قراءة الإمام حمزة وموقف الإمام أحمد بن حنبل منها
طعن بعض النصارى في قراءات القرآن الكريم، واستدلوا بما روي عن الإمام أحمد بن حنبل وغيره في كراهية قراءة الإمام حمزة الزيات رحمهما الله .
ولا بد هنا أن ألفت الإنتباه إلى النصارى تعتريهم عقدة النقص، فأسفار كتابهم لا خطام لها ولا زمام، ولا قواعد تحكم قانونيتها وثبوتها، وإن حاولوا أن يصوروا للناس غير ذلك، لذلك يعمدون إلى إسقاط النقص الذي عندهم على المسلمين.
بينما الأمر عند المسلمين مختلف، فأمة الإسلام أمة الإسناد ، نقلت القرآن بالإسناد الصحيح المتصل بنقل الأئمة القراء المتقنين، كل شيخ قرأ على شيخه متصلًا دون انقطاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل قراءة من القراءات العشر ثابتة بالنقل الصحيح المتصل إلى النبي عليه السلام.
لذلك فإن ما يزعمونه - من أن اختيار القراءات حسب الهوى - زعم باطل فاسد، وإلا فليأتوا لنا بقراءة من القراءات العشر ليس لها إسناد، وهيهات ثم هيهات.
فإنك إن سألت من يختار حسب الهوى: "لماذا اعتمدت كذا وقررت كذا؟ "، فلا جواب عنده إلا أن يقول: "هكذا أشتهي أو هكذا أهوى"، وهذا بخلاف جواب المسلمين، فالمسلمون إذا سئلوا عن القراءات العشر، لا يقولون: "هكذا نشتهي وهكذا نهوى"، بل يقولون: "لأنها ثبتت بنقل القراء الأثبات مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فأسانيد القراءات معروفة مكشوفة لمن أراد التحقق، فحمزة الزيات رحمه الله قرأ على عدد من الشيوخ القراء، ومن الشيوخ الذين قرأ عليهم:
جعفر الصادق، وقرأ جعفر الصادق على أبيه محمد الباقر، وقرأ الباقر على زين العابدين، وقرأ زين العابدين على أبيه الحسين بن عليّ، وقرأ الحسين على أبيه علي بن أبي طالب، وقرأ علي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة عز وجل.
وكذلك قرأ حمزة على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقرأ ابن أبي ليلى على المنهال بن عمر على سعيد بن جبير على عبد الله بن عباس على أبي بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة عز وجل.
وقرأ حمزة على طلحة بن مصرف اليامي، وقرأ طلحة على يحيى بن وثاب الأسدي، وقرأ يحيى على علقمة بن قيس، وقرأ علقمة على عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة عز وجل.
كذلك قرأ على غيرهم من القراء.
إذن، فالقراءة ثابتة مسندة عن طريق القراء المتقنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرج ابن مجاهد في "السبعة" وعنه الحافظ الذهبي في "القراء الكبار" عن شعيب بن حرب، سمعت حمزة يقول: "ما قرأت حرفًا إلا بأثر".
وعن الإمام العلم سفيان الثوري أنه قال: "ما قرأ - أي حمزة - حرفًا من كتاب الله عز وجل إلا بأثر"، وكان سفيان من تلاميذ حمزة، عرض عليه القرآن أربع عرضات.
فإن قيل هل يضر ثبوت الحق غيابه عن البعض؟
قلت: لا يضر، ولو كان كذلك لما بقي في الدنيا حق يثبت، فليس من شرط الحق أن تعلمه الناس كلهم دون استثناء، فهذا لا يقول به عاقل، وبالتالي فلا يضر قراءة حمزة غياب ثبوتها عن الإمام أحمد وغيره.
فالإمام أحمد على سعة علمه ، وجلالة قدره ، وعظيم منزلته في قلوب المسلمين ليس معصومًا، ولا نقول عنه إنه أحاط بكل شيء علمًا، شأنه في ذلك كشأن غيره من أهل العلم رضي الله عنهم.
والذي نرجحه أن الإمام أحمد رحمه الله لم تثبت عنده قراءة حمزة، فإن كذلك فهو معذور ، ومما يشير إلى ذلك ما ذكره ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/ 391 - 392) قال:
((سئل أبو عبد الله عن قراءة حمزة فقال: نعم أكرهها أشد الكراهية قيل له ما تكره منها؟ قال: هي قراءة محدثة ما قرأ بها أحد إنما هي إيه وآه)).
قلت: قوله (قراءة محدثة ما قرأ بها أحد) فيه أن الإمام أحمد لم تثبت عنده القراءة.
و رُوي عن محمد بن الهيثم المقرئ ما يشير إلى أن الإمام أحمد رجع عن الكراهية، قال - أي محمد بن الهيثم -: سألت أحمد ما تكره من قراءة حمزة؟، قال: الكسر والإدغام.
فقلت: له حدثنا خلف بن تميم قال: كنت أقرأ على حمزة، فمر به سفيان الثوري، فجلس إليه وسأله عن مسألة، فقال: "له يا أبا عمارة، أما القرآن والفرائض فقد سلمناها لك، قال أحمد: "أنتم أهل القرآن وأنتم أعلم به" أهـ. "الطبقات" لابن أبي يعلى (2/ 374).
قلت: قوله "أنتم أهل القرآن وأنتم أعلم به" فيه أن الإمام سلم لمحمد بن الهيثم المقرئ عندما أخبره، وشهد له أنه أعلم بالقرآن، فالإمام أحمد ليس من أئمة القراءات، بل من أئمة الفقه والحديث، ألا ترى أننا نأخذ عنه الفقه والحديث ولا نأخذ القراءات؟
فإننا نأخذ الفقه عن أئمة الفقه، ونأخذ الحديث عن أئمة الحديث، ونأخذ القراءات عن أئمة القراءات، فكل بارع في فنه.
ثم إن الإمام أحمد لم يكره القراءة نفسها، ولكن كره الإفراط في المد والإمالة والإضجاع، قال أبو الحارث الصائغ: "ذكر لأبي عبد الله قراءة حمزة فقال: أنا أكرهها قيل له: وما تكرهه منها قال: هذا الإدغام والإضجاع الشديد " طبقات الحنابلة (1/ 391 - 392).
وحقيقة الأمر أن هذا الإفراط الشديد في الإدغام لم يكن حمزة يرضاه، بل كان ينهى عنه، قال أبو بكر بن مجاهد في السبعة: ((وقد كان حمزة يكره هذا وينهى عنه)).
ثم قال رحمه الله ((أما كراهته الإفراط من ذلك فقد روينا عنه من طرق أنه كان يقول لمن يفرط عليه في المد والهمز: "لا تفعل، أما علمت أن ما كان فوق البياض فهو برص، وما كان فوق الجعودة فهو قطط، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة")).
وأخرج أبو بكر ابن مجاهد عن محمد بن الهيثم المقرئ قال: "واحتج من عاب قراءة حمزة بعبد الله بن إدريس أنه طعن فيها، وإنما كان سبب هذا أن رجلًا ممن قرأ على سليم حضر مجلس ابن إدريس عبد الله، فقرأ، فسمع ابن إدريس ألفاظًا فيها إفراط في المد والهمز وغير ذلك من التكلف المكروه، فكره ذلك ابن إدريس وطعن فيه.
قال محمد: وهذا الطريق عندنا مكروه مذموم، وقد كان حمزة يكره هذا وينهى عنه، وكذلك من أتقن القراءة من أصحابه " أهـ.
قلت: ومحمد بن الهيثم ممن أتقن قراءة حمزة وبرع فيها، وما رواه دليل على أن الآفة من الرواة، لذلك قال ابن الجزري: ((وأما ما ذكر عن عبد الله بن إدريس وأحمد بن حنبل من كراهة قراءة حمزة، فإن ذلك محمول على قراءة من سمعا منه ناقلًا عن حمزة، وما آفة الأخبار إلا رواتها)).
قلت:
- فقراءة حمزة ليس فيها إفراط في الأداء.
- ما وصل إلى الإمام أحمد كان فيه إفراط.
فمن هنا تعلم أن قراءة حمزة لم تثبت عند الإمام أحمد، إذ لو ثبتت لنقلت إليه دون إفراط في المد وغيره، فأصحاب حمزة المتقنون لم يبالغوا في المد كما ذكر محمد بن الهيثم، فتبين أن ما وصل إلى الإمام أحمد من قراءة حمزة كان عن طريق رجال لم يحسنوا القراءة ولم يتقنوها، فأفرطوا وأساؤا، فأصاب الإمام في رد ما نقلوه، حيث قلنا سابقًا: إن القراءة تثبت بنقل الأئمة القراء المتقنين، ومن نقلها إليه ليسوا كذلك.
فالخلاصة: أن ما كرهه الإمام من إفراط في الأداء لا علاقة له بقراءة حمزة، إذ أن حمزة بريء من هذا الإفراط كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
بقي شيء يجب أن نشير إليه، وهو أن عدم إنكار الإمام أحمد قراءة حمزة لأنها تتفق مع غيرها من القراءات، ولكن تختلف في الأداء، ومثالًا على ذلك سورة التين، فحروفها عند حمزة هي هي كما في القراءات الأخرى، ولكن يختلف الأداء، لذلك كره أحمد الإفراط في الأداء (إمالة وإدغام وغيره) ولم ينكر القراءة نفسها، وسوء الأداء لا يبطل الصلاة، لذلك أجاز الإمام أحمد الصلاة بها ... فتنبه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
__________
تعليق