مقدمة:
حبرٌ كثيرٌ أُسِيل في تحليل الخبر الذي نشرته هيئة الـ(بي. بي. سي) قبل أسابيع فقط عن اكتشاف رقاقات جلدية يبدو أنها من مصحفٍ شريفٍ، يُعدُّ أقدم ما اكتُشف من مخطوطات القرآن الكريم حتى يومنا، محفوظة ضمن مخطوطات جامعة برمنجهام البريطانية.
بيدَ أن نظرةً على ما يتمُّ تداوله عبر وسائل الإعلام تُظهر أن طريقة التناول ما تزال أقربَ للسطحية، وللتغطية الصحفية السريعة، بحيث تجعل القارئ في حيرة من أمره؛ جرَّاء تضارب الآراء والتعليقات.
ولذا؛ فإننا في هذه المقاربة نريد أن نسجِّل وقَفَات وإضاءات تَضَعُ النِّقاط على الحروف، وتجعل القارئ على بيِّنة من جوانب الموضوع المختلفة، إضافةً إلى بعض الاستشكالات التي نتوخَّى من ورائها المزيدَ من البحث والتنقيب في الدراسات القرآنية المتخصصة.
أصل الحكاية:
ملخَّص الموضوع أن جامعة "برمنجهام" البريطانية أعلنت في 22 يوليو المنصرم عن نتائج فحص بالكربون المشعِّ على مخطوطة قرآنية، تبيَّن أن عمرها يبلغ نحو 1370 عامًا، حيث تعود إلى ما بين عامي (568 و645م)، وهو ما قد يجعلها من أقدم نسخ المصحف في العالم، وفيما بعد نشرت المخطوطة على موقعها على الإنترنت، وهي عبارة عن أربع صفحات من الجلد تحوي آيات من عدة سور هي:(الكهف، مريم، طه) مكتوبة بالخط الحجازي القديم، تحوي قليلاً من النقط والشكل، إضافةً إلى زخرفة بسيطة بين السور، ونقاط للدلالة على رؤوس الآي، وكتبت البسملة فيها باللون الأحمر.
كانت هذه الصفحات ضمن مجموعة من المخطوطات حصلت عليها مكتبة الجامعة قبل قرن من الزمان، من لدن القس الكلداني العراقي الأصل "ألفونس منغنا" الذي كان مُولَعًا بجمع المخطوطات.
وأما عن تقنية "الكربون المشعِّ"، فقد اكتشفها العالم الكيميائي ويلارد ليبي في منتصف القرن الماضي، واستحق عنها جائزة "نوبل"، وقد مرَّت بمراحل كان فيها هامش الخطأ كبيرًا، ولكنها الآن أصبحت معتمدة لدى علماء الآثار في تحديد عمر المواد المصنوعة من الكائنات الحية، من جلود ونباتات وغيرها، بعد أن أصبحت نسبةُ دقتها تفوق 95%.
ذلك أن النبات أو الحيوان ما دام على قيد الحياة، فإنه يتبادل الكربون مع محيطه، بحيث إن نسبةالكربون - 14التي يحتويها ستكون لها نفس نسبة الكربون - 14 فيمحيطه الحيوي، وبمجرد أن يموت فإنه يتوقف عن اكتسابالكربون - 14، وعندها يبدأ في الاضمحلال بمعدَّل ثابت مع الزمن،ولا يتمُّ تعويضه كما هو الحال للكائن الحي، وبقدرِ نسبة الاضمحلال تلك يمكن للعلماء أن يقدروا تاريخ المادة العضوية بدقة كبيرة، كما أشرنا آنفًا.
قيمة كبيرةٌ، ولكن!
لا شك أن هذا الكشف العلمي سيكون مصدرَ سعادة وفخرٍ للمسلمين؛ ففضلاً عما تحملُه المخطوطة من قيمة تاريخية ومعنوية؛ بعودتها للعهد النبوي أو الراشدي، حيث عَبَقُ البدايات وطراوة الدين وأصالته، فإنها تُعدُّ من الأدلة الدامغة على سلامة النص القرآني الكريم من أي تحريف أو تبديل، منذ أيامه الأولى إلى وقتنا الراهن، وذلك خطابٌ يفهمُه علماء الغرب الذين يبحث بعضُهم عن ثَغَرات لإثبات أن نوعًا من التغيير قد اعترى نسخ القرآن الكريم عبر العصور، لكن ما يَجِبُ تأكيدُه هنا والتنويه به أنَّ اعتماد المسلمين في نقل النص القرآني وإثباته إنما هو على التواتر الشفهي، جيلاً بعد جيل، وليس دور المصاحف الشريفة إلا تأكيدَ ذلك النقل وتوثيقه؛ وعليه فلو افترضنا - خلافًا للواقع - أن هذه المخطوطة أو غيرها قد خالفت النصَّ القرآني المتداوَل، لَمَا كان لذلك أدنى أثرٍ أو تشكيك؛ فما المانع أن تكون نسخة شخصية لأحد الصحابة، قد يقع فيها الخطأ، وليست بالضرورة من النسخ التي صدرت عن اللجنة العثمانية.
وبعيدًا عن الافتراض، فإن المتفحِّص للصفحات الأربع يَجِدُ أنها لم تحتوِ على أي كلمة تخالف المصحف المتداول بين أيدينا، وهذا ما يجعل المرء يستغرب تصريحَ البروفسور المستشرق ديفيد توماس، تعليقًا على الاكتشاف بأن (هذه الصفحات قريبة جدًّا من القرآن الذي نقرؤه اليوم، وهو ما يدعم فكرة أن القرآن لم يعرف إلا تغييرًا طفيفًا، أو أنه لم يطرأ عليه أي تغيير)! فمن أين جاء بهذا التغيير الطفيف الذي لا وجود له إطلاقًا؟!
توضيح لنص المخطوطة:
تضمن صفحات المخطوطة الأربع متفرقات من ثلاث سور، هي: (الكهف، ومريم، وطه):
الصفحة الأولى والثانية: من منتصف الآية 17 إلى منتصف الآية 31 من سورة الكهف:
﴿ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ [الكهف: 17] ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 31].
صورة الكهف (1)
صورة الكهف (2)
الصفحتان الثالثة والرابعة: من الآية 91 من سورة مريم إلى الآية 40 من سورة طه:
﴿ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴾ [مريم: 91] ﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي... ﴾ [طه: 39، 40].
صورة مريم - طه
صورة طه
النقط والشكل:
من المعلوم بداهةً لدى المختصين في علوم القرآن أن المصاحف الأولى (وخصوصًا العثمانية) لم تكن تحتوي نَقْطًا ولا تشكيلاً للحروف، على غِرار الكتابة العربية حينها، كما لم تحوِ علاماتٍ لرؤوس الآي، ولا فواصل بين السور، وإنما طرأ "النقط" وملحقاته فيما بعدُ على ثلاث مراحلَ: مع أبي الأسود الدؤلي، ثم تلاميذه، ثم الخليل بن أحمد الفراهيدي.
وعليه؛ فإن وجود بعض النَّقْطِ اليسير لبعض الأحرف في هذه المخطوطات يستوجب إشكالاً؛ هل يمكن أن يكون النقط أُضِيفَ لاحقًا؟ أم أن عمر الجلد الذي أعلن عنه لا يعني بالضرورة عمر الحبر والكتابة؟ فيكون الجلد من تلك الفترة، وقد تم تخزينُه لمدة عشرات السنين قبل أن يُكتَب عليه؟ أو أعيد غسله والكتابة عليه مرة أخرى؟ أم أن النقط كان في الأصل بكل بساطة؛ لأن العرب كانوا ربما نقطوا بعض الأحرف لا كلها؟
كل تلك الاحتمالات واردة، ولها من الشواهد ما يساعِدُ، وإن كنت أميل إلى الاحتمال الأخير؛ لأن النقط لو كان طارئًا لعمَّ بقية الأحرف أو أكثرها على أقل تقدير.
تاريخ الكتابة أم الرق؟
وهذا يحيلنا إلى استشكال كنت أتمنى لو أن جامعة برمنجهام أوضحت أمره بما يكفي: هل التأريخ الذي ذُكر خاص بالجلد المكتوب عليه أم هو للحبر المكتوب به؟
إن نتيجة هامة جدًّا تتوقف على جواب هذا السؤال، رغم أن تخزين الجلد قبل الكتابة عليه من المستبعد أن يكون لأمد طويل يبلغ عشرات السنين، فالراجح أن تكون الكتابة تمت في حينها، فتكون مقاربة لتاريخ صناعة الجلد.
ظواهر الرسم:
من الواضح أن الخط الذي كُتِب به المصحف هو الحجازي القديم المائل، وكما ألمحنا فإن الكتابة الأولى كانت مجردة من النقط والشكل، كما كانت تتميَّزُ بخصائص كثيرة تخالف ما تعودنا عليه في الإملاء الاصطلاحي المُحدَث؛ وهذا المصحف ليس بدعًا في ذلك، بل هو يؤكد تلك الظواهر؛ حيث يوافق الرسم العثماني في أكثرها، ومن ذلك تفشي حذف الأَلِفات، وانعدام شكل الهمزة إطلاقًا، ومن جميل الموافقات أنه تضمن كلمة (لِشيْءٍ) في سورة الكهف، حيث جاءت بزيادة الألف (لشايْ) موافقة لما في المصاحف العثمانية، كما تضمن كلمتَي (الصلاة، والغداة) بالواو هكذا: (الصلوة، الغدوة) كما في المصاحف العثمانية.
ولكنه يُخالِفُ تلك المصاحف في بعض الظواهر الإملائية التي لا تُخلُّ بالنص قطعًا، ومنها: حذف الألف في: (قال)، (فقال)، (قائلٌ)، (بالساحل)، (التابوت)، (طعامًا)، (فلا تُمارِ) ... إلخ.
وهذه الموافقات والمخالفات الإملائية تدلُّ في نظري على أن (ظواهر الرسم العثماني) إنما تعودُ إلى الاصطلاح الإملائي في ذلك العصر، وتُمثِّلُ تطور الكتابة العربية في مرحلة معينة؛ ولذا لا يجوز أن نأتي الآن لنُحاكم الرسم العثماني السابق إلى قواعد الرسم الإملائي اللاحق، فلكلٍّ منهما قواعدُ أغلبيةٌ، وله استثناءات تُحفَظُ ولا يُقاس عليها، فلعله كان من قواعد الإملاء في العصر العثماني مثلاً كثرةُ الاستغناء عن الألفات؛ من باب الاختصار، ولعل من قواعده أن تُكتَبَ بعض الكلمات بما يدل على أصلها الصرفي مثل (الصلاة، والغداة)، لأن أصل ألفهما الواو، وهكذا.
وعمومًا فإن هذه المخطوطة القرآنية العظيمة لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تثبت للمستشرقين أن القرآن الكريم قد وصل إلينا كما أنزل سالمًا من أي تحريف أو تبديل، ولكن تبقى أمنيتُنا الكبرى أن تصل أيدي الباحثين والمستكشفين بشكل قاطعٍ علميًّا إلى أحد المصاحف العثمانية العتيدة، والتي هي "المصاحفُ الأئمَّة" التي يُرجَعُ إليها ويعتمد عليها؛ لصدورها عن إجماع الصحابة الكرام.
==================
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/library/0/91448/#ixzz5tPJasoLl