خطاب ال138 والفاتيكان !..
بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
أستاذة الحضارة الفرنسية
أن هذا الموضوع أكبر بكثير من أن يعالج فى مثل هذا الحيّز المحدود ، ورياح الغدر والتواطوء تخيّم على الآفاق ، وإن كان بيع أرض فلسطين قد بدأ بالخيانة وتواصل بالهرولة والتواطوء ، فإن الأحداث تشير إلى ان نفس الكرّة تعاد فى حق الإسلام !
ففى 29 نوفمبر 2007 ، أى بعد شهر ونصف تقريبا ، أعلن البابا بنديكت السادس عشر ـ باسم أمين سر دولة الفاتيكان وليس باسمه ، رده على خطاب ال138 مسلما الذين هروَلوا ـ جهلا أو عن عمد ، استجابة للمساعى الخفية التى قادها رجال الفاتيكان، وبعض أعوانهم ، لرأب الصدع الذى نجم عن محاضرة راتسبون ، التى سب فيها البابا الإسلام والمسلمين وسيدنا محمد عليه صلوات الله ، وربط فيها بين الإسلام والإرهاب. والمعروف أنه لم يعتذر للآن عن موقفه هذا ، وفقا لمطلب القيادات الإسلامية ، وإنما اعتذر عن رد فعل المسلمين وهمجيته !!
و رد البابا موجه إلى الأمير غازى بن محمد بن طلال ، المسؤل عن مؤسسة آل البيت بالأردن ، والذى تزعم تلك المبادرة التى انقاد اليها 138 مسلما من44 دولة بمختلف المراكز والألقاب والتوجهات ..
ومن الغريب أن رد البابا موقع عليه يوم 19 نوفمبر ، وأعلن يوم 29، مع إعلان خطابه الرسولى الثانى المعنون " بالآمال نحن منقذون" ، ـ ولعل الحكمة فى تأخير إعلان الرد ترجع إلى الرغبة فى زجه تحت الظل او أملا فى أن تنصير المسلمين سوف ينقذه بتحقيق آماله ! فالإعلام كله فى الغرب قد تناول خطابه الرسولى ، ولا إشارة تذكر تقريبا لرده على أولئك المسلمين إلا فى جرائده و مواقعه الفاتيكانية ..
وقد أعرب البابا عن " تقديره العميق لهذه اللفتة وللروح الإيجابى الذى ألهم خطاب المسلمين" .. وبعد تذكيره بالخلافات العقائدية بين المسيحيين والمسلمين" ، أشار إلى ان ما يجمع هاتين العقيدتين (المسيحية والإسلام) هو : "الإيمان بالإله الواحد" ، الذى " فى نهاية الزمان سوف يحاكم كل إنسان وفقا لعمله" .. وهى العبارة الواردة فى وثيقة " فى زماننا هذا" الناجمة عن مجمع الفاتيكان الثانى عام 1965 ، التى برأ فيها اليهود ،ووضع فيها الفاتيكان آنذاك الإسلام بين ديانات الشرق الأقصى ، وأبعد فيها المسلمين عن عمد عن نسبهم لسيدنا إبراهيم ! وقد تناولت تلك الوثيقة بالتفصيل فى مقال سابق .
كما أعرب البابا عن رضاه من أن المسلمين قد اختاروا أن يكون موضوع " محبة الله ومحبة القريب" ، التى كانت محور خطابه الرسولى الأول ، هى نفسها محور خطاب المسلمين ! ثم راح يملى شروطه من أجل إمكانية عمل حوار مشترك ، وهى : إحترام كرامة كل إنسان ، المعرفة الموضوعية لديانة الآخر ، تقاسم التجربة الدينية " ، وكلها عبارات مضغمة لمطالب معينة ، و بعد تطبيق ذلك أوضح أنه يمكن التعاون : "فى المجالات الثقافية والإجتماعية من أجل دعم العدالة والسلام " موضحا أن آفاق التعاون هى " ثقافية وإجتماعية وليست لاهوتية " ..
أى ما معناه أنه لا نقاش فى العقيدة ، التى هى الخلاف الأساس بين المسيحية والإسلام . وهو نفس الموقف الذى إتبعته من قبل لجنة الحوار الفاتيكانية وفرضت على أعضاء اللجنة فى الأزهر أن يوقعوا على أنه لا نقاش فى العقيدة !
ثم أوكل البابا إلى الدكتور عارف على النايض ، الذى كان يعمل فى المعهد البابوى للدراسات العربية و الإسلامية، إختيار وفدا من الموقعين على الخطاب للقائه، موضحا أن هذا الوفد سيمكنه الإجتماع بحوالى عشرة من الخبراء الكاثوليك ، تحت قيادة المجلس البابوى للحوار الدينى ، برئاسة الكاردينال جان لوى توران ، والجامعة البابوية الجريجورية ، والمعهد البابوى للدراسات الإسلامية والعربية. والسيد توران هذا هو القائل " أن الخيط الموجِّه لعملى فى الحوار سيكون وثيقة "فى زماننا هذا" ..
وفى الثلاثين من الشهر ، أى ثانى يوم إعلان رد البابا ، علّق الكاردينال جان لوى توران ، الذى سيترأس الحوار ، قائلا فى حديث له مع جريدة "أفنيرى"(Avvenire) الإيطالية : "لدى المسلمين يمكننا تقدير حجم إعلائهم لله ، وقيمة الصلاة والصوم ، وشجاعة إعلانهم عن إيمانهم فى الحياة العامة " . ثم أضاف قائلا : "ومن جانبهم يمكنهم ان يتعلموا منّا قيمة العلمانية الصحيحة ( !) وأنه يتعيّن على المسلمين أن يكتشفوا قيم عدم إجبار أو حرمان شخصا من ممارسة دين ما .. فما هو مباح لطرف يجب أن يكون مباحا للطرف الآخر ، ومن هذا المنطلق إن كان من الصواب أن يكون للمسلمين مسجدا كبيرا وجميلا فى روما ، فمن الصواب أيضا ومن الضرورى أن يكون للمسيحيين كنيستهم فى الرياض " !
ثم أشار إلى "إن مبدأ المبادلة هذا يمكن أن يتم بصورة فعالة عبر الحوار البلوماسى والكرسى الرسولى وحكومات البلدان ذات الأغلبية المسلمة " .. ثم أوضح الكاردينال أنه لا حوار ممكن مع " إسلام يبشر ويمارس الإرهاب ، الذى هو ليس إسلام أصلي وإنما تحريف للإسلام " ـ وهى عبارة مأخوذة من أحد تصريحات الدكتور عارف على النايض فى حديثه مع إذاعة البى بى سى قائلا : " إن التعاليم الحقيقة للقرآن أيضا قد اختلطت بسبب انحلال وجمود داخلى للعالم الإسلامى ، مما أدى إلى حدوث تحريفات للإسلام الشرعى ، الشديد التسييس والخالى روحيا (...) ومن ضمن هذه التحريفات ذلك الإنطلاق الحالى للإرهاب باسم الدين والذى يتعين على كل واحد منا الواجب الدينى والأخلاقى لإدانته وطرده " ..
أما الطامة الكبرى فهى مطلب البابا من ذلك الحوار الذى سيبدأ عما قريب : فهو يطالب الإسلام " أن يتبع نفس الطريق الذى سلكته وأتمته الكنيسة الكاثوليكية تحت ضغوط عصر التنوير. وأن حب الله وحب القريب يجب أن يتحقق فى القبول التام لحرية العقيدة " ، أى ما معناه الإقرار بأن نص القرآن ليس منزّلا وفتح الأبواب على مصراعيها لعمليات التبشير.
و كان البابا قد أعرب بأوضح الصور عن معنى الحوار الذى يريده مع الإسلام فى الخطاب الذى ألقاه أمام الإدارة البابوية يوم 22 ديسمبر 2006 ، بمناسبة تقديمه التهنئة بأعياد الميلاد إلى أعضاء لجنة اللاهوت الدولية ، حيث قام بشرح الوصايا العشر وأنها تمثل " أساسا لقيم أخلاقية عالمية" ويمكن تلخيصها فى أهم نقطتين هما : حب الله وحب القريب ، ثم أعرب عن رأيه فى الحوار مع المسلمين قائلا : " فى الحوار الذى يجب علينا تكثيفه مع الإسلام ، علينا أن نضع أمام أعيننا واقع أن العالم الإسلامى يجد نفسه اليوم فى حاجة ملحّة أمام مهمة شديدة الشبه بتلك التى تم فرضها على المسيحيين إبتداء من عصر التنوير والتى أتى لها مجمع الفاتيكان الثانى بحلول جذرية للكنيسة الكاثوليكية بعد أبحاث طويلة مضنية "..
وقبل أن نتناول التعليق على ما عرضناه بعاليه ، تجدر الإشارة إلى المناخ غير الصحى الذى تم فيه "طبخ " ذلك الخطاب الموقّع علية من 138 "مسلما " ! فمجرد إلقاء نظرة على مختلف الوثائق والردود التى واكبته ، ندرك ان هناك ما يحاك فى الخفاء : إذ توجد متناقضات فى تاريخ تقديم الخطاب من 11 إلى 13 أكتوبر ، وهناك إشارة إلى أنه تم تقديمه فى أمريكا قبل تقديمه للبابا وباقى القيادات المسيحية ، وهناك تعليقات على الخطاب بتاريخ 9/10 ، أى قبل تقديمه على الأقل بيومين ( ؟ ! ) ، من قبيل رد جامعة كمبريدج ، ورد دكتور روان ويليامز ، اسقف كانتربرى يوم 11 ، لو إفترضنا أن الخطاب تم تقديمه يوم 11وليس يوم 13 وانبثق الرد جاهزا فى نفس اللحظة !..
وفى 13/10 أصدر الموقع التابع للفاتيكان تلخيصا رسميا للخطاب بقلم ساندرو ماجيستر ، موضحا أن هذا الخطاب قد تم الإعداد له فى مؤتمر بالأردن فى سبتمبر 2007 ، وأن من أهم العاملين عليه الدكتور عارف على النايض ، الذى كان يعمل بمعهد اللاهوت البابوى للدراسات العربية والإسلامية ، وأنه هو وغيره قد إلتقوا عدة مرات بقيادات فى الإدارة الفاتيكانية قبل إصدار ذلك الخطاب ، الذى بدأ الإعداد له منذ عام تقريبا، وأن أهم ما يميّز هذه الوثيقة أنها غير جدالية ، بمعنى أنها تجاوزت أو تناست الخلافات العقائدية .. إذ أن الوثيقة قائمة على عبارة " قل هو الله أحد الله الصمد " وتغاضت عن " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " !..
و مما نخرج به فى عجاله من موقف الجانب الفاتيكانى هو: حشر مصالحة مع اليهود إعتمادا على إستشهاد الخطاب بالعهد القديم وإعتبار أن الخطاب موجه إليهم ايضا، أن هذا الخطاب يمثل إجماع رأى المسلمين ، ومطالبة المسلمين بإدانة العنف والإرهاب بتعديل نص القرآن او إدانته ، وأنه يتعيّن عليهم تعلم قيمة العلمانية الصحيحة من الفاتيكان (الذى قرر تنصير العالم !) ، وإباحة التنصير وإلغاء حد الردة ، المطالبة صراحة ببناء كنائس فى السعودية بدأ بالرياض .. ومن الواضح أن الخطاب بكله يدور فى محاور أقوال البابا ومطالبه ، وأنه لا نقاش فى العقيدة المسيحية !
تعليق