هي الحكاية؟
يتكون الفعل الآرامي الماضي الثلاثي المجرد שְׁבַק من ثلاثة أحرف هي الشين والباء والقاف، لكن الغريب هو أن الرسم اليوناني للفظ، كما تقدم، هو: σαβαχθανί حيث يبدأ بالسين وليس بالشين، فلماذا؟ السبب ببساطة أن كلاً من حرف الشين שׁ (النقطة على اليمين) والسين שׂ (النقطة على الشِمال) كان يكتب في العبرانية القديمة بدون نقطة أساساً، أي هكذا ש، مما أحدث خلطاً عن كتابة الحرف اليوناني فتمت كتابة اللفظ بالسين σ بدلا من الشين χ. أما الطريقة التي استخدمها الطِّبريّون في تنقيطهم فكانت بالشين، وليس عندنا في واقع الأمر دليل قاطع على هذا الأمر، فربما كانت تنطق فعلاً بالسين لا بالشين، أي "سبقتني"، وليس "شبقتني"، لكني سأعتمد هنا على النسخة القياسية ل Biblia Hebraica حيث تكتب بالشين كما في سفر دانيال مثلاً.
اخترتُ سفر دانيال لكونه السفر الوحيد، إضافة لسفر عزرا، الذي كٌتب جله بالآرامية، لا بالعبرية حيث وردت تلك المادة بصيغة المبني لما لم يُسمَّ فاعله (المبني للمجهول) في (Daniel 2 : 44) هكذا: תִּשְׁתְּבִק. أما معنى تلك الكلمة، شبق، في ذلك اللسان هو "ترك" كما تشير المعاجم القياسية مثل جيزينيوس مثلاً. لذلك يتم ترجمة الكلمة إلى "تركتني".
قرأتُ تعليقاً لكاتب عُماني "خميس العدوي" يقول فيه:
(أما نحن أهل عمان فنستخدم كلمة (شبق) بنفس المعنى الذي استخدمه "يسوع" وهو اللصق على الشيء، ومنه الصلب، فالذي يلصق على الصليب يقال له شبقت يداه على اللوح ... وأكيد هذا المعنى لا يعرفه الناطقون باليونانية؛ فهو لهجة من لهجات العرب التي لا تزال موجودة عندنا في عمان، أو في كثير من مناطقها).
لفتَ ذلك الكلام انتباهي وأثار عندي فضولاً علمياً لم أستطع مقاومته لمزيد من البحث لمقاربة ذلك اللفظ، فماذا وجدتُ؟ لقد وجدتُ نصين مهمين لهما ارتباط وثيق بتلك الكلمة:
أولهما: نص النبي دانيال الآرامي والذي جاءت فيه مادة تلك الكلمة فعلاً بمعنى يدل على الترك، ترجمته العربية هي: (وَفِي أَيَّامِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ، يُقِيمُ إِلهُ السَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا، وَمَلِكُهَا لاَ يُتْرَكُ لِشَعْبٍ آخَرَ، وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ، وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ.) (دانيال ٢ : 44)، والشاهد فيها كلمة "يترك" أي "تشتبق" بالآرامية. أما معنى اللصق ومشتقاته فسيبدو غير منسجم في السياق.
ثانيهما: نص عجيب، لكنه نص عبري وليس آرامياً، وترجمته العربية هي: ( إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي ...) (مزامير 22 : 1)، حيث يكاد يتطابق، بل هو متطابق فعلاً في الترجمة العربية، مع نصي متَّى ومرقص، علماً بأن ذلك النص في العهد القديم وذانك النصان في العهد الجديد، فما هو الجديد؟
الجديد هو أن اللفظ المستخدم في المزامير هو:
(אֵלִי אֵלִי לָמָה עֲזַבְתָּנִי) (Ps 22 : 1)
أي "إيلي إيلي لما عزبتني"، باستخدام حرف الزاي "ز" وليس حرف الذال "ذ"، لكن الدارس للغات السامية يعلم أن العبرانيين يستخدمون حرف الزاي للإشارة بدلاً من الذال، لذلك فليس ببعيد أبداً، من وجهة نظر فيلولوجيا اللسان العبري، أن يكون اللفظ المشار إليه هو "عذبتني". جدير بالذكر أن بعض النسخ العربية تستخدم لفظ "أصبتني" وهو خطأ، لأن النص العبراني الأصلي يخلو من الألف والصاد، بل يستخدم العين والزاي (الذال).
بذلك نصل إلى "نظرية" مدهشة وممتعة توفق بين الآراء جميعها، وذلك لو قرأنا النص الآرامي لمتَّى مثلاً في ضوء النص العبري للمزمور الثاني والعشرين. إن فعلنا ذلك وقمنا بمضاهاة الكلمة الآرامية "شبقتني" مع الكلمة العبرية "عذبتني" وجدنا أن كلام الكاتب العُماني خميس العدوي ينسجم تماماً مع السياق المذكور في سفر دانيال، لأن ترك المملكة هنا ليس تركاً عادياً، وإنما هو ترك للعذاب، لذلك جاءت مفردات دالة على ذلك عند دانيال مثل "فَتَتَسَلَّطُ"، "يَدُقُّ وَيَسْحَقُ"، "يُكَسِّرُ تَسْحَقُ وَتُكَسِّرُ"، وغير ذلك من الألفاظ الدالة على العذاب.
حتى في اللغة العربية، سواء اللهجة العمانية أو الفصحى، تدل مادة "شبق" على العذاب، فشدة الإغتلام الجنسي مثلاً هو عذاب، معنوي ومادي، لذلك سمي شبقاً.
نقطة أخرى أود الإشارة إليها وهي أنه لا يلزم من ذلك أن القائل "شبقني" هو عربي اللسان، وذلك لاشتراك اللسان العربي مع اللسانين العبري والآرامي في كثير من المفردات، حيث أنها جميعاً أغصان دوحة واحدة هي دوحة اللغات السامية، وإن كان ليس ببعيد أن تكون العربية هي أصلها، والباقي فروعها.
وجه آخر حول جملة "عزبتني"
هناك وجه ثانٍ لتفسير جملة "عزبتني" يتعلق بإمضاء اللفظ على ظاهره، أي بحرف الزاي، دونما حاجة لافتراض وجود حرف الذال. ربما يختلف القالبُ الجديد مع ما تقدم إلا أن قلبَه يستوعب ما مرّ. لنقرأ قول الله تعالى في البلاغ المبين:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (سبأ : 3)
والشاهد فيه هو فعل "يعزب" فما معناه؟ الفعل العربي الماضي الثلاثي المجرد عَزَبَ يَعْزُبُ معناه: بَعُد، و في الحديث: "من قرأ القرآن في أربعين ليلة فقد عزب" أي بعُد عهدٌه بما ابتدأ منه و أبطأ في تلاوته. يدل هذا الفعل في اللسان العربي على معاني البعد والهجر والترك وما إلى ذلك.
نفسُ المعنى العربي يحمله الفعل العبري الماضي الثلاثي المجرد עָזַב، بالعين الممدودة (حركة مد طويل) والزاي المحدودة (حركة مد قصير) والباء الساكنة، أي معنى الترك والتخلي. من هنا يصح إمضاء لفظ "عزبتني" العبري الوارد في المزمور الثاني والعشرين بمعنى "هجرتني" أو "تركتني".
الجمع بين الوجهين
أما الوجه الأول فهو: "عزبتني" معناها "عذبتني" بافتراض أن الزاي هنا ذالاً. وأما الوجه الثاني فهو: "عزبتني" معناها "تركتني" أو "هجرتني"، والجمع بينهما أن يكون المقصود هو "الهجر المفضي إلى العذاب" أو "العذاب المتولد عن الهجر"، والعذاب قسمان، عذابٌ معنوي كهجران المحبوب، وهو المعنى الغالب في المزمور، وعذابٌ مادي كالألم، وهو المعنى الغالب عند متَّى ومرقص.
تعليق