مريم وعيسى وأحمد
بين لغة الإنجيل والقرآن
بين لغة الإنجيل والقرآن
ولغة الإنجيل هى اللغة الآرامية السريانية التى كانت منتشرة فى بلاد الشام والعراق قبل الإسلام، وكان المسيح يتحدث بها إلى تلاميذه، ومن ثم فإن إنجيله كان مكتوباً بها، ذلك الذى لانجد له إلا نصاً مترجماً إلى اليونانية القديمة .
وبعد دخول الإسلام وانتشار العربية فى ربوع الشام تركت لنا هذه اللغة بعض الألفاظ السريانية ، ومنها أسماء الأعلام ، وقد سجل لنا القرآن الكريم بعض الأسماء المنقولة من السريانية فى ثلاث صور :
الأولى: أن يذكر الاسم العلم بلفظه معرباً مثل كلمة " مَرْيَـم " .
ونرى أن اسم " مَريَم " اسم آرامى الأصل ، وهو اسم مفعول من الفعل المزيد بالهمزة "أريم" بمعنى " عظَّم – مجَّد – شرَّف " من المجرد الأجوف "رام" بمعنى " رفع " وعلى ذلك فاسم مَريَم maryam بهذا التصريف يكون معناه بصيغة المفعول " المُعظَّمة – المُمجَّدة – المُشرَّفة " من الله سبحانه وتعالى .
الثانية: أن يذكر الاسم العلم معرَّباً ولكن مع قلب أو إبدال بعض الحروف، مثل : عيسى، فالمسيح عليه السلام اسمه فى القرآن عيسى، بينما هو فى الأناجيل " يشوع " والثابت أن العرب لم يسمعوا من نصرانييهم اسم "عيسى" الذى جاء به القرآن، وإنما سمعوها منهم " يسوع " بالسين على اعتبار الشين فى السريانية تقابل السين فى العربية . أما لماذا قال القرآن "عيسى" ولم يقل " يسوع " التى عرفها العرب اسماً للمسيح، يقول الأستاذ رءوف أبو سعدة : فهذا من فرائد إعجاز القرآن فى أعلامه الأعجمية، لأنه لو قالها "يسوع" لفهمها العرب من العربية على معنى " الذى ساع " من ساع يَسوع سوعاً يعنى ضاع وهلك، ولذلك جاء القرآن بالاسم "عيسى" مقلوباً لاسم يسوع لإفادة عكس معناه : ليس هو الضائع الهالك وإنما هو المُخلَّص الناجى .
الثـالثـة : وهى حالة فريدة فى القرآن الكريم تتمثل فى كلمة { أحمد } فى قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (سورة الصف، الآية 6 ).
قال الرازى ( ت606هـ ) فى تفسيره :
وقوله تعالى: { أَحْمَدُ } يحتمل معنيين أحدهما: المبالغة في الفاعل، يعني أنه أكثر حمداً لله من غيره وثانيهما: المبالغة من المفعول، يعني أنه يحمد بما فيه من الإخلاص والأخلاق الحسنة أكثر ما يحمد غيره .
وقال الشوكاني (ت 1250 هـ) فى تفسيره :
وأحمد اسم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو علم منقول من الصفة، وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل، فيكون معناها أنه أكثر حمداً لله من غيره، أو من المفعول، فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره .
لقد عُرف خاتم الرسل بين الناس قبل النبوة باسم " محمد " ، وعرف بينهم بعد النبوة باسم " محمد " ، وذكره القرآن بهذا الاسم أربع مرات باسم محمد ،وذكره القرآن مرة واحدة باسم { أحمد } ، ولو كان القرآن من عند محمد كما يدعون لكان أولى به أن يذكر اسم " محمد " فى بشارة " عيسى " عليه السلام التى وردت فى سورة الصف { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } .
وتبين لنا الآية أن عيسى عليه السلام قد ذكر اسم خاتم الرسل أمام قومه، ولو افترضنا أن المسيح عليه السلام ذكر اسم "محمد" صلى الله عليه وسلم دون ترجمة إلى السريانية لما فهم اتباع المسيح كلمة "محمد" ، ويبدو أنه ترجمها إلى لغته حتى يصل إليهم معنى الاسم بما فيه من معانى الحمد والثناء، وقد سمعوا هذا الاسم وعرفوا معناه فى لغتهم .
ولنا أن نتساءل ماهى الكلمة الأصلية التى استخدمها المسيح عليه السلام بلغته الآرامية السريانية، فهل يجوز أن يبشر المسيح عليه السلام برسول يأتى من بعده اسمه أحمد، ثم يأتى خاتم الرسل ويُنادى طول حياته باسم " مُحَمَّد " ، ربما أن هذا الاسم قيل بلغة المسيح، ونقل لنا القرآن المعنى الذى وصل إليهم .
مُحَمَّد و أَحْمَدُ
ـ " مُحَمَّد " فى العربية : اسم مفعول من الفعل حَمَّد ، يقال فى الماضى : حَمَّد، المضارع: يُحَمِّد، اسم الفاعل: مُحَمِّد، بقلب حرف المضارعة ميماً بنفس الحركة، اسم المفعول: مُحَمَّد بقلب كسرة اسم الفاعل فتحة .
ـ " أَحْمَدُ " فعل مضارع مسند إلى ضمير المتكلم من الفعل حَمِد، ويقال حَمِدَه، أى:أثنى عليه، المضارع مع ضمير الغائب: يَحْمَدُ، المضارع مع المتكلم: أَحْمَدُ.
وبالبحث فى قواميس اللغة السريانية وجدنا أن الفعل الذى يدل على الحمد والثناء فى السريانية دون غيره ، هو : " شَبَّح " والذى يقابل الفعل " سَبَّحَ " فى العربية لفظاً ومعنى، لأن الشين تقابل السين فى العربية، ومن معانيه أيضا : مَجَّدَ ، أى : عّظَّمَ وأثنى ، وكذلك : حَمِد ، والمضعف حَمَّدَ ، وكلاهما بمعنى الثناء .
ولو ترجم المسيح عليه السلام لهم اسم خاتم الرسل إلى لغتهم لكى يصل إليهم اسم "محمد" بما فيه من معانى الحمد والثناء " مشبَّح "
وورد فى القاموس السريانى " زهريرا " أن السريانية تستخدم اسم المفعول " مشبَّح" من الفعل المضعف "شبَّح" للدلالة على الحر من الناس وهو خيرهم وأفضلهم .
فكلمة "مشبَّح" اسم مفعول مفرد مذكر نكرة من الفعل "شبَّح" الذى يقابل "سبَّح" فى العربية ، ويُلاحظ أن صيغة اسم الفاعل هى صيغة اسم المفعول نفسها ، وذلك لأن السريانية تميل إلى فتح ما قبل حروف الحلق إذا وقعت فى نهاية الكلمة ، والأصل أن يُكسر ما قبل الآخر مع اسم الفاعل ، وتقلب كسرة اسم الفاعل فتحة مع اسم المفعول كما فى العربية ، ولأن آخر الفعل حرف الحاء وهو من الحروف الحلقية، جاء اسم الفاعل مشابهاً لاسم المفعول.
واللغة السريانية لها خصائصها المميزة لها ، ومن ذلك أنها تستخدم لفظ المضارعة للدلالة على الاستقبال، وتستخدم اسم الفاعل إذا كان نكرة للدلالة على الزمن الحالى ، وينتقل إلى الاسمية بالتعريف، ولأن الاسم العلم لا يجوز تعريفه فجاء منكراً ولذلك فهم السريان لفظ "مشيَّح" - وهى عندهم اسم فاعل أو مفعول نكرة - على أنها فعل مضارع مسند إلى المتكلم وهو المسيح عليه السلام ، فيكون "مشبَّح" فى لغة السريان بمعنى " أَحْمَدُ " وقد نقل لنا القرآن فهم أتباع المسيح للفظ السريانى .
وتذكر أكثر المصادر أن كلمة " برقليط " التى وردت فى إنجيل يوحنا كلمة يونانية الأصل، وهى بشارة للنبى محمد صلى الله عليه وسلم، حيث إنها ترجمة مباشرة لاسم " أحمد " .
ومن أصعب الأمور التى تحير الباحث عن الحق هو الوقوف أمام مصطلح لغوى لا أصل له فى اللغة المنسوب إليها ، فمصطلح " برقليط " الذى ينطق فى اليونانية باركليت لا وجود له فى الحقيقة بين مفردات اللغة اليونانية، وإن حاول الكثيرون أن يوجدوا له نسباً شرعياً منسوباً إلى اليونانية، فأوجدوا له عدة كلمات يونانية قريبة فى الشكل والمنطوق منه ، وقالوا بأنه منها فما هو دليل ذلك وما مدى المصداقية ؟ .
وعلى ذلك فإننا نرى أن كلمة برقليط كلمة آرامية الأصل ، نقلها كاتب الإنجيل بلفظها إلى اليونانية ، وبتحليل الكلمة نجد أنها كلمة مركبة من مقطعين :فارق + ليطا .
"فارق" اسم فاعل مفرد مذكر نكرة من الفعل "فرق" بمعنى " خَلَّص – أنقذ " فيكون معنى كلمة " فارق" فى السريانية : " مُخلِّص – مُنقِذ "
" ليطا " اسم مفعول مفرد مذكر معرفة من الفعل السريانى " لاط" بمعنى" لعن " فيكون معنى كلمة " ليطا " فى السريانية " الملعون " .
وعلى ذلك يكون أصلها فى لغتها "بارِقْليط" بمعنى : مُخلِّص أو مُنقِذ الملعون = الهادى ، وهى بذلك صفة لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وليست اسمه كما تذكر أكثر المصادر.
تعليق